تفسير الكتاب المقدّس،

الأب ابراهيم سعد،

“سِفر رؤيا القدّيس يوحنّا – الإصحاح السّابع عشر” 

النّص الإنجيليّ:

“ثمَّ جاءَ واحِدٌ مِنَ السَّبعَةِ المَلائِكَةِ الَّذينَ مَعَهُم السَّبعَةُ الجاماتُ وَتَكَلَّمَ معي قائلًا لي: «هَلُمَّ فأُريَكَ دَيْنونَةَ الزّانِيَةِ العَظيمَةِ الجالِسَةِ على المِياهِ الكَثيرَةِ، الَّتي زَنى مَعَها مُلوكُ الأرْضِ، وَسَكِرَ سُكّانُ الأرضِ مِنْ خَمْرِ زِناهَا». فَمَضى بي بالرُّوحِ إلى بَرِّيَّةٍ، فَرَأيتُ امْرأةً جالِسَةً على وَحْشٍ قِرْمِزِيٍّ مَمْلوءٍ أَسماءَ تَجديفٍ، لَهُ سَبعَةُ رؤُوسٍ وعَشرَةُ قُرونٍ. والمَرأةُ كانَتْ مُتَسَربِلَةً بأُرْجوانٍ وقِرْمِزٍ، وَمُتَحَلِّيَةً بِذَهَبٍ وحِجارَةٍ كَريمَةٍ ولُؤلُؤٍ، وَمَعَها كَأسٌ مِنْ ذَهَبٍ في يَدِها مَملوءةٌ رَجاساتٍ وَنَجاساتِ زِناها، وعلى جَبْهَتِها اسْمٌ مَكْتوبٌ: «سِرٌّ. بابِلُ العَظيمَةُ أُمُّ الزَّواني وَرَجاساتِ الأرضِ». ورأيْتُ المَرأةَ سَكْرَى مِنْ دَمِ القِدِّيسِينَ ومِن دَمِ شُهداءِ يَسوعَ. فَتَعَجَّبْتُ لَمّا رأَيْتُها تَعَجُّبًا عَظيمًا! ثُمَّ قالَ لي المَلاكُ: «لماذا تَعَجَّبْتَ؟ أنا أقولُ لكَ سِرَّ المَرأةِ والوَحْشِ الحامِلِ لها، الَّذي لَهُ السَّبعَةُ الرُّؤوسِ وَالعَشرَةُ القُرونِ: الوَحْشُ الَّذي رَأَيتَ، كانَ وَلَيسَ الآنَ، وَهُوَ عَتيدٌ أَنْ يَصْعَدَ مِنَ الهاوِيَةِ وَيَمضي إلى الهَلاكِ. وَسَيَتَعَجَّبُ السَّاكِنونَ على الأرضِ، الَّذينَ لَيسَتْ أَسماؤُهُم مَكتُوبَةً في سِفرِ الحَياةِ مُنْذُ تأسِيسِ العالَمِ، حِينَما يَرَوْنَ الوَحْشَ أَنَّهُ كانَ وَلَيسَ الآنَ، مَعَ أنَّهُ كائِنٌ. هنا الذِّهْنُ الَّذي لَهُ حِكْمَةٌ! السَّبعَةُ الرُّؤوسِ هي سَبْعَةُ جِبال عليها المَرأةُ جالِسَةً. وَسَبعَةُ مُلوكٍ: خَمسَةٌ سَقَطوا، وواحِدٌ مَوجودٌ، والآخَرُ لَم يأتِ بَعْدُ. وَمَتى أتى يَنبغِي أَنْ يَبقى قَليلًا. والوَحْشُ الَّذي كانَ ولَيسَ الآنَ فَهُو ثامِنٌ، وَهُوَ مِن السَّبْعَةِ، وَيَمضي إلى الهَلاكِ. وَالعَشرَةُ القُرونِ الَّتي رأَيتَ هي عَشَرَةُ مُلوكٍ لَمْ يأخذُوا مُلكًا بَعْدُ، لكِنَّهُم يأخُذونَ سُلْطانَهُم كَمُلوكٍ ساعَةً واحِدَةً مَعَ الوَحْشِ. هؤلاء لَهُم رَأيٌ واحِدٌ، وَيُعطُونَ الوَحْشَ قُدْرَتَهُم وَسُلطانَهُمْ. هؤلاءِ سَيُحارِبُونَ الخَروفَ، وَالخَروفُ يَغْلِبُهُم، لأنَّهُ رَبُّ الأربابِ وَمَلِكُ المُلوكِ، والَّذينَ مَعَهُ مَدعوُّونَ وَمُخْتارونَ وَمُؤمِنونَ». ثُمَّ قالَ لي: «المِياهُ الَّتي رأيتَ حَيْثُ الزَّانِيَةُ جالِسَةٌ، هي شُعوبٌ وجُمُوعٌ وَأُمَمٌ وألسِنَةٌ. وأمَّا العَشرَةُ القُرونِ الَّتي رأيتَ على الوَحْشِ فَهؤلاءِ سَيُبْغِضونَ الزَّانِيَةَ، وَسَيَجعَلونَها خَرِبَةً وَعُرْيانَةً، وَيأكُلون لَحْمَها وَيُحْرِقونَها بالنَّار. لأنَّ اللهَ وَضَعَ في قُلوبِهِم أَنْ يَصْنَعُوا رأيَهُ، وأَنْ يَصْنَعوا رأيًا واحِدًا، وَيُعْطوا الوَحْشَ مُلكَهُم حَتَّى تُكْمَلَ أقوالُ اللهِ. والمَرأةُ الَّتِي رأيْتَ هي المَدينَةُ العَظيمَةُ الَّتي لها مُلْكٌ على مُلوكِ الأرضِ”.

شرح النّص الإنجيليّ:

في هذا السِّفر، سِفر الرُّؤيا، نلاحظ أنّه كلَّما اعتقَد السّامع أنَّ النِّهاية قد أصبَحت وَشيكةً، تفاجأ بأنّها لا تزال بَعيدة: فالكاتب كلَّم المؤمنِين في بداية السِّفر على رؤيته لِسِفرٍ مختومٍ بِسَبعةِ أختامٍ، وعندما وَصل في حديثه إلى الكلام عن الخَتم السّابع، ظنَّ السَّامع أنَّ النِّهاية قد حَلَّت، ولكنّه تفاجأ بوجود سبعةِ أبواقٍ. وما إنْ وَصَل الكاتب في حديثه إلى الكلام على البوق السّابع، حتّى تفاجأ المؤمن بأنَّ النِّهاية ما زالَت بعيدة إذ إنَّ هناك سبعةَ ملائكة. وفي هذا الإصحاح، يُكلِّمنا الكاتب على الملاك السّابع. إنّ الكاتب سيستمرُّ في مفاجأة السّامِع له إلى حين الوصول إلى المشهد الأخير في الإصحاحات الأخيرة من هذا السِّفر، حيثُ الـمَشهد سيكون مُفرِحًا ومُعزِّيًا لِكُلِّ المؤمنِين الّذين ثَبتوا في إيمانهم على الرُّغم من كلِّ ما تَعرَّضوا له من ترهيب وترغيب لإبعادهم عن العبادة الحقّة أي الإيمان بالله.

في هذا الإصحاح، يُقدِّم لنا الكاتب صورةً عن النِّهاية ولكنّها لن تكون فِعلاً النِّهاية، إذ كما أنّ البقرة الـمَذبوحة، تستمرُّ لدِقائق معدودة في رَفس كلّ ما هو حولها قَبْل أن تَلفُظ أنفاسَها الأخيرة، كذلك أيضًا الشِّرير الـمُنهَزِم في معركته الأخيرة مع الربّ، سَيُحاول التّعويض عن خسارته تلك من خلال اضطهاده للمؤمنِين بكافّة الطُّرق قَبْل إعلان استسلامه.

من خلال هذا الإصحاح، أراد الكاتب أن يُخبِر المؤمنِين أنَّه قد تمّ القضاء نهائيًا على الشِّرير لأنَّ أتباعه، أي الإمبراطوريّة مع كلّ الـمُلوك التَّابعين لها، قد سَكروا من دَم القدِّيسين، شهداء يسوع المسيح. وبالتّالي، أراد الكاتب أن يُخبر المؤمنِين أنَّ دماء الشُّهداء مِنهم لن تَذهب هدرًا عند الله إذ إنّهم سيتمكَّنون بِفَضل ثباتهم في الإيمان، من الدُّخول إلى الملكوت ورؤية الـمَلِك الجالس على العَرش، الّذي ينتظرون لِقاءه. إنّ المسألة ليسَت مسألة انتقامِ الربِّ للمؤمِنِين من أعدائهم، بل هي مسألة مكافأة المؤمنِين على صبرهم وجهادهم في الأرض، إذ سيتمكَّنون من مشاهدة المدينة المقدَّسة النَّازلة من السّماء، وهي ما سَيُخبرُنا عنها الكاتب في الإصحاحات اللَّاحقة. إنّ الربَّ حاضرٌ لاستقبالِ كلّ المؤمنِين به والشَّهداء، في سبيل إيمانهم به في الملكوت، أي في المدينة المقدَّسة، حيثُ لا خطيئةَ ولا دموعَ، بل صفاء وسلام.

في هذا الإصحاح، يُخبرنا الكاتب أنّ العَشرة الرُّؤوس والعَشرة القرون، ترمز إلى امبراطوريّة روما في ذلك الزَّمان، وقد شبَّهها أيضًا بمدينة بابل. إنّ مشكلة مدينة بابل، تكمن في أنّ أهلَها، الّذين هُم شعبٌ واحد، أرادوا بناء بُرجٍ في المدينة، تعبيرًا عن رغبتهم في حماية ذواتهم وحماية مدينتهم، بَعيدًا عن الله. بحسب الـمَنطِق البشريّ، إنّ حماية المدينة هو أمرٌ مشروعٌ وصالحٌ، أمّا في المنطِق الإلهيّ، فهذا أمرٌ مرفوضٌ تمامًا لأنّ بناءَ البرُجِ يُعبّر عن استقرار هؤلاء في المدينة، وبالتّالي خضوعهم لآلهةٍ وَثنيّة، ما يعني ابتعادِهم عن الله. إنّ كلَّ حديث عن “مدينة” في الكِتاب المقدَّس، خصوصًا في العهد القديم، يُعبِّر عن الوثنيّة، فوجود مدينة يعني وجود مَلِك، وإلهٍ يَعبُده، وشَعبٍ يخضع للمَلِك ولإلهه، أي بمعنى آخر الحديث عن المدينة في الكِتاب المقدَّس هو حديثٌ عن الوَثنيّة.

في القديم، طَلَب شعبُ الله إلى الله أن يَختار لَهم مَلِكًا أرضيًّا فيُصبحوا كسائر الأُمَم، فرَفضَ الله هذا الأمر في البداية، إذ لا مَلِكَ حقيقيًّا سِواه، ولا إله حقيقيًّا إلّاه، ولكن بَعد إصرار الشَّعب، قَبِل الله بأن يَختاروا من بَينهم مَلِكًا أرضيًّا فيَختبروا الهاوية الّتي سيُوصِلهم إليها أيُّ مَلِكٍ أرضيّ يَختارونه. وما داود الـمَلك إلّا صورةٌ حقيقيّة عن الـمَلِك الأرضيّ، الّذي كان في نَظر الشَّعب اليهودي، يعكس صورة الله على الأرض، أمّا في نَظر الله فقد كان داود مجرَّد إنسان بشريّ ضَعيف، لا يَملِكُ مؤهّلات مَلِكٍ، لولا اختيار الله له وَجَعلِه مَلِكًا على الشَّعب. ما اختبره الشّعب هو اختبار آدم ولكن بِشكلٍ جماعيّ: فَبِتَناوُلِه من شجرة معرفة الخير والشَّر، أقام آدم علاقةً بين الخير والشَّر، مخالفًا بِذَلك أوامِر الله، الّذي حذَّره من الأكل من ثمار هذه الشَّجرة كي لا يموت، فَوَقع في الخطيئة.

وكذلك نجد فِكرة المدينة في قصّة قايين وهابيل: فَهَذان الأخوان اللّذان كانا يُحبَّان الله، قدَّما كُلّ منهما ذبيحةً لله مِن نِتاجِ عملِهما: الأوَّل أي قايين، قدَّم باكورة نتاجه الأرضيّ وهابيل قدَّم حملاً مِن قطيعه. وهنا يُطرَح السُّؤال، استنادًا إلى نَظرَتنا الأرضيّة لهذه القصَّة: لِماذا قَبِل الله ذبيحة هابيل ولَم يَقبل ذبيحة قايين؟ في قراءتنا لهذه القصَّة، نستَنتج أنّ الله لَم يكن عادلاً بالنِّسبة إلينا، إذ فَضَّل ذبيحة هابيل على ذبيحة قايين؛ وهذا الاعتقاد خاطئٌ تمامًا. 

إنَّ الـمَقصود من خلال هذِه القصَّة، هو أنّ الله قد قَبِل ذبيحة هابيل وفضَّلها على ذبيحة قايين، لأنَّ قايين كان يعمل في الزراعة الّتي تحتاج إلى استقرارٍ في مكان جغرافيّ محدَّد، أي في مدينة محدَّدة، وهذا يفترض خضوع قايين لِسُلطة هذا الـمَلِك ولِإلهٍ وَثنيّ، بِمعنى آخَر، كلُّ مدينة مَبنيّة على علاقةِ الشَّعب بِصَنميّة مُعيَّنة، أي بارتباطٍ وثنيّ؛ أمَّا قايين فقد كان راعيًا أي أنّه كان يعيش حياةً بَدَويَّةً، مُتنقِلاً من مكانٍ إلى آخر، ممّا يعني أنَّه لَم يكن لديه مكانٌ واحد يستقرُّ فيه، وبالتّالي فإنَّ استقراره الحقيقيّ هو من الله.

إنّ الشَّعب اليهوديّ سار في الصَّحراء مدَّة أربعين سنة، فكان الله يؤمِّن لهم كُلَّ احتياجاتهم، ولكن عندما استقَرَّ الشَّعب في أرض الميعاد، طالب هذا الأخير اللهَ باختيارِ مَلِكٍ لهم لِيَكونوا كَسائر الأُمَم. عندما أصبح داود مَلِكًا على شعب اسرائيل، ثَمثَّل بالملوك الأرضيِّين، فأقام هيكلاً لله، وأصبح هو يُصلِّي نيابةً عن الشَّعب بأسْرِه، بدليل أنَّ المزامير جميعها قد نُسِبَت إليه. إنّ الـمَلكِيّة هي حالة خَطِرة جدًّا لأنّها تُبعِدنا عن الله وتَعرض علينا طَرحًا جديدًا مُخالِفًا لِطَرح الله.

في قِصَّة آدم، ترمز الحيّة إلى إله الخِصب، إله الحياة عند البابليِّين. وبالتّالي، فالمقصود من الحيّة في قصَّة آدم، هو أنّ دخول العِبادات الوثنيّة على حياة الشَّعب المؤمن بالله، تؤدِّي حَتمًا إلى تَدَهور العلاقة بين الإنسان والله بسبب ابتعاد الإنسان عن الله واتِّباعه آلهة أُخرى. في العهد القديم، كلَّمنا سِفر التَّكوين على مدينة بابل الوثنيّة، وهنا يُكلّمنا كاتب هذا السِّفر على امبراطوريّة روما الوثنيّة الّتي حَكمت المسكونة كُلَّها في ذلك الزَّمان.

في هذا الإصحاح، تُشير البِحار إلى الأُمَم الوثنيّة. إنّ روما هي مركز الإمبراطوريّة الوَثنيّة، وقَد أنشأت هذه الإمبراطوريّة مَعابد لآلهتِها الوثنيّة، وقد حاولت إبعاد المؤمنِين بالربّ عن العِبادة الحقَّة، مُدخِلين المؤمنِين في حالةٍ من “الانفصام الرُّوحيّ”، من خلال مَزج المؤمنِين بين العبادات الوثنيّة والعبادة الحقَّة. هذا ما فَعله الشَّعب اليَهوديّ، إذ كان يَلجأ إلى الآلهة الوثنيّة حين يتأخَّر الربُّ في تلبية طلباته. إنّ مِثل هذا التصرُّف، يُسمَّى “زِنىً”: فعبارة “زنى” في العَهد القديم، تعني تَركُ الإنسانِ أو الشَّعب للعبادة الحقَّة أي الابتعاد عن الله، من أجل إتِّباع آلهةٍ أُخرى لا أفواه لها لِتَتكلَّم، ولا أذانَ لها لِتَسمع، ولا عيونَ لها لتَرى. في سِفر إرميا، يُخبرنا النبيّ أنّ الشَّعب اليهوديّ، قد تَرك الإله الحيّ من أجل اتِّباع آبارٍ مشَّققَّة فارغة، غير قادرة على إرواءِ عَطَشِهم.

إذًا، من العهد القديم إلى العهد الجديد، يعالج الكِتاب الـمُقدَّس مسألةً واحدة تُلَخَّص في هذا السُّؤال: أنت أيّها المؤمن، عندما تعترِضك الصُّعوبات في هذه الحياة، هل تترك الله من أجل اتِّباع آلهةٍ أُخرى، أم تَبقى ثابتًا في إيمانِك بالربّ؟ أو بِعبارةٍ أخرى: هل تسعى في الصُّعوبات إلى إشراك الآلهة الوَثنيّة مع الإله الحقيقيّ؟ عندما يَختار الإنسان اتِّباع آلهةٍ وثنيّة، فإنّه لا يتبَع إلهًا، إنّما وَهمًا، وبالتّالي تُصبح حالة هذا الإنسان مُشابهة لحالة الشَّعب اليهوديّ، الّذي صَنع لِنَفسه عِجلًا من ذهب لِيَعبُدَهُ، حين تأخَّر موسى في النُّزول مِن الجبل مَع لَوحي الوصايا. لم يَختَر الله هذا الشَّعب اليَهوديّ بسبب قداسته، إنّما اختاره الله، لأنَّه كان لا بُدَّ لله من أن يبدأ بمسيرة خلاصِه للبشريّة من شَعبٍ معيَّن، فاختار هذا الشَّعب الّذي كان شَعبًا مقهورًا بسبب خضوعه للعبوديّة في أرضِ مِصر.

في سِفر الرؤيا، يُخبرنا الكاتب عن امرأةٍ زانيةٍ هي “المدينة العَظيمة”، “بابل”، الّتي توظِّف كلَّ طاقاتها وجُهدِها لإبعاد المؤمنِين عن الله. وهذه المرأة في يومِنا هذا، قد ترمز إلى المال أو السُّلطة الخالية من المحبَّة، الّتي تقود إلى التسلُّط. وهنا نتذكَّر قول الربِّ لنا: “أحِبُّوا بَعضكم بَعضًا كما أنا أحببتُكم. إذا أحبّ بعضكم البعض، عرَفَ العالم أنَّكم تلاميذي” (يو 13: 43).

من خلال كلام الربّ، نُدرِك أنّ الربَّ يدعونا إلى محبّة الآخَرين وخِدمتهم، إذ يقول لنا في مكانٍ آخر:” مَن أرادَ أن يكون الأوَّل فيكم، فليَكن لَكم خادِمًا” (متى 20: 26). في ظلّ هذه الظُّروف الصَّعبة الّتي نَعيشها في لبنان، نحاول الانتفاض على هذا الواقع وحَلّ مشاكِلنا من خلال استخدام لغة المسؤولين، أي لُغة العالم، بَدل استخدام لُغة المسيح، أي لُغة الـمَحبّة.

في هذا السِّفر، يوجِّه الكاتب كلامَه إلى المؤمنِين الّذين يُعانون من الاضطهاد، وهُم عُرضةٌ في كلِّ يومٍ إلى الاستشهاد، قائلاً لهم: إيّاكم واستخدام لُغة الشِّرير في تعامُلِكم مع الآخَرين لأنّه عندئذٍ سَتَهدمونِ بتَصَرُّفاتكم مَلكوت الله في هذا العالم، الّذي بَنَيتموه بإيمانكم بالربّ. نحن مدعوون إلى غلبةِ الشِّرير كما غَلبَ الربُّ يسوع على الصَّليب: فإنّه لو قَبِل الله ولو مرَّةً واحدةٍ أن يَخضَع لأفكار اليَهود ورَغباتهم لَكان الربُّ قد فَشِل في مَنحِنا المَلكوت، وهَدَم بالتَّالي كلّ مشروع الله الخلاصيّ للبَشَر.

إنّ موسى وداود وكثيرين غيرهم اعتقدوا أنّه باستطاعتهم أنْ يَمنحوا خلاص الربِّ للشَّعب بقوَّتهم، ففشِلوا في ذَلك، وعرقلوا مشروع الله للبشر، لذلك استبدلهم الله بآخَرين، من أجل إكمال مشروعه الخلاصيّ للبشر. إنّ الربَّ يسوع هو الوحيد الّذي تَمكَّن من طاعة الله طاعةً عمياء، فَحقَّق في حياته الأرضيّة مشروع الله الخلاصيّ للبشر، فقاد معركته ضِدَّ الشِّرير وانتصَر عليه بالموت. إنّ لغة انتصار الله في معركته ضِدَّ الشِّرير بعيدةٌ كُلّ البُعد عن لُغة انتصارنا نحن البشر: إنّ الله قد انتصَر على الموت بالموت، أمّا نَحن فنُعلِن انتصارنا باضطهاد الآخَرين وَصَلبِهم، وهذا ما نسمِّيه “الصَّالبيّة”، في حين أننّا مدعوون إلى صَلب ذواتنا من أجل نَشر كلمة الحقّ، كلمة الله، بين البشر، أي بِعَيشِنا “الـمَصلوبيّة”.

إنّ المرأة الزانية هي المَدينة العَظيمة، وهي تَرمز إلى بابل في العهد القديم، وإلى إمبرطوريّة روما في هذا السِّفر. إنّ الشَّيطان هو كَذّابٌ وأبو الكذب، كما قال عنه الربّ، إنَّه الوَهم وأبو الوَهم. إنّ غالبيّة النّاس يَخافون من الشِّرير أكثَر من خوفِهم من الله، لأنَّ الله يُلبّي احتياجاتهم، أمّا الشِّرير فيُلبيّ لهم رَغباتهم، أهواءَهم الـمُعِيبة أو الـمُعابة، مَلذَّاتهم الإنسانيّة المتوارَثة من آدم. إنَّ الأكل هو حاحةٌ عند الإنسان وهي صالحة، أمّا الشَّراهة فهي شَهوةٌ مُعيبة. إنَّ النَّوم هو حاجة ضروريّة وصالحةٌ عند البشر، أمّا الكَسَل فهو شَهوةٌ مُعيبة. إنَّ الغَضب هو شَهوةٌ مُعيبة لأنَّه يُولِّد الخطايا.

إنّ حاجات الانسان هي حاجاتٌ صالحة ولكنَّ المبالغة في تلبيّتها يُحوِّلها إلى شهوةٍ مُعيبة، وبالتّالي إلى آلهةٍ وثنيّة تُخضِع الإنسان لها. إذًا، إنَّ الحرب الحقيقيّة الّتي يُكلِّمنا عليها سِفر الرُّؤيا ليستَ حربًا بين الله والآلهة الوثنيّة، بل هي حربٌ بين الله وأفكار البشر الّتي تتحوَّل إلى آلهةٍ بالنِّسبة إليهم مع أنَّها في الحقيقة وَهمٌ. في هذا الإطار، يقول لنا بولس الرَّسول: “إنَّ مُصارَعَتَنا لَيسَت مع دَمٍ ولَحم، بل مع الرُّؤساء، مع السّلاطين، مع ولاةِ العالَم على ظُلمةِ الدَّهر، مع أجنادِ الشَّر الرُّوحيّة في السَّماويّات” (أف 6: 12).

في هذا الإصحاح، يُخبِر الكاتب المؤمِنِين بالربّ، بأنَّ الّذي يَضطهِدهم من خلال العمل على تجويعهم وقَتلهم، سيُباد إلى الأبد، وأنّهم سينتصِرون على كلِّ أشكال الشَّر، كما غلب الربُّ يسوع. في هذا الإصحاح، يُخبرُنا الكاتب إنّ الحرب الحقيقيّة هي بين الخروف والوحش، أي بين الله والشِّرير، بِمعنى آخر إنَّ الحرب الحقيقيّة ليست حربًا بين الشِّرير والبَشر، فالإنسان جبلةٌ ضَعيفَةٌ. إنّ الشِّرير يشنُّ حربًا على الخروف السَّاكِن داخِل المؤمن، معتَقدًا أنّه بتِلك الطَريقة سينجح في إلغاء وجود الخروف في العالَم.

إخوتي، عندما يتمكَّن الشِّرير من قَتل الخروف في داخل المؤمن، يُصبح المؤمن عبدًا للشِّرير. وعندما لا ينجح الشِّرير في قَتلِ الخروف داخل المؤمن، يقوم الشِّريرُ بِدَفع المؤمن إلى تنويم الخروف في داخله، ليتمكَّن الإنسان من مخالفة تعاليم الربّ. ولكن السُّؤال الّذي يُطرَح هنا: ماذا لو مات الإنسان قَبل أن يقوم بإيقاظ الخروف فيه؟ أو ماذا لو مات الخروف حقًّا في داخل المؤمِن، عندها ماذا سيكون مَصيرُ الإنسان؟ إذًا، الحرب الحقيقيّة هي بين ثباتك في الإيمان من جهةٍ والخضوع للإغراءات والتَّرهيب من جهةٍ أُخرى. في هذا الإصحاح، يُعلِن لنا الكاتب بداية زوال هذه المدينة والوَحش.

فَتَعَجَّبتُ لمّا رأيتُها تَعَجُّبًا عَظيمًا! ثُمَّ قالَ لي المَلاكُ: «لماذا تَعَجَّبْتَ؟ أنا أقولُ لكَ سِرَّ المَرأةِ وَالوَحْشِ الحامِلِ لها، الَّذي لَهُ السَّبعَةُ الرُّؤوسِ وَالعَشرَةُ القُرونِ: الوَحْشُ الَّذي رأيتَ، كانَ ولَيسَ الآنَ، وَهُوَ عَتيدٌ أَنْ يَصْعَدَ مِنَ الهاوِيَةِ ويَمضي إلى الهَلاكِ. وَسَيَتَعَجَّبُ السَّاكِنونَ على الأرضِ، الَّذينَ لَيسَتْ أسماؤُهُمْ مَكْتوبَةً فِي سِفرِ الحَياةِ مُنْذُ تَأسِيسِ العالمِ، حينما يَرَوْن الوَحْشَ أنَّهُ كانَ ولَيسَ الآنَ، مَعَ أنَّهُ كائِنٌ. هنا الذِّهنُ الَّذي لَهُ حِكْمَةٌ! السَّبعَةُ الرُّؤوسِ هي سَبعَةُ جِبالٍ عليها المَرأةُ جالِسَةً. وَسَبعَةُ مُلوكٍ: خَمْسَةٌ سَقَطوا، وواحِدٌ مَوْجُودٌ، والآخَرُ لَمْ يَأتِ بَعْدُ. وَمَتَى أتى يَنبَغِي أَنْ يَبقى قليلًا. وَالوَحْشُ الَّذي كانَ وَلَيسَ الآنَ فَهُوَ ثامِنٌ، وَهُوَ مِنَ السَّبعَةِ، وَيَمضي إلى الهَلاك. وَالعَشرَةُ القُرونِ الَّتي رأيتَ هي عَشرَةُ مُلوكٍ لَمْ يَأخُذُوا مُلْكًا بَعْدُ، لكِنَّهُمْ يَأخُذونَ سُلْطانَهُم كَمُلوكٍ ساعَةً واحِدَةً مَعَ الوَحْشِ. هؤلاءِ لَهُمْ رَأيٌ واحِدٌ، وَيُعْطونَ الوَحْشَ قُدْرَتَهُمْ وَسُلْطانَهُمْ. هؤلاءِ سَيُحاربونَ الخَروفَ، وَالخَروفُ يَغْلِبُهُمْ، لأَنَّهُ رَبُّ الأربابِ وَمَلِكُ المُلوكِ، وَالَّذينَ مَعَهُ مَدْعوُّونَ وَمُخْتارونَ وَمُؤمِنونَ»”. 

إنّ الكلام هنا يتمحوَر حول المدينة العَظيمة، أي بابل، والّـتي ترمز إلى امبراطوريّة روما، الّتي تسعى بِكلِّ قواها إلى إبعاد المؤمنِين عن العبادة الحقّة ودَفعِهم إلى الخضوع لعباداتِها الوثنيّة. وقد شَرح لنا الكاتب، في هذا الإصحاح، رموز هذه الإمبراطوريّة.

في الإصحاحات الأُولى من هذا السِّفر، أخبرنا الكاتب أنَّ الخروف قد غَلب الوحش، ويؤكِّد هذه الغلبة للخروف في هذا الإصحاح. إنَّ الخروف هو “ربُّ الأرباب ومَلِك الملوك”، وهذه الصِّفة لا تُعطى في الكِتاب المقدَّس، في العهد القديم وفي العهد الجديد، إلّا لله. وبالتّالي، من خلال ذِكره لِهذه العبارة، أراد الكاتب التركيز على ربوبيّة يسوع وألوهيّته، اللّتَين لا يُمكن لِغَير المؤمِنين رؤيتهما.

ثُمَّ قالَ لي: «المِياهُ الَّتي رأيْتَ حَيثُ الزَّانِيَةُ جالِسَةٌ، هي شُعوبٌ وَجُموعٌ وَأمَمٌ وألسِنَةٌ. وَأَمَّا العَشرَةُ القُرونِ الَّتي رأيتَ على الوَحْشِ فَهؤلاءِ سَيُبْغِضُونَ الزَّانِيةَ، وَسيَجعَلونَها خَرِبَةً وَعُرْيَانَةً، وَيَأكُلُونَ لَحْمَهَا وَيُحْرِقونها بالنَّارِ. لأنَّ اللهَ وَضَعَ في قُلوبِهِم أَنْ يَصْنَعُوا رأيَهُ، وَأَنْ يَصْنَعُوا رأيًا واحِدًا، وَيُعْطوا الوَحْشَ مُلْكَهُمْ حَتَّى تُكْمَلَ أقوالُ اللهِ. وَالمَرأةُ الَّتي رأيتَ هي المَدينَةُ العَظِيمَةُ الَّتِي لَها مُلْكٌ على مُلوكِ الأرْضِ». 

إنّ كلّ الّذين خَضَعوا للوحش سَيُبادون، ولن يبقى في اليوم الأخير إلّا القدِّيسين أي الّذين ثَبتوا في إيمانهم بالربّ، الّذين سيكونون في مَعيّة الله لأنَّهم سيَجلِسون في أحضان الآب. إنَّ القدِّيسِين سَيَدخلون في اليوم الأخير إلى المدينة العظيمة النّازلة من السَّماء. في هذا الإصحاح، أراد الكاتب أن يقول للمؤمنِين الّذين هم تحت الشِّدة، إنّ الدينونة العظيمة سَتَكون “للزانية الجالسة على المياه الكثيرة”، أي الَّتي تُسيطِر على العالم، والّتي تَبِعتها الشُّعوب فَزنت معها. إنّ الحِياد فَهو أمرٌ سَلبيّ في الكِتاب المقدَّس، إذ إنّه لا يُمكن للمؤمِن أن يكون في حالة حِيادٍ بين الله والشَّر، بين الحقّ والباطل.

إنَّ الحياد يُشير إلى أنَّ المؤمن ليس مع الحقّ ولا مَع الباطل، وهذا يعني أنَّه ليس مع الحقّ. وبالتَّالي، الحِياد أيضًا هو زِنى روحيّ. على المؤمن أن يتَّخِذ موقِفًا من تعاليم يسوع وعجائبه، من موته وصَلبِه، إذ لا يمكن للمؤمن أن يكون فاترًا لأنَّ الربَّ يقول لنا في هذا السِّفر: “لأنَّك فاترٌ ولستَ باردًا أو حارًا، فأنا مُزمِعٌ أن أتقيَّأكَ من فَمي” (رؤيا 3: 16).

إذًا، على المؤمن ألّا يَقبل بالمساومة بين الله والآلهة الأخرى. فإنَّ كلَّ خطيئة تبدأ من مساومة الإنسان بين الحقّ والباطل. على المؤمِن السَّهر كي لا يُفاجِئه يوم الربِّ كالسَّارق ليلاً. إنّ الآباء الرُّوحِيِّين يشجِّعوننا على التّشبُّه بالشِّرير في أمرٍ واحدٍ، وهو الجِدِّية والسَّهر، فالشِّرير لا يتوانى عن المحاولة في إبعاد المؤمنِين عن الله، كذلك نحن مدعوون إلى السَّهر واليقظة الرُّوحيّة كي نكون مستعدِّين على الدَّوام لِيَوم الربّ.

في صراع الربّ مع المرأة السَّكرى مِن دم القدِّيسِين ودَم شهداء يسوع، نَتحوَّلُ، نحن المؤمنون إلى خَمرٍ تَشربها هذه المدينة العَظيمة، فَتَسكَر مِن دمائنا. إنَّ الخمر نوعان: إمّا أن يكون هذا الخمر هو دَمُكَ أنت المؤمن، لأنَّك استشهدت في سبيل المحافظة على إيمانك؛ وإمَّا أن يكون هذا الدَّم هو خطاياك، بسبب اتِّباعِكَ للآلهة الأُخرى. إنَّ الّذين يقدِّمون للمرأة الزانية خطاياهم كَدَمٍ تَسكَرُ فيها، أسماؤهم ليسَت مَكتوبةً في سِفر الحياة، منذ تأسيس العالَم. إنّ الله لم يُعيِّن مُسبقًا الّذين سَيَبقَون ثابتين في إيمانهم بالربّ إلى اليوم الأخير، ولكنَّ الربَّ يَعلَم مُسبقًا بقرارِك في زَمن الاضطهاد قَبل أن تُنفِّذه.

إنَّ الربَّ قَبْل أن يَختار بولس، اختار كثيرين لاتِّباعه، فَرَفضوا دَعوةِ الربِّ لهم، فاستمرَّ الربُّ بالبَحثِ عَمَّن يَقبل بِمَشروعه إلى أن وَصَل إلى بولس فَقَبِل هذا الأخير ِبِدَعوة الربَّ له، فتابع الله معه مشروعه الخلاصيّ للبشر. أمّا نحن فَقَد قَبِلنا بكلمة الله وقَبِلنا أن نكون أبناءه غير أنّنا نتصرَّف على عكس ما تتطلَّبه منّا هذه البُنوّة لله، أي أنّنا نتصرَّف بِعكس تعاليم الربّ، ثمّ نعود ونلتجئ إلى الربِّ في المساء، ذارِفين دموعَ التَّوبة، فيُصدِّق الربُّ توبَتنا ويسامحنا، مع عِلمه أنّنا سنعود لارتكاب الخطيئة عند أقرب فرصةٍ متاحة. إنّ الله هو الضّحية ونحن الجّلادين لا العكس.

ملاحظة: دُوِّن الشرح بأمانةٍ من قِبَلنا.

Instagram
Copy link
URL has been copied successfully!
WhatsApp