تفسير الكتاب المقدّس،
الأب ابراهيم سعد،
“رسالة بولس الرّسول إلى العبرانيّين – الإصحاح الثامن”
في هذا الإصحاح، يُقارن الكاتب ما بين الجديد والقديم، أي ما بين الكهنة الأرضيّين وبين الكاهن الوحيد السماويّ يسوع المسيح. إنّ الذبائح والقرابين الّتي كان يقدّمها الكهنة الأرضيّين لم تكن كافية وقادرة على مَنح الشَّعب الخلاص، لذا أصبح مجيء المسيح ضروريًّا لينالَ الشَّعبُ الخلاص مِن خلال تقديم المسيح نفسه ذبيحةً على الصليب مِن أجلهم. إنّ المسيح هو العلامة الّـتي تؤكِّد للشعب مصداقية الله، إذ به تحقّقت جميع مواعيده. نقرأ في سِفر إرميا إنّ الله يَكتُبُ الشريعةَ لا على ألواحٍ مِن حجر، إنّما على ألواحٍ مِن لحم ودمّ، أي في قلوب البشر، وبالتّالي، فإنّ الشريعة ستكون معروفة مِنَ الجميع، صغارًا وكبارًا، مِن دون الحاجة إلى تعليمها. هذه هي نتيجةُ عهد الله مع شعبه إذ سيصفح الله عنهم وسيغفر لهم زلاتهم وخطاياهم، وينساها ولن يذكرها لهم مِن بَعد. إنّ مجيء العهد الجديد بيسوع المسيح وَضَعَ نهايةً لكلّ عهدٍ عتيق، إذ لا يمكننا قُبول ما هو جديد، مع الإبقاء على عتاقة القديم. إنّ عبارة “القديم والجديد”، المستخدمة في هذه الرسالة لا تعني أبدًا كتابَ العهد القديم وكتاب العهد الجديد؛ لذا على المؤمن ألّا يرفض العهد القديم بحجّة أنّ المسيح بمجيئه، قد أصبح هناك عهدٌ جديدٌ، فلا فائدة بَعد الآن مِنَ العهد القديم.
إنّ كلمة الله تَحمِل الجِدَّة في طبيعتِها، أكانت في العهد القديم أم في العهد الجديد، غير أنّ عادات الشَّعب وتقاليدهم القديمة الموجودة في العهد القديم، يجب نَبذَها والتخلّي عنها، إذ إنّها لم تكن كفيلة بأن تُوصِل الشَّعب إلى الملكوت والخلاص، وبالتّالي فَلن تُوصِلنا نحن أيضًا إلى الملكوت. إنّ العهد الجديد لا يحوي كلمةً جديدة لله، فكلمة الله لا تتغيّر غير أنّ ما يتغيَّر هو إدراك المؤمن واكتشافه لقِسْمٍ جديدٍ منها، فالعهد الجديد يكشف لنا عن كلمة الله الأزليّة، يسوع المسيح. إنّ “رأس الكلام” أي خلاصة الحديث هو أنّ رئيس الكهنة الحقيقيّ هو المسيح يسوع: فرؤساء الكهنة في العهد القديم، كانوا يدخلون إلى قُدس الأقداس مرّة واحدة في السَّنة؛ أمّا رئيس كهنتِنا، يسوع المسيح، فقد دخل عرش العظمة، عرش الله، وهو جالسٌ عن يمين الله في السّماوات. إنّ خدمة المسيح لقُدسِ الأقداسِ تَفوق خدمة الكهنة الأرضيّين الخطأة: فالمسيح لم يقم بخدمة قُدسِ الأقداس في هيكلٍ حجريّ بشريّ، إنّما في مَسكِنٍ لم تصنَعه الأيدي البشريّة، إذ إنّ الله هو الّذي صنَعَه. وهذا ما يتكلّم عنه أيضًا سفر الرؤيا حين يقول إنّ أورشليم السّماويّة تنزل مِنَ السّماء أي أنّ البشر لم يشترِكوا في بنائها.
إنّ العهد الجديد تعبيرٌ، كثيرًا ما يستخدمه البشر للدلالة على المصالحة بين فريقين متخاصمين، فيقولان إنّهما “فَتَحا صفحَةً جديدة”، وبذلك يُعبِّران عن رغبتِهما في إعادة بناء العلاقة الّـتي تهدّمت بسبب الخلافات في الماضي، لذا يتعهدّ كلّ فريقٍ منهما محاولة نسيانِ أخطاءَ الفريق الآخر. إنّ الله يُبادر دائمًا إلى إقامة عهدٍ جديدٍ معنا إذ “يَفَتح صفحةً جديدةً معنا”، حين يغفر خطايا كلِّ إنسان تائبٍ إليه. إنّ الله يستطيع أن يَفتَح صفحة جديدة مع البشر، غير أنّ الإنسان لا يستطيع أن يَفتَح صفحةً جديدة مع الآخرين لأنّه لا يستطيع أن ينسى إساءاتهم إليه، بل يَتَذَكرها إلى الأبد، وبالتّالي فإنّ العهد الجديد الّذي يقوم به الإنسان مع أخيه، لا يُعبِّر حقيقةً عن عهدٍ جديدٍ، إذ إنّه عبارة عن مزيج ما بين القديم والجديد، وهو ترميم لما هو قديم كي يُصبح بِحُلَّة جديدة. عندما يَفتَح الله مع الإنسان صَفحةً جديدة، فهذا يعني أنّه ينظر إلى الإنسان على أنّه خليقةٌ جديدة. إنّ الله لا ينظر إلى الإنسان الّذي يَقبَل عهدَه على أنّه “آدم الأوّل” فقط، بل ينظر إليه على أنّه “آدم الأخير”، أي أنّه على مثال يسوع المسيح.
إنّ الصفحَة الجديدة الّتي يَفتَحها البشر مع بعضهم البعض بَعدَ الخصومات، تستند على مسامحة الطرف الّذي تَعرَّض للأذية للطرفِ الآخر الـمُذنِب، وبالتّالي تتحوّل تلك المسامحة إلى مناسبةٍ لإعلان فضائل الفريقِ الـمُسامِح، لا إلى عمليّة صَفْحٍ حقيقيّة عن الإنسان الـمُخطِئ. وهنا نجد أنفسنا أمام سؤالٍ يحتاج إلى جواب وهو: ماذا تعني المسامحة إذًا؟ إنّ الصّفح يقوم على أنْ يرى الإنسان الغافر، في أخيه الـمُذنب، إنسانًا على صورة المسيح، لا إنسانًا مجبولاً بالخطايا كما كانت حال الإنسان في العهد القديم أي قَبلَ مَجيء المسيح. إنّ الله أعطى شعبه عهدًا بغفران جميع خطاياهم إن عادوا إليه تائبين، ووعدَهم بأن ينسى لهم كلّ زلاتهم. إنّ الربّ وعدَ البشر بالغفران على الرّغم مِن عِلمِه أنّ البشر سيعودون إلى ارتكاب الخطيئة مِن جديد. إنّ الإنسان لم يستطِع أن يُصدِّق عظمة الربّ وغفرانه الّذي لا يوصَف، لأنّ عقله البشريّ عَجِز عن فَهمِ ذلك، ولأنّه لم يَفهَم غفران الله له، عاد الإنسان إلى ارتكاب الخطايا مِن جديد. إنّ الله ينظر إلى الإنسان التائب على أنّه خليقةٌ جديدةٌ على الرّغم مِن طبيعتِه البشريّة الضعيفة الـمُعرَّضة للسّقوط دومًا.
إنّ الإنسان، تلك الخليقة الجديدة في نَظَرِ الله، تتعرَّض للتشويه على الرّغم مِن غفران الله للخطايا. ولذلك أراد الله أن يجد حلاًّ يُساعد الإنسان على المحافظة على صورة “آدم الأخير” في داخله، فكان مجيء المسيح وتجسُّده هو الحلّ، إذ تجسَّد المسيح استجابة لطلب الله الآب، فصار ذلك الإنسان الّذي لا مَنظَرَ له ولا جمال، حين تألَّم، غير أنّه بقي على الرّغم مِن ذلك مُشتهى الله. إنّ المسيح الّذي لا عيب فيه، ولم يرتكب خطيئة قطّ، هو “آدم الأخير”، الّذي يطمح الله أن يراه في كلّ إنسان. إنّ الحبّ المتبادَل بين الله الآب والمسيح يسوع هو الّذي يمنع خيانة المسيح الابن لله أبيه. في الجسمانية، كان المسيح يُصارِع الموت وأراد التّراجع عن إكمال المسيرة إذ طلب مِن أبيه أن يُبعِد عنه تلك الكأس، كأس الموت. إنّ الله الآب، شجّع المسيح على إكمال مسيرة الآلام تلك، لأنّه وَجَد في المسيح وحده، صورةً يُعطيها للإنسان، عن “آدم الأخير”، تلك الخليقة الجديدة، الّـتي هي سبب سرور الله الآب. إنّ المسيح، هو “آدم الأخير”، وهو الابن الّذي يُسِرُّ قلبَ الوالد، أي قلب الله.
إنّ الله ينظر إلى الإنسان، فيرى عتاقته، لكنّه لا يفقد منه الأمل، لذا يستمرّ الله في غفرانه وحبِّه للإنسان، عسى أن يُصبِح الإنسان يومًا على صورة المسيح “آدم الأخير”، خليقةً جديدةً يجد فيها الله مسرَّته. إنّ الله استمرّ في غفرانه للبشر ومحبّته لهم، غير أنّ البشر استمرّوا في ارتكاب الخطايا وخيانة الله، ومِن ثمّ العودة إليه مجدّدًا. إنّ نجاح المسيح في صيرورته خليقة جديدة يَجِد فيها الله مسرَّته، أعطى أملاً لله في إمكانيّة صيرورة البشريّة بأسرها خليقة جديدة، إنْ تشبّهت بالمسيح. لقد استطاع كثيرون التشبّه بالمسيح، أمثال الرّسل والشّهداء والقدِّيسين، فكانت فيهم مَسَرَّة الله. إنّ الإنسان حاول استغلال رحمة الله ومحبّته له، عبر تقديم الذبائح الحيوانيّة والأصوام والصّلوات، لذا رفضها الله واستبدلها، فطلب مِنَ الإنسان أن يُقدِّم له خطيئته. إنّ الله يريد مِنَ الإنسان أن يُقدِّم له جَبْلَته الضعيفة، إذ إنّ الله هو الوحيد القادر على مساعدة الإنسان على التخلُّص مِن خطيئته. إنّ الله يُفيض على الإنسان رحمتَه وحبَّه، لهذا يشعر المؤمن بالفَرَح والتعزية والأمان. عندما يتعرَّض الإنسان للأذيّة مِنَ الآخر، فإنّه للحال ينسى أنّه خليقة جديدة في المسيح، ويتصرّف إنطلاقًا من عاداته القديمة، مستخدِمًا لغة هذا العالم. إنّ مشكلة الله مع الإنسان، تكمن في عدم رحمة الانسان لأخيه، لا في مسألة ارتكابه للخطيئة.
ثلاثةُ آحادٍ تسبِق الصّوم بحسب التقليد الشرقيّ أي في الكنيسة الأرثوذكسيّة، وهي: أحد الفِرِّيسيّ والعشّار، ثمّ أحد الابن الشاطر، وبَعْدَهُ أحد الدينونة، وأخيرًا أحد الغفران. إنّ المسيرة التحضيريّة للصّوم في هذه الكنيسة تبدأ مع إنجيل الفِرِّيسيّ والعشَّار. إنّ هذا النّص الإنجيليّ يعرض لنا نموذَجيَن مِنَ المؤمنين: أوّلاً، ذلك الإنسان الّذي يفتخر بأعماله التقويّة أمام الله كالصّوم والصّلاة، أمّا قلبه فهو خالٍ مِنَ المحبّة والرّحمة والتوبة؛ أمّا النَّموذج الثاني فهو نموذج ذلك الإنسان المتواضع الذي يُقِرْ بضعفه أمام الله. وينتهي هذا النّص باخبارنا أنّ الله لم يقبل صلاة الفريسيّ بل صلاة العشَّار الّذي عاد إلى بيته مُبَرَّرًا. إنّ الكنيسة تدعونا مِن خلال هذا الإنجيل إلى التوبة مِن جديد إلى الله، إذ إنّ الله يريد صرخة إنسانٍ تائب لا صرخة إنسانٍ متفاخر بأعماله. وتُتابع الكنيسة المسيرة التحضيريّة للصّوم مِن خلال انجيل الابن الشّاطر، إذ تقول لنا مِن خلال هذا النّص إنّ كلّ توبةٍ تفترِض انتظار جواب الطرف الآخر، الّذي تمَّت أذيّته. في هذا النّص، نجد أنّ جواب الأب على توبة ابنه، كان بأن يُفيض عليه رحمته الأبويّة.
إنّ الأب في هذا النّص لم يهتمّ لنوايا ابنه الباطنيّة الكامنة خلف توبته، أي أنّه لم يهتمّ إن كانت توبته صادقة أم لا، فإنّ همّ الوالد الأساسيّ هو أن يلقى ابنه بَعدَ غيابٍ طويل، سليمًا مُعافىً حيًّا. إنّ الكنيسة تَوَدُّ مِن خلال هذا الإنجيل أن تُخبرَنا عن رحمة الله العظيمة للبشر، وتدعونا إلى الاستفادة مِن تلك الرّحمة، وتَعَلُّمِها لممارستها مع الآخرين. ولذا تقرأ الكنيسة على مسامِعِنا في الأحد الثالث في هذه المسيرة التحضيريّة التّي تسبق الصّوم، إنجيل الدينونة العامّة: “كنتُ سجينًا، وكنت مريضًا،….” إنّ هذه الأناجيل الثَّلاثة تُشكِّل دعوة للمؤمنين كي يُدرِكوا أنّ على صومهم أن يتَّسِم بالتوبة والرّحمة. وفي الأحد الأخير قبل بداية الصّوم، وهو أحد الغفران، يُقرأ إنجيل يتكلّم عن ضرورة مسامحة الآخرين على زلاتهم:”إن لم تغفروا للنّاس زلاتهم، فلن يغفر لكم أبوكم السّماويّ زلاتكم”. لذا إن أدرَك المؤمن عظمةَ رحمة الله وغفرانه له، فَعامَلَ الآخرين بالرّحمة، فإنّ تلك الرّحمة ستدفعه إلى غفرانه لهم كلّ زلاتهم، وبالتّالي فسيعيش هذا المؤمن صومًا حقيقيًّا غير مبنيّ على الانقطاع عن المأكولات، بل على عيش الرّحمة مع الآخرين المعبَّر عنها بغفرانه لهم زلاتهم. إذًا، لا يجب أن تكون فترة الصّوم عند المؤمن فَترةً تُقيِّده إذ تَضَع عليه القوانين الـمُلزِمة، الّتي تجعله يشعر بالافتخار والعظمة لممارسته الصّوم والصّلاة، بل عليه اتبّاع قوانينه الخاصّة الّتي تساعده على عيش مفهوم الصّوم الحقيقيّ وهي عيش الرّحمة والغفران.
إنّ مسيرة الصّوم تدعونا إلى السير مع الآخرين، طالبةً منّا اتّخاذ القرار الّذي يناسبنا في أَمْرِ هذا الكاهن الوحيد، الّذي يُقدِّم ذاته ذبيحةً مِن أجلنا على الصليب. إذًا الاختيار يقع على مسؤوليّتنا: فهل نريد السير مع يسوع والاعتراف به إلهًا وكاهنًا وحيدًا لنا، فنقبل بذبيحته مِن أجلنا؛ أم نريد السَيرَ بعيدًا عنه مُكْتَفين بالذبائح القديمة الّـتي يُقدِّمها الكهنة الأرضيّون؟ ما هو جوابنا على عمل المسيح الخلاصيّ لنا: هل سنطالب كما الشَّعب، بِصَلبِه صارخين إلى بيلاطس قائلين له: “اصلبه، اصلبه”، لأنَّ في موتِه راحةً دنيويّة زائلة لنا، محاولين إسكات صوت الله في ضمائرنا؟ أم سنهرب كما فعل التّلاميذ، إذ إنّنا نجد صعوبةً في إمكانيّة تطبيق تعاليم المسيح في حياتنا على الرّغم من محبّتنا لها؟ أم سنكون على مثال يوحنّا، ذلك التّلميذ الّذي أمال رأسه على صدر يسوع؟ إنّ هذا التّلميذ كان الوحيد الّذي أكمَل المسيرة مع الربّ إلى النّهاية، إلى الصليب. إنّ هذا التّلميذ أدرَك أنّ المسيح هو الوحيد الّذي يمكننا الاستناد عليه في هذه الحياة، ولذا اختار السَيْرَ معه إلى النّهاية، فكانت مكافأةُ الربّ له على الصليب، إذ سلّمه أمّه مريم لتكون أمَّه، وجعل منه ابنًا لها بدلاً منه، هو المصلوب على الصّليب.
إذًا، على المؤمن أن يتَّخذ قراره خلال مسيرة الصّوم، فيُدرِك مِثلَ مَن يريد أن يكون. يمكن للمؤمن أن يكون أيضًا مِثْلَ الضابط الرومانيّ الّذي ما كان يهتمّ لتعاليم يسوع، ولكنّه اعترف بأنّه حقًّا ابن الله، حينَ أسلم يسوع الرّوح على الصليب. كما يمكن للمؤمن أن يكون مثل أولئك الّذين خافوا أن تتزعزع ممالكهم إن أعلنوا قبولَهم كلمة الله، فقرّروا قَتْلَ المسيح ودفنه، ووَضْعِ حجرٍ على قبره، كي لا يتمكّنوا مِن رؤيته مُجدَّدًا لأنّ في رؤيته توبيخًا لهم على قساوة قلوبهم. كما يمكن للمؤمن أن يكون مثل أولئك الكهنة والفرِّيسيين الّذين نسجوا الأكاذيب حول سرقة التّلاميذ ليسوع مِنَ القبر، فصدَّقوها، وعاشوا في كِذبةٍ طوال حياتهم. كما يستطيع المؤمن أن يكون مثل بطرس الّذي، بعد خوفه، ونكرانه للمسيح، نال الشّجاعة مِنَ الربّ حين ظهر له القائم مِنَ الموت، إذ فَهِم حينها كلّ عمل المسيح الخلاصيّ. إنّ العودة إلى الربّ هي جَائِزةٌ في كلّ أوانٍ لأنّ قيامة الربّ عظيمةٌ: فالربّ سينسى كلّ أخطائك في الماضي، كلّ خوفك وتردّدك ونِفاقِك وإنكارِك له، كما حصل مع بطرس، ويُقيم معك عهدًا جديدًا.
لقد رأى التّلاميذ يسوع القائم مِنَ الموت في الجليل، أي في المكان الّذي تمَّت فيه دعوتهم رُسلاً، أي أنّ عهد الربّ مع تلاميذه بدأ مِن حيث كانت نقطة انطلاقة مسيرتهم معه. هناك، في الجليل، رأى يسوع سمعان ودعاه لاتِّباعه، وأعطاه اسم “بطرس”. بعد القيامة، نظر يسوع إلى بطرس، واعتبره إنسانًا جديدًا على الرّغم مِن أنّه ما زال ذاك الإنسان الّذي أنكره، لقد اعتبره إنسانًا جديدًا بَعد جواب بطرس الإيجابيّ على سؤال يسوع له:”أتُحبّني؟”. لقد طرح يسوع السؤال على بطرس، قائلاً له: “يا سمعان بن يونا، أتُحبّني؟” إذًا، لقد استخدم المسيح الاسم القديم لبطرس، فدعاه سمعان، إذ بَعدَ إنكاره للمسيح، لم يَعُدْ بطرس خليقةً جديدة، لذا عاد إليه اسمه القديم. عندما سمع يسوع جواب بطرس الإيجابيّ الّذي فيه يُعلِن حبَّه للمسيح، قام المسيح بتسليم بطرس الرعيّة والقطيع. لقد مَنَح الربّ يسوع بطرسَ القطيع، تلك الأمانة الّتي أعطاها الله الآب ليسوع للاهتمام بها ورعايتها. إنّ الربّ لم يطلب مِن بطرس القيام ببعض أعمال التقوى كالصّلاة والرّكوع وتقديم الذبائح، بل سَلَّمه مسؤوليّة كبيرة وهي رعاية القطيع. على الراعي الاهتمام بقطيعه، فيسعى إلى البحث لهم عن مَأكلِ وَمَشْرَب، كي يتمكّن القطيع مِنَ النّمو والاستمرار في الحياة، وبالتّالي فإنّ الربّ بتسليمه رعاية القطيع لبطرس، طلب مِنْهُ الاهتمام بِـمَن هم حَولَه، وفي محيطه.
إنّ جواب بطرس على يسوع، هو دليلٌ على قبوله بتلك المسؤوليّة، إذ قال بطرس:”يا ربّ، أَنْتَ تَعْلَمُ كلّ شيء، إنّك تعلم أنّي أحبّك”. لقد حَزِن بطرس حين سأله يسوع للمرّة الثالثة :”أتُحبّني؟”، غير أنّ يسوع كان قد طرح ذلك السؤال مرّات ثلاث على بطرس، ليمحو له نكرانه الثلاثيّ أمام الجارية، فيتأكَّد حينها أنّ بطرس قد أصبح فعلاً إنسانًا جديدًا. في جواب بطرس على يسوع:”يا ربّ، أَنْتَ تَعلَم كلّ شيء، وأنتَ تَعلَم أنّي أحبُّك”، نقرأ إصرار بطرس على الاستمرار في محبّة الربّ على الرّغم مِن ضُعفه البشريّ، فالربّ يَعلَم بخطايا بطرس. بَعدَ تكرار السؤال على بطرس للمرّة الثالثة، وبَعدَ سماعه لجواب بطرس، قال الربّ له إنّه حين كان شابًا، كان يَشُدّ حزامه بنفسه ويذهب إلى حيث يشاء، ولكنّه عندما سيَشيخ، فسيكون هناك آخر يتكفَّل بِشَدّ الحزام له وأَخْذِه إلى حيث لا يريد أي إلى الموت. وهكذا كانت نهاية بطرس، إذ تمَّ سَوقه إلى حيث لا يريد، أي إلى الموت في روما، وهناك صُلِبَ بطريقة معاكسة لصلب المسيح. إذًا، لم يكن المسيح هو الوحيد الّذي أرضى الله الآب وكان سببَ سروره، بل أصبح بطرس كذلك سبب سرور الآب، إذ تمكّن مِن أن يكون إنسانًا جديدًا.
إنّ بطرس لم يَكُن الأخير في قافلة الشُّهداء الّذين أرضَوا الله، فقافلة الشُّهداء والقدِّيسين ما زالت مستمرة إلى اليوم. فالقدِّيسون والشُّهداء قد فَهِموا حقًّا ما هو رأس الكلام، الّذي تكلّم عنه كاتب هذه الرسالة في مطلع هذا الإصحاح، وهو: “أنَّ لنا رئيسَ كهنةٍ مِثْلَ هذا، قد جلسَ عن يمينِ عرشِ العَظَمة في السّماوات”. إنّ هذه القوافل من الشُّهداء والقدِّيسين أصبحت سبب سرور الله، إذ تمكّن الله من رؤية المسيح في كلّ منهم. إنّنا في كلّ مرّة نخرج مِنَ الكنيسة بعد الاحتفال بالذبيحة الإلهيّة، نُعرِّض الله لـِ”عمى إنسان”، فيرى فينا، نحن الّذين تناولنا جسد ابنه ودمه، صورةً عن يسوع المسيح، فيرى فينا خليقة جديدة. فإنْ كنّا غير مُصدِّقين أنّه بعد الذبيحة الإلهيّة، نُصبح مشابهين ليسوع المسيح، فهذا دليل على أنّنا لا نعترف بأنّ المسيح هو رئيس كهنتنا، ونحن بالتّالي لا نقبل ذبيحته، ولا حتّى كهنوته، ونُفضِّل الكهنة الأرضيّين عليه، وذبائحهم الدمويّة، لأنّ في ذبائحهم راحة لنا. إنّ كهنوت المسيح، يدفع بالمؤمن إلى بناء حياته مِن جديد على أساس تعاليم المسيح.
إنّ الكهنة الأرضيّين مُلزَمين أن يُقدِّموا الذبائح عن الشّعب وعن ذواتهم لأنّهم خطأة كسائر الشَّعب. إنّ بعض المؤمنين يلجؤون إلى هذه الحجّة للتهرّب مِنَ الاقتراب مِن سرّ الاعتراف، فيقولون في الكهنة إنّهم خطأةٌ كسائر الشَّعب، فيُبرِّرون لذواتهم الاعتراف الشخصيّ بينهم وبين الله. إنّ الضعفَ البشريّ للكاهن هو إحدى سلبيّاته، ولكنّ هذا لا يُعطينا الحقّ في إدانته، إذ إنّنا نحن أيضًا جبلةٌ ضعيفة خاطئة. إنّ تلك العبارة الّـتي يستخدمها المؤمن في إدانته للكاهن، فيقول:”إنّه مثلي مِثْلَه”، هل يتجرّأ المؤمن ويستعملها في كلامه عن الكاهن الأعظم يسوع المسيح؟ بالطبع، لا أحد يتجرّأ ويقول عن ذاته إنّ المسيح مِثلُه، أو أنّه مِثْلُ المسيح، لأنّك إن أردت أن تقيم مقارنة فيما بينكما فإنّك لن تجد إلّا خطاياك. إنّ الله الآب وحده، يستطيع أن يحكم فيقول فيك إن كنت حقًّا مشابهًا للمسيح، أم لا. إذًا، إنّ مقارنة الآب لنا بابنه الحبيب يسوع المسيح، لا تعتمد على مدى قداستِنا وبِرِّنا، بل تستند على ما مَنحَنا إيّاه الله الآب، إذ شابَهَنا بالمسيح، فأعطانا الملكوت، وبالتّالي أصبحنا وارثين لله كما هي حال يسوع. إذًا، هذا هو إلهنا الّذي نُقدِّم له كلَّ أصوامِنا، لذا لا داعي للاستمرار بالقلق، لأنّ الله شابَهَنا بالمسيح، فأعطانا الملكوت، ميراث الآب.
إنّ بعض العادات الشَّعبيّة في الغرب، تقوم على إقامة “الكرنفالات”، قَبل بداية الصّوم، وفيها يتمّ ارتكاب المعاصي والخطايا. إنّ هذه الشُّعوب تنظر إلى الصّوم على أنّه فترة الانقطاع عن كلّ مباهج الدّنيا وملذَّاتها وشهواتها الدّنيويّة، لذا يقومون بتوديعها قبل بداية الصّوم، وكأنّ الصّوم هو فترة توديع للحياة. إذًا، إنّ المفهوم الخاطئ للصّوم عند بعض الشُّعوب أنتج عادات تُقام في فترة التحضير للصّوم، مِن دون أن تُعبِّر عن جوهر الصّوم ومفهومه الحقيقيّ. أمّا في الشّرق، فيحتفل بعض المؤمنين، كما هي الحال في القرى اليونانيّة النائية، في بداية الصّوم، فيُخصّصون اليوم الأوّل من الصّوم، يوم اثنين الرّماد، لتمضيته في البراري مع الأهل والأصدقاء، فيتشاركون فرح بداية الصّوم. إذًا، فإنّ الشَّعب المؤمِن في الشرق، يُعبِّر عن فرحه لبدء الصّوم بإطعام الآخرين؛ غير أنّ هذه العادات في الشرق، بدأت بالاندثار. إنّ هذه العادات تُعبِّر عن مدى إدراك الشَّعب الّذي يمارسها لمفهوم عمل المسيح الخلاصيّ من أجله، ولمفهوم إيمانه الحقيقيّ بالمسيح، فتصرّفات الإنسان ومسلكيّته في المجتمع، تعكس صورة عن إيمانه.
لا يجب قطع العلاقة مع كلّ ما هو قديم، بل علينا الاستفادة ممّا هو قديم إن كان فيه شيءٌ صالحٌ. إنّنا لا نتمسّك بالعهد القديم، بسبب العادات القديمة الموجودة فيه، إنّما بسبب كلمة الله المكتوبة فيه. إخوتي، يجب الحذر مِن عدم التمسّك بالعادات القديمة في العهد القديم فنختار ما يناسبنا مِنها، كما أنّه لا يجب انتقاء ما يناسبنا مِنَ العهد الجديد، ومِن أقوال المسيح، فنُحلِّل لذواتنا ارتكاب الخطايا، مِن ثمّ نعود إلى الله مستغلّين رحمته، ذارفين الدّموع بَعدَ شعورنا بتوبيخ الضّمير. إنّ الربّ يردّ على استغلالنا لرحمته وحبّه لنا، بالاستمرار في غفرانه لنا كلّ خطايانا. إنّ الرب يقول الكتاب، قد أقسم ولن يندم حين جعلنا كهنة على رتبة ملكي صادق.
إنّ كلمة الله لا تُقيِّده، بل تُقيِّد الشَّعب، وهذا ما يُفسِّر قيام الربّ بالقَسَم على الرّغم مِن أنّه مَنَع الشَّعب مِن أن يُقسم بالسّماء كما بالأرض. إنّ الربّ لا يثق بقَسَم الإنسان، لأنّ الإنسان لا يَثبُت في قَسَمِه، إذ إنّه يُغيّر قَسَمَه بحسب الظروف، أمّا الله فقَسَمُه ثابت. إنّ الربّ قد أقسَم أنّه سينسى خطايانا متى عُدنا إليه، وطلبنا مِنه الرحمة والتوبة. إنّ الربّ قد نَدِمَ، حسب تعبير الكتاب المقدّس، حين أرسل الطوفان على الأرض، في زمن نوح، وأقسَم قائلاً إنّه لن يُكرِّر ذلك مِن بَعِد، لأنّ ذلك لم يدفع النّاس إلى اتّخاذ العِبَر. إنّ الربّ لن يُطوِّف الأرض بالمياه بَعدَ الآن، بل طوَّف البشر بدَم المسيح، فجعلهم خليقةً جديدة. إنّ المسيح إذًا، هو الكاهن الوحيد الفريد، الّذي لا يستطيع أيّ كاهنٍ أرضيّ أن يُضاهيه. إنّ الله غريبٌ في حبّه للبشر، إذ عبَّر عن حبّه بتلك الطريقة، عندما أرسل ابنه الوحيد وطوَّف البشريّة بأسرها بدمه وخلَّصها.
ملاحظة: دُوِّن الشرح بأمانةٍ مِن قِبَلِنا.