تفسير الكتاب المقدّس،

الأب ابراهيم سعد،

“سِفر رؤيا القدّيس يوحنّا – الإصحاح الحادي والعشرون” 

النّص الإنجيليّ:

“ثُمَّ رأيتُ سماءً جديدةً وأرضًا جديدةً، لأنّ السَّماءَ الأُولى والأرضَ الأُولى مَضتا، والبحرُ لا يوجَد في ما بَعد. وأنا يوحنَّا رأيتُ المدينةَ المُقدَّسةَ أورشَليمَ الجديدةَ نازلةً مِن السَّماء مِن عِند الله مُهيَّأةً كعَروسٍ مُزيَّنةٍ لِرَجُلها. وسَمِعتُ صَوتًا عظيمًا مِن السَّماء قائلًا: «هوذا مَسكَنُ الله مع النَّاس، وَهو سَيَسكُن معهم، وَهُم يكونون له شَعبًا، واللهُ نَفْسُه يكون معهم إلهًا لهم. وسَيَمسَحُ اللهُ كُلَّ دَمعةٍ مِن عُيونِهم، والموتُ لا يكونُ في ما بَعدُ، ولا يكونُ حُزنٌ ولا صُراخٌ ولا وَجعٌ في ما بَعد، لأنَّ الأُمورَ الأُولى قد مَضَتْ». وقال الجالسُ على العَرشِ: «ها أنا أصنَعُ كُلَّ شيءٍ جديدًا!». وقال لي: «اكْتُبْ: فإنَّ هذه الأقوالَ صادِقةٌ وأَمينةٌ». ثُمَّ قال لي: «قد تَمَّ! أنا هو الألِفُ وَالياءُ، البِدايةُ والنِّهايةُ. أنا أُعطي العَطشانَ مِن يَنبوعِ ماءِ الحياةِ مجَّانًا. مَن يَغلِبْ يَرِثُ كُلَّ شيءٍ، وأكونُ له إلهًا وهو يكونُ لي ابْنًا. وأمّا الخائفون وَغَيرُ المؤمِنِينَ والرَّجِسونَ والقاتِلونَ والزُّناةُ وَالسَّحَرةُ وعَبَدَةُ الأوثانِ وجَميعُ الكذبة، فَنَصيبهم في البُحَيرةِ المُتَّقدةِ بِنارٍ وكِبريتٍ، الَّذي هو الموتُ الثَّاني». ثُمَّ جاء إليَّ واحدٌ مِن السَّبعةِ الملائكةِ الَّذِينَ مَعهم السَّبعَةُ الجاماتِ المَملوَّةِ مِن السَّبعِ الضَّرباتِ الأخيرةِ، وتَكلَّم معي قائلًا: «هَلُمَّ فَأُريكَ العَروسَ امرأةَ الخَروف». وذَهبَ بي بِالرُّوح إلى جبلٍ عظيمٍ عالٍ، وأراني المدينةَ العظيمةَ أُورشَليمَ المُقدَّسةَ نازلةً مِن السَّماء مِن عندِ اللهِ، لها مَجدُ الله، ولَمعانُها شِبهُ أكرم حَجرٍ كحَجرِ يَشْبٍ بَلُّورِيٍّ. وكان لها سُورٌ عظيمٌ وعالٍ، وكان لها اثْنا عَشَرَ بابًا، وعلى الأبوابِ اثْنا عَشَرَ ملاكًا، وأَسماءٌ مَكتوبةٌ هي أَسماءُ أسباطِ بَني إسرائيل الاثْنَي عَشَرَ. مِن الشَّرقِ ثلاثةُ أبوابٍ، وَمِنَ الشِّمال ثلاثةُ أبوابٍ، وَمِن الجَنوبِ ثلاثةُ أبوابٍ، وَمِنَ الغَربِ ثلاثةُ أبوابٍ. وَسُورُ المدينةِ كان له اثْنا عَشَرَ أساسًا، وَعليها أَسماءُ رُسُلِ الخَروف الاِثنَي عَشَرَ. والَّذي كان يَتكلَّمُ معي كان معه قَصَبَةٌ مِن ذَهبٍ لِكَي يَقيسَ المدينةَ وأبوابها وَسُورَها. والمدينَةُ كانت مَوضوعةً مُربَّعةً، طولُها بِقَدرِ العَرضِ. فَقاسَ المدينةَ بالقَصَبَةِ مَسافةَ اثنَي عَشَرَ ألفَ غَلوَةٍ. الطّولُ والعَرضُ والارتفاعُ مُتَساويةٌ. وقَاسَ سُورَها: مِئةً وأَربَعًا وأربَعِين ذِراعًا، ذِراعَ إنسانٍ أي الملاك. وكانَ بِناءُ سُورِها مِن يَشْبٍ، وَالمدينةُ ذَهبٌ نَقيٌّ شِبهُ زُجاجٍ نَقيٍّ. وَأساساتُ سُورِ المدينةِ مُزَيَّنةٌ بِكُلِّ حجرٍ كريمٍ. الأساسُ الأوّلُ يَشْبٌ. الثَّاني ياقوتٌ أزرقُ. الثَّالثُ عَقيقٌ أبْيَضُ. الرَّابعُ زُمرُّدٌ ذُبابيٌّ، الخامسُ جَزعٌ عَقيقيٌّ. السَّادسُ عَقيقٌ أحمرُ. السَّابعُ زَبَرجَدٌ. الثَّامنُ زُمرُّدٌ سِلْقِيٌّ. التَّاسعُ ياقوتٌ أَصفَرُ. العاشِر عَقيقٌ أخضَرُ. الحادي عَشَرَ أَسْمانجُونيٌّ. الثَّاني عَشَرَ جَمَشْتٌ. وَلِلاثْنَي عَشَرَ بابًا اثنَتا عَشَرَةَ لؤلؤةً، كُلُّ واحدٍ مِنَ الأبواب كانَ مِن لؤلؤةٍ واحدةٍ. وَسُوقُ المدينةِ ذَهبٌ نَقيٌّ كزُجاجٍ شَفّافٍ. وَلَم أَرَ فيها هَيكلًا، لأنّ الرّبّ الله القادر على كُلِّ شيءٍ، هو والخَروفُ هَيكَلُها. والمدينةُ لا تَحتاجُ إلى الشَّمسِ ولا إلى القَمر لِيُضيئا فيها، لأنَّ مَجدَ اللهِ قد أنارها، والخَروفُ سِراجُها. وتَمْشي شُعوبُ المُخَلَّصِينَ بِنُورِها، ومُلوكُ الأرضِ يَجيئونَ بِمَجدِهم وكَرامَتِهم إليها. وأبوابُها لَن تُغلَقَ نهارًا، لأنَّ ليلًا لا يكون هناك. ويَجيئُون بِمَجدِ الأُممِ وكَرامَتِهم إليها. ولَنْ يَدخُلها شَيءٌ دَنِسٌ ولا ما يَصنَعُ رَجِسًا وكَذِبًا، إلَّا المَكتوبِين في سِفرِ حياةِ الخَروف.”

شرح النّص الإنجيليّ:

إنّ النِّهاية السَّعيدة والفَرحَ الآتي قد تجلَّيا في هذا الإصحاح، بَعد كلّ ما أخبَرنا به يوحنّا الرَّسول في الإصحاحات السَّابقة عمّا سيُعاني منه المؤمنون قبل مَجيء الربّ.
في هذا الإصحاح، يُخبرنا يوحنّا، كاتب هذا السِّفر، عن حدوثِ خَلقٍ جديدٍ: فالسَّماء الأولى والأرض الأُولى قد زالَتا، وأصبح مكانهما أرضٌ جديدةٌ وسماءٌ جديدةٌ. ليس المقصود هنا بعبارة “جديدة” المعنى الحرفيّ للكلمة، بل ما هو مقصودٌ هو تقديم صورةٍ مُشَّعة للمؤمِنِين عن الملكوت من خلال إستخدام صُوَرٍ عن أغلى أنواع الجواهر. في هذا الإصحاح، يخبرنا كاتب هذا السِّفر عن المدينة المقدَّسة، أورشليم الجديدة، الّتي ليست مِن صُنعِ البشر أي اليهود أو الـمَلك داود، بل هي من صُنعِ الله، إذ إنّها، بِحَسب قَول الكاتب “نازلةٌ من السَّماء، من عِند الله، مُهيَّأة كعروسٍ مُزيَّنة لِرَجُلِها”(رؤيا 21: 2). 

من خلال هذا العبارة، يبدو لنا أنّ هناك نوعٌ من زواجٍ جديدٍ بين المسيح والكنيسة الظَّافرة أي الـمُنتَصِرة، المؤلَّفة من المؤمِنِين والـمُخَلَّصِين والشُّهداء. في هذا الإطار، نتذكَّر كلام بولس الرَّسول عن سِرّ الزّواج، إذ يقول لنا إنّ الزَّواج الأرضيّ بين الرَّجل والمرأة هو صورةٌ عن زواجِ المسيح والكنيسة. في هذا الإصحاح، نجد أنّ الكنيسة قد وَصلَت إلى كمالها، إذ أصبَحت بلا عيبٍ، وبالتّالي لم تَعدُ محتاجةً إلى غَسْلٍ جديدٍ بالكلمة، على حسب ما قال بولس الرَّسول في رسالته إلى أهل أفسس: “الإصحاح 5”.

“وسَمِعتُ صَوتًا عظيمًا مِن السَّماءِ قائلًا: «هُوَذا مَسكَنُ الله مع النَّاسِ، وَهو سَيَسكنُ معهم، وَهُم يكونون له شَعبًا، واللهُ نَفْسُه يكون مَعهم إلهًا لهم. وَسَيَمسَح اللهُ كُلَّ دَمْعةٍ مِن عُيونِهم، والموتُ لا يكون في ما بَعد، ولا يكون حُزنٌ ولا صُراخٌ ولا وَجعٌ في ما بَعد، لأنَّ الأُمورَ الأُولى قد مَضَتْ»”. إنّ هذه المدينة المقدَّسة هي صورةٌ عن الملكوت إذ سيَسكن فيها الله مع شعبه. إنّ عبارة “سيَمْسَح الله كلَّ دَمعةٍ من عيونهم”، تُذكِّرنا بما أخبَرنا به كاتب هذا السِّفر عن اضطهاداتٍ وأوجاعٍ وآلامٍ وموتٍ سيتعرَّض لها المؤمنون بالربّ. 

في المجيء الثَّاني، سيأتي الربّ ليَمسح الدُّموع من عيون المؤمِنِين به، أي أنّه لن يعود هناك من موت، فالدُّموع مرتبطةٌ بالموت. في هذا الإصحاح، يُقدِّم لنا كاتب سِفر الرُّؤيا، صورةً مشِّعةً عن الملكوت تَجعلُ المؤمنِين عند سماعهم هذا الكلام يتساءلون متى سيتحقَّق هذا، فإنّهم من أجل ذلك قد احتَملوا كلّ ما تعرَّضوا له، وصَبروا وجاهدوا لاجتياز المراحل الصَّعبة الّتي عانوا منها على هذه الأرض. نحن اليوم، مِن أكثر النَّاس الّذِين يستطيعون فَهمَ سِفر الرّؤيا بشكلٍ صحيح نتيجة ما نعاني منه من أزماتٍ اقتصاديّةٍ واجتماعيّةٍ في وَطنِنا.

“وقال الجالسُ على العَرشِ: «ها أنا أصنَعُ كُلَّ شيءٍ جديدًا!». وقال لي: «اكْتُبْ: فإنَّ هذه الأقوال صادقةٌ وأَمينَةٌ». في العِبرانيّة، إنّ كلمة “يوشِيب” تعني الجالس على العرش أو الـمُتَعرِّش وهي تُشير إلى الـمَلك، وهي ذات أهميّةٍ كبرى في العهد القديم. إنّ الربَّ سيَصنَع كلَّ شيءٍ جديدًا، وهذا يعني أنَّ القديم قد زال ولم يعد له من وجود. إنّ عبارة “فإنّ هذه الأقوالَ صادقةٌ وأمينةٌ”، تُذكِّرنا بالإصحاحات الأولى من هذا السِّفر، حين كلَّمنا يوحنّا، كاتب هذا السِّفر، على الشَّاهد الأمين والقَول الصّادق. وفي هذا الإصحاح، يخبُرنا أنّ ما ذَكره في الإصحاحات الأولى قد تحقَّق الآن بِمَجيء المسيح، أي بحلول الملكوت.

“مَنْ يَغلِبْ يَرِثُ كُلَّ شيءٍ، وأكون له إلهًا وهو يكون لي ابْنًا”: إنّ عبارة “مَن يغلب” قد ذُكِرَت سَبعَ مرّاتٍ في بداية هذا السِّفر، ولكن في المرَّة السَّابعة قد تمَّتْ إضافةُ عبارةٍ أخرى إليها، وهي “مَن يغلب كما غلبتُ أنا”، والمقصود هنا بعبارة “أنا” هو المسيح يسوع. إنّ الربَّ يسوع قد غلبَ بالشَّهادة أي بالموت على الصّليب، بعبارةٍ أخرى بالإخلاص الكامل لمشيئة الله، حتّى لو قاده ذلك الإخلاص إلى الموت. في هذا الإصحاح، يقول لنا كاتب هذا السِّفر، إنّ مَن يغلب كما غَلب المسيح، سيَكون نصيبَه الجلوس مع الربّ في الملكوت، فَهو سيَرِثُ كلَّ شيءٍ، أي الملكوت. 

إنّ الابنَ هو الّذي يرثُ أباه، لا العبدُ ولا الأجيرُ. في المعموديّة، يُصبح المؤمِن ابنًا لله بالتَّبنيّ، وبالتّالي وَريثًا للملكوت. ها إنّ وعودَ الله لأبنائه، تتحقَّق في هذا الإصحاح، إذ يُخبرنا الكاتب أنّ مَن يغلب كما غلب المسيح سيُصبح وَريثًا للملكوت، إذ إنّه ابنًا لله. في ظلِّ عيشِ المؤمنِين تحت الاضطهاد والشِّدة، وعدم قدرتِهم على رؤية النِّهاية السَّعيدة الّتي ينتظرونها، يأتي كاتب سِفر الرّؤيا ليُعطي المؤمِنِين مِن خلال كلامه في هذا الإصحاح تَعزيةً إذ يَحثُّهم على الصَّبر والجِهاد أكثر لتخطِّي الصُّعوبات، لأنّهم سيَكونون من أبناء الملكوت، وبالتّالي هو يسعى إلى تشديدهم ودعوتِهم إلى الثَّبات في إيمانهم أي إلى عدم الخوف وعدم الإنجرار وراء إغراءات الشّرير وترهيباته، لأنّهم سيُصبحون من عداد أبناء هذه المدينة المقدَّسة، المحصَّنة ضدّ كلّ قوى الشَّر.

“وأَمَّا الخائفونَ وَغَيرُ المؤمِنِين والرَّجِسون والقاتِلون والزُّناةُ والسَّحَرةُ وعَبَدَةُ الأوثانِ وجميعُ الكَذَبَة، فَنَصيبُهم في البُحَيرة المُتَّقِدةِ بِنارٍ وكِبريتٍ، الَّذي هو الموتُ الثَّاني»”. إنّ هذا الكلام يوجِّهه كاتبُ هذا السِّفر إلى كلّ المؤمنِين الّذِين ما زالوا مُتَردِّدين وخائفِين من تهديدات الشِّرير لهم. إنّ عبارة “الكَذَبة” لا تعني الإنسان الكاذب، بل تعني “النّبيَّ الكذَّاب” الّذي كلَّمنا عليه في السَّابق، أي كلّ مَن مع الوحش، الّذي يهدف إلى تضليلنا عن الإيمان الصَّحيح إذ يُقدِّم لنا تعاليم مخالفة لتعاليم الربّ، ويُوهِمنا بأنّها التّعاليم الصَّحيحة، أي تعاليم الربّ. 

إخوتي، إنّ القداسة مؤسَّسةٌ على الفهم الصَّحيح لإيماننا بالربّ، لا على الخُرافات والاجتهاداتِ الشَّخصيّة حول الإيمان الصَّحيح. في هذا الإصحاح، يُخبرنا كاتب هذا السِّفر، أنّ مَن سيكون تابعًا لعبادة الأوثان، أي لأهوائه وخطاياه، بمعنى آخَر تابعًا للشَّرير، نَصيبُه سيكون الموت الثَّاني؛ أمّا مَن سيَثبُت في إخلاصه للربّ، فإنّ الربَّ يسوع سيَمسح كلّ دَمعةٍ من عينِه في الملكوت، أي أنّه سيَنال القيامة الثّانية؛ إذ إنَّ القيامة الثّانية قد تمَّتْ بموت المسيح على الصَّليب وقيامته.

“ثُمَّ جاء إليَّ واحدٌ مِن السَّبعَةِ الملائكةِ الَّذِين مَعهُم السَّبعَةُ الجاماتِ المَملوَّةِ مِنَ السَّبعِ الضَّرباتِ الأخيرةِ، وتَكلَّمَ معي قائلًا: «هَلُمَّ فأُرِيكَ العَروسَ امرأةَ الخَروف». وَذَهبَ بي بِالرُّوح إلى جبلٍ عظيمٍ عالٍ، وأراني المدينةَ العظيمةَ أُورشَليمَ المُقدَّسةَ نازلةً مِنَ السَّماء مِن عندِ اللهِ، لها مَجدُ الله، ولَمعانُها شِبهُ أكرمِ حَجرٍ كحَجرِ يَشْبٍ بَلُّوريٍّ. وكان لها سُورٌ عظيمٌ وعالٍ، وكانَ لها اثْنا عَشَر بابًا، وعلى الأبوابِ اثْنا عَشَر ملاكًا، وأَسْماءٌ مَكتوبةٌ هي أسْماءُ أسْباطِ بَنِي إسرائيلَ الاِثنَي عَشَرَ”: طيلة سِفر الرُّؤيا، قد تكرَّر الرَّقم سبعة، وكلّ ما وَصلنا إليه ظَنَنّا أنّ النِّهاية قد حانَتْ، ولكنّنا كُنّا نُفاجَأ في كلّ مرَّة أنّها لم تأتِ بعد، إذ يَظهر أمامنا أمرٌ مغلقٌ. 

أمّا في هذا الإصحاح، فيَبدو أنّ الأمور قد وَصَلت إلى نهايتها، وما عاد مِن شيءٍ مُقفَلٌ أمامنا، فالعروس أي الكنيسة الـمُخلِصة للمسيح والأمينة له، تَتزَّوج من جديدٍ المسيح، أي الحَمَل الـمَذبوح والمنتَصِر في آنٍ معًا. 

إنّ عبارة “الخروف” في سِفر الرُّؤيا تَرتدي وَجهَين: الوجه الأوّل هو الحَمل المذبوح، الّذي مِن خلاله أراد الكاتب التَّركيز على لاهوت الصَّليب، أمّا الوجه الآخَر فهو الخروف الظّافر أي المنتَصِر، وهذا الوجه يُشير إلى لاهوت القيامة. لذلك، إخوتي، في عيد الفِصح، لا تَفصل الكنيسة ليتورجيًّا وأسراريًّا بين موت المسيح وقيامته، لأنّ الإنجيل نفسَه لا يَفصل بَينهما، إذ نقرأ على سبيل الـمِثال، في إنجيل متّى أنّ الدُّنيا قد تزلزلَت بموت المسيح على الصَّليب وتفتَّحَت القبور وقام الأموات مِنها. 

هذه هي أورشليم الجديدة، أورشليم المقدَّسة، الّتي كلَّمنا عليها يوحنّا، في سِفر الرُّؤيا، فكاتب هذا السِّفر أظهرَ لنا قيامة الربّ من خلال علامات الموت، لأنّه يُخبرنا أنّه عند ظهوره لتُوما الرَّسول، طلب الربّ إلى هذا الأخير رؤيةَ آثار المسامير، دليلَ الصَّلب. 

إذًا، الموت والقيامة هما وَجهَان لعُملةٍ واحدة هي الملكوت. وبالتّالي، على المؤمن أن يتسلَّح بموت الربّ وقيامته، كي يتمكَّن من متابعة مسيرته على هذه الأرض، فيَتمكَّن مِن تفضيل الموت على إنكاره للمسيح، بمعنى آخَر على المؤمِن الشَّهادة للمسيح على الرُّغم من تَعرُّضه لكافة أنواع الاضطهادات، فيبقى أمينًا للربّ وثابتًا في إيمانه به حتّى اليوم الأخير، فيُصبح المؤمِن في ذلك اليوم عروسَ المسيح، أي “امرأة الخروف” على حسب تعبير الكاتب في هذا النَّص. 

في هذا الإطار، نتذكَّر من جديد كلام بولس الرَّسول عن الزّواج حين يقول لنا إنّه لا يوجد في الكنيسة إلّا سرُّ زواجٍ واحدٍ هو زواجُ الكنيسة والمسيح، وفي هذا الإطار يدعو بولس الرَّسول الرَّجل إلى أن يُحبَّ امرأته كما أحبَّ المسيح الكنيسة، وأن تحترم المرأة رَجُلَها وتُحبَّه كما أحبَّت الكنيسةُ المسيحَ. 

إذًا، في الكنيسة، هناك سرُّ زواجٍ واحد هو بين المسيح وكنيسته، وكلّ الّذين يحتفلون بسرِّ الزَّواج، لا يحتفلون بسرِّ زواجٍ بين رَجُلٍ وامرأته، فالرَّجل والمرأة مع بعضهما، يُصبحان عروسًا واحدةً للعريس الّذي هو المسيح، فالرَّجُل والمرأة معًا يُمثِّلان الكنيسة. في سرّ الزَّواج، عند دخول الرَّجل والمرأة إلى الكنيسة يُصبحان “جسدًا واحدًا”، وهذا لا يعني الاتِّحاد من خلال العلاقة الجسديّة بل يعني أنّهما معًا يُمثِّلان الكنيسة الجامعة، عروسَ المسيح. في سرّ الزّواج، يختار الرَّجُل والمرأة أن يُتابعا مسيرتهما الأرضيّة ساعِين في كلّ يوم إلى التغلُّب على الصُّعوبات كما غلبَ المسيحُ الشِّريرَ، من خلال عيشِهما الحبّ والتضحيّة والخدمة والجهاد، في نطاق الحياة الزَّوجيّة الّتي اختاراها. 

وهنا، أودُّ أن ألفُتَ انتباهِكما إلى أمرٍ مُهمٍّ وهو أنّ حبَّنا البشريّ لبعضِنا البعض غالبًا ما يكون مرتبطًا بمزاجِ كلِّ واحدٍ منّا وبأهوائه وبالظّروف الّتي يعيشها؛ غيرَ أنّ حُبَّ المسيح لكنيسته هو غير مرتبطٍ بشيء، لذا لا يستطيع شيءٌ أن يَفُكَّ هذا الحُبّ ولا حتّى خطيئة الكنيسة. إنّ المسيح يَغسِلُ في كلّ يومٍ كنيستَه من خطيئتها، بواسطة كلمتِه المقدَّسة، فتَعود عروسًا نقيّةً بلا عيب، فيتزوَّجها الربُّ من جديد. انظروا معي إخوتي، إلى عظمة رَحمةِ الربّ إلى كنيسته في يوم مَجيئه الثّاني! ففي مَجيئه الثَّاني، سيبحث الربّ عن عروسه، أي عن الكنيسة الّتي بَقيَت على إخلاصها له حتّى يوم مَجيئه. 

إنّ عبارة “ذَهَب بي بالرُّوح”، هي عبارةٌ قد استخدمَها النبيّ حزقيال في سِفره، وهي تُشير إلى عَمَلِ الله، وبما أنّ الرُّؤيا هنا هي عملٌ إلهيّ، أعاد كاتب هذا السِّفر، يوحنّا، استخدام عبارة النبيّ حِزقيال.

“والَّذي كان يَتكَلَّمُ معي كان معه قَصَبَةٌ مِن ذَهبٍ لِكَي يَقيسَ المدينةَ وأبوابَها وَسُورَها. والمَدينةُ كانَتْ مَوضوعةً مُربَّعةً، طُولُهَا بِقَدر العَرضِ. فَقاسَ المَدينةَ بِالقَصَبَةِ مَسافَة اثْنَي عَشَرَ ألفَ غَلوَةٍ. الطّولُ والعَرضُ والارتفاعُ مُتَساويةٌ. وقَاس سُورَها: مئةً وأَربَعًا وأربَعِين ذِراعًا، ذِراعَ إنسانٍ أي الملاك. وكان بِناءُ سُورِها مِن يَشْبٍ، والمَدينةُ ذَهبٌ نَقيٌّ شِبهُ زُجاجٍ نَقيٍّ. وأساساتُ سُورِ المَدينةِ مُزَيَّنةٌ بِكُلِّ حجرٍ كريمٍ. الأساسُ الأوَّلُ يَشْبٌ. الثَّاني ياقوتٌ أَزرقُ. الثَّالثُ عَقيقٌ أبْيَضُ. الرَّابعُ زُمرُّدٌ ذُبابيٌّ، الخامِسُ جَزَعٌ عَقيقيٌّ. السَّادسُ عَقيقٌ أحمَرُ. السَّابعُ زَبَرْجَدٌ. الثَّامنُ زُمرُّدٌ سِلْقِيٌّ. التَّاسعُ ياقوتٌ أصفَر. العاشِرُ عَقيقٌ أَخضَرُ. الحادي عَشَرَ أَسْمانْجونيٌّ. الثَّاني عَشَرَ جَمَشْتٌ. وَلِلاثْنَي عَشَرَ بابًا اثْنَتا عَشَرَةَ لؤلؤةً، كُلُّ واحدٍ مِن الأبوابِ كان مِن لؤلؤةٍ واحدةٍ. وَسُوقُ المَدينةِ ذَهبٌ نَقيٌّ كزُجاجٍ شَفَّافٍ”. إنّ الّذي كان يُكلِّم الرَّسول يوحنّا كان يُمسِك في يده قَصَبَةً، وبها قاسَ المدينة المقدَّسة فإذا بها مرَّبعة. 

إنّ عبارة “الطّولُ وَالعَرضُ والارتفاعُ مُتَساويةٌ” تعني أنّ هذه المدينة هي مدينةٌ كاملةٌ متكاملةٌ مِن كلّ النَّواحي. إنّ سُورَ هذه المدينة هو مئةٌ وأربعةٌ وأربعينَ ذراعًا، وهذا الرَّقم هو نتيجةُ عمليّةِ ضَرب الرَّقم اثنَي عشر بالرَّقم ذاتِه. إنّ الرَّقم اثنَي عشر هو رَقمٌ يُشير إلى الكمال. وبالتّالي، 

مِن خلال هذا الكلام، أراد الكاتب أن يقول لنا إنَّ هذه المدينة المقدَّسة هي مدينةٌ كاملةٌ غير ناقصة، وفِيها لا يعود الإنسانُ بحاجةٍ إلى أيّ شيء. إنّ سردَ الكاتب لِكُلِّ هذه الأنواع من الأحجار الكريمة هو بِهَدف إخبارنا عن عظمة هذه المدينة المقدَّسة ومجدِها ونورِها.
“ولَمْ أَرَ فيها هَيكلًا، لأنَّ الرّبّ اللهَ القادرَ على كُلِّ شيءٍ، هُوَ والخَروفُ هَيكلُها. والمَدينةُ لا تَحتاج إلى الشَّمسِ ولا إلى القَمر لِيُضيئا فيها، لأنَّ مَجدَ اللهِ قد أنارها، والخَروفُ سِراجُها.”: 

إنّ هذه المدينة المقدَّسة لا يوجد فيها هيكلاً يهوديًّا أو هيكلاً وثَنِيًا أو أي هيكلٍ آخَر مِن صناعة بشريّة؛ فالله والخروف هما يشكِّلان هيكلَها. وهنا، نرى الوَحدة الموجودة بين الآب والابن، هذه الوحدة الكاملة الّـتي نراها في كامل عظمتِها وبهائها في الملكوت. إنّ هذه المدينة المقدَّسة لم تَعد بحاجةٍ لا إلى الشَّمس ولا إلى القمر ليُضيئا فيها لأنّ نور الربّ هو الّذي يُشرق فيها. هنا نتذكَّر نصَّ الخَلق في سِفر التَّكوين، الموجود في الإصحاح الأوَّل، إذ أخبَرنا أنّ الشَّمس والقمر قد وُجِدا في اليوم الرَّابع، وبالتّالي ما أراد سِفر التَّكوين إخبارنا به هو أنّه قَبْل وجود الشَّمس والقمر، كان هناك نورٌ هو نورُ الربّ. 

وهنا ما يؤكِّد عليه كاتب هذا السِّفر، إذ يقول لنا إنّه في المدينة المقدَّسة، أي في الملكوت، لن يعود هناك من وجود لأيِّ نورٍ آخَر سوى نور الربّ. هذا النَّور قد أشار إليه أيضًا الإنجيليّون في مشاهد إنجيليّة مختلفة وأهمَّها ما حدث على جبلِ التجلِّي، إذ قد أشعَّ نور الربِّ وظهرَ إلى العلن أمام التّلاميذ.

“وتَمشي شُعوب المُخَلَّصِين بِنُورِها، ومُلوكُ الأرض يَجيئون بِمَجدِهم وكَرامَتهم إليها. وأبوابُها لَن تُغلَقَ نهارًا، لأنَّ لَيلًا لا يكون هناك. ويَجيئون بِمَجدِ الأُمَم وكَرامَتِهم إليها. ولَنْ يَدخُلَها شَيءٌ دَنِسٌ ولا ما يَصْنَعُ رَجِسًا وكَذِبًا، إلَّا المَكتوبِين في سِفرِ حياةِ الخَروف”: في هذه المدينة المقدَّسة، لا وجود لِلَّيل إذ إنّ نور الربّ يُضيئُها على الدَّوام؛ والإنسان الّذي يعيش فيها لا يحتاج إلى شيءٍ. 

إنّ المقاييس المعتمدة في هذه الدُّنيا من لَيلٍ ونهار قد أُبطِلَتْ، لأنّ الشَّمس الأُولى والأرض الأولى المسؤولتَين عن تَعاقُب النَّهار واللَّيل قد زالَتا. في هذه المدينة المقدَّسة، ستَبقى كلّ الأبواب مفتوحةً ولن تُغلَق أبدًا. إنّ كاتب سفر الرّؤيا لم يَستخدم عبارة “سِفر الحياة” بل استَخدم عبارةَ “سِفر حياة الخروف”، أي أنّ الأسماء المكتوبة في هذا السِّفر، هي أسماء الّذين ثَبتُوا في إيمانهم بالخروف الـمَذبوح والـمُنتصِر أي يسوع المسيح. 

هنا نتذكَّر كلام الربِّ في الإنجيل، إذ يُعرِّف عن نفسه لنا بالقول:”أنا هو الرَّاعي الصَّالح” (يو 10: 11)، “أنا هُوَ البَابُ. إنْ دَخَلَ بي أحدٌ فَيَخلُصُ ويَدخُلُ ويَخرُجُ ويَجِدُ مَرعًى” (يو 10: 9)، “أنا هُوَ الطَّرِيقُ وَالْحَقُّ وَالْحَيَاةُ. لَيْسَ أَحَدٌ يَأْتِي إِلَى الآبِ إِلاَّ بِي.” (يو 14: 6). وبالتّالي، لا يمكن لأحدٍ أن يدخل إلى ملكوت الله إلّا عن طريق الخروف، أي عن طريق الإيمان بالربّ يسوع المصلوب والقائم والآتي. هذه الكلمات الثلاثة مُجتَمعةً، تُشكِّل ركائز إيمانِنا ورجائِنا، وهي سببُ فرحِنا الدّائم.

وهنا يُطرَح السُّؤال: من اليوم حتّى مجيء الربّ الثّاني، ما هو المطلوب مِنّا حتّى نتمكَّن من معاينة هذه الصَّورة البَهيّة الّتي أخبَرنا بها كاتب هذا السِّفر؟ ما هو مطلوبٌ مِنّا هو الصَّبر والثّبات والإخلاص للربّ. وبالتّالي، مهما واجَهْنا في هذه الحياة مِن صعوبات، علينا أن نتمسَّك بكلمة الله كي نتمكَّن من الوصول إلى هذه النِّهاية السَّعيدة الّتي رسمَها لنا كاتب سِفر الرُّؤيا عن الملكوت. إذا عانَينا في هذه الحياة من الفَقر، علينا أن نتذكَّر قَول الربّ لنا: “طوبى للفقراء بالرّوح” (متى 5: 3). 

وإذا عانَينا مِن الشِّدَة، علينا أن نتذكَّر كلمة الربّ:” طوبى للمُضطَهَدين”(متى 5: 10)؛ وإذا عانَينا من الحزن، فلنتذكَّر قَول الربّ: “طوبى للباكين الآن لأنّهم سيَفرحون” (لوقا 6: 21)، “طوبى لكم إذا عيَّروكم” (متى 5: 11)،”طوبى للودعاء”(متى 5: 5)… كلُّ هذه التطويبات الّتي أعلَنَها الربّ على جبل التطويبات ينالها المؤمِن إذا بَقِيَ على الإيمان والإخلاص للربّ.

لذلك إخوتي، إنّ هذا الإصحاح من سِفر الرّؤيا، الإصحاح 21، برأيي المتواضِع، يجب قراءته إضافةً إلى الإصحاح 22، قَبْل البدء بقراءة سِفر الرُّؤيا، كي نتمكَّن من الحصول على التعزية والرَّجاء، والفرح الّذي ينتظرنا في الملكوت قَبْل الدُّخول في سِفر الرّؤيا الّذي يُكلّمنا في إصحاحاته الأولى على الاضطهادات والشَّدائد الّتي سيُعاني منها كلّ مَن يؤمن بالربّ. فعند معرفتِنا ماذا ينتظِرنا في الملكوت، سنتحلَّى بالشَجاعة والصَّبر والقوَّة لمواجهة كلّ الشَّدائد الّتي تواجهنا في هذه الحياة بسبب إيماننا بالربّ. فإذا كانت صورة الملكوت الّتي قدَّمها لنا يوحنّا، كاتب هذا السِّفر، نُصبَ عيونِنا فإنّنا حتمًا سنَتَمكَّن من احتمال الشَّدائد، والثَّبات على إخلاصِنا للربّ. 

إنّ صورة الملكوت الّتي قدَّمها لنا كاتبُ سفر الرّؤيا يجب أن تبقى نُصبَ عيونِنا، كي يبقى لدينا هذه التّعزية وهذا الفرح، وهذا الجهد، وهذا الصَّبر، وهذا الثَّبات. إنّ أهمّ شيطان يواجهنا الآن في ظلّ هذه الظروف الّتي نعيشها هو الشكّ في إيماننا، أي إعادة النَّظر بإيماننا، فنَطرح السُّؤال على ذواتنا: ماذا قدِّم لنا الربَّ في ظلّ ما نواجهه من صعوباتٍ في هذه الحياة؟ لماذا هو لا يزالُ ساكتًا عن أعمالهم الشِّريرة؟ إنّ الأسئلة نفسَها، يعالجها سِفر الرُّؤيا، ويطرحها المؤمِنون الّذِين كُتِب لأجلِهم سِفر الرُّؤيا، إذ يَصرخون إلى الربّ قائلِين: إلى متى يا ربّ؟ متى ستَنتَقم لنا يا ربّ؟ 

إذًا، إنّ الزَّمن الّذي نعيشه على هذه الأرض هو زمنُ اضطهادٍ لا ينتهي إلّا في الملكوت، بهذه الصُّورة البَهيّة الّتي يقدِّمها لنا هذا الإصحاح. وبالتّالي، مَن يَصبر إلى المنتهى يَخلُص. وهنا أقول لكم، إنْ تعرَّضتم للجوع، انظروا إلى الجِياع من حولِكم. إذا تعرَّضُتم للآلام، انظروا إلى المتألِّمين من حولِكم. عندها ستكتَشِفون أنّكم لستُم الوحيدين الّذِين يعانون من الصُّعوبات في هذه الحياة. 

لذا، اسعَوا كي تتميَّزوا عن الباقين في عيشِكم للصُّعوبات الّتي تعترض حياتكم بالصَّبر والثَّبات على الإخلاص للربّ، في حين أنَّ قسمًا من المؤمِنِين قد وقعوا في فخّ الشِّرير، فارتدّوا عن إيمانهم وخافوا من تهديدات الشَّرير وخضعوا لإغراءاته واستَسلموا له وانسحبوا مِن مسيرتهم مع الربّ. وتذكَّروا على الدَّوام، أنّ مَن يغلب كما غلبَ الربّ سَيَرِث معه في الملكوت. آمين.

ملاحظة: دُوِّن الشرح بأمانةٍ من قِبَلنا.

Instagram
Copy link
URL has been copied successfully!
WhatsApp