تفسير الكتاب المقدّس،
الأب ابراهيم سعد،
“رسالة بولس الرّسول إلى العبرانيّين – الإصحاح العاشر”
إنَّ هذا الإصحاح يُقسَم إلى قِسمين: القسم الأوَّل يتكلَّم عن الشَّريعة الموسَوِيّة، أي النّاموس اليهوديّ. إنّ الشريعة اليهوديّة لا تعكس، حسب قول كاتب هذه الرسالة، حقيقة الخيرات الآتية إنّما فقط ظِلَّها. لقد اكتشف الشَّعبُ القديمُ ظِلَّ تلك الخيرات الأبديّة مِن خلال الشريعة، أمّا حقيقتها فقد انكشفت لهم بيسوع المسيح. إنّ الذبائح هي انعكاس لظِلّ الخيرات الآتية: كان الشَّعب يُقدِّمها في الهيكل طلبًا لرضى الله ولغفرانه وتكفيرًا عن خطاياهم، إذ كان يُقدِّمها كُلَّما أخطأ، مِن دون أن يتمكّن مِنَ الوصول إلى الغاية الّتي أراد الله إيصالها للبشر مِن خلالها، لذا لم تَعُد تلك الذبائح تُرضي الله. إنَّ الذهنيّة اليهوديّة تَسَرَّبَت إلى عقول المسيحيّين، لذا نراهم -كُلَّما ارتكبوا الخطايا- يُسرِعون إلى الصّلاة وتقديم النّذورات لله، للتكفير عن خطاياهم مِن أجل الحصول على الرِّضى والغفران. لقد اعتقد النَّاس أنّه في تقديمهم الذبائح لله سيتمكّنون مِن استرضائه، بعد ارتكابهم الآثام، ولكنّ اعتقادهم هذا هو خاطئٌ تمامًا، لأنّ غفران الربّ لنا هو مجانيّ غير مشروط.
خاف الإنسان مِنَ الله، ففتَّش عن وسيلةٍ يسترضي بها الله حين كان يقع في الخطيئة. إنّ روحيّة العلاقة بين الإنسان والله قد فُقِدَت بسبب نظرة الإنسان إلى الله: فالإنسان ما عاد ينظر إلى الله على أنّه أبوه، إنّما فقط على أنّه إلهه، لذا خافَ منه، وهذا ما جعل تلك العلاقة خالية مِن مفهوم الحبّ، وبالتّالي لم تَعُد علاقة الإنسان بالله مَبنِيّة على الحبّ إنّما على القانون. إنّ العلاقة الـمَبنيّة على القانون، تحوي في طيّاتها إمكانيّة الخيانة. إنّ تصرُّف اللّبنانيّ مع القانون هو خيرُ نموذَج عن ذلك، إذ إنّنا نجد أنّ اللّبنانيّ يسعى إلى خرق القانون عند تَأَكُّدِهِ مِن عدم وجود أيِّ رقيبٍ عليه.
إنّ اللّبنانيّ لا يلتزم بالقانون انطلاقًا مِن قناعتِه بأنّ في التزامَه به يصُونُ حياتَه وحياة الآخرين أيضًا، إنّما يلتزِم به خوفًا مِنَ العِقاب الّذي سيتعرَّض له جرّاء مُخالفته له. إنّ اللّبنانيّ الّذي ينجح في الإفلات مِنَ العقاب جرّاء خرقِه للقانون، يشعر بالفرح الشديد جرّاء فِعلَتِه تلك. إنّ اللّبنانيّ يمتَهِن فَنّ خَرْقِ القانون: إذ إنّه متى تَمَّ إلقاء القبضُ عليه، جرّاء مخالفته للقانون، حوَّل اللّبنانيّ نفسَه إلى ضحيّةٍ لظروفه الخاصّة، في سبيل الهروب مِنَ العِقاب. إذًا، إنّ تصرُّف اللّبنانيّ يُعبِّر عن انتشار الذهنيّة اليهوديّة في مجتمعِنا المسيحيّ. قبل مجيء المسيح، خضعت علاقة الإنسان باللّه إلى الذهنيّة اليهوديّة وكذلك بقيَت الحال بعد مجيء المسيح أيضًا: فَقَد استمرَّت تلك الذهنيّة في السيطرة على تلك العلاقة حتّى بعد مجيء المسيح. إنّ الله قد أرسل ابنَه الوحيد ليتجسَّد في هذه الأرض الفانية،كي يؤكِّد للإنسانِ مدى حبِّ الله له، فقد أعلن الله مِن خلال يسوع استعداده للموت مِن أجل الإنسان، وقد حقّق ذلك على الصليب، فأبطَلَ بالتّالي كلّ مفاهيم الذبائح القديمة. وعلى الرّغم مِن أنّ الله قد دعانا أحبّاءَه لا عبيدًا له، غير أنّ الإنسان يُصِّر على اعتبار الله إلهًا لا أبًا، ولذا فهو يخاف مِنه. مِن خلال ذبيحة يسوع، أراد الله شفاءنا مِنَ الخطيئة ومِن كلّ ذهنيّة يهوديّة موجودة في داخِلنا.
جاء يسوع المسيح إلى أرضِنا ليُتمِّمَ مشيئة الله، وعنه تكلَّمت الآية: “هاءَنَذَا أَجِيءُ لِأَفْعَلَ مَشِيئَتَكَ يا أَللهُ”. إنّ الإنسان يستغِلّ حبّ الله له، عِوَضَ أن يسعى إلى تحقيق مشيئة الله في حياته. في علاقة الحبّ بين البشر، يسهل على الإنسان استغلال نِقاط ضُعفِ شريكه إذ يكفي أن يُعبِّر له عن عدم شعوره بحبّ الشريك حتّى يُجنِّد هذا الأخير كلّ طاقاته ويُضاعف مجهوده، عسى الآخر يشعر بحبّه المجانيّ والصّادق تجاهه. إنّ الإنسان يلجأ إلى التَّقوى الـمُزَيَّفة مُعتقدًا أنّه بتلك الطريقة سيتمكّن مِن استغلال حبّ الله له، مِن دون أن يخضع الإنسان لناموس الله، أي ناموس الحبّ. يعتقد الإنسان أنّه يستطيع رشوةَ الله بالذبائح الّتي يُقدِّمها له، فيعفُو الله عنه. لا يستطيع الإنسان أن يَغِشَّ الله، لأنّ الله هو خالقه وهو العالـِم بكلّ ما في قلب الإنسان مِن نقاوة، وما في عقله مِن ذهنيّة ماديّة، فالله هو “العالـِم بما في الكِلى والقلوب”. إنّ الذبائح والنُّذورات الّتي يُقدِّمها الإنسان لله، لا تُلزِم الله بتحقيق أيّ مطلبٍ للإنسان.
إنّ مفهوم العطاء المجانيّ يتعارض مع مفهوم النَّذر إذ إنّ العطاء المجانيّ يتطلَّب مِنَ الإنسان القيام بأعمالٍ صالحة مِن دون انتظار المكافآت مِن الله أو مِنَ البشر، على عكس مفهوم النّذر، الّذي يقوم على تقديم الإنسان الذبائح لله، محاولاً بذلك استمالة الله إليه، ليُحقِّق له مطالبه الإنسانيّة. جاء يسوع إلى هذه الأرض الفانية كي يُحرِّر الإنسان مِن كلّ تلك الالتزامات التّقوية، لكنّ الإنسان ما زال متمسِّكًا بها. إنّ الذبائح اليهوديّة القديمة تقوم على مبدأ “الأَخْذِ والعطاء”، أي على العطاء المشروط. على المؤمن ألّا يقدِّم للكنيسة النُّذورات كرشوةٍ لله إنّما عليه أن يُقدِّم للكنيسة ما تحتاجه مِن أمور دنيويّة عندما يرى حاجتها، مِن دون انتظار مقابلٍ لِعَمَلِه، إذ على عطائه للكنيسة أن يكون مدفوعًا بحبِّه لها. إنّ النَّذر الوحيد الّذي يتكلَّم عنه الإنجيل هو نَذرُ الإنسان حياتَه للربّ، جوابًا لحبّ الله العظيم له.
جاء المسيح إلى أرضِنا ودخل إلى قُدسِ الأقداس، أي إلى الملكوت، ليُحرِّر الإنسان مِن كلّ التزامٍ، من دون انتظار أي مقابلٍ مِنه سوى مبادَلَتِه الحبّ. إنّ قبولَ الإنسان بحبّ الله له، يَضَع عليه مسؤوليّة كبيرة وهي المحافظة على حالة النِّعمة مِن دون الوقوع في الخطيئة، لأنّه متى عاد إلى الخطيئة، فلن يكون هناك ذبيحة كفيلة بالتكفير عن خطاياه، فالذبائح القديمة قد أُبطِلَت بذبيحة يسوع المسيح على الصليب. إنّ ذبيحة يسوع المسيح، هي الوحيدة القادرة على مَنْحِ غفران الله للإنسان: فإنْ رَفَضَها، فالذبائح القديمة لن تكون مفيدة له مِن أجل التكفير عن ذنوبه. يحقّ لله أن يغضب حين يرى أنّ الإنسان قد رَفَضَ حبّه وعاد إلى الخطيئة، كما أنّه لا يحقّ للإنسان أن يلوم الله على غضبه هذا. غريبٌ هو الإنسان: إذ إنّه في الحالات الإنسانيّة، يدافع عن المغدور حين يتعرَّض للخيانة لائمًا الغادر، أمّا حين يتعلَّق الأمر بالله، فهو يلوم المغدور أي الله، لأنّه كان مغدورًا لا غادرًا، ويلجأ إلى تبرير خيانة الإنسان الغادر للتخفيف مِن فظاعةِ عملِه! إنّ الله يقبل بلوم الإنسان له، آملاً أن يُدرِك الإنسان في يومٍ مِنَ الأيّام عظمة حبّ الله له.
إنّ الله قد جعل مِنَ البشر أبناءً له، لذا هو يتصرَّف معهم على هذا الأساس، ولذا هو يَقبل توبتهم إليه، على الرّغم مِن عِلمِه أنّ تلك التوبة لن تكون في الحقيقة توبةً صادقة، لأنّ الإنسان سيخون الله مِن جديد فيقع سريعًا في الخطيئة. إنّ الله يعلم أنّ كلّ ما يطلبه الإنسان مِنَ الله هو نابعٌ من قلبِه النَّقي، غير أنّ عقله ينتظر المكافأة أو تحقيق المطالب نتيجة تقديمات الإنسان. إنّ الله يسمع كلّ طلبٍ يُوجِّهه الإنسان إليه، وينظر إلى مصداقية الإنسان في طلبه، ويحوِّل خبث العقل البشريّ في عقله إلى براءةٍ في الطلب. لا إلَه سوى إلهنا، قادر على الاستمرار في حبّه للإنسان، حين يُدرِك مدى خبث الإنسان.
إنّ حبّ الله للبشر دَفَعه إلى أن يبذل ابنه الوحيد فداءً للبشر. على الرّغم مِن وَفرة الصّفات الصّالحة الّـتي تُطلَق على الله في اليهوديّة والإسلام والمسيحيّة، هناك صِفة “النّاسي والـمَنسيّ”، وهي الصِّفة الوحيدة المعبِّرة عن حالة الله مع البشر. إنّ الله لا ينسى أن يغفر الخطايا للبشر، ولا ينسى أن يُصغي إليهم، على الرّغم مِن أنّ البشر لا يتذكَّرونه إلّا في بعض الأوقات العصيبة الّتي تعصِف بهم. لقد اكتشف الإنسان حبّ الله له، حين مات يسوع المسيح على الصّليب مِن أجله، ومَنَحه الخلاص، وجعله ابنًا لله ووارثًا للملكوت. إنّ الله قد منَحَ ابنه يسوع كلّ القدرة والسُّلطان كي يتمكّن مِن إبادة كلّ أعدائه وبخاصّة الموت، فقَد قيل في الكتاب عن المسيح يسوع: “جَلَسَ إِلَى الأَبَدِ عَنْ يَمينِ الله، مُنْتَظِرًا بَعْدَ ذَلِكَ حَتَّى تُوضَعَ أَعْداؤُهُ مَوْطِئًا لِقَدَمَيْهِ”.
يُخطِئ المؤمن حين يعتقِد أنّه هو الّذي يُقدِّم الذبائح لله في كلّ ذبيحة إلهيّة، فالحقيقة هي أنّه لا وجود لأيّ ذبيحة جديدة في القدّاس الإلهيّ، فالقدّاس الإلهيّ أساسه ذبيحة المسيح يسوع، الّـتي تمّت مرّة واحدة في التّاريخ، وهي ما زالت مستمرَّة إلى اليوم، ويُعلِن المؤمنون عنها في كلّ احتفالٍ افخارستيّ. إنّ هذا المفهوم الخاطئ للمسيحيّين عن الذبيحة الإلهيّة، جَعل البعض منهم يمتنعون عن الاحتفال بالذبيحة الإلهيّة إذ لا ذبيحة تُقدَّم إلّا ذبيحة يسوع المسيح وهِيَ قد تمَّت في الزّمن مع استمرار مفعولها في قلوب البشر إلى اليوم. على المؤمنين إذًا، أن يُصحِّحوا مفهومهم عن الذبيحة الإلهيّة، ويعكسوا ذلك في تصرّفاتهم اليوميّة: فإنّ الذبيحة الإلهيّة لا تُعبِّر عن مجموعة ذبائح يُقدِّمها البشر لله، إنّما تُعبِّر عن عيش المؤمِن لتلك الذبيحة الوحيدة، ذبيحة يسوع المسيح، كما تُعبِّر عن استمرار مفعولها في التّاريخ إذ يتغذّى منها المؤمن فيتحوَّل إلى ذبيحة على مذابح هذا العالم.
على المؤمن ألّا يُقيم رابطًا قانونيًا ما بين سرّ المناولة وسرّ التوبة، أي أنّه عليه ألّا يربط بين اعترافه واستحقاقه لتناول جسد المسيح ودمِه. إنّ تقرُّب الإنسان مِن سرّ التوبة لا يجعله أهلاً ومستحقًّا للمناولة الإلهيّة، فالاعتراف لا يُشكِّل شرطًا لحصول المؤمن على القربان المقدَّس، كما أنّ الاعتراف لا يُلزِم الله بإعطاء نفسَه للإنسان كونَ هذا الأخير قد تممَّ “واجباته الدينيّة”، مِن خلال سرّ الاعتراف. لا يحقّ للمؤمن التقرّب مِن سرّ المناولة الإلهيّة لأنّه سيبقى غير مستحقّ لتلك النِّعمة أتاب إلى الله أم لم يتُب إليه. إذًا، إنّ دُنُوّ الإنسان مِن سرّ المناولة لا علاقة له باستحقاق المؤمن إنّما باستعداده لذلك، فالمناولة هي عطيّة مجانيّة أعطاها الله للبشر حين مات يسوع المسيح على الصليب. إنّ عطاء الله المجانيّ ليس مرتبطًا بموقف الإنسان مِن عطاء الله، لذا نجد أنّ الله لم يتوقّف عند رَفضِ البعض له، إنّما أكمَل عطاء ذاته للبشر لأنّ ما يهمّه هو خلاص الإنسان وحصول هذا الأخير على الملكوت.
إذًا، على الإنسان أن يتقرَّب مِن سرّ التوبة، كلّما رأى في ذلك ضرورة، ولكن على الإنسان ألاّ يربط دُنُوِّه مِن سرّ المناولة الإلهيّة بعمليّة تقرُّبِه مِن سرّ التوبة، أي أنّه على المؤمن ألّا يجعل من خطاياه حاجزًا يَحُولُ دون تناوله القربان المقدَّس. إنّ المناولة لا شروط لها، ولم يكن يومًا عطاءُ الله للإنسان عطاءً مشروطًا إنّما كان على الدّوام عطاءً مجانيًّا لا حدود له. إنّ الشرط الوحيد الّذي يضَعه الله على الإنسان هو أنْ يَتَقبَّل هذا الأخير عطايا الله له، مِن دون أن يرفُضَها. إنّ الاعتراف قد يكون إحدى الوسائل الّتي تُساعد الإنسان على الاستعداد للتقرُّب مِن سرّ المناولة، لكن لا يجب أن يتحوَّل سرّ التوبة إلى إحدى الشروط الـمُلزِمة للمناولة، إذ لا فضْلَ للإنسان في حصوله على تلك النِّعمة الإلهيّة.
إنّ ذبيحة يسوع المسيح على الصليب قد وَضَعت حَدًّا لكلّ الذبائح اليهوديّة القديمة. غير أنّ الذهنيّة اليهوديّة ما زالت موجودة في الطقوس المسيحيّة، ففي ممارسة المؤمنين للطقوس الدينيّة تَمَّ الفَصلُ ما بين الشكل والجوهر، فركَّزت الطقوس على الشكل دُونَ الجوهر، وتحوَّلَتْ إلى عاداتٍ متحجِّرة، لا يمكن تغييرها، وإلّا اتُّهم مَن سعى إلى ذلك بالـمُهرطِق. إنّ الكنيسة مِن خلال الآباء القدِّيسين، قد عَمَدت في القديم، إلى اللّجوء إلى الطّقوس، بهدف تربية المؤمنين وإرشادهم، أي أنّ تلك القوانين والطّقوس لم تكن تهدف يومًا إلى استعباد المؤمنين إنّما إلى تحريرهم مِن كلّ ما يمكن أن يُكبِّلهم. إنّ الإنسان لا يستطيع أن يتحرّر مِّما يُكبِّله مِن دون الاستعانة ببعض الطقوس والممارسات الّـتي تُساعِده في ذلك، والإنسان هو حرٌّ مِن كلّ شيء إلّا مِن الحبّ.
لقد استخدم كاتب هذه الرسالة عبارة “تحريض” في كلامه عن المحبّة. إنّ كلمة “تحريض” تُستَعمل غالبًا للدلالة على أمرٍ سلبيّ:كالتحريض على الكراهيّة والعنف أو القتل. إنَّ المحرِّض يستخدم كلّ ما أُعطِيَ من ذكاءٍ وطلاقة في الكلام للحثّ على الأعمال الشريرة. إنّ كاتب الرسالة يدفع المؤمنين إلى استخدام كلّ هذه الطاقات الموجودة في داخلهم لتحريض الآخرين على القيام بالأعمال الحسنة لا بالأعمال الشريرة. إذًا، فنحن مدّعوون إلى تشجيع بعضنا البعض على المحبّة لا على الكراهيّة والبُغض.كما استخدم الكاتب أيضًا عبارة “الوعظ”، الّـتي لا تعني الخطاب الكلاميّ كما هو متعارف عليه في كنائسنا، إنّما تعني “الحثّ والتعزيّة”، في اللّغة الأصليّة للكلمة. وبالتّالي فإنّ الوعظ لا يتمّ وجهًا لوجه مع الآخرين إنّما جَنبًا إلى جنبٍ. إنّ الوعظ الّذي يتمّ وجهًا لوجهٍ هو إرهابٌ كلاميّ يُمارَس مِن قِبَل الواعِظ على الموعوظ. إنّ الوعظ الحقيقيّ يتمّ جنبًا إلى جنبٍ مع الآخرين، فعندما يُعاين الموعوظ حبّ الواعظ له بطريقة حسيّة، ويتأكَّد مِن مصداقيّة حبّه، عندها سيحوَّل كلام الواعظ إلى كلامٍ يملؤه التعزية والسند للمؤمن. يتضمّن الوعظ إذًا، مفهوم التعزيّة والسند، أي أنّه على المؤمن أن يساند أخاه مِن خلال كلام التعزية وأن يحُثِّه على متابعة مسيرة الإيمان على الرّغم من كلّ صعوبات الحياة، وبخاصّة لأنّ يوم الربّ يقترِب، فكلّما اقترب يوم الربّ كلّما زادت الضرورة لحثّ الآخرين ومساندتهم.
هذا هو مفهوم الذبيحة عند المسيح، فالله لم يقدِّم ابنه انطلاقًا من المفهوم اليهوديّ للذبيحة، أي أنّ ذبيحة المسيح لم تكن تطبيقًا لطقوس وعاداتٍ يهوديّة، إنّما كانت تقدمته مجانيّة نابعة من الحبّ، بهدف خلاص الإنسان، ومساندته، وحثِّه على متابعة المسيرة. إذًا، على المؤمن أن يتمتّع بذهنيّة إعطاء الحياة للآخرين، لا بذهنيّة تطبيق الواجِبات الدينيّة والإجتماعيّة. إنّ عبارة “متمِّمًا واجباته الدّينيّة” الّـتي نقرأها على الأوراق الّتي تُعلن وفاة المؤمنين، تُشير بشكلٍ مؤكَّد إلى أنّ هذا المؤمن الّذي انتقل مِن بيننا قد نال سرّ العماد وسرّ الافخارستّيا، وانتمى بالتّالي إلى الكنيسة، فالربّ لا يطلب منّا إلّا الحبّ ولا يطلب أبدًا القيام بالواجبات الدينيّة. إنّ مياه المعموديّة وللأسف، ما تزال غير قادرة في الكثير مِن الأحيان على الدّخول إلى عقول المؤمنين وتغيير ذهنيّاتهم، على الرّغم من تطوّر الزّمن. إنّ الحلّ الّذي توصّل إليه الآباء القدِّيسون مِن أجل أن تُصبح المعموديّة فاعلة في حياة البشر، هو قراءة كلمة الله في أثناء الاحتفال الافخارستيّ، لأنّه ما مِن شيءٍ قادر على تغيير الذّهنيات القديمة عند البشر سوى كلمة الله. إذًا، إنّ المؤمن يُجدِّد معموديّته عندما يسمع كلمة الله ويتفاعل معها. في القدّاس الإلهيّ، يسمع المؤمن كلمة الله ويتفاعل معها، لذا يشترك في ختام القدّاس بمائدة الآب والابن والروح القدس مِن خلال المناولة الإلهيّة. في المعموديّة، يجعلك الله ابنًا له، ولذا تُصبِح أهلاً للجلوس على مائدته. إنّ أهليّة الجلوس على مائدة الآب لا تكون نتيجة مجهود الإنسان، إنّما عطيّة مجانيّة مِنَ الله له.
إذًا، إنّ ذبيحة المسيح على الصليب قد أبطلت كلّ مفهوم الذبائح القديمة، فلم يُعد المؤمن مُضطرًّا لتقديم ذبائح في سبيل الحصول على ما ينتظره من الربّ، لأنّ الربّ قد منَح الإنسان نعمةً إلهيّة لم تُمنَح للملائكة، وهي نعمة تناول جسد المسيح ودَمَه. إنّنا أعظم من الملائكة في نظر الربّ، لذا قال الكتاب في الإنسان إنّ الله كلَّله بالمجد والكرامة. إنّ الربّ قد أعطى الإنسان إكليل المجد والكرامة دُون الملائكة: فعلى الرّغم مِن أنّ الملائكة قد كَرَّسهم الله لتسبيحه ولتمجيده، غير أنّه قد أعطى إكليل المجد والكرامة للإنسان فقط على الرّغم من خيانة هذا الأخير لله عبر ارتكاب الخطايا الّـتي تُعبّر عن رفضِه لحبّ الله. إنّ الله قد جعل مِن الإنسان ابنًا له، لذا فهو ينسى إلى الأبد كلّ خطايا الإنسان، متى تاب عنها، من دُون أن يذكُرها له مِن بعد، كما وأنّه قد مَنَحه ما لم ترَه عينٌ ولم تسمع به أُذُنٌ، ذاك الّذي أعدَّه الله للّذين يُحبّونه منذ إنشاء العالم.
إنّ الإنسان يبادل الله كلّ هذا الحبّ فيُردِّد عبارة “آمين” في الاحتفال الافخارستيّ، أي في الذبيحة الإلهيّة. إنّ كلمة “آمين” في اللّغة اليونانيّة، تعني “حقًّا”، أي أنّها تُشير إلى موافقة الإنسان على ما تمَّ قولُه في السّابق. إذًا، لا فضل للإنسان في الموافقة على ما قام به الله مِن أجله، ويُعلِن عنه في الذبيحة الإلهيّة: فالله في هذا العهد الّذي أقامه بينه وبين الإنسان، يتحمَّل كلّ عواقب خيانة الإنسان ورفضِه لحبّه، ولا يتحمَّل الإنسان أي ضررٍ. إنّ كلّ بنود هذا العهد هي لصالح الإنسان لا الله، وبالتّالي على الإنسان عدم التكبُّر على الله.
إنّ الإنسان يقوم بتمزيق هذا العهد، بعد أن يكون قد وافق عليه مِن خلال ترداده عبارة “آمين”، في القدّاس، بالعودة إلى الخطيئة، وعندما تعود إلى الله، يسألك الله عن هذا العهد، فتلجأ إلى الكَذِب، والبكاء وبعض الأعمال التُقوِيَّة لطلب الغفران مِنه، فيقبل الله اعتذارَك هذا، ويعطيك صَكَّ غُفرانٍ جديد، وينسى كلّ ما فعلته أمامه من أخطاء، غير أنّ الإنسان لا يلبث أن يعود إلى الخطيئة مِن جديد، ويكرِّر توبته إلى الله مِن جديد، فيُسامِحه الله من جديد، وهكذا هي الحال إلى منتهى الدّهر مع الإنسان. في عودته كلّ مرّة إلى الخطايا، ينسى الإنسان كلّ عمل الحبّ الّذي قام به الله مِن أجله ولا يعود يذكره، فكيف يستطيع الإنسان الّذي ينسى كلّ ما قام به الله مِن أجله، أن يذكر الأعمال الحسنة الّتي يقوم بها إخوته البشر تجاهه؟ إنّ الإنسان الّذي لم يستطِع أن يفهم مدى عظمة رحمة الله له، لا يستطيع أبدًا أن يُعامِل الآخرين بالرّحمة.
إذًا، على المؤمن أن يُغيِّر مفهومه القديم للذبيحة، ويتبنّى مفهوم ذبيحة المسيح الّتي تمّت مرّة واحدة في التّاريخ، ولكنَّ مفعولها ما زال مستمرًّا في قلوب البشر، وسيبقى كذلك، إلى أن يجيء المسيح في اليوم الأخير ويمسح كلّ دمعةٍ مِن عيون البشر. فما على المؤمن إذًا، إلّا أن يقبل بذبيحة المسيح، ويعيشها في حياته اليوميّة، فيُعزّيه المسيح عند مجيئه الثّاني ويكون له السند في الحياة الأخيرة، فيمنحه الملكوت الأبديّ.
ملاحظة: دُوِّن الشرح بأمانةٍ مِن قِبَلِنا.