تفسير الكتاب المقدّس،
الأب ابراهيم سعد،
“رسالة بولس الرّسول إلى العبرانيّين – الإصحاح التاسع”
يُقسَم الاصحاح التاسع إلى قِسمَين: القِسم الأوّل يتكلّم عن العهد القديم أي عَن كلّ ما يتعلّق بالذبيحة وطقوس العبادة وخيمة الاجتماع؛ أمّا القسم الثاني، فيَتكلّم عن الكاهن الوحيد، يسوع المسيح، وعن الـمَسكَن غير المصنوع مِن أيدٍ بشريّة. واليوم، سوف نعالج القسم الثاني فقط مِن هذا الإصحاح، لأنّ التَطرُّق للعهد القديم، يتطلّب معرفة تاريخ بداية تقديم الذبائح.
يُعتَبَر تابوتُ العهد مِنَ المُقدَّسات عند اليهود، لأنّه يحوي الـمَنَّ وعصا هارون الّتي أَفرَخَتْ ولوحا العهد، لذلك كان الشَّعب يسجد أمامه، وقد وُضِعَ فوق هذا التابوت مَلاكان أي “كَرُوبا” مِن أجل حراسته. إنّ الهيكل اليهوديّ يُقسَم إلى قِسمَين: قِسمٌ يَدخُلُه الكهنة للخدمة في كلّ أيّام السَّنة، وقِسْمٌ ثانٍ لا يدخُلُه إلّا رئيسُ الكهنة، مَرّةً واحدةً في السَّنَة. إنّ خيمة الاجتماع هي تلك الخيمة الّتي كان يجتمع اليهود فيها للصّلاة. في الآية الحادية عشرة مِن هذا الإصحاح، يتكلّم كاتب الرسالة عن الـمَسكَن غير المصنوع بالأيدي. إنّ المسيح هو رئيس الكهنة وهو أيضًا الـمَسكَن، إنّه الهيكل والذبيحة معًا، إنّه المقدِّم والمقدَّم في آنٍ، هو قابلُ الذبيحة وموزِّعُها. إنّ المسيح لم يُقدِّم دمَ التيوس والثيران كما كانت حال الذبائح في القديم، بل قدَّم نفسه أي دَمَه ذبيحة. إنّ يسوع المسيح هو الوسيط الوحيد بين البشر وبين الله. لم يتمكّن النّاموس مِن مَنحِ الخلاص للشَّعب اليهوديّ، إذ لم يقدر أحد على تطبيقه، لذا كانت هناك ضرورة لمجيء المسيح، كي يمنَحَ الخلاصَ للشَّعبِ. أقام المسيح عهدًا جديدًا بين البشر والله، فاستبدل ناموس الشريعة القديمة، بناموسِ الحبّ. إنّ الإنسان الّذي يَكتُبُ وَصيَّتَه، يَعي تمامًا أنّه إنسانٌ مائت، فالوصيّة لا تُنَفَّذَ إلّا بَعدَ موت الـمُوصي. كانت تقتضي الطّهارة في العهد القديم، أن يتمَّ رَشُّ الأشياءِ النّجسة بدمِ الذبائح، وبالتّالي هناك ضرورة لوجود ذبائح دمويّة. إنّ المسيح لم يُقدِّم ذبائح حيوانيّة كما كان يفعل الكهنة في العهد القديم، بل قدَّم نفسَه ذبيحةً، وبهذا تفرَّد عن سائر الكهنة.
إنّ تعزيات الرّوح القدّس تُمنَح لنا حين نتأمَّل بما قام به المسيح لأجلنا، فنفرح بخلاصه لنا. إنّ الكلمة الإنجيليّة تَنقُل إلينا البُشرى السّارة عن عَمْلِ المسيح الخلاصيّ لأجلنا، فما قام به المسيح كان فريدًا مِن نوعه. كان رؤساءُ الكهنة اليهود، يدخلون مرّة واحدة في السَّنة إلى قدس الأقداس ليُقدِّموا ذبائح تكفيرٍ لله عن خطاياهم وخطايا الشَّعب. كان الكهنة اليهود يُخطِئون بسبب معرفتهم للنّاموس، أمّا الشَّعب فَبِسبَبِ جَهلِهم له. لقد اعتقد البعض أنّ يسوع هو كسائر رؤساء الكهنة، يُقدِّم الذبائح تكفيرًا عن خطايا البشر، مع فرقٍ بسيط بينه وبين باقي رؤساء الكهنة، وهو أنّه قدَّم نفسَه لا ذبائح حيوانيّة. إنّ هذا الاعتقاد الخاطئ يُحجِّم عَمَلَ المسيح الفدائيّ لأجلِنا، إذ يجعل المسيح في مرتبة رؤساء الكهنة في العهد القديم. لقد نال البشر كلَّهم نعمةَ غفرانِ خطاياهم بِفَضلِ الذبيحة الّتي قدَّمها المسيح لأجلنا على الصّليب. إنّ غفرانَ الخطايا لا يكون نتيجة أعمالٍ يقوم بها الإنسان ليُكفِّر بها عن خطاياه، إنّما نتيجة محبّة الله المجانيّة له. إنّ عمل الله الخلاصيّ مرتكِزٌ على محبّته للبشر. لقد نال الشَّعب نعمةَ التحرُّر مِنَ العبوديّة، ونعمةَ البُنُوَّة لله، كما نال أيضًا ميراثَ الله أي الملكوت السّماويّ، بِفَضلِ العهد الجديد الّذي أقامه المسيح بين الله والبشر بموته على الصّليب، وهذا ما لم يتمكّن العهد القديم مِن مَنحِه للشَّعب.
إنّ صورة الله ومثالَه قد تشوَّها في العهد القديم بسبب عدم فَهمِ آدم وحوّاء لهما؛ أمّا في العهد الجديد، فقد صحّحَ المسيحُ مفهومَ النّاس لِتلكَ الصُّورة. إنّ “صورةَ الله ومثالَه”، عبارةٌ تعرَّضت للكثير مِنَ التفسير والتحليل مِن دون أن يَتِمَّ فَهمُها بالشَّكل الصحيح، لذا بَقيَت مُبهَمةً إلى يوم مجيء المسيح، الّذي عَكَسَ صورة الله الأكمل. إنّ المسيح هو صورة الله الأكمل ومثاله، و”آدم” مدعوٌّ منذ بدء الخليقة إلى التَشَبُّه بتلك الصّورة. إنّ “آدم”، لم يتمكّن مِن مَشابهة تلك الصّورة مِن دون الاستعانة بقوانينَ تُساعده على ذلك، فكان النّاموس. لقد أعطى اللهُ النّاموسَ للشَّعب مِن أجل تَربيَتِهم، غير أنَّ الشَّعب قد جعل النّاموسَ إِلَـهًا له، فَعبَدُوه بدلاً مِن عبادتهم لله، إذ عَبَدوا الحَرفَ دونِ الجوهر. لقد أضاعَ الشَّعبُ هدَفَ النّاموسِ، فحوَّلوه إلى مادّة للعبادة، لا إلى وسيلةٍ تُساعِدهم على عبادة الله الحيّ. لذا رفض الله كلّ ذبائحِ الشَّعب وطقوسِهم الدينيّة، لأنّها فَرَغَتْ مِن معناها، فالله لا يريد أن يُقدِّم له الشَّعب العبادة في هيكلٍ حجريّ، لأنّ العبادة الحقيقيّة لله تكون في الهيكل الحقيقيّ، أي مِن خلال كلّ إنسانٍ متروكٍ ومهمَّشٍ وأرملةٍ وحَزينٍ. إنّ الشَّعب، وللأسف، لم يفهم معنى العبادة الحقيقيّة، فاعتقد أن الله يريد تلك الطقوس والتُّقَويات في الهيكل الحجريّ فقط، وهذا ما يُفسِّر الازدواجيّة الّتي عانى منها الشَّعب اليهوديّ، فحياته في الهيكل لم تكن منسجمة مع حياته اليوميّة.
إنّ هذه الإزدواجيّة الّتي عاشها الشَّعب اليهوديّ، عانى منها أيضًا الشَّعب المسيحيّ، وذلك نتيجة تفسيره الخاطئ لِقَولِ يسوع: “أعطوا ما لقيصر لقيصر، وما لله لله”، فقَسَم المؤمِن حياته إلى قِسمين لا ينسجم الواحد منهما مع الآخر، فعاشَ حياةً دينيّة كاملة في الكنيسة، أمّا في خارجِها فلم تكن حياته مُطابقة لِصلاته. إنّ هذه الآية كانت جواب يسوع على سؤالٍ مُحدَّدٍ قد طرَحه اليهود عليه لإحراجه، يختَصّ بالجِهَة الـمَعنِيَّة بقبول الجِزْيَة. لقد كان اليهود ينتظرون جواب يسوع لإدانته، غير أنّهم لم يتمكّنوا مِن إيقاع يسوع في أفخاخِهم الّـتي نَصَبوها له. إنّ هذه الآية لم تكن يومًا وصيّة مِنَ الربّ لشعبه، غير أنّ المسيحيّين قد حرّفوها فشَرَّعوا لِذَواتهم تلك الازدواجيّة الّتي يعيشونها. لقد تمّ تحريفُ أقوالٍ كثيرة قالها المسيح، فَمَثلاً كلام المسيح عن هدم الهيكل وبنائِه في ثلاثة أيّام لم يتمّ فَهمُه بالشكل الصّحيح، فتحوَّل مادّةً استخدمها شهود الزّور ضدّه، في يوم الحكم عليه بالموت. لم يَقصِد المسيح بكلامه هذا، الإعلان عن هدم الهيكل الحجريّ، بل كان يَقصِد به هيكل جسده الّذي سيَبْنِيه بقيامته مِن بين الأموات. إنّ التّلاميذ أيضًا لم يتمكّنوا مِن فَهمِ هذا الكلام إلّا بَعدَ قيامة المسيح مِنَ الموت. إنّ الفرقَ كبيرٌ جدًّا بين العهد القديم، والعهد الجديد الّذي أتـَمّه يسوع المسيح على الصّليب: إذ لا الذبيحة هي نفسُها، ولا الهيكل هو نفسُه، ولا الكاهن هو نفسُه، غير أنّ ما هو مشترك بين العهدين هو الإنسان بطبيعته الخاطئة المجبولة بالضُّعف البشريّ. وبما أنّ المعطيّات البشريّة هي نفسُها عند الإنسان القديم والإنسان الجديد، قرّر الله أن يُرسِل ابنه الوحيد ليَتجسَّد ويُخلِّص الشَّعب مِن عبوديّته للخطيئة، مِن دون أيّ تدخّلٍ بشريّ. إنّ الله لا يطلب مِن الإنسان شيئًا سوى أن يَقبَل هذا الأخير بعَمَلِ الله الخلاصيّ لأجله، ويحترمه.
إنّ سبب وقوع الشَّعب في عبوديّة الخطيئة هو خوفُهم مِنَ الموت، لذا يجدون أنفسهم باستمرار تحت “نير العبوديّة”، كما ورد في الرسالة إلى العبرانيين (عب 2/ 14). إذًا، إنّ الحلّ لمشكلةِ خوفِ البشر مِنَ الموت، لا تكون بغفران الخطايا لهم، إنّما بمواجهة الموت والانتصار عليه، وهذا ما فَعَلَه يسوع، إذ مات على الصليب، وغَلَبَ الموت بقيامته. لقد قَبِلَ المسيح بالموت، حين قال لأبيه: “لتكن مشيئَتُكَ”. إنّ الله الآب قدَّم ابنه الوحيد يسوعَ المسيح ذبيحةً على الصّليب، أي أنّ المسيح هو الذبيحة والكاهن أيضًا، أمّا مُقدِّمُ تلك الذبيحة فهو الله الآب.
إنّ مهمّةَ يسوعَ المسيح على هذه الآرض تقوم على إظهار محبّةَ الله للبشر، فالله لم يَعُد يريد ذبائحَ الشَّعب وتقادمَهم الفارغة مِن مَعناها. جاء المسيح إلى أرضِنا وأعلنَ حلول ملكوت السّماوات على الأرض، وهذا ما لم يَقبَل به اليهود، فرَفَضوا المسيح وقرّروا قتلَه لأنّه لم يُشرِّع لهم تصرّفاتهم المعوَجَّة. وبعدَ أنْ قام المسيح بمسيرة مع التّلاميذ، ومَع شعب الله، مدّة ثلاث سنوات، اكتشف هؤلاء أنّ المسيح هو حقًّا ابن الله، وهذا ما فرَض عليهم الاختيار ما بين هَدمِ ذهنيّتهم اليهوديّة القديمة في سبيل اتّباع المسيح، وما بين إلغاء المسيح وقتله كي لا تتزعزع ذهنيّتهم اليهوديّة ومشاريعهم الأرضيّة، لأنّ أقوالَ المسيح وتعاليمَه تَدفعُ بالمؤمنين به إلى التغيير الجذريّ في مَسلَكِيَّاتِهم.
لقد دخل المسيح الموت، غير أنّ الموت لم يتمكَّن مِن إدراكِه، إذ قامَ مِن بين الأموات، وبالتّالي لم يعد للموت مِن سلطان على الإنسان، لأنّ الربَّ قد انتصر عليه. إذًا، لقد ألغى المسيحُ خوفَ الإنسان مِنَ الموت بقيامتِه مِن بين الأموات، غير أنّ الإنسانَ رفضَ عَمَلَ المسيح الخلاصيّ فأعطى مِن جديد للموتِ سلطانًا عليه ليَستعبِدَه، فعاد الإنسان إلى ارتكاب الخطايا مِن جديد، ولذا بَقي الإنسان في حالة خوفٍ مِنَ الموت على الرّغم مِنَ انتصارِ المسيح عليه. يستطيع الإنسان التَخلُّص مِن هذا الخوف، حين يَقبَل بالمسيح، ويجعله سيِّدًا على حياته. على الإنسان ألّا يستسلِم للحُزنِ حين يفقد أحد الأعزّاء، بل أن يتسلّح برجاء القيامة، فيستعمل عبارة “المسيح قام” في أثناء تَقبُّلِه التعازي. إنّ المسيح القائم مِنَ الموت، هو الحلُّ الوحيد لمشكلةِ خوف الإنسان مِنَ الموت، فالمسيح قد أَبطَلَ الموت بقيامته، والكِتَاب يقول لنا على لسان بولس الرّسول: “إنّ آخر عدّوٍ يُبْطَل هو الموت”.
في العهد القديم، كان رئيس الكهنة يُقدِّم الذبائح تكفيرًا عن الخطايا؛ أمّا يسوع المسيح، فقد قدَّم نفسَه ذبيحةً، مِن أجل تحريرِ الإنسان مِن عبوديّة الموت، إذ إنّ المسيح قد انتصر على الموت بقيامته، فَفَقَد هذا الأخير كلَّ سُلطانه على الإنسان. إنّ عَمَلَ المسيح الخلاصيّ مَنَحَ الإنسان الحقَّ في الحصول على الملكوت، مِن دونَ أيِّ مجهودٍ بشريّ، فالمسيح قد جعلنا على مثالِه، أبناءً للآب ووَرَثَةً للملكوت. إنّ عَمَل المسيح يدفع بالإنسان إلى إدراك قيمتِه الثمينة في عَينَي الله، غير أنّ الإنسان على الرّغم مِن ذلك، يُفضِّل البقاء عبدًا لخوفه، على أن يكون وارثًا وحُرًّا إذ في الحريّة مسؤولية. إنّ جذورَ كلمة “إنسان”، قد تكون مِن الفِعلِ “نَسِيَ”،كما يمكن أن تكون جذورها مِن كلمة “إِنْس” الّتي مُثَنَّاها “إنسان”، وبالتّالي لا يكون الإنسان شخصًا واحدًا إنّما يكون اثنين: آدم وحوّاء. لم يتمكّن الإنسان مِن فَهمِ عَمَلِ الله الخلاصيّ، بِدَليل تصرُّفِه بطريقةٍ وثنية في القداس الإلهيّ، وبخاصّة في نَظرَته للمناولة: ليست المناولةُ آلةَ شحنٍ تُعطي الإنسان زخمًا روحيًّا، وليست المناولة عَمَلاً شخصيًّا، إنّما هي عَمَلٌ يقوم به المؤمن ضمن إطار جماعة تُشكِّل جسد المسيح السريّ. إنّ المناولة هي إعلانُ الجماعة أنّ كلّ مؤمِن فيها، قد أصبح ابنًا لله ووَريثًا في ملكوته، ولكنَّ مفعول المناولة، وللأسف، هو قصير المدّة عند المؤمنين.
إنّ الميراث الّذي يحصل عليه الإنسان، يدفَعُه إلى تحمُّل مسؤوليّة في سبيل المحافظة على الميراث مِن دون تبذيره سُدىً، كما فَعَلَ الابن الشاطر في الـمَثَل الّذي أعطاه المسيح في الإنجيل. لقد طلب الابنُ الشاطر من أبيه حصَّتَه في الميراث في حين كان لا يزال أبوه على قيد الحياة. ولكنّ الوالد انصاع لطلب ابنه فأعطاه حصَّته من الميراث، فسافر الابن إلى بلادٍ بعيدة، وبَذَّرَ كلّ أمواله، فجاع واشتهى أن يأكل مِن طعام الخنازير ولم يستطِع ذلك، لذا قرّر العودة إلى بيت أبيه، ليعمل عنده كأجير. غير أنّ الوالد الّذي كان ينتظر عودة ابنه سالـمًا إلى البيت رفضَ ذلك، لذا ما إن رآه قادمًا إليه مِنَ البعيد، أَسرعَ إليه وقبَّله على عنُقِه قُبلَةً والِدِيَّة، وألْبَسَهُ الـحُلَّةَ الجديدةَ ووَضع له خاتمًا في إصبعه وحذاءً في رجليه، علامةً على إعادته إلى مكانتِه الأولى، مكانة البُنُوَّة في هذا المنزل، وأقام له وليمةً كبيرة.
إنّ الأبَ قد رفض أن يُصبح ابنُه أجيرًا في بيت أبيه، لذا ألبسَهُ لباسَ الورثة، على الرّغم مِن حُصوله على حصّتِه مِنَ الميراث قَبل مغادرتِه المنزل. أمّا الأخ الأكبر، الّذي يرمز إلى كلّ إنسان مؤمنٍ ملتزم، فقد اعترض على عودة أخيه الصغير إلى البيت مُجدّدًا، لأنّه رأى في عودته تلك، مشاركةً جديدةً له في الميراث. إنّ الأخَ الأصغَر قد نال حِصَّتَه مِنَ الميراث وبذَّرها، ولم يعرف كيفيّة المحافظة عليها، لذا لا يجوز بحسب نظرة الأخ الأكبر، للأخ الأصغر أن يُقاسِم أخاه الأكبر مِن جديد في الميراث. إنّ الأب لم يَقبَل باعتراض الأخ الأكبر، وبخاصّة أنّ هذا الأخير لا يُعاني مِنَ العَوَز، لذا كان جواب الأب للأخ الأكبر: “إنَّ كلَّ ما هو لي، هوَ لك”. إنّ نظرتَنا للأمور لا يَجب أن تكون على مِثال نظرة الأخ الأكبر إليها، إنّما على مِثال نظرةِ الأب إليها، أي نَظرةٍ متعاليةٍ عن القشور الأرضيّة الزائلة. إنّ الأبَ قد فرحَ بعودةِ ابنِه حيًّا ومُعافًا بعد غيابه عن المنزل، أمّا الأخ فقد نظرَ إلى تلك العودة، على أنّها عودة لمقاسمة الميراث مِن جديد، لذا لم يتجرأ الأخ الأكبر على تسمية أخيه كذلك، بل أنكره ناعتًا إيّاه بعبارة “هذا الذي”، في كلامه مع أبيه، ممّا أدّى إلى جَرْحِ الأب بهذا الكلام. إنّ الأخ الأكبر قد نظرَ إلى عودة أخيه إلى المنزل انطلاقًا مِنَ الأفعال المشينة الّتي ارتكبها أخوه في الغُربَة، أمّا الأب فقَد نظرَ إلى تلك العودة انطلاقًا مِن عودة ابنه سالـمًا إليه بعد فترةٍ مِنَ الغِياب.
إذًا، إنّ نظرة المؤمن إلى الأمور يجب أن تتغيَّر بعد حصوله على المناولة الإلهيّة، فلا يعود ينظر إلى الآخرين نِظرَةِ الأخ الأكبر إلى أخيه العائد، إنّما كنِظرَةِ الأب إلى عودة ابنه. بمعنىً آخر، إنّ استمرارَنا في دينونة الآخرين هو مؤشِّرٌ خطيرٌ يدّل على عدم إدراكنا لأهميّة عَمَلِ المسيح الخلاصيّ لنا، كما يدلّ أيضًا على سيطرة الذهنيّة اليهوديّة علينا دون تمكُّنِنا مِنَ التحرُّر مِنها. إنّ دينونتنا للآخرين تدلّ على رَفْضِنا للمسيح كرئيس كهنة أعظم لنا، وعلى استبداله برؤساء كهنة العهد القديم، الّذين تقتصر خدمتَهم على تقديم الذبائح الدمويّة في كلّ مرّةً تكفيرًا عن الخطايا.
إنّ قبولَنا بالمسيح رئيسَ كهنةٍ لنا، يدفعنا إلى تغيير نظرتِنا إلى الآخرين، والمعموديّة هي إحدى الوسائل الـمُساعِدة على هذا التغيير، إذ إنّها على حدِّ قولِ بولس الرّسول، تجعلنا خليقةً جديدة. إنّ الخليقة الجديدة تتميَّز مِن سواها مِنَ الخلائق في نَظرَتِها للأمور، على الرّغم مِن بقاءِ الأوضاع والظروف الحياتيّة على ما هي عليه. إنّ المناولة الإلهيّة تدلّ على أنّ المؤمن الّذي يتقرَّب مِنها قَد قَبِلَ المسيح كاهنًا أعظم له، كما تدلّ على قبول المؤمِن بأن يكون ابنًا لله، عبر اتّحاده به في سرّ المناولة. إذًا المناولة تجمع بين سِرَّي المعموديّة والمناولة، ولذا فإنّ المؤمن الّذي يتناول جسدَ الربّ ودمَه، عليه أن ينظر إلى الآخرين على أنّهم مِثلَه أحبّاء الله وورثة الملكوت، فلا يُدينهم على أعمالهم، إذ إنّه هو أيضًا مِثلُهم خاطئ وضعيف. عندما يتوب إلى الله، يحاول الإنسان أن يُقنِع ذاته ويُقنِع الله أنّ توبته صادقة وحقيقيّة، وهذا ما يُشعِره بالرّاحة النفسيّة. إنّ هذه الرّاحة النفسيّة هي مِن نسيج فكر الإنسان، بدليل أنّ الإنسان يعود إلى إدانة الآخرين ما إن يخرج مِن كُرسيّ الاعتراف، وبخاصّة لذلك المعروف بخطاياه القرمزيّة في المجتمع، فنجد أنّ الإنسان المؤمن لا يَقبَل بعودة ذلك الخاطئ إلى الكنيسة، حتّى وإن تاب.
لا فرقَ بين المؤمن الملتزم الخاطئ، وبين ذلك الإنسان غير الملتزم، الموسوم بالخطيئة في نظر مجتمعه، فالخطايا كلّها في المستوى نفسه مِنَ الخطورة: فإنّ خطيئة الثَّرثار والمسيء الظّن هي أفظع مِن خطيئة ذاك الّذي يزني. إذًا، فجميع البشر مُتشابهون في طبيعتهم الضعيفة المجبولة بالخطيئة، وبالتّالي فلا فرق بين البشر، مِن حيث نوعيّة الخطايا الّتي يرتكبونها أو مِن حيث كميّتها، فكلّ الخطايا مُضِّرة بالإنسان. إنّ إدانة الآخرين على خطاياهم الظّاهرة يخلق فينا انطباعًا خاطئًا، وهو أنّنا أفضل مِنَ الآخرين، غير أنّ الحقيقة هي أنّ كلّ البشر مُتساوون، على الرّغم مِن اختلاف لون البشرة، فالكلّ يمرض ويتوّجع، والكلّ يُخطِئ. إنّ الإنسان الّذي يؤمن بالمسيح لا مِن أجل الحصول على غفران الخطايا، بل يؤمن به لأنّه مات وقام مِن أجله، هو إنسان ذو إيمان ثابت بالربّ، وإيمانه هذا هو الّذي سيمنحُه التعزية والفرح الدّاخليّ اللّذينِ لا يمكن لأحد انتزاعهما مِنه. إنّ هذه التعزية والفرح الداخليّ، يستمِرّان في داخل الإنسان بِقَدرِ ما يستطيع ذلك الإنسان أن يعكسهما في علاقاته مع الآخرين.
لا يمكن للإنسان أن يُصلِح الآخرين إنْ لم يكن في قلبه محبّة تجاههم، فالإصلاح لا يتمّ إلّا إذ تمّ وَضعُ الإصبَع على الجرح، ولكنّ الإصلاح لا يتمّ فعلاً إلّا إذا شعر الّذين يتعرَّضون للملاحظات، أنّ تلك الأخيرة تُوجَّه إليهم مِن قلبٍ مُحبٍ لهم لا بهدف انتقادهم. لا يمكنك أن تكون مُصلِحًا للكنيسة إنْ كُنتَ لا تُحبّ الكنيسة وأبناءها، لأنّ إصلاحك سيُعبِّر عن تعجرفك وتَكبُّرِكَ ولن يؤدي ذلك إلّا إلى الهدم، وستتحوَّل أنت إلى شخص ينفر مِنه الجميع. إنّ يسوع المسيح كان يستطيع إصلاح الجنود، مستخدمًا القوّة والعنف، عبر إرسال جوقة من الملائكة للدفاع عنه، غير أن الربّ قرّر أن يقوم بإصلاح الآخرين عبر شفائهم، كما فعل مع الجنديّ الّذي قام بطرس بِقَطع أُذُنِه، إذ أعاد له أُذُنَه ليتمكّن مِن سماع كلمة الله، ونقلِها إلى الآخرين. إنّ مهمّتَنا نحن المؤمنين، تكمن في إيصال كلمة الله إلى الآخرين. إنّ المسيح لم يأتِ مِن أجل جماعته فقط، بل مِن أجل العالم بأسرِه إذ شفى لا اليهود فقط، بل غير اليهود كذلك. كما هي حال هذا الجنديّ، فالإنسان بالنسبة للمسيح هو المذبح العالميّ، والقُدس العالميّ، الّذي عليه يجب أن يُقدِّم الإنسان ذبائحه لله. إذًا، علينا الاحتفال بعيد الفِصح، انطلاقًا مِن هذه الذهنيّة المسيحيّة، فلا نَحزن لموت المسيح، ولا نفرح بقيامته، بل نفرح لأنّ المسيح قد قام حقًا في حياتنا، مِن خلال رؤية الآخرين لتصرّفاتنا معهم.
إنّ ذبيحة المسيح تمّت مرّة واحدة في التّاريخ ولن تتكرّر. إنّ الإنسان يُكرِّر عادةً ما لم يتمكّن مِن إنجازه منذ المرّة الأولى، غير أنّ المسيح لن يُكرِّر ذبيحتَه مرّةً أخرى على الرّغم مِن فَشلِه في إيصال كلمة الله لسائر البشر، إذ إنّ هناك مَن قَبِلوا بها، ولكنّ آخرين قد رَفَضوها. إنّ الّذين وصلَتْ إليهم كلمة الله وقَبِلوا بها، تمكّنوا بِفضل اتّباعهم للمسيح مِنَ الوصول إلى الملكوت، وهم الرّسل والقدِّيسون. ولكن يجدر بنا الإشارة، إلى أن كُثُرًا مِنَ الّذين وصلت إليهم الكلمة، ونجحوا في اتّباع المسيح، لم تتمّ معرفة أسماؤهم. إذًا، مهمّة المؤمِن تكمن في مساهمته في إيصال ذبيحة المسيح إلى غايتها، أي أن تصل كلمة الله إلى جميع النّاس وأن يقبلوا بها.
إنّ ذبيحة المسيح ما زالت فاعلة إلى اليوم، لأنّ الموت ما زال مغلوبًا، وسيبقى كذلك. إنَّ استخدام اسم الفاعل كما هي الحال في عبارة “المسيح القائم”، تدلّ على استمرار عمليّة القيامة ومفعولها عبر الزَّمن، أي أنّ المسيح ما زال قائمًا، وسيستمِرّ غَالِبًا للموت إلى النّهاية، ولن يتمكّن الموت مِن إدراكه مِن جديد. إنّ تراتيل القيامة الّتي نُنشدها في هذا الزّمن، لا تَصِفُ حدث القيامة الّذي تمّ في التّاريخ فَحَسب، إنّما تَصِف مجيء المسيح القائم، لأنّ القائم هو المسيح الآتي مِن عند الربّ، وبالتّالي فإنّ القيامة تُجسِّد ذلك الحدث التّاريخي الّذي تمّ في القديم، كما أنّها تُظهِر الحدث الّذي سيتمّ وهو خارج الزّمن. إذًا، حياة المؤمن محصورة ما بين حدثين مدعاة للفرح والتعزية، وهما القيامة ومجيء المسيح: فالمسيحيّ قَبْلَ دخولِه إلى الكنيسة يكون في فترة ما قَبْل القيامة، ولكنّه عندما يخرج مِنَ الكنيسة، يُصبح في فترة انتظار للمجيء الثاني، وهذا ما يجب أنْ ينعكس في نَظرَته للآخرين. حين يكون المؤمن في حالة ما قَبْلَ القيامة، فإنّه يعيش كما كانت حالة اليهوديّ في العهد القديم، أمّا بعد تَحقيق حدث القيامة، فنجد أنّ المؤمِن يتعاطى مع الله، وكأنّه مِنَ المستوى نفسه، مِن دون أي كُلفَةٍ بينه وبين الله الآب، متناسيًا المسيح. إنّ المؤمن لن يتمكّن مِنَ التقرّب مِنَ الله مِن دون المسيح، فالمسيح يُشكِّل الوسيط الوحيد بين الله والبشر. إنّ طريقة تَصَرُّف المؤمنين مع القدِّيسين تُشكِّل أزمة حقيقيّة تجعل مِنَ المسيح خارج حياة المؤمِن، وبالتّالي تحتاج إلى حلٍّ جذريّ.
ملاحظة: دُوِّن الشرح بأمانةٍ مِن قِبَلِنا.