تفسير الكتاب المقدّس،
الأب ابراهيم سعد،
“رسالة بولس الرّسول إلى أهل رومية – الإصحاح الثامن”
النصّ الإنجيليّ:
“إِنَّ مَلْكِي صَادَقَ هذا، مَلِكَ سَالِيمَ، كاهنَ اللهِ العلّي، الّذي استَقبَلَ إبراهيمَ راجعًا مِن كَسْرَةِ الملوك وبارَكَه، قَسَمَ له إبراهيمُ عُشْرًا مِن كلِّ شيءٍ. الـمُتَرجَمُ أوَّلاً “مَلِكَ البِرِّ” ثُمَّ أيضًا “مَلِكَ ساليمَ” أي “مَلِكَ السَّلامِ” بِلا أبٍ، بلا أمٍّ، بِلا نَسَبٍ، لا بَدَاءَةَ أيّامٍ له ولا نِهايةَ حَياةٍ، بلْ هُوَ مُشبَّهٌ بابنِ اللهِ، هذا يبقى كاهنًا إلى الأبدِ. ثُمَّ انظُروا ما أعظَمَ هذا الّذي أَعطاهُ إبراهيمُ رئيسُ الآباءِ، عُشرًا أيضًا مِن رأسِ الغنائمِ! وأمّا الّذينَ هُمْ مِن بَني لاوي، الّذينَ يأخُذونَ الكَهنوتَ، فَلَهُم وَصيّةٌ أنْ يُعشِّروا الشَّعبَ بِمُقتضى النّاموسِ، أي إخوَتَهُم، مَعَ أنّهم قَد خرَجوا مِن صُلبِ إبراهيمَ وَلَكِنَّ الّذي لَيسَ له نَسَبٌ مِنهُم قَد عَشِّرَ إبراهيمَ، وباركَ الّذي له المواعيدُ! وَبِدُونِ كلِّ مُشاجرةٍ: الأصغَرُ يُبارَكُ مِن الأكبَر. وهُنا أُناسٌ مائِتونَ يأخُذونَ عُشْرًا، وأمّا هناكَ فالمشهودُ له بأنّه حيٌّ، حتّى أقولُ كلمةً: إنَّ لاوي الآخِذَ الأعشارَ قد عُشِّر بإبراهيمَ، لأنّه كانَ بَعدُ في صُلبِ أبيهِ حينَ استقبَلَهُ مَلكِي صادَقَ. فَلَوْ كانَ بالكهنوتُ اللّاويِّ كمالٌ، إذ الشَّعبُ أخَذَ النّاموسَ علَيهِ، ماذا كانتِ الحاجةُ بَعدُ إلى أنْ يَقومَ كاهِنٌ آخرُ على رُتبَةِ مَلْكِي صَادَقَ؟ ولا يُقالُ على رُتبَةِ هارونَ. لأنّه إنْ تَغيِّرَ الكهنوتُ، فبالضَّرورةِ يَصيرُ تَغَيُّرٌ للنّاموسِ أيضًا. لأنّ الّذي يُقالُ عنه هذا كانَ شريكًا في سبطٍ آخرَ لَمْ يُلازِمْ أحدٌ مِنهُ الـمَذبحَ. فإنّه واضِحٌ أنَّ ربَّنا قَدْ طَلَعَ مِن سِبطِ يَهُوذا، الّذي لم يتكلَّم عنه موسى شيئًا مِن جِهةِ الكهنوتِ. وذلك أكثرُ وُضوحًا أيضًا إنْ كانَ على شِبهِ مَلْكِي صَادَقَ يَقومُ كاهِنٌ آخرُ، قَدْ صارَ ليسَ بِحَسَبِ ناموسِ وصيّةٍ جسديّةٍ، بَل بِحَسَبِ قوَّةِ حياةٍ لا تَزولُ. لأنّه يَشهَدُ أنَّكَ: “كاهِنٌ إلى الأبدِ على رُتبَةِ مَلْكِي صادَق”. فإنّه يَصيرُ إبطالُ الوَصيَّةِ السَّابقةِ مِن أجلِ ضَعفِها وعدمِ نَفعِها، إذ النّاموسُ لم يُكمِّلْ شيئًا. ولكنْ يَصيرُ إدخالُ رجاءٍ أفضَلَ به نَقتَرِبُ إلى اللهِ. وعلى قَدرِ ما إنَّهُ ليسَ بِدونِ قَسَمٍ، لأنَّ أُولئِكَ بِدونِ قَسَمٍ قَد صاروا كهنةً، وأمّا هذا فَبِقسَمٍ مِنَ القائلِ لهُ: “أَقسَم الربُّ ولن يَندَمَ، أنتَ كاهِنٌ إلى الأبدِ على رُتبةِ مَلكِي صادَق”. على قدرِ ذلك قَد صار يسوعُ ضامِنًا لِعهدٍ أفضَلَ. وَأُولئِكَ قَد صاروا كهنةً كثيرينَ مِن أجلِ مَنعِهِمْ بالموتِ عَنِ البقاءِ، وأمّا هذا فَمِن أجلِ أنّه يبقى إلى الأبدِ، له كهنوتٌ لا يزولُ. فَمِنْ ثَمَّ يَقدِرُ أنْ يُخلِّصَ أيضًا إلى التَّمامِ الّذينَ يتَقدَّمونَ به إلى الله، إذ هو حَيٌّ في كلِّ حينٍ لِيَشفعَ فيهم. لأنّه كانَ يَليقُ بِنا رئيسُ كهنةٍ مِثلُ هذا، قُدُّوسٌ بِلا شَرّ ولا دَنَسٍ، قد انفصلَ عنِ الخطأةِ وصارَ أعلى مِنَ السَّماواتِ، الّذي ليسَ له اضطرارٌ كلَّ يومٍ مِثلُ رؤساءِ الكهنةِ أنْ يُقدِّمَ ذبائِحَ أوَّلاً عنْ خطايا نفسِهِ ثُمَّ عَنْ خطايا الشَّعبِ، لأنّهُ فَعَلَ هذا مرّةَ واحِدَةً، إذ قَدَّمَ نفسَهُ. فإنَّ النّاموسَ يُقيمُ أُناسًا بِهِمْ ضَعف رؤساءَ كهنةٍ. وأمّا كلمةُ القَسَمِ الّتي بَعدَ النَّاموسِ فَتُقيمُ ابنًا مُكَمَّلاً إلى الأبدِ”.
شرح النّص الإنجيليّ:
إنّ كاتب الرسالة يُقارن بين كهنوت المسيح، وكهنوت العهد القديم. إنّ كهنة الشعب اليهوديّ، هم كهنة مِن قبيلةٍ كهنوتيّةٍ واحدة هي سبط لاويّ، وقد فُرِزَ هذا السِّبط مِن أجل خدمة الهيكل وخِدمة الذبائح. يُعيَّن الكاهن اليهوديّ ويُختار مِن قِبَل الشَّعب مِن دون وجود قَسَمٍ إلهيّ، ويُقدِّم الذبائح عن خطاياه وعن خطايا الشّعب، فينتهي كهنوته، بانتهائه مِن تأدية ما يَفرِضُه عليه الكهنوت اليهوديّ. إنّ الكاهن يُختار مِن سلالة معروفة مِن الشَّعِب، وبالتّالي فالكاهن اليهوديّ هو معروف النَسب أي أنّ أمَّه وأباه معروفَان مِن الشَّعِب. أمّا كهنوت المسيح، فَيُشبِه كهنوت “مَلكِي صادَق”، ذاك الّذي تَمَّ ذِكره في العهد القديم مِن دونَ أنْ يتمّ ذِكرَ سلالته، فهذا الكاهن لا ينتمي إلى سلالة لاوي كما هي حال الكهنوت اليهوديّ، إذ كان قَبلَ الكهنوت اللّاويّ. ولكن ما يُثير الاستغراب هو أنّ ابراهيم، أبا المؤمنين، قد أدّى له الخضوع، وقدَّم له العُشورَ، والأكثر غرابةً هو أنّ الكهنوت اللّاوي جاء مِن صُلبِ ابراهيم. إنّ ابراهيم قدَّم لهذا الكاهن، المجهول النَسَب والتّاريخ، عِشرَ الغنائم، حين عاد منتصرًا مِن حربه على الملوك. إذًا، إنّ كاتب الرسالة يُقارن ما بين كهنوت المسيح وكهنوت لاويّ، فيقول إنّ كهنوت المسيح هو على رُتبَة “ملكي صادق”، أي أنّ لا سلالة كهنوتيّة له، ولكنّ كهنوت المسيح يتميَّز مِن كهنوت “ملكي صادق”، بالقَسَم الإلهيّ الّذي ناله المسيح من الله الآب. إنّ القَسَم الإلهيّ يُعطي فرادة لكهنوت المسيح، ويجعل مِن كهنوته، كهنوتًا لا مَثيل له. إنّ مهمّة الكاهن اليهوديّ تقوم على تقديم الذبائح تكفيرًا عن خطاياه وخطايا الشعب، أمّا المسيح فَهو الكاهن الوحيد الّذي لا خطايا له، وبالتّالي لم يقدِّم الذبائح تكفيرًا عن خطاياه، بل قدَّم ذاته ذبيحةً لأجل البشر ولأجل خلاصهم. في كلامه عن المسيح الكاهن، استخدم كاتب هذه الرسالة عبارة “قدَّم نفسه” عِوضَ عبارة “قدَّم ذبيحةً عن”، ليُشير إلى أنّ اليهود لم يتمكّنوا مِن خلال الذبائح الّتي قدّموها لله وِفقًا للنّاموس مِنَ الوصول إلى غاية النّاموس ألا وهي الكمال. وأضاف الكاتب قائلاً إنّ المسيح هو الضّامن لعهد الله القائم على مَنح الله الخلاص لشعبه، وقد تحقَّق هذا العهد بالمسيح يسوع.
إنّ ابراهيم وسارة حاولا أن يجدا طريقةً بشريّة يُحقِّقان بها ما وَعَدَهُما به الله أي بإعطائهما ولدًا مِن صُلبِ ابراهيم، فاختارا هاجر وسيلةً لتحقيق هذا الوعد، غير أنّ وَعْدَ الله لهما لم يتحقّق مِن خلال “اسماعيل”، ابن ابراهيم مِن هاجر، بل تَحَقَّقَ مِن خلال اسحق، ابن الوعد، ابن ابراهيم وسارة. لقد سُميّ هذا الطفل “اسحق”، كما طلب الملاك. إنّ تفسير اسم “اسحق” هو”اضحك”، إذ إنّ والدته سارة قد ضَحِكَت حين سمِعَت كلامَ الملاك الّذي أعلن البشارة لابراهيم بتحقيق وعْدِ الله له، وحصوله على ابنٍ مِن زوجته سارة. عند ولادة اسحق، أصبح لابراهيم وريثًا مِن صُلبِه. وبعد فترةٍ من الزّمن على ولادة اسحق، طلب الله من ابراهيم، أن يُقدِّم له ابنه الوحيد اسحق ذبيحةً، هذا الولد الّذي به تحقّقت كلّ آمال ابراهيم المنتظرة منذ زمنٍ بعيد، كما أصبح هذا الولد وسيلةً يُخلِّد ابراهيم من خلالها اسمه في التّاريخ. لقد سبَّبَ طلب الله هذا لابراهيم ألـمًا عظيمًا. إنّ ابراهيم قد شعر بالألم للمرّة الأولى، حين طلب منه الله أن يترك أرضه وعشيرته، وكلّ ممتلكاته، ويذهب إلى الأرض الّتي سيريه إيّاها. غير أنّ ابراهيم قد وَضَعَ ثقته في الله وآمن به، لذا ترَكَ كلّ ضماناته الأرضيّة مِن أرضٍ وعشيرةٍ وممتلكات، وجعلَ اللهَ ضمانتَه الوحيدة. آمن ابراهيم بالله مِن دون أن يُقدِّم له الله أيّ برهانٍ أو تأكيدٍ على وعوده له. أمّا في المرّة الثانية، فَقَدْ طلب الله مِن ابراهيم أن يُقدِّم له اسحق ابنه ذبيحةً، ذاك الولد الّذي أعطاه إيّاه الله في شيخوخته بعد سنوات من الانتظار، ذاك الولد الّذي يُشكِّل اليوم ضمانة ابراهيم الأرضيّة واستمرايته في هذه الحياة، كما ويُشكِّل وَسيلَتَه لتخليد اسمه. إنّ ابراهيم قد بَرهَنَ عن إيمانٍ عظيمٍ بالله، إذ على الرّغم من تألُمِّه نتيجة هذا الطلب، صعِدَ إلى الجبل ليُقدِّم ابنه ذبيحةً كما أمَرَه الله. غير أنّ الله قد رفض هذه التقدمة، فأعطى الله ابراهيم كِبشًا على الجبل ليُقدِّمه له محرقةً بدلاً مِن وحيده. إنّ الله يُعلِّمنا أنَّ البشريّة لن تَخلُصَ حتّى وإن قدَّم ابراهيم ابنه الوحيد اسحق ذبيحة، فالخلاص سيتمّ من خلال تقديم آبٍ ابنَه الوحيد ذبيحةً، لذا قدَّم الله ابنه الوحيد ذبيحة عن البشر، فمنحهم به الخلاص الموعود. إنّ ذبيحة الله هذه مختلفةٌ عن ذبائح البشريّة: فَمَفهوم “الابن الوحيد” عند الله مُختلفٌ عن مفهوم البشر له. في نشيد “عَبْد يَهوَه” في سِفر أشعيا، نقرأ العبارة “قدَّم نفسه ذبيحة”: لقد فَهِم المؤمنون هذه العبارةَ بطريقةٍ خاطئة، إذ فسَّروها على أنَّ المسيح قدَّم نفسَه ذبيحةً، أي أنّ المسيح هو المقُدِّم والمقدَّم، غير أنّ النّص الأساسيّ يقصد بتلك العبارة أنّ الله سيُقدِّم ابنه أي المسيح، ذبيحةً عن البشر، وبالتّالي فإنّ مُقدِّم الذبيحة هو الله، والذبيحة هي المسيح.
إنّ كلمة “كاهن” تفترِض بالضرورةِ وجودَ ذبيحةٍ يُقرِّبها لله. إنّ “ملكي صادق” هو كاهن الله، ولكنّ لا سلالة كهنوتيّة له. أمّا الكهنوت اللّاوي فهو ذو سلالة كهنوتيّة، إذ إنّ هارون، أخا النبيّ موسى، كان أوّل كاهن في الشعب اليهوديّ، ومِن سلالته جاء لاويّ، لذا يجب أن يُقال في الكهنوت اليهوديّ إنّه على رُتبَة هارون لا على رُتبة لاويّ. إنّ “ملكي صادق” هو كاهنٌ غريب عن الشعب اليهوديّ إذ لا يأتي ضمن تلك السّلالة الكهنوتيّة اليهوديّة المعروفة، وفي هذا الأمر تَكمُن فرادتُهُ عن الكهنة اليهود اللّاويين. إذًا، أراد كاتب هذه الرسالة أن يُخبرنا أنّ كهنوت المسيح هو كهنوتٌ غريب عن الشعب اليهوديّ، إذ لا يأتي ضمن سلالة لاويّ الكهنوتيّة، فكهنوت المسيح هو ثمرة قَسَمٍ إلهيّ. إذًا، إنّ الذبيحة الّـتي يُقدِّمها المسيح هي ذبيحةٌ مختلفة عن الذبائح البشريّة إذ إنّها فريدة في نوعها لأنّ المسيح أصبحَ مُقرِّب الذبيحة والذبيحة في آنٍ، وهي وحيدة إذ قُدِّمت مرّة واحدة وللأبد. إنّ الكاهن يُقدِّم الذبيحة عن خطاياه وعن خطايا البشر لله، أمّا المسيح فقَد قدَّم نفسَه ذبيحةً عن البشر، طاعةً لأبيه، وبالتّالي أصبح المسيح هو حامل الذبيحة وموزِّعها، هو المقرِّب وهو المقرَّب. إنّ المسيح هو الكاهن الوحيد ولا يوجد كاهنٌ آخر سواه، وهذا ما يقوله لنا العهد الجديد. هذا هو جوهر كهنوت المسيح: إنّ المسيح هو الكاهن الوحيد، وفي الوقت نفسه الذبيحة الوحيدة.
لقد أَبطَلَ كهنوت المسيح، الكهنوت اللاويّ القديم، إذ لم يعد لهذا الأخير أيّ فائدة، وبالتّالي لم يَعُد جائزًا لليهوديّ الّذي يَوَدُّ اتبّاع المسيح، المحافظة على الكهنوت القديم مع قبوله للمسيح ككاهن أعظم. غير أنّ اليهود المرتدّين إلى المسيحيّة قد أبقوا على هذا المزيج بين كهنوت المسيح والكهنوت القديم، وقد شكَّل ذلك مشكلة كبيرة في الكنيسة الأولى. لم يتمكّن المؤمنون مِنَ الوصول إلى الكمال بواسطة الكهنوت اللّاوي، لذا بَرزَتْ الحاجة إلى كهنوتٍ آخر على رُتبة ملكي صادق، لا على رتبة هارون، لِمساعدة المؤمنين مِن أجل الوصول إلى الكمال. لقد كان صعبًا على اليهود الّذين تَرَبَّوْا على كهنوت لاوي التخلّي عنه، بعد ارتدادهم إلى المسيحيّة. ولكننّا نحن اليوم أيضًا، وبعد مجيء المسيح الكاهن العظيم ما زِلْنا ننظُرُ إلى الكهنوت نظرة يهوديّة، إذ جعلنا مِن الكاهن إنسانًا يَفوق البشر مرتبةً ونوعيّة. إنّ مهمّة الكاهن المسيحيّ، تقوم على خدمة هذا السرّ وتقديم الذبيحة للكاهن الوحيد يسوع المسيح، وبالتّالي فإنّ الكاهن هو مُقيم السرّ وخادمُه فقط، لا صاحبُ الذبيحة ومقدِّمها. هناك اعتقاد خاطئ في الأوساط المسيحيّة، بأنّه في كلّ ذبيحة إلهيّة يتمّ تقريب ذبيحة جديدة لله، وبأنّ الكهنة يُقدِّمونها، غير أنّه في الحقيقة لا ذبيحة أُخرى تُقدَّم سوى ذبيحة المسيح على الصّليب، ولا كاهن سوى الكاهن الأعظم يسوع المسيح. إنّ الكنيسة لا تعيش كهنوتها وِفق النمط اليهوديّ أبدًا، غير أنّ هذا الاعتقاد الخاطئ أدّى إلى سوء فَهمٍ من الآخرين لمفهوم الكهنوت في الكنيسة.
في كلّ أحدٍ، أي في كلّ احتفالٍ افخارستيّ، يقوم الكاهن المسيحيّ بتقديم ذبيحة المسيح على الصّليب للكاهن الوحيد يسوع المسيح، أي أنّ المسيح هو الذبيحة وَهوَ الكاهن أيضًا. ولذا فالسؤال الّذي يُطرَح علينا اليوم، هو: ما هي وظيفة الكاهن البشريّ، إن لم يكن هو الكاهن إذ لا كاهن سوى المسيح؛ ولا هو مقُدِّم للذبائح، إذ لا ذبيحة سوى ذبيحة يسوع المسيح على الصّليب، وهي ذبيحة وحيدة أبديّة؟ إنّ الكاهن هو أحد أفراد شعب الله، وهو لا يَفوقهم لا مَرتبة ولا نوعيّة، وهو يتقبّل كالآخرين ذبيحةَ يسوع المسيح، غير أنّه يتقدَّم إخوته البشر في خدمة هذا السِّر. إنّ الذبيحة التّي نحتفل بها في كلّ قدّاس، هي ذبيحة ناطقة لا دمويّة: فالذبيحة الدّمويةّ تمّت مرّة واحدة في التّاريخ بموت المسيح على الصّليب؛ أمّا ذبيحَتُنا اليوم فَهِي ناطقة، إذ إنّنا ننطق في كلّ احتفال افخارستيّ بعمل المسيح الخلاصيّ الّذي تمّ على الصّليب، والّذي ما زال مستمِّرًا إلى الآن.
لا يكون تقبيل يد الكاهن لاعتباره ممثِّلَ المسيح على الأرض، بل يكون ذلك تعبيرًا عن شكرٍ مِن المؤمِن له على قبوله لِحَملِ القدُّوس بين يديه. إنّ المؤمِن يُقبِّل يد الكاهن لأنّه يرى فيه أيقونةَ المسيح، ذلك الكاهن العظيم والوحيد، وبالتّالي نحن نُقبِّل يدَ الكاهن كَمَن يُقبِّل أيقونة المسيح يسوع. عندما نقبِّل الأيقونة، فنحن لا نقبِّل الخشبة أو اللّوحة، بل نقبِّل صاحب الرّسم، أي المسيح أو القدِّيس المعنيّ بالأيقونة. إخوتي، إنّنا لا نعبد الأيقونة، بل نُكرِّمها. وبالتّالي فإنّ إجلال الكاهن وتقبيل يده، نابعٌ مِن احترامنا واعتبارنا له أنّه أيقونة المسيح الّتي يجب تكريمها على الدّوام. وكما أنّ بعض التّشوهات في الأيقونة بسبب عامل الزّمن، لا يُقلِّل من إكرام المؤمِن لها؛ كذلك هي حال الكاهن، فإنّه على الرّغم من ضعفه البشريّ الّذي يكون ظاهرًا في بعض الأحيان، يبقى أيقونة المسيح، لذا يحقّ له الإكرام مِن قِبَل المؤمنين. إنّ كاتب هذه الرسالة يوضِح للعبرانيين المفهوم الصحيح لكهنوت المسيح كي لا يمزِجوا بعد الآن ما بين الكهنوت اليهوديّ وكهنوت المسيح، فيَنزَعوا مِن أفكارِهم صورة الكاهن الوَصيّ عليهم أو الوكيل عليهم، الّذي يحقّ له إدانتهم على أعمالهم ومسلكيّاتهم. إنّ الكاهن هو ضِمن قطيع خراف المسيح، الّتي يرعاها مُساويًا فيما بينها. إذًا، في الكهنوت المسيحيّ، لا يحقّ للكاهن أن يدِين الآخرين، كما أنّه لا يفوق المؤمنين مرتَبةً أو قيمةً، إذ إنّ الكاهن هو خادم السرّ، مِن دون أن يتمتّع بامتيازات أخرى عن إخوته المؤمنين.
إنّ العقيدة اللّاهوتيّة والإيمانيّة صالحةٌ للعيش والتطبيق، فالإيمان ليس أفكارًا فلسفيّةً إنّما هو حياة يوميّة مُعاشة مع الآخرين. وإليكم مثالٌ على عقيدة الصّعود، وكيفيّة تطبيقها في حياة المؤمنين اليوميّة: إنّ المسيح صعِدَ إلى السّماء بجسده، وقد جلس عن يمين الله الآب، وبالتّالي فإنّ هذه العقيدة تدفعنا إلى النّظر إلى إخوتنا البشر نظرة احترام وتقدير لأنّهم صورة عن المسيح الموجود في السّماء بجسده، وبالتّالي لا يجب علينا التعامل مع الآخرين بفَوقيّة أو بكراهيّة أو بالتقليل مِن قيمتهم باعتبارهم غير موجودين: وهكذا تتحوَّل تلك العقيدة إلى حياة. وإليكم مثالٌ آخر عن عقيدة الثالوث وكيفيّة عيشها: على كلّ مؤمِن بعقيدة الثالوث، أن يُحبّ الآخرين. إنّ الذهنيّة اليهوديّة تقوم على إبقاء اللّاهوت على مستوى الأفكار مِن دون تحويله إلى حياة مُعاشة، وهذا ما على المؤمن المسيحيّ أن يتحاشاه. إنّ عبارة “متمِّمًا واجباته الدينيّة”، التي نقرأها على الأوراق الّتي تُعلن وفاة المؤمنين، تُشير إلى الّذهنيّة اليهوديّة المزروعة في نفوس المؤمنين، لأنّ المقصود بتلك العبارة أنّ هذا المؤمِن الّذي رحل عنّا قد قام بكلّ ما تأمُر به الشَّريعة. إنّ اليهود كانوا يقومون بكلّ ما تأمر به الشَّريعة مِن تقدمة ذبائح وأمور أُخرى، في داخل الهيكل؛ أمّا في خارجه، فكانت لهم حياتهم الخاصّة الّتي لا تمُّت إلى إيمانهم بِصِلَة، فيرتكبون القبائح، وكلّ ما يتوافق ورغباتهم الدنيويّة.
إنّ هذه الحياة الـمُزدوِجة الّتي كان يعيشها اليهود، هي إنفصامٌ روحيّ: إذ كانوا يقدِّمون الذبائح والبخور في الهيكل، غير أنّ الرّحمة والعدل والمحبة الّتي يطلبها منهم الربّ فقد كانت بعيدة كلّ البُعِد عن حياتهم اليوميّة. لذا رفض الله كلّ ذبائحهم، وقررّ أن يسكن خارج الهيكل، وجعل مسكنَه في الآخر المهمَّش والمتروك، وبالتّالي فقد أصبح الهيكل فارغًا مِنَ الله، لأنّ الطريق أصبح هيكلاً، أي أنّ الهيكل قد أصبح معبدًا وثنيًّا لا يسكن الله فيه. لقد جعل الله مِنَ الطريق هيكله، لأنّ المؤمنين قد تناسوا الأرمل واليتيم والمهمَّش والمتروك، وفقدوا الرّحمة والعدل مِن قلوبهم. إذًا، إنّ العبادة الحقيقيّة لله تكون مِن خلال مساعدة الآخر المحتاج لا في الذبائح والتقادم في الهيكل، إذ إنَّ هذه الأخيرة لا جدوى منها. في البدء، كان الله يسعى إلى تربية المؤمنين مِن خلال طلبه منهم تقديم الذبائح له، فتكون تلك الذبائح وسيلةً كي يُدرِّبهم على سماع كلمته، غير أنّ تلك الوسيلة باءت بالفَشَل، فالشَّعب لم يتمكّن مِن فَهم كلمة الله مِن خلال التقادم الّـتي يطلبها منهم، لذا رفض الله كلّ تقادِمهم، لأنّه يُريد منهم أن يُعاملوا الآخرين بالرّحمة والعدل. إنّه لأسهل على المؤمنين تنفيذ بعض الواجبات الديّنية المحدّدة، مِن أن تكون واجباتهم الدينيّة شاملة غير محدّدة وتطال حياتهم اليوميّة بأسرها متخطّية جدار الهيكل. إذًا، إنّ كهنوت المسيح غير محصور بأشخاص ولا بمبانٍ حجريّة. إنّ هيكل الله لم يَعُد ذلك البِناء الحجريّ الّذي يأتيه المؤمنون للصّلاة ولتقديم الذبائح، بل أصبح كلّ مهمَّش ومتروك خارج الهيكل، هيكلَ الله الجديد. لقد قام الله باستبدال الشِّريعة اليهوديّة القديمة بشريعة الحبّ، فقانون الحبّ هو قانون لا يُحدِّد الواجبات الدّينيّة المطلوبة مِنَ المؤمن، إذ يترك للمؤمن الحريّة في اختيار أعمال الحبّ الّتي ينوي القيام بها، مع تحمُّله المسؤوليّة الكاملة في كلّ تلك الأعمال.
إذًا، إنّ المسيح هو الكاهن وهو أيضًا الذبيحة، وبالتّالي لا دور للكاهن في الذبيحة أي أنّه ليس هو صانعها أو مُقدِّمها، فدور المؤمن هو أن يتقبَّل ذبيحة الله هذه. إنّ المناولة، بالشكل المتعارف عليه في الكنيسة الكاثوليكيّة وكذلك في الكنيسة الأرثوذكسيّة، تؤكِّد على أنَّ لا دور للمؤمن في تلك الذبيحة، إذ يحصل المؤمن على جسد المسيح مِن دون أن يُمسِك بها، فهو يتناول عبر فَتْحِ فمه أمام الكاهن ليحصل على عطيّة الله له، الّـتي هي جسد الربّ ودمِه. أمّا الخدمة الكهنوتيّة، فهي تَفرِض على الكاهن أن يُمسِك بجسد المسيح، غير أنّ تلك الخدمة هي كالسَّيف الموضوع على عُنقِ الكاهن، لأنّ الله سيُحاسِبُه في يوم الدّينونة، على تلك الوديعة الّـتي كانت بين يديه. إذًا، فالخدمة الكهنوتيّة ليس ترفًا وامتيازًا للكاهن، بل هي دينونة له. إنّ المؤمِن يحصل على جسد الربّ ودمِه في الاحتفال الافخارستيّ، مِن دون أيّ مجهود بشريّ إذ ليس على المؤمن إلاّ أن يتقرَّب مِن سرّ الافخارستيّا وَيَفتَح فمه ليحصل على تلك العطيّة الإلهيّة. إنّ تلك العطيّة الإلهيّة تَمنَح المؤمن الّذي يحصل عليها كلّ نتائج العمل الخلاصيّ الّذي قام به المسيح لأجل البشر، لذا يفرح المؤمن ويتعزّى قلبه، وينال السّلام الداخليّ، فيخرج مِنَ الكنيسة إنسانًا إلهيًّا، إنسانًا قياميًّا.
على المؤمِن أن ينظر إلى المؤمنين بعد الاحتفال بالقدَّاس الإلهيّ، على أنّهم أيقونات إلهيّة لا بشر، لأنّ عدم وجود تلك النّظرة عند المؤمن يُشكِّل تشكيكًا في كلام المسيح، واعتباره كلامًا باطِلاً؛ فالمؤمن الّذي لا ينظر إلى البشر إخوته على أنّهم أيقونات إلهيّة، فإنّه بهذا الفعل يعود إلى ذهنيّة الكهنوت اللّاوي، أي إلى العبادة اليهوديّة الّـتي تقتصر على العبادة لله في داخل الهيكل فقط. إنّ العبادة لله لا تقتصر على عبادته داخل الهيكل، بل تمتدّ إلى خارج الهيكل، وبالتّالي على المؤمِن أن يرى في المؤمنين أيقونات تعكس وجه يسوع لا بشرًا مائتين خاطئين فقط. لذا يلجأ المؤمن إلى تحريف كلام الله، فمثلاً، حين قال المسيح “أعطوا ما لقيصر لقيصر، وما لله لله”، لم يقصد بها أن يكون للمؤمن ازدواجيّة في حياته، أي أن يعيش عبادته في الهيكل بطريقة مخالفة لما يعيشه في خارج الهيكل. إنّ هذه الآية لم تكن وصيّة مِنَ الله للمؤمنين، بل كانت جواب يسوع على سؤال اليهود المتدَّينِين له الّذين أرادوا إحراجه، بعد أن كانوا قد قاموا بترتيب الأمور الخاصّة بالقيصر، والأخرى الخاصّة بالهيكل. إنّ هذه الآية إذًا، ليست عبارة عن إرشاد روحيّ من يسوع للمؤمنين، إنّما هي عبارة عن فضيحته لأولئك اليهود، الّذين خجلوا من أنفسهم، لذا غادروا المكان حيث كان يسوع موجودًا مُطأطَئي الرأس، إذ لم يتمكّنوا مِنَ الرّد على جواب يسوع أو النّظر إليه. إنّ فرَحنَا في هذه الآية يجب أن يُتَرجَم في أعمالنا، فنتصرّف مع البشر كما يتصرّف الله معنا، ونكون مع الله كما مع البشر. إنّ الخطورة تكمن في عدم تصرُّف المؤمِن كذلك، لأنّه في تصرُّفه بالطريقة المعاكسة يدلّ على عدم إدراكه لجوهر كهنوت المسيح.
لقد نشَأَتْ في الكنيسة، نتيجة عدم إدراك المؤمنين لجوهر كهنوت المسيح، بعض العادات الّتي لا علاقة لها بالعقائد الإيمانيّة، مثل مَنعِ المرأة مِنَ الدّخول إلى قُدس الأقداس. إنّ “الإيقونوستاز” الموجود في الكنيسة الشرقيّة الأرثوذكسيّة، هو عبارة عن أيقونات موضوعة على حائط يَفصِل ما بين الشَّعب والمائدة الإلهيّة. إنّ هذا الفاصل بين الشَّعب والكاهن قد تمّ وَضْعُهُ كرَدٍّ مِنَ المؤمنين على الهرطقة الّتي كانت تنادي بعدم إكرام الأيقونة، لأنّ في إكرامِها عبادةٌ للأوثان. لقد أراد المؤمنون وَضْعَ “الأيقونستاز”، كتعبيرٍ منهم عن إكرامِهم للأيقونة، وللقول لأتباع تلك الهرطقة إنّ المؤمنين لا يعبدون الأيقونة إنّما يُكرِّمون صاحبها. إنّ “الإيقونوستاز” يُسّمى حامل الأيقونات، وهو ليس بحائطٍ فاصلٍ بين الشَّعب والمائدة، ويُمكن إزالته بعد زوال تلك الهرطقة. إنّ المسيح، بمجيئه إلى أرضنا، قد هدم الحائط الّذي يفصل بين النّاس فلم يَعُد هناك من يهوديّ وغير يهوديّ، إذ أصبحنا جميعًا أبناءً لله، وبالتّالي لم يَعُد هناك مِن قدس أقداس في الهيكل. إنّ المسيح قد قدَّس المكان والزّمان بمجيئه، وبالتّالي لم يَعُد مِن مكانٍ مُقدَّس، إذ أصبحت كلّ الأماكن مقدّسة، فهيكل الله لم يَعُد ذلك البناء الحجريّ، إنّما أصبحَتْ قلوبُ البشر مَسكِنَه.
في القرون الأولى للمسيحيّة، كانت الكنائس عبارة عن مائدة يتجمّع المؤمنون حولها بشكلٍ دائريّ للصّلاة والاحتفال بالقدّاس الإلهيّ. إنّ هذا الشكل الهندسيّ للكنيسة كان يعبِّر عن إيمان المؤمنين بأنّ المسيح يتوسّط شعبه المؤمن، وأنّه هو الكاهن وهو الذبيحة. في الكنيسة الغربيّة، يقف خادم سرّ الكهنوت، خلف المائدة ووجهه إلى الشعب، وفي ذلك يتميَّز مِن إخوته المؤمنين؛ غير أنّ الكاهن في الكنيسة الشرقيّة، يقف أمام المائدة، كما يقف الشَّعب، ونَظَرُهُ موَجَّهٌ صوب المائدة مُديرًا ظهره للشَّعب، وبالتّالي يُدرِك الكاهن أنّه لا يتميَّز مِن باقي المؤمنين بشيء، سوى أنّه يترأس الصّلاة إذ إنّه خادم هذا السّر. على الكاهن أن يُدرِك أنّه مِن نوعيّة البشر، وأنّه خادم للسرّ وليس الكاهن، لأنّه ما مِن كاهِن آخر سوى يسوع المسيح. إنّ كلّ الصّلوات الطقسيّة الّتـي تتلى في الكنائس تتوجّه مباشرة إلى الله الآب، غير أنّها تَذكُر في الوقت نفسه المسيح، فهو الوسيط الوحيد ما بين الله والبشر، إنّه الباب الّذي ندخل بواسطته إلى الله، وهو “شفيعنا” بحسب تعبير كاتب هذه الرسالة.
إنّ كهنوت المسيح لا يختلف فقط عن الكهنوت اللاويّ، إنّما هو كهنوتٌ لا مثيل له، لكي تصّح مقارنته. إنّ الكهنوت اللاويّ، يخدمه كاهنٌ مِن الشَّعب، خاطئٌ مثل الباقين، وهو يُقدِّم الذبيحة لله، عن خطاياه وخطايا الشَّعب، طالبًا الرّحمة والمسامحة مِنَ الله، له وللآخرين. أمّا كهنوت المسيح فهو يقوم على المسيح الكاهن الوحيد، ذاك الكاهن الّذي لا عيب فيه، ويُقدِّم نفسه ذبيحةً لا عيب فيها، من أجل شعبٍ مليء بالعيوب والخطايا، فيتطهّر الشعب بواسطة هذه الذبيحة أمام الله. إنّ شعب الله، سيبقى شعبًا ضعيفًا مُعرَّضًا للسقوط في الأخطاء، فذبيحة المسيح لا تُغيِّر طبيعتنا الإنسانيّة بل تجعلنا أطهارًا في نَظَرِ الله، إن قَبِلنا بتلك الذبيحة. إنّ الله، أبا يسوع المسيح، هو الوحيد الّذي يستطيع أن يُطهِّرنا ويجعلنا أنقياء، بواسطة ذبيحة ابنه يسوع المسيح، الكاهن والذبيح في آنٍ، فالمسيح بحسب التعبير اللّيتورجيّ، هو الحمل المذبوح.
إنّ القدّاس هو عمل ليتورجيّ لا عمل طقسيّ. غالبًا ما نستخدم في تعابيرنا اليوميّة في استعدادنا للقدّاس، مِثل “إنّنا ذاهبون للمشاركة في القدّاس أو ذاهبون للتحضير للقدّاس”. إنّ هذه التعابير هي خاطئة تمامًا لأنّ الذبيحة لا تحتاج إلى مشاركتنا فيها، فالمسيح الكاهن قد أتمّ تلك الذبيحة الدّموية على الصّليب، ولا يمكننا اعتبار مشاركتنا في إنشاد بعض التراتيل، أو تردادنا لبعض العبارات، بمثابة مشاركة لنا في العمل الخلاصيّ. إنّنا لا نشارك في الذبيحة الإلهيّة، إنّما نتلقَّى تلك العطيّة مِنَ العاطي، غير أنّنا نشارك الله في وليمته كأنّنا أصحاب الدّعوة لا كأنّنا مدّعوون إليها. غير أنّ الذهنيّة اليهوديّة ما زالت حاضرة في أذهاننا: لذا، نشعر بالغضب مِن الآخرين في أثناء اقترابنا للمناولة، كما أنّ نظراتنا للآخرين تبقى في الكثير مِنَ الأحيان نظرات إدانة لهم، إذ نعتقد أنّنا نحن شعب الله دون سِوانا مِنَ البشر. لا أحدَ مِن البشر يستحقّ تلك العطيّة الإلهيّة الّـتي يحصل عليها في المناولة أثناء القدَّاس، لذا لا يحقّ لنا أن ندين الآخرين بنظراتنا لهم، فحصولنا على تلك العطيّة هي نتيجة رحمة الله الّـتي يَفيضُها علينا باستمرار. وبالتّالي، فإنّ السؤال الّذي يُطرح علينا: هل نحن مستعدّون لقبول عطيّة الله تلك؟ إنّ السؤال إذًا، لا يتمحوَر حول استحقاقنا لتلك العطيّة إنّما حول استعدادنا لقبولها.
إنّ القدّاس بالنسبة للبعض، هو عبارة عن مجموعة حركات، إضافةً إلى مجموعة تراتيل يتمّ إنشادها، وكأنّ القدّاس هو إحدى الواجبات الّتي علينا القيام بها. إنّ القدّاس ليس مِن صناعتِنا نحن البشر، إنّما هو مِن صناعة الله دون اشتراكٍ مِنّا في تلك الذبيحة. إنّ القدّاس هو دعوةٌ مِنَ الله لنا، نحن البشر الّذين نعاني مِنَ العاهات، والمطروحين على طرقات هذا العالم، كي نُشاركه في وليمتِه، لذا علينا المشاركة في وليمة العرس هذه، لابسين ثياب العرس. غير أنّ الله لا يستطيع أن يرى أحد المدعويّن وهو لا يرتدي ثياب العرس، فهو حينها سيهتمّ بها، فيقوم بتنظيفه وإلباسِه ثيابَ العُرسِ، لكي يُصبح جميع المدّعوين مشابهين لابنه الوحيد يسوع المسيح. إنّ الربّ لا يطلب رأيك إن كنت تقبل بأن يُعامِلك كابنٍ له، لأنّ مجرَّد حضورك إلى هذا العُرس يُعبِّر عن رغبتك العميقة بأن تكون ابنًا حقيقيًّا لله. إذًا، إخوتي، إنّ القدّاس هو دعوةٌ مِنَ الله لنا كي نقبل أبوّته، فلنَقبَل أن نكون أبناءً له. إنّ القدّاس هو عطيّة مجّانيّة مِنَ الله لنا، يمنحنا إيّاها الله على الرّغم مِن عدم استحقاقنا لها. إنّ المؤمنين يتمسّكون بالذهنيّة اليهوديّة حين يرفضون الاقتراب مِنَ المناولة المقدَّسة بحجّة عدم استحقاقهم لتلك العطيّة.
إخوتي، ما مِن أحد يستحقّ تلك العطيّة، لكن يكفي أن نكون مستعدِّين لقبولها مِن خلال المناولة. على المؤمن التخلّي عن تلك العادات اليهوديّة الّتي ما زال يُمارِسها، فتلك العادات أصبحت بالية ولا حياة فيها، ولا تُعبِّر عن إدراكنا لِعمقِ إيماننا. في كلّ قدّاس، يتمّ اختيار نصّ انجيليّ مختلف عن نصّ إنجيل القدّاس السّابق، وذلك كي يتمكّن الله مِن خلال تلك الأناجيل المتنوِّعة، أن يَلج إلى أفكارنا وينقِّيها، ويُعمِّدها، لأنّ أذهاننا تطغى عليها إمّا الذهنيّة اليهوديّة وإمّا الوثنيّة.
فلنشكر الربّ إخوتي، على النّعمة الّـتي يُعطينا إيّاها في كلّ قدّاس، إذ يُعطينا فرصةً كي نشارك بتلك الذبيحة النّاطقة فنُعلن عن عمله الخلاصيّ. يقول لنا القدِّيس باسيليوس “إنّه بسبب ضعفنا الروحيّ، وكسَلِنا الروحيّ، وفتورنا الروحيّ، نتناول أربع مرّات في الأسبوع فقط”. إنّ هذا القدِّيس كان يرغب بالحصول على جسد الربّ يوميًّا، فهو يَجِد في تلك العطيّة نعمةً لا يجب التفريط بها. في القديم، كان يُمنَع على المؤمِن تَناوُل جسد الربّ أكثر من أربع مرّات في السنة، كي لا تتحوّل تلك المناولة إلى عادة. إنّ هذا القدِّيس كان راهبًا، لذا كان يحقّ له الاقتراب مِنَ المناولة أربع مرّات في الأسبوع فقط. إنّ القدّاس هو عهدٌ جديدٌ يقوم به المؤمِن مع الربّ، فالإنسان يتقرّب أوَّلاً من تلك الذبيحة بذهنيّة وثنيّة أو يهوديّة، وبعد تلك المناولة يُصبِح ابنًا لله، وبالتّالي، لا يجوز للمؤمنين المحافظة على خصوماتهم بعد حصولهم على تلك العطيّة الإلهيّة. إنّ أغلب الخصومات مبنيّة على رؤية خاطئة للآخرين وعلى إساءة الظّن بهم، لا على الفعل بحدِّ ذاته.
إذًا، إنّ إيمانك بكهنوت المسيح، لا يُعاش على المستوى الفلسفيّ، بل يُعاش في حياتك اليوميّة مِن خلال تصرّفاتك مع الآخرين، وبالتّالي فإنّ كهنوت المسيح يتحدّى المؤمِن في كلّ يومٍ، إذ “إنَّ النّاموسَ يُقيمُ أُناسًا بِهِمْ ضعف رؤساءَ كهنةٍ. وأمّا كلمةُ القَسَمِ الّتي بَعدَ النَّاموسِ فَتُقيمُ ابنًا مُكَمَّلاً إلى الأبدِ.” آمين.
ملاحظة: دُوِّن الشرح بأمانةٍ من قِبَلِنا.