تفسير الكتاب المقدّس،

الأب ابراهيم سعد،

“رسالة بولس الرّسول إلى العبرانيّين – الإصحاح الثاني” 

النّص الإنجيليّ:

“لذلك يجب أن نتنبَّه أكثر إلى ما سمِعنا لئلّا نَفُوتَه. لأنّه إن كانت الكلمة الّتي تكلّم بها ملائكةٌ قد صارت ثابتةً، وكلُّ تعدٍّ ومعصيةٍ نال مجازاةً عادلةً، فكيف ننجو نحن إن أهمَلْنا خلاصًا هذا مقداره؟ قد ابتدأ الرّبّ بالتّكلّم به، ثمّ تَثَبَّت لنا مِن الّذين سمِعوا، شاهدًا الله معهم بآياتٍ وعجائب وقوّاتٍ متنوّعةٍ ومواهب الرّوح القدس، حسب إرادته. فإنّه لملائكةٍ لم يُخضِع العالم العتيد الّذي نتكلّم عنه. لكن شهِدَ واحدٌ في موضعٍ قائلاً: “ما هو الإنسان حتّى تذكره؟ أو ابن الإنسان حتّى تفتقده؟ وضعته قليلاً عن الملائكة. بمجدٍ وكرامةٍ كلّلته، وأقمته على أعمال يديك. أخضَعتَ كلّ شيءٍ تحت قدميه”. لأنّه إذ أخضع الكلّ له لم يترك شيئًا غير خاضع له. على أنّنا الآن لسنا نرى الكلّ بعد مُخضَعًا له. ولكنّ الّذي وُضِعَ قليلاً عن الملائكة، يسوع، نراه مكلّلاً بالمجد والكرامة، من أجل ألم الموت، لكي يذوق بنعمة الله الموت لأجل كلّ واحدٍ. لأنّه لاقَ بذاك الّذي من أجله الكلّ وبه الكلّ، وهو آتٍ بأبناءٍ كثيرين إلى المجد، أن يُكمِّل رئيس خلاصهم بالآلام. لأنّ المقدِّس والمقدَّسين جميعهم من واحدٍ، فلهذا السبّب لا يستحي أن يدعوهم إخوةً، قائلاً “أُخبِّر باسمك إخوتي، وفي وسط الكنيسة أسبِّحك” وأيضًا: “أنا أكون متوكِّلاً عليه”. وأيضًا: “ها أنا والأولاد الّذين وهبهم لي الله” إذ قد تشارك الأولاد في اللّحم والدّم اشترك هو أيضًا كذلك فيهما، لكي يُبيد بالموت ذاك الّذي له سلطان الموت، أي إبليس. ويُعتِق أولئك الّذين خوفًا من الموت كانوا جميعًا كلّ حياتهم تحت العبوديّة. لأنّه حقًّا ليس يُمسِك الملائكة، بل يُمسِك نسل إبراهيم. من ثمّ كان ينبغي أن يشبه إخوته في كلّ شيءٍ، لكي يكون رحيمًا، ورئيس كهنةٍ أمينًا في ما لله حتّى يُكفِّر خطايا الشّعب. لأنّه في ما هو قد تألّم مُجرَّبًا يقدر أن يعين الـمُجرَّبين”.

شرح النّص الإنجيليّ:

إنّ هذه الرسالة تهدف إلى إعطاء جواب عن سؤال واحدٍ هو: من هو يسوع؟ ومن هذا السؤال تَفرّع أسئلة أخرى هي: ما هو هدف حضور يسوع؟ ما هو عمله؟ وإلامَ يرمي كلّ ما قام به؟ ومن هم المعنيّون بهذا العمل، أي إلى من يتوجّه المسيح في عمله؟ وللإجابة عن السؤال الأساسيّ عن ماهيّة يسوع، وَجُب علينا التّكلّم عن قصّة يسوع ورسالته، لأنّ رسالة يسوع هي قصّته. والغاية من طرح هذا السؤال ليس إعطاء براهين وأدلّة على أنّ يسوع هو ابن الله ومسيحه، إنّما التركيز بأنّ المسيح هو لنا، أي أنّ كلّ ما فَعَلَهُ كان من أجلنا نحن البشر، فهو قد تحمّل الآلام والصّلب والموت من أجل فدائنا.

في العهد القديم، كان الله يُكلِّم شعبه من خلال وسائل عدّة ومن بينها الملائكة، وقد كان يسوع بمثابة التوقيع والختم على كلّ ما نقلته الملائكة للشعب عن لسان الله بأنّه حقًّا كلام الله. إنّ كاتب الرسالة يضيف قائلاً إنّ كلام الله قد تُثبِّت لنا من خلال كلّ الّذين سمعوه، إذ إنّ رسالة المسيح لا تقتصر على سماع كلام الله إنّما تتخطّى ذلك، لتشمل نشر البشارة من خلال كلّ مؤمن يسمع كلمة الله. ومن هنا يمكننا القول إنّ الّذي يسمع كلام الله له دورٌ فاعل في رسالة يسوع، أي أنّ مهمّته في نشر الكلمة تبدأ حين سماعه بها، بمعنىً آخر، إنّ كلمة الله تبقى ناقصة ما لم تصِل للآخرين، وهنا لا أقصد أنّ كلمة الله هي ناقصة، بل أقصد بأنّها تبقى ناقصة إذ لم تتمكّن من تحقيق هدفها في وصولها إلى كافة البشر عبر الّذين سمعوها. ومن هنا، تتّضح لنا عظمة مسؤوليّة المؤمن في نقل البشارة إلى الآخرين، لذا لا يجب أن يسمع كلمة الله كمن يشاهد فيلمًا تاريخيًّا يروي أحداث حياة المسيح، بل عليه أن يسمع كلمة الله ويعي الدور الّذي أوكله إيّاه المسيح في نقل البشارة إذ إنّه جعله حاملاً لكلمة الله الأزليّة، على الرّغم من جبلته الضعيفة والمعرّضة للسقوط والهوان في شتّى الخطايا، إذ قد أصبح كلّ سامع لكلمة الله إنجيلاً متنَّقِلاً ورسالة الله المتنَّقلة بين البشر. 

إذًا، إنّ يسوع هو ذاك الّذي أتى وحمّل كلّ مؤمن به كلمة الله الأخيرة، وأوكله بأن يوصلها بدوره للآخرين، لذا ليس على المؤمن أن يستهين بكلمة الله ولا بنفسه أيضًا. إنّ أكبر خِدَع الشيطان هي إقناع الإنسان بأنّه ليس مستحقًّا ولا أهلاً، لينقل كلمة الله للآخرين وذلك بسبب ضعفه وخطاياه الكثيرة. إنّ الشيطان لا يهمّه الإنسان بل إنّ ما يشكّل همّه الوحيد هو عرقلة وصول كلمة الله للعالم بأسره. إنّ الشيطان يكون الرابح الأكبر عندما ينغلق الإنسان على ذاته مكتفيًا برؤية نقائصه، ومتجاهلاً أهميّته في نقل البشارة؛ وبالتّالي، يدخل الإنسان في مشروع الشيطان عوض أن ينتمي إلى مشروع الله الخلاصيّ. ولذا، ومن أجل إفشال مشروع الشيطان ومخطّطه هذا، على المؤمن عدم التلهّي في تحسين ذاته ليصل إلى الكمال قبل الشروع في نقل البشارة، إذ إنّه بتلك الطريقة يقوم بتعطيل كلمة الله. 

إنّ الله اختارك أيّها المؤمن، على الرّغم من نقائصك وخطاياك، لتوصل البشارة إلى الآخرين. إخوتي، إنّنا لا نبشّر بذواتنا، بل بكلمة الله، ولذا علينا عدم الانتظار للوصول إلى الكمال كي نبدأ البشارة، فإيّاكم أن تعتقدوا أنّ عليكم أن تكونوا الـمَثل الصالح للنّاس لتبدأوا البشارة، إذ إنّ لا مَثَل صالح سوى المسيح يسوع. إنّ القدِّيسين أنفسهم لم يسعوا إلى الظهور والتكلّم عن ذواتهم، بل سعوا إلى الاختفاء لكي تظهر كلمة الله وحدها من خلالهم. إنّ القدّيسين لم يسعوا ولم يتهافتوا يومًا للتسويق لخبراتهم مع الله، كما هو حاصل اليوم مع القدِّيسين وعلى سبيل المثال لا الحصر، القدّيس شربل: فلو أدرك القدّيس شربل حينها ذلك، لكان سعى إلى المزيد من الامحّاء في سبيل أن يظهر المسيح. إنّ الأمر نفسه حصل مع بقيّة القدِّيسين إذ بحثوا عن الامّحاء من أجل أن تظهر وتنمو كلمة الله في البشر من خلالهم، وبالتّالي ينطبق على قدِّيسينا كلام يوحنّا المعمدان الوارد في الإنجيل: “لي أن أنقص وله أن ينمو”.

إنّنا لا نقصد بعدم التلهّي بخطايانا، عدم السّعي للتخلّص منها، بل إنّنا نقصد بذلك عدم جعلها حاجزًا يقف في طريق انطلاقنا للبشارة بكلمة الله. يتوجّب على كلّ مؤمن العمل على تحسين ذاته من خلال السّعي إلى التخلّص من خطاياه، فإنّه إن لم يفعل، فخطاياه ستكون سبب معثرة للآخرين، وبالتّالي لن يسمعوا كلمة الله مجدّدًا، ولن يعطوها أي قيمة. على كلّ مؤمن إذًا، ألّا يسمح لخطاياه بأن تكون سببًا في تعطيل العمل الّذي جاء المسيح من أجله، كما أنّه لا يجوز للمؤمن أن يسمح لخطاياه بأن تشكّل حاجزًا له يمنعه من البشارة بكلمة الله. فالسؤال الّذي يُطرح الآن هو، أيّهما الأهمّ: كلمة الله أم خطاياك؟ فإن كانت كلمة الله هي الأهمّ بالنسبة لك، فعليك الانطلاق للبشارة محاولاً في الوقت نفسه التخلّص من خطاياك، إذ لا يمكنك الانتظار كي تكون كاملاً لتبدأ برسالتك، إذ قد تموت قبل أن تبدأ بالرسالة وقَبْلَ أن تصل إلى الكمال، وها إنّي أقول لك: إنّك لن تصل إلى الكمال على هذه الأرض. 

والسؤال الّذي يُطرح الآن هو، ما سيكون موقفك أمام الله حين تقف في حضرته أي في الملكوت، حين يسألك عن عدم إيصالك البشارة إلى الأشخاص الّذين كانوا سيَخْلُصون بسبب سماعهم للكلمة من خلالك؟ إنّ الإنسان عندما يقبل المسيح في حياته ويعتمد، يدخل في زمن يسوع، وبالتّالي لا يعود هناك وقت للتلهّي بأمور أخرى سوى البشارة، فالحياة ليست سوى لحظات تمرّ سريعًا، قبل دخولنا إلى ملكوت الله للقاء المسيح، وعلى كلّ مؤمن أن يسعى ليحضّر العالم لمجيء المسيح الثاني عبر التبشير به المسكونة بأسرها. وبالتّالي فإن حياتك على هذه الأرض، ليست إلّا فرصةً لك للبشارة. إيّاكم، إخوتي، أن تعتبروا حياتكم صدفةً، لأنّكم بهذا الفعل تكونون قد أخرجتم ذواتكم من التّاريخ الإلهيّ، بل اجعلوا من حياتكم فرصة، فتتمكّنوا من كتابة أسمائكم في الإنجيل غير المكتوب بعد، أي في الكتاب الأخير، في الملكوت. إنّ بولس الرّسول يقول في هذه الرسالة إنّ الله قد ثبَّتَ كلمته في الّذين سمعوها وحملوها إلى الآخرين، بآيات وعجائب، وقوّات ومواهب الرّوح القدس، وذلك ليؤكّد صحّة كلامه، لكلّ من يسمع كلمة الله عن طريق المبشِّرين.

إنّ كلمة الله صادقة غير أنّ تصرّفات المؤمن وطريقة عيشه قد تُكذِّبها في العديد من الأحيان. إخوتي، إنّ مسؤوليّة نشر كلمة الله تقع على عاتقنا نحن المؤمنين بها، ونحن الّذين نجعلها إمّا وهمًّا وخيالاً، وإمّا حقيقةً مُـحقَّقَة بالنسبة للّذين يسمعونها منّا وذلك من خلال تصرّفاتنا. إنّ الكنيسة وبالتّالي كلمة الله، تتعرّضان لهجوم كبير من قِبَل البِدَع.

إنّ الإنجيل ليس كتاب أشعار وحِكَم كما يستخدمه البعض: “إن كنت …، فافتح المزمور….”، ولا هو أيضًا كتاب علم العلوم. إنّ العلم والدّين لا يتعارضان بتاتًا، ولكنّه لا يجوز لنا المقارنة بينهما إذ إنّ مجال عمل كلّ واحدٍ منهما مختلف عن الآخر، ولكي تصحّ المقارنة بين أمرين، فإنّه يجب أن يكونا على المستوى نفسه، غير أنّ العلم والدّين ليسا كذلك. ولكن إن قام العلماء باكتشاف أمرٍ ما، أدّى إلى مفاجأة بعض المتديّنين الّذين لم يتقبلوا هذا الاكتشاف ولم يفهموه، فهذا لا يشير أبدًا إلى أنّ العلم والدّين يتعارضان. إنّ العلم هو بابُ اكتشافاتٍ كثيرة ومذهلة، ولا أحد يستطيع الوقوف عائقًا في طريق تلك الاكتشافات العلميّة، ولكن السؤال الّذي يُطرح هو تسخير الإنسان لهذه الإكتشافات في سبيل خدمة الإنسان أو من أجل هدمه. إنّ الكنيسة تستطيع أن تنصح النّاس والمؤمنين بعدم اللّجوء إلى الاستنساخ لكنّها لا يمكن أن تمنعهم من القيام به. ولكن قد يمتنع أحد علماء الطبّ الملتزمين مسيحيًّا من ممارسة الاستنساخ بطريقة تُحقِّر الطبيعة البشريّة، وتهدمها وذلك توافقًا مع قناعاته الإيمانيّة.

إنّ الإنجيل هو خطاب الله الأخير لشعبه، وفيه يعبّر لهم أنّ الوقت قد حان لخلاصهم من كلّ عبوديّة. وبولس الرّسول يقول:”ويعتق أولئك الّذين خوفًا من الموت كانوا جميعًا كلّ حياتهم تحت العبوديّة”. إنّ مشكلة الإنسان الأساسيّة هي خوفه من الموت، وهذا ما يؤدي به إلى الشعور بالقلق والاضطراب وارتكابه الخطايا، فالموت يرتدي أوجهًا عديدة: العزلة، الفقر، عدم الشفاء من المرض، عدم الشعور بالحبّ. إنّ فلسفة السرقة مثلاً، هي نابعة من خوف الإنسان من الموت إذ إنّ الإنسان يلجأ إلى السرّقة في البداية رغبةً منه في العيش وخوفًا من الموت، لكنّها قد تتحوّل فيما بعد إلى عادة وطبيعة. إنّ كلّ أذيّة يقوم بها الإنسان هي نابعة من خوفه من الموت: إنّ الّذي يقتل، يقتل مخافة أن يصبح مقتولاً من الآخر، والّذي يشعر بالكراهيّة تجاه الآخر نتيجة خصامٍ معيّن، يقوم بأذيّته كلاميًّا، والتجريح به، مخافة أن يغلبه الآخر بآرائه، فيحظى حينها بالحبّ والاهتمام من الآخرين، 

وبالتّالي في هذه الحالة إنّنا نتكلّم عن خوف الإنسان من العزلة وأن يكون مرفوضًا من الآخرين. إنّ إدمان الإنسان على المخدّرات أو على سائر مفاسد الدّنيا، سببه عطش هؤلاء وحاجتهم للشعور بأنّهم محبوبون، فالّذي لا يشعر بأنّه محبوب، يحسّ بأنّ لا قيمة لوجوده. إذًا، إنّ الإنسان يتعرّض لعبوديّات كثيرة نتيجة أهوائه وخطاياه، ويأتي بولس ليؤكدّ أنّ كلمة الله وحدها هي الكفيلة بتحرير الإنسان من خوفه من الموت، ولكنّها لا تحرّره من الموت. إنّ هذا الأمر قد فُهِم بطريقة خاطئة من قِبَل النّاس، إذ اعتقد البعض أنّ قبولهم لكلمة الله سيحررهم من الموت الجسديّ، غير أنّ ما قصده بولس في كلامه هو أنّ كلمة الله هي قادرة، إن سمح لها الإنسان بذلك، أن تحرّره من خوفه من الموت، وهو لا يزال على قيد الحياة. أمّا السؤال الّذي غالبًا ما يطرحه النّاس، فهو: ماذا بعد الموت؟ وهذا السؤال لا جواب له إلاّ عند الله، غير أنّ الإنسان يجد صعوبة في أن يصدّق كلام الله له عمّا سيكون بعد الموت. إنّ كلمة الله تحمل للإنسان المجد والكرامة والخلاص، وهذا من شأنه أن يمنح الإنسان التعزيّة والقوّة والقدرة على مواجهة كافة أنواع العبوديّات.

إنّ الملحد الّذي يعلن عدم إيمانه بالله، يعبد شيئًا آخر بالتأكيد، إذ لا يوجد إنسان من دون عبادة. فالعلم قد أثبت وجود خلايا في دماغ الإنسان خاصّة بالإيمان، فالإنسان مفطور منذ ولادته على الإيمان بأمرٍ معيّن أو بشخصٍ معيّن. فكما أنّ هناك خلايا في دماغ الإنسان مسؤولة عن تعبيره عن خوفه من أمرٍ ما، وأخرى مسؤولة عن تعبيره عن حاجته للطّعام، كذلك هناك خلايا تعبّر عن حاجته إلى الإيمان بأمرٍ ما أو شيءٍ ما، وبالتّالي لا يوجد إنسان غير مؤمن بشيءٍ على الإطلاق. فإنّ الملحدين الّذي يستخدمون عبارة “أنا لا أؤمن بالله” كتعبير عن عدم إيمانهم به، يملكون في تفكيرهم صورة معيّنة عن الله يرفضونها، لذا هم يعلنون عدم اتّباعهم لله على الرّغم من يقينهم بأنّه موجود. فالإنسان لا يستطيع استخدام عبارة معيّنة دون أن يكون لديه تصوّر عنها، أقلّه في فكره. إنّ مشكلة الّذين يعلنون رفضهم لله ليست مع الله بالتحديد إنّما مع أتباعه. وبالتّالي، فإنّ تصرّفات الّذين يعلنون أنّهم مؤمنون بالله، هي الّتي تدفع الآخرين إمّا إلى طرد الله من حياتهم أو إلى زرع الله في كيانهم.

إنّ بولس في هذا الإصحاح يريد أن يلقي الضوء على أهميّة الإنسان الّتي خصّه بها الله إذ ميّزه عن الملائكة، وخصّه بالمجد والكرامة دون الملائكة. إنّ يسوع هو صورة الإنسان الكاملة. والله قد وضع الإنسان في مرتبةٍ أقلّ من الملائكة، وقد أعفى الملائكة من هموم هذه الدّنيا، وفرزهم من أجل تسبيحه وتمجيده. إنّ الله قد وضع إكليل المجد والكرامة على رأس الإنسان دون الملائكة، على الرّغم من أنّه أدنى مرتبة منهم من حيث التركيبة البشريّة. وعلى الرّغم من هذا المجد الّذي أعطاه الله للإنسان، فإنّ الإنسان لم يتمكّن من إدراك مدى عظمته وقيمته في نظر الله. إنّ المسيح يسوع، الّذي أصبح إنسانًا، وشابه الإنسان بالمجد والكرامة اللّذين منحهما إيّاه الله، قد ذاق الموت من أجل كلّ إنسان. 

إنّ الكتاب لم يقل إنّ المسيح قد ذاق الموت من أجل كلّ من سيؤمن به بل قال إنّه مات من أجل كلّ إنسان على وجه الأرض، وهذا يعني أنّ المسيح قد مات من أجل ذلك الأكثر صلاحًا كما أنّه مات من أجل ذلك الأكثر شرًّا بين البشر دون أي تمييز. وهذا ما يدفعنا إلى التساؤل حول عدل الله إذ يساوي بين الإنسان الّذي قَبِله منذ البدء، وذاك الّذي لم يَقْبَله. إنّ المسيح قد مات من أجل ذلك الإنسان الأكثر شرًّا على الأرض، غير أنّ هذا الأخير لم يقبل بموت الله من أجله. فمثلاً، إن أحضر أحدهم هدايا لجميع الحاضرين ههنا، وقد رفض أحد الموجودين تسلّم هديّته فهذا لا يعني أنّ هذا الإنسان قد تمّ نسيانه دون هديّة بل إنّ هذا الإنسان هو الّذي رفض هذه الهديّة، والهديّة ستبقى حاضرة له إلى حين يكون مستعدًّا لاستلامها. وبالتّالي لا يمكننا الشكّ في عدل الله، فهو قد قدّم هديّة خلاصه لجميع البشر، غير أنّ البعض قَبِلَها والآخر لم يقبلها. ومن قَبِل هذه الهديّة من الله، هو أكثر فَرحًا من ذلك الّذي رفض تلك الهديّة إذ لا يمكنه أن يتذوق الفرح الحقيقيّ الناتج عن علاقة الإنسان بربّه.

إنّ الفرق شاسع بين مشيئة الله وتصرّف الإنسان، ولا يجوز الخلط بينهما بتاتًا. إنّ الله لا يغيّر طبيعته الإلهيّة بسبب تصرّفات الإنسان. إنّ الله لا يُفرِّق في محبّته، فهو يُحِبّ الشرير كما يحبّ الصالح، غير أنّ الشرير لم يَقبَل بمحبّة الله ولذا فهو لا يستطيع الاستفادة منها، كما أنّه لا يستطيع الاستفادة من الخلاص الّذي منحه إيّاه الله، وذلك لأنّ هذا الإنسان الشرير قد رفض الخلاص بقرارٍ حرّ شخصيّ، وإنّ الله لا يستطيع فرض الخلاص عليه بالقوّة. إنّ تصرّفات النّاس المخالفة لتعاليم الإنجيل، كانت سببًا في إلحاد الكثيرين. إنّ مشكلة كارل ماركس، صاحب الفلسفة الماديّة، هي مع رجال الدّين. إنّ الفكر السائد في المجتمع حول رجال الدّين هو خاطئ، وهو يقوم على مشابهة النّاس للكهنة بالله، ممّا أدّى إلى اعتبار بعض النّاس الكهنة آلهةً، أي أنّهم معصومون من الخطيئة، وهذا ما يتنافى مع الحقيقة. فالكهنة هم بَشَر قرّروا عدم السماح لخطاياهم بالوقوف حاجزًا دون بشارتهم بالكلمة الأزليّة. غير أنّ البعض من هؤلاء الكهنة لم يجهدوا إلى تحسين ذواتهم والتخلّص من خطاياهم، ممّا دفع إلى تعطيل كلمة الله ومنعها من الوصول إلى النّاس، بسبب تصرّفاتهم.

إنّ بولس كان يقول إنّ خادم الهيكل، مِنَ الهيكل يأكل. غير أنّ خوف بولس من أن تتعطّل كلمة الله عند النّاس نتيجة تشويه البعض لِصِيتِه في المجتمع الّذي كان يبشِّر فيه، قرّر أن يعيش نتيجة عمله في صنع الخيام. إنّ تشويه الصِّيت، هي عمليّة قتل يوميّة للشخص المعنيّ. فهَمُّ بولس الأساسيّ هو عدم تعطيل وصول الإنجيل إلى الآخرين، لذا عَمِلَ في الخيام. وعمله هذا في صنع الخيام، أدى إلى شحّ نظره، وأصبح غير قادر على الرؤية بشكلٍّ جيد، وبالتّالي غير قادر على كتابة الرسائل، لذا كان يفرز أحدهم ليساعده على كتابة الرسالة، الّتي كان يختمها بعبارة أنّه كتبها بخطّ يده، تعبيرًا منه عن محبّته للّذين كان يُرسل إليهم الرسائل. إنّ بولس عانى من آلام وتقرّحات في معدته، وعلى الرّغم من مرضه، فهو لم يقبل عطايا إلّا من الّذين كانوا يُشعِرُونَه بمحبّتهم الصّادقة له، كأهل فيلبيّ مثلاً.

إنّ عطاء الشخص المحبّ للمحبوب في وقت الضعف، من شأنه أن يقّويه، لكن إن كان العطاء غير مقرون بالحبّ فإنّه يتحوّل إلى نوع من أنواع الاستعباد. إنّ من يعطيك طعامًا مثلاً، فإنّك لا محالة سوف تشعر بأنّك مَدينٌ له، أكان ذلك عن قصدٍ من العاطي أم لا، أمّا إن كان العطاء من المحبوب، فإنّك لن تشعر بالدّونية تجاهه، لأنّ علاقتكما يحكمها الحبّ لا غير. إن كان أحدهم يعطي عن حبّ، لشخص آخر محتاج لا يبادله هذه المحبّة، فعِوَض أن يستعبده العاطي نتيجة عطائه له، فإنّ المحتاج في مثل هذه الحالة قادر على استعباد العاطي بكراهيّته له، فإنّ من يحبّ يصبح ضعيفًا أمام الّذي يحبّه. إنّ من يعطيك عن حبّ، يقّويك وينشلك من ضعفك، أمّا من يعطيك عن شفقة من دون حبّ، فإنّه يُشعِرُك بالضعف، ولذا تَشعُر بضرورة قتله إذ إنّك ترفض وجوده. إنّ هذا ينطبق على يسوع أيضًا إذ إنّ اليهود قد قتلوا يسوع لأنّهم رفضوا حبّه لهم، غير أنّ هؤلاء كانوا من أكثر النّاس تصديقًا لحقيقة يسوع بأنّه ابن الله، وهم فاقوا الرّسل تصديقًا له، إذ إنّ الرّسل قد خافوا وهربوا حين تمّ صلب يسوع. 

إنّ الّذين قتلوا يسوع كانوا مصدّقين للحقيقة، غير أنّهم لم يَقبَلوا به إلهًا، أي أنّهم رفضوه، ورفضوا الإيمان به. إنّ رَفْضَك لحبّ أحدهم لا يجعلك شخصًا حياديًّا تجاه هذا الشخص، نائيًا بحبّه عنك، إنّما يجعلك تُحوِّل الآخر إلى عدوٍّ لك بقرار شخصيّ نابع منك. إنّ كلّ محبّة تُتعِب الإنسان، جرّاء الجهود المبذولة في سبيل الآخر، غير المتجاوب مع هذا الحبّ، وتتراجع عن بذل المزيد، وتحوّل العلاقة بين الاثنين إلى عداوة، نتيجة تصرّفات الرافض للحبّ، إذ إنّ هذه المحبّة أو الحبّ لم يكن حبًّا صادقًا. إنّ المسألة لا تتعلّق بما فَعَلْتَه في سبيل المحبوب الّذي لم يتجاوب مع أفعال المحبّة الّتي أظهرتها له، بل إنّها تتعلّق بما أنت عليه اليوم حقيقةً.

إنّ قمّة هذا النّص من العبرانيّين تكمن في كلامه عن مشاركة الابن أي يسوع المسيح لبشريّتنا، فهو “قد شاركنا باللّحم والدّم لكي يُبيد بالموت ذاك الّذي له سلطان الموت أي إبليس”. إنّ يسوع المسيح قد شاركنا في إنسانيّتنا لكي يخلّصنا لأنّه “ما لم يُتَّخذ لا يُخلَّص”. إنّ الخطيئة ليست من صُلب الطبيعة الإنسانيّة، لذا لم يتّخذها يسوع إذ إنّ الإنسان هو الّذي يدعو الخطيئة إلى طبيعته الإنسانيّة، ولذا لم يتّخذها يسوع. إنّ الله قد خلق الإنسان على صورته ومثاله، وهذه هي حقيقة طبيعته البشريّة: لقد اشترك يسوع بضعف الطبيعة البشريّة، إذ إنّه جاع وعطش ونام، وتألّم وبكى غير أنّه لم يُـخطئ الهدف، كما فعل الإنسان بارتكابه الخطيئة. إنّ الخطيئة في اللّغة العبريّة هي “حاطا”، أي أخطأ الهدف: فعندما تُطلق قوس النشّاب باتجاه الهدف، وتُخطِئُه، يُقال إنّك “حاطا” أي إنّك أخطأت الهدف إذ إنّ القوس لم يَسِر في الطريق الصحيح صوب الهدف. 

إذًا، الخطيئة هي عدم إصابة الهدف، وسلوك الطريق الخاطئ. إنّ يسوع لم يُخطئ الهدف، إذ إنّه يعلم مصدره والهدف الّذي يريد الوصول إليه، فهو يعلم “من أين أتى وإلى أين يمضي”، ولذا فالطريق وصعوباتها ما عادت تشكّل له مشكلة، حتّى وإن اضطُر إلى الموت مصلوبًا كالعبيد. إنّ ما سببّ وجعًا ليسوع ليس الموت على الصّليب، إنّما رَفْضُ الإنسان لحبّ يسوع له، وهذا ما دفعه إلى قتله مستخدمًا أسلوب موت العبيد، لأنّ الإنسان يحبّ استعباد الآخر. إنّ يسوع قد شاركنا باللّحم والدّم، بهدف إلغاء سلطان الموت علينا، أي كي “ويعتق (يُحرّر) أولئك الّذين خوفًا من الموت، كانوا جميعًا كلّ حياتهم تحت العبوديّة”. إذًا هدف يسوع هو خلاص الإنسان.

إنّ كلمة إبليس تعني diable. في اللّغة اليونانيّة كلمتان متعارضتان، الأولى: sympolon وتعني الّذي يجمع، أمّا الأخرى diapolos فتعني الّذي يزرع الشِّقاق. إنّ اسم الشيطان مرتبط بوظيفته، فوظيفته هي السّعي إلى جعل الإنسان يقطع علاقته بالله. وعندما ينجح الشيطان في تحقيق هدفه هذا، فإنّ الإنسان يضيع وتتشوَّش رؤيته للأمور فيخطئ الهدف. إذًا اسم إبليس يعني الّذي يزرع الشقاق، ويسعى إلى الفتنة والتقسيم. كما نستخدم كلمة اخرى للإشارة إلى إبليس وهي satan، وتعني المدّعي العام. 

إنّ وظيفة المدّعي العام هي تجريم الـمُتَهَّم، ودفع القاضي إلى إصدار الحكم بحقّ المتهّم. فإن حاول المدّعي العام تبرئة المتهّم تحوّل إلى مدافعٍ عنه، وبالتّالي خسر وظيفته كمُدّعٍ عام. إنّ المدّعي العام يهدف إلى خلق عداوة بين القاضي والمتهّم، أي أنّه يسعى إلى خلق فتنة بينهما. إنّ يسوع المسيح جاء ليزيل هذه العداوة بين الله والإنسان، فيتمكّن الإنسان حينئذٍ من رؤية الهدف من جديد، فيصل إليه من جديد.

هذه هي حياتنا، هذا هو جهادنا الروحيّ: فعلى كلّ مؤمن أن يجهد إلى عدم إضاعة الهدف، وإلى السّعي للوصول إليه، مستخدمًا نظارات خاصّة هي كلمة الله الفاعلة فيه. فلا مشكلة، إن استمّر المؤمن برؤية الهدف، وما زال يستمّر في الإخطاء في إصابة الهدف، فإنّ الله سيرى هذا الجهاد، ويعرف أنّه يهدف إلى الهدف، ولا محالة سيصل إليه حتّى وإن مات في نصف المسيرة، فمجرّد المحاولة، هي كبيرة عند الله.

ملاحظة: دوِّن الشرح بأمانةٍ من قبلنا.

Instagram
Copy link
URL has been copied successfully!
WhatsApp