تفسير الكتاب المقدّس،
الأب ابراهيم سعد،
“رسالة بولس الرّسول إلى أهل رومية – الإصحاح التاسع”
النصّ الإنجيليّ:
“أقول الصّدق في المسيح، لا أكذب، وضميري شاهد لي بالرّوح القدس، إنّ لي حزنًا عظيمًا ووجعًا في قلبي لا ينقطع. فإنّي كنت أودّ لو أكون أنا نفسي محرومًا من المسيح لأجل إخوتي أنسبائي حسب الجسد، الّذين هم إسرائيليّون، ولهم التّبنّي والمجد والعهود والاشتراع والعبادة والمواعيد، ولهم الآباء، ومنهم المسيح حسب الجسد، الكائن على الكلّ إلهًا مباركًا إلى الأبد، آمين. ولكن ليس هكذا حتّى إنّ كلمة الله قد سقطت. لأنّ ليس جميع الّذين من إسرائيل هم إسرائيليّون، ولا لأنّهم من نسل إبراهيم هم جميعًا أولاد. بل بإسحاق يدعى لك نسل، أي ليس أولاد الجسد هم أولاد الله، بل أولاد الموعد يحسبون نسلًا، لأنّ كلمة الموعد هي هذه: أنا آتي نحو هذا الوقت ويكون لسارة ابن، وليس ذلك فقط، بل رفقة أيضًا، وهي حبلى من واحد وهو إسحاق أبونا، لأنّه وهما لم يولدا بعد، ولا فعلا خيرًا أو شرًّا، لكي يثبّت قصد الله حسب الاختيار. ليس من الأعمال بل من الّذي يدعو، قيل لها: “إنّ الكبير يستعبد للصّغير، كما هو مكتوب: أحببت يعقوب وأبغضت عيسو”، فماذا نقول؟ العل عند الله ظلمًا؟ حاشا، لأنّه يقول لموسى: إنّي أرحم من أرحم، وأترأف على من أترأف. فإذًا ليس لمن يشاء ولا لمن يسعى، بل لله الّذي يرحم، لأنّه يقول الكتاب لفرعون: إنّي لهذا بعينه أقمتك، لكي أظهر فيك قوّتي، ولكي ينادى باسمي في كل الأرض. فإذًا هو يرحم من يشاء، ويقصي من يشاء، فستقول لي: لماذا يلوم بعد؟ لأنّه من يقاوم مشيئته؟ بل من أنت أيّها الإنسان الّذي تجاوب الله؟ العل الجبلة تقول لجابلها: لماذا صنعتني هكذا؟ أم ليس للخزاف سلطان على الطّين، أن يصنع من كتلة واحدة إناء للكرامة وآخر للهوان، فماذا؟ إن كان الله، وهو يريد أن يظهر غضبه ويبيّن قوّته، احتمل بأنّاة كثيرة آنية غضب مهيّأة للهلاك، ولكي يبيّن غنى مجده على آنية رحمة قد سبق فأعدّها للمجد، الّتي أيضًا دعانا نحن إيّاها، ليس من اليهود فقط بل من الأمم أيضًا. كما يقول في هوشع أيضًا: سأدعو الذي ليس شعبي شعبي، والّتي ليست محبوبة محبوبة، ويكون في الموضع الّذي قيل لهم فيه: لستم شعبي، أنّه هناك يدعون أبناء الله الحيّ، وإشعياء يصرخ من جهة إسرائيل: وإن كان عدد بني إسرائيل كرمل البحر، فالبقية ستخلص، لأنّه متمّم الأمر وقاضِ بالبرّ. لأنّ الرّبّ يصنع أمرًا مقضيًّا به على الأرض، وكما سبق إشعياء فقال: لولا أنّ ربّ الجنود أبقى لنا نسلاً، لصرنا مثل سدوم وشابهنا عمورة عدم إيمان إسرائيل. فماذا نقول؟ إنّ الأمم الّذين لم يسعوا في أثر البرّ أدركوا البرّ، البرّ الّذي بالإيمان. ولكن إسرائيل، وهو يسعى في أثر ناموس البرّ، لم يدرك ناموس البرّ. لماذا؟ لأنّه فعل ذلك ليس بالإيمان، بل كأنّه بأعمال النّاموس. فإنّهم اصطدموا بحجر الصّدمة، كما هو مكتوب: ها أنا أضع في صهيون حجر صدمة وصخرة عثرة، وكل من يؤمن به لا يخزى”.
شرح النّص الإنجيليّ:
إنّه من أكثر الفصول وجدانيّة في هذه الرسالة، وهنا علينا القيام بشرح بسيط لنفهم مغزى كلّ رسالة مار بولس إلى أهل رومية. إنّ اليهود اعتقدوا أنّ كلّ يهودي مولودٌ من أمٍّ يهودية دخل بهذا الفعل في الميثاق الإلهيّ أي انتمى إلى شعب الله المختار أي أنّه بالنسبة لليهود إنّ الولادة الجسديّة من أمٍّ يهوديّة تكفي لينّضم الإنسان إلى شعب الله المختار. غير أنّ بولس قال لهم أنّ الأمر ليس كذلك، فليس كل شخص إسرائيلي هو حقًا إسرائيلي. إنّ كلمة “إسرائيل” في الكتاب المقدّس هي كلمة لاهوتيّة غير أنّها أصبحت في عالمنا اليوم كلمة تقنيّة تعبّر عن دولة. إنّ الله لم يُسَمِّ دولة اسمها إسرائيل ولم يشرِّع وجودها. إنّ الله لم يتكلّم عن دولة إسرائيل اليوم، وهذا ما يُجمِع عليه اليهود المتشدّدون، ومن بينهم جماعة اسمها “ناتوري كارتا”، التّي ترفض فكرة أنّ لليهود دولة وتقع هنا في قسم من أنحاء العالم. فإنّ الله لم يعد اليهود بدولة محدّدة، إنّ الله وعدهم بالخلاص المشروط بحفظ الوصايا والعمل بها. وبالتّالي لا يكفي أن تكون مولودًا من أمٍّ يهوديّة لكي تنتمي إلى شعب الله وتكون مُخَلَّص، بِغَضِّ النّظر إن آمنت أم لا. وهنا بولس يقوم بتصحيح هذه الذهنيّة الخاطئة عند اليهود. وتصحيح هذه الذهنية شكَلَّت مشكلة كبرى لدى اليهوديّ.
بدأ الأمر مع إبراهيم، هذا الرجل العجوز الذي لم يكن لديه أولاد، وعنده جارية اسمها هاجر. وبعد مشورة بشريّة ومشيئة إنسانيّة، رأى إبراهيم وسارة ضرورة وجود أولاد للمحافظة على بكوريّة إبراهيم، لذا تَقرَّر إنجاب إبراهيم لولد له من هاجر وهذا ما حصل. إنّ ذلك كلّه هو مشيئة إنسانيّة بحتة: هذا ما قرّره البشر فكانت الثمرة إسماعيل. أمّا من جِهة أخرى، إنّ الله زار إبراهيم من خلال الملاك، وَوَعدَهُ بأنّ يحقِّق وعده له وخاصّة بعد أن قام إبراهيم بترك أرضه وعشيرته وكلّ ما يملك، استجابة لطلب الرّبّ. إنّ الله سيحقِّق وَعدَهُ لإبراهيم، لأنّه يريد أن يحقِّق مشروعه الخلاصيّ. إنّ وعد الله هذا، جعل إبراهيم يطرح تساؤلات واستغرابا في أمر تحقيق هذا الوعد. أمّا سارة فضحكت عند سماعها هذا الوعد المستحيل بشريًّا فهي قد أصبحت غير قادرة بشريًّا على الإنجاب إذ أنّها كانت مُسِّنَّةً. عند سماع ضحكة سارة، قال الملاك لإبراهيم أنّ الطفل سيكون اسمه:” اضحك”، أي إسحق، وذلك لكي يتذّكرا دائمًا أنّ الله سيحقِّق وعده لهما. ولم يقل كاتب هذه الرواية في العهد القديم: “وعرف إبراهيم امرأته فولدت إسحق”، وذلك ليقول لنا بهذا الأمر أنّ ولادة إسحق هي قرار إلهيّ وليس محض بشريّ أي أنّه ليس فقط نتيجة علاقة جسديّة. إنّ هذه الولادة هي نتيجة تدّخل إلهيّ، وولادة اسحق لا تشبه ولادة إسماعيل، تلك الولادة التّي كانت محض بشريّة.
إنّ إسماعيل هو ابن الجارية أمّا إسحق فهو ابن الحرّة، وبالتّالي إنّ الله سيحقِّق مواعيده، وهو مستّعد لذلك، حتّى وإن كان ذلك على حساب القانون البشريّ الطبيعيّ، فالذّي يهمّ الله هو تحقيق مشروعه الخلاصيّ. وبالتّالي إنّ الولد البكر هو الذّي يرث الأب، إنّه يرث اسم العائلة أيضًا، هذا بحسب القانون البشريّ. إنّ الله هو الذّي يُقرِّر من هو البكر ولمن تُعطى البركة، كما فعل مع يعقوب وعيسو إذ أعطى الله البركة ليعقوب، مع العلم أنّ هذا الأمر في القانون البشريّ يسمّى تزويرًا، غير أنّنا لا نستطيع الاعتراض على ما فعله الله، فجبلة الطين لا تستطيع أن تلوم صانعها على ما فعله بها. إنّك لا تستطيع أن تلوم الله على ما فعل أي على تغيير كلمته، إذ نكون الفعل خرجنا عن الإيمان. إنّ الله قال كلمته أي القانون البشريّ، قالها لكي يَضبُطَك ويضع لك حدًا. ولكن لم يقل كلمته من أجل أن يَحصُرَ نفسه ويقيِّد ذاته. فالله هو الخالق ونحن جبلته: هذا هو الله، فإنّ كنت لا تريد أن تعبد الله بحجة أنّه ديكتاتوري، لا تعبده، أنتَ حُرّ.
علينا أن نتخلّى عن ذهنيّة أنّ الله محبّ ورحيم، وبالتّالي لا يحقّ له خرق القوانين الطبيعيّة التّي صنع. لا نستطيع كبشر منع الله من أن يخرق القوانين فالله هو حرّ ولا نستطيع تقييده أو أسرِه. فعندما يقول إنسانٌ ما أنّ الله مُحِبّ فهو يضع تفسيرًا خاصًّا به يناسبه لكلمة محبّة. فتفسير الانسان لكلمة محبّ أو رحوم، لا تنطبق بالضرورة تمامًا مع تفسير الله لمعنى هاتين الكلمتين. والدليل هو عندما يقول الانسان إنّ الله، كونه محبًّا، عليه ألاّ يفعل ما فعل، بل كان عليه أن يفعل أمورًا محدّدة، وذلك حسب مفهوم الانسان لكلمة محبّ. فإذا سلَّمنا جدلاً بهذا المنطق، وطلبنا بالمقابل أن تفسِّر لنا ما الذّي تفهمه أنتَ بكلمة محبّ لنرى إن كان يتطابق مع مفهوم الله للمحبّة كي تستطيع أن تلوم الله على ما يفعل. فهل كلمة محبّ بالنسبة لك يا إنسان، تعني أن إن أخطأ أحدهم إليك سبعين مرّة، تبقى على محبتك له؟ بالطبع لا يفعلها الإنسان.
إذًا كيف تستطيع أنتَ يا إنسان أن تطلب من الله أمورًا أنتَ لا تستطيع فعلها وتلومه على ما يقوم به، فعليك يا إنسان ألّا تنسى إنّك الجبلة والله هو الجابل، فلا تعترض على ما يقوم به الله، فإنّ الله لديه تفسير آخر للحبّ ويعرض علينا تفسيره للحبّ ويدعونا لنقبل به. فإن قبلنا مفهوم الله للحبّ، نستطيع عند ذلك أن نلوم الله على ما يفعله. وبالتّالي لا نستطيع لوم الله لمحبته ورحمته للنّاس انطلاقا من مفاهيمنا الضيّقة لهذه الكلمات.
إذًا هناك تفسيران ومفهومان مختلفان. وهذا أيضًا ما نراه في المفهوم البشريّ لكلمة معيّنة، فكلمة واحدة يختلف اثنان على تفسيرها مثالاً على ذلك، الجمال فإنّ ما هو جميل بالنسبة لك هو بشع بالنسبة لآخر وكذلك الآمر بالنسبة للذكاء ومفاهيم أخرى. أكثر المشاكل الإنسانيّة ترتكز على اختلافهم في تفسيرهم للكلمات. علينا أن نتّفق أوّلاً على معنى الكلمات التّي نستعملها وليس على الكلمات بحدِّ ذاتها. إنّ كلمة “الله”، لا يفهمها جميع النّاس بالطريقة نفسها. المشكلة تكمن في أنّنا نختلف في تفسير المفاهيم، والحلّ يبدأ بعرض كلّ طرف تفسيره للكلمات المستعملة ليدور النقاش حول اختلافي معك في تفسيري لكلمة معيّنة، ومن ثمّ يطرح السؤال إن كنت أستطيع لوم الآخر انطلاقا من مفهومه لكلمة معيّنة. إنّ العلاقات البشريّة هي هكذا: لوم الآخرين على كلمات تفوّهوا بها وقد فسّرناها نحن كسامعين بغير المعنى الذّي قصده المتّكلم. هكذا هو الأمر بين العاشقين وبين الازواج والاولاد. إنّ السّامع يسمع كلمة الآخر ويفسِّرها انطلاقا من حالته النفسيّة الآنيّة، وليس من قصد المتكلّم بها.
فإن كنت أعيش في حال من الضغط النفسيّ أفهم الكلمة انطلاقاً من الضغط الذّي أعيشه وتفسيري للكلمة حينها يختلف عما يقصده المتكلّم نفسه. وهذا يؤدي إلى أزمة ومشكلة لا تُحَلّ إلاّ بالمصارحة والتّفاهم. علينا إذًا أن نتعاطى مع الله وكأنّه حبيبنا وصديقنا وقريبنا فنستطيع عند ذلك أن نفهمه. فإذا تصّرفنا مع الله كأنّه غريب فنحن لن نفهمه أبدًا. وهذا الأمر صحيح بشريًّا إذ لا يمكن أن تفهم إنسانًا أنتَ لا تُتقِن لغته. فالله يقول لليهود من خلال الرّسول أن يحاولوا فهمه إذ أنّه عندما قرّر أن يُخلِّص البشريّة اختارهم ليبدأ معهم مسيرة خلاص البشريّة. اختارهم، هم الذّين كانوا في العبوديّة، معتقدًا بذلك أنّهم سيفهمون معنى الحريّة كونهم اختبروا معنى العبوديّة. فاختارهم ليحرّرهم فتصرّفوا معه كعبيد. وبالتّالي، إن ذهنية العبد مع السيِّد لا ترتكز على الحبّ، بل فيها اغتنام فرصة للانتقام، إذ ليس من السهل أن نجد عبدًا يتمنى الخير لسيِّده، حتّى وإن كان هذا السيِّد صالحًا، إذًا العبد يتعامل مع سيّده انطلاقا من الوضع الذّي يطرحه السيِّد.
فإنّ هذا الله الذّي تعامل معه اليهود على أنّه سيّد قال لهم أنتم أبنائي، أنتم “ابني البكر”، ولكنّهم ما زالوا يتصرّفون معه كسيّد وبالتّالي لا فرق بينه وبين بقيّة الشعوب التّي لا تعرف الله. وبالتّالي اليهود الذّين كانوا ضمن إطار الخلاص وضمن شعب الله أصبحوا الآن خارجًا عن هذا الإطار انطلاقاً من تفكيرهم الخاطئ. وإن أصبح هذا الشعب خارج إطار الخلاص فقد أصبحوا بالتّالي كسائر الأمم. وبالتّالي إن خلَّص الله سائر الأمم، لا يحقّ لليهود الاعتراض على الله لتخليصه بقيّة الشعوب، إذ أصبح لليهود فرصة أخرى للخلاص بأن يخلّصه الله مع سائر الأمم كونه أصبح مثلهم، فعليه أن يشكر الله على ذلك. إنّ الشعب اليهودي قد أَفشَل كلمة الله له. لذلك أيضًا في العالم، ضمن الجمعيّات الكنسيّة، عند دخول عنصر جديد، نحنو عليه كونه ما زال فتيًا في الجماعة لكن عندما يبدأ هذا العنصر بطرح أفكار نيِّرة، محبّة، يتغلغل الحسد والغيرة إلينا. ونتيجة عدم قبولنا لأفكاره الجديدة والتّي تفوقنا بالخدمة في الكنيسة، نبرِّر ذلك لذواتنا بأنّه ما زال فتيًّا في الجماعة ولا يحقّ له التجديد في الجماعة. هذه هي تمامًا مشكلة إسرائيل مع الله، مشكلة اليهود مع الله، إذ اعتقدوا أنّهم أهمّ من سائر الشعوب، وعندما رأوا أن بقيّة الشعوب هي مهمّة في نظر الله، استغربوا الأمر ولم يتقبّلوا ذلك، وبدأوا بلوم الله على ذلك. إنّ يسوع المسيح، في أسبوع الآلام، “الذّي قتلتموه وصلبتموه”، لماذا قُتِل؟ ما هو ذَنبُهُ؟ ذنبه هو أنّه قال لكم أنّكم مثل سائر البشر وأنّه أتى ليحقِّق مشروع أبيه الخلاصي ألاّ وهو خلاص البشر أجمعين. هذا الأمر أزعج اليهود ولم يقبلوا به أبدًا ولاموا يسوع على ما فعله وذلك لأنّ الله قد قال لهم أنّهم شعبه في العهد القديم.
ولكن إن سُئِلوا هل حققّوا ما طلبه الله؟ قالوا لا، واعترضوا قائلين أنّه وإن لم ينفِّذوا كلام الله فعلى الله تخليصهم لأنّه وعدهم بذلك. لقد طالبوا يسوع بأن يسير كما يرون هم الله وحسب نظرتهم له، ولأنّه لم يقبل بذلك قتلوه واعتقدوا أنّهم بذلك ألغوه. وبالتّالي أعادوا تكرار قصّة قايين وهابيل مع يسوع، “قبل الله تقدمة يسوع النّاصري ولم يقبل تقدمتهم”، وبالتّالي أخذوا مكان قايين وقتلوا يسوع، هابيل الجديد وهم يدركون أنّه مسيح الله. إنّ اليهود يعلمون أنّ يسوع هو مسيح الله لكنّهم لم يقبلوه لذلك قتلوه. فلو قبلوه، لما عاد هناك شيء، يدعى بالأمّة اليهوديّة. “خيرٌ لواحد أن يموت عن الأمّة اليهوديّة”، هذا ما قاله رئيس الكهنة حينها.
إنّ كلّ واحدٍ منّا يملك ذهنيّة يهوديّة، إليكم مثالاً عن ذلك، عندما يتمّ نقل كاهن من وظيفة معينّة إلى أخرى ووضِع ْكاهن بديل عنه، يتعرّض عندها إلى إحباط وانهيار. عليه أن يُدرك أنَّ مهمته قد انتهت والآن حان دور آخر للقيام بهذه المهمّة. هكذا الأمر بالنسبة لله: يعترض الإنسان قائلاً إنّ الله ظالم، ولكنّك عندما تفهم أنّ مشروع الله هو خلاصك وخلاص من تكرهه أيضًا ستُدرك أنّ الله ليس ظالِمًا. فما يُسّمى ظلمًا بنظر النّاس يسمّى رحمة بحسب تفسير الله. إن الحبّ هو أمرٌ سهلٌ لكن من الصعوبة أن نرحم لأنّ الرّحمة تحتوي على الحبّ والتسامح، والرضى، والخدمة، والحنان والحياة وكلّ شيء. وليس صدفةً أن يتمّ استخدام صفة نسائية لله: الرحمة. إنّ الرحمة تأتي من كلمة الرَحِم. إنّ الرحمة إذًا تلد للحياة. إنّ الولد الذّي يعيش خارج الرحم لا يلبث أن يموت. إنّ الولد لا يستطيع أن يعيش إلا إذا كان داخل رحم والدته. إنّ الجنين يتغذى وهو في الحشا من والدته دون أن يقوم بأي مجهود. فكلّ طعام يأتيك من والدتك، ينمّيك ويغذِّيك. فمن غير المنطقيّ، أن يضعك الله في رحمه وتختار أنت طعامك. فعندما تقرِّر الدّخول إلى رحِم الله، تصبح غير قادر على اتخاذ قرارات في نوعيّة غذائك.
فعندما تكون في رحِم الله، هو يغذّيك، فلا تطلب طعامًا من سواه، طالما أنت تغتذي من خير الله عليك. هذا ما كان يفعله اليهود، كانوا يؤمنون باللّه لكن حين لا تُمطر كانوا يلجؤون إلى الإله “بعل”، إله الخصب عند الوثنين. وعندما يخوض إسرائيل حروبا كان يقول الله له ألاّ يخاف من خسارة الحرب لأنّ كلمته معهم. لكن عندما كانت أورشليم محاصرة، قال الله للملك آحاز، ألاّ يخاف فهو سينتصر في الحرب شرط عدم التعامل مع الوثنين. إنّ التعامل مع الوثنين ليست مسألة سياسيّة إنّما أمر يُضرّ بالعبادة للإله الواحد. وبالرّغم من كلام الله وتشجيعه لإسرائيل، خاف الملك آحاز من الموآبين الذّين حاصروه، وحاول أن يرضي الله ظاهريًّا عبر تقديم الذبائح ولكنّه تعامل في الخفاء مع الوثنين. وبالتّالي أصبح الله بالنسبة له من الكماليات، وليس ضرورة. وعندما تصل إلى هذه المرحلة أي عندما يصبح الله من الكماليات، فهذا يعني أنّك ما عدتَ تؤمن به وقد أصبحت بالتّالي كبقيّة الأمم. إذًا لا يحقّ لك أن تلوم الله إذا خلّص الآخرين. وبالتّالي أنت في أزمة روحيّة في علاقتك مع الله. لذلك، كي تشعر براحة ضمير، تلجأ إلى الأعمال التّقويّة: صوم، صلاة، نذورات، تمامًا كما فعل اليهود.
نحن نعتقد أنّنا بهذه الأعمال نستطيع استرضاء الله، فنحن نملك ذهنيّة يهوديّة إذًا، إذ نقوم برشوة الله ليرضى عنّا لأنّنا قمنا بأعمال لا ترضيه. إنّ الله كان يعلم أنّ شعبه غير قادر على تحمّل مسؤولية في قراره لإتباعه، غير أنّ الله كان طويل الأناة تجاههم وتجاه ضعفهم. فإذا أراد الله أن يُظهر غضبه ويبيّن قوته تجاه تصرّفات شعبه الذّي تركه وقام بأعمال لا تُرضيه، لكنّه ما زال يحتمل تصرّفاتهم. هذا الذكاء الذّي يستخدمه الانسان ليسترضي الله، هو من الشرير إذ يُحاول خداع الله بأعماله الخارجيّة التّقويّة. يقول لنا الله: “أعطني قلبك يا بنيّ”، فالله لم يطلب منّا الاعمال التقويّة الطقسيّة. فالرّبّ لا يريد إلغاء الطقوس، بل يريدها بقوّة أكثر وبتواتر أكبر. ويطلب منّا أن نحافظ على معنى الصّوم الداخليّ، دون أن نُفَرِّغه من معناه. فتصرّفاتنا الخارجيّة ستجعل الله يندم على طلبه الصوّم منّا وذلك لأنّنا أفرغنا الصّوم من معناه الحقيقيّ. ففي أشعيا النبيّ نقرأ عن انزعاج الله من الأعمال التّي نقوم بها لاسترضائه، تلك الأعمال الخارجيّة الفارغة من معناها. فالله لم يطلب منّا الصّوم المرتكز على الأعمال التقويّة الزائفة إنّما طلب صومًا يرتكز على أعمال الرّحمة كأن نكسر مع الجائع خبزنا. صومنا لم يعد ذلك الصّوم الذّي طلبه الله ويرضى عنه، إنّما أصبح صومًا بُوذيًّا يرتكز على تهذيب الجسد وضبط الحواس. فليس المقصود بالصّوم أن نكون قدّيسين خلال فترة الصّوم ومن ثمّ العودة إلى حالتنا الأولى بعد الصّوم. هناك مشكلة في الذهنية لعيش الصّوم، هناك مشكلة في ذهنيّة علاقتنا باللّه. فحذارِ أن يصل الله إلى مرحلة يرفض كلّ صلواتكم، وأعمالكم الرّوحيّة إذ تصبح آنذاك زنىً روحيًّا. فالزّنى الروحيّ هو عندما تُشارِك في القدّاس، وتقوم بواجباتك الرّوحيّة، وعند الانتهاء من الصّلاة تتصّرف بطريقة غير متجانسة مع صلاتك.
إنّ الله يرفض مثل هذا التصّرف، إذ إنّك خائن، وكاذب. فالله يدعوك إلى أن تحلّ مشكلتك مع ذاتك أوّلاً بكلّ صدقٍ. فعندما يرى الرّبّ تصرّفاتنا، سيُضطر إلى تغيير طريقته معنا، إذ أنّه طويل الأناة، سوف يستبدل الطريقة ولكنّ لن يغيّر مشروعه بخلاص البشر. كان اليهود يعتقدون أنّهم احتكروا الخلاص جرّاء علاقتهم هذه باللّه. فمشروع الخلاص لا يرتكز على خلاص اليهود فقط، خلاص الرّبّ هو لكلّ النّاس. إنّ الله سوف يغيّر استراتيجيته في العمل ليجعلنا نفهم مشروعه الخلاصيّ، وذلك خلال عدم رغبته في قبول صلوات المؤمنين في المعابد. وهنا نرى أننا نشعر بالشفقة على الله إذ باعتقادنا لا يمكن أن يكون الله إلهًا دون شعب، فنعرض عليه انضمامنا إلى شعبه. إن الله قادر أن يختار شعبًا جديدًا ليخلّص من خلاله البشريّة.
إنّ الخلاص كما تكلّم عنه بولس في رسالته إلى أهل روميه هو أن الله أخرج الشعب من كنفه، وجعل كلّ الشعوب ذات أهميّة واحدة في الحصول على الخلاص. فشعب الله أصبح من خلال تصرّفاته مثل كافة شعوب الأمم. هذا هو كلّ صراع بولس في موضوع الخلاص، فتكلّم عن الذّين هم بحسب الجسد والذّين هم بحسب الرّوح. فمن هو بحسب الجسد، ليس بالضرورة أن يكون ابناً للّه. وقد كَتَب يوحنّا الانجيليّ في السياق نفسه فقال: “الذّين وُلِدوا ليس من مشيئة رجل ولا دَمّ ولكن من الله وُلدوا”. هنا نرى مقارنة يقوم بها الانجيليّ بين سارة وهاجر. ولادة إسماعيل كانت نتيجة مشيئتين إنسانتين قد اتفقتا، لكن إسماعيل نتيجة هذا الاتفاق لا يستطيع أن يرث، إنّما يرث من وُلِد نتيجة مشيئة الله أي من إسحق. ولكنّ ليس لا يكفي أن تكون ابن اسحق أي من الشعب اليهوديّ لترث. فالذين يؤمنون باللّه أي بيسوع هم أولاد إبراهيم أكانوا يهودًا أم وثنيين. لقد أصبح الشعب اليهوديّ بلا هويّة أي بلا وجود.
هذه هي الحقيقة المرّة لكلّ الذّين احتكروا الله ويتصرّفون بطريقة شريرة باسم الله. هذا ما يقوله بولس لليهود أنّهم أصبحوا بلا هويّة. غير أنّ الله طويل الأناة، فهو سيخلّص الشعب اليهوديّ مع الذّين لا هويّة لهم قبل حلول اليوم الأخير لذلك يدعوهم بولس للتّوبة إذ أنّها تُشكِّل فرصة جديدة للشعب اليهوديّ.
ليس كلّ بني إسرائيل هم إسرائيليون حقًا. لذا تكلّم عن بقيّة باقية تُلَخَّص بمريم العذراء، إنّها البقيّة الباقية من شعب إسرائيل. مريم هي البقيّة الباقية من شعب إسرائيل، إنّها إسرائيل التّي بقيت حافظة للإيمان، لذلك حقّق الله مشروعه فيها وأكمله، فجاء يسوع وكان هو إسرائيل البكر، ومن بَعدِهِ كلّ مَن اتخذ يسوع ربًّا وإلهًا له، أصبح من البقيّة الباقيّة لشعب إسرائيل. إذًا إخوتي، الخلاص هو عبارة عن نفقٍ مفتوحٍ من جِهَتين وفقط من هم داخل هذا النفق هم مخلَّصون، فمن هم خارجًا هم الذّين رفضوا الله وهم بالتّالي لم يقبلوا الخلاص، وبالتّالي لا تستطيع أن تلوم الله على عدم خلاصِكَ.
فوجودك خارج النّفق هو بسبب عدم إيمانك وعدم حفظك للكلمة من الفساد. مشكلة بولس هي أنّه عندما أعلن نفسه خادمًا لشعب الله، كان يحقّ له أن يعتاش من الهيكل، لكن بولس رفض أن يأكل ممّا يقدّم للمذبح، كي لا تتعطّل كلمة الانجيل وتفشل. فقد ذهب بولس للعمل في صناعة الخيام بعد أن اتُهم مِن قِبَلِ الذّين يبشِّرُهم أن هدفه هو أن يعيش من تقدمات الهيكل دون وجه حقّ. ونتيجة هذا العمل الشاق في الخيم وصناعتها، أصبح بولس شبه أعمى لذا لم يتمكن من كتابة رسائله بنفسه غير أنّه تعبيرًا عن محبّته لهم كان يقول لهم في خاتمة كلّ رسالة إنّه يكتبها هو بيده. أنظروا كم عانى بولس من شعب الله المختار وعبّر عن ذلك قائلاً إنّ له حزنًا عظيمًا وإنّه يوّد أن يكون محرومًا من يسوع المسيح، إذا كان ذلك يؤدي إلى خلاص هذا الشعب.
هل هناك أعظم من هذه المحبة المسيحيّة التّي تصل إلى درجة تمنّي الانسان الهلاك لنفسه في سبيل خلاص الشعب! هل هناك محبة غير محبة يسوع المسيح التّي أدّت بالرسول بولس إلى تنويره إذ حرقت له قلبه وعقله. كان للشعب اليهوديّ كلّ شيء: الخلاص، العهود والوعود، والمجد، والتبنيّ، والعبادة ولكنّهم لم يكونوا على قدر المسؤوليّة. لا يكفي أن تكون مولودًا من أُمّ يهوديّة لتكون من أبناء إسحق، فأنت ما زلت ابناً بالجسد ولست ابناً بالرّوح بعد. يقول بولس للشعب أنّه يكفي أن يفكِّروا بما صنعه الله لهم، ليكتشفوا عظمته. ويقول الله للشعب أنّه بالرّغم من كلّ تصرّفاته، لم يستسلم الله بعد ولم يعتكف عن تكرار محاولات لخلاصهم، وإنّه سيكمّل مشروعه. إنّ المسيح يعمل، والله الآب يعمل من أجل خلاصهم. فكلّما ارتكبوا خطيئة، كلّما أفاض الله نعمته، ومحبته، ورحمة عند خيانة الشعب.
إنّ المسيح يغسل عروسته أي الكنيسة بطريقة يوميّة من خلال كلمته ليجعلها نظيفة، هذا هو سّر الزواج. فعلى سّر الزواج أن يكون كالمسيح والكنيسة عروسته. افرحوا بهذا الزوج الذّي هو المسيح، إنّه ساذج بحبّه وما زال يصدِّق الشعب على الرّغم من معرفته به. إنّه يعرفنا أنّنا غير صادقين لكنّه يتصرّف معنا كأنّنا صادقون في توبتنا.
أمّا نحن كبشر فلا نتصرّف كذلك مع إخوتنا، فحتّى لو كنّا نعرف أنّ أحدهم هو صادق معنا غير أنّه متّى أخطأ إلينا لا نعود نُصَدِّقه أبدًا وتنكسر الثقة بيننا ونصبح بحاجة إلى براهين. ما أعظم حبّ الرّبّ لنا! إنّ يسوع المسيح الذّي نلومُهُ على محبته لنا ونحن لا نتبنّى معناها، يقول لنا إنّه صدَّق توبتنا إليه. لذلك نفهم ما تطلبه الكنيسة الغربيّة بضرورة الاعتراف قبل كلِّ مناوَلَة، إنّه لأمرٌ جيّد، إذ إنّ الكنيسة تدعوكم إلى التوبة إذ إنّ الله سيصدِّق توبتكم ويجعلكم أبناء من جديد ويدعوكم إلى مشاركته الوليمة، لكن علينا الانتباه أن ينفذ صبر الله لنا، على الرّغم من طُول أناته، ولكن هذا لا يجب أن يجعلنا في حالة خوفٍ. إنّ الرّبّ يريد أن يقيم عهدًا جديدًا مع شعبه الذّي تعرّف عليه ومع الذّي لم يتعرّف على الرّبّ بعد. هذا العهد الجديد ليس كالعهد الذّي قطعه الله مع آبائهم. هذا العهد سيجعله الله في قلوبهم وليس على ألواح من حجر. وهذا العهد هو أنّ الله سيغفر الخطايا للشعب ولن يذكرها من جديد، هذا هو العهد الجديد.
فعندما تنامون وتستيقظون صباحًا في كلّ يوم، وعندما تطلبون رحمة الله ستنالونها أصادقين كنتم أم لا. هذا ما يدعونا بولس إليه أن نحبّ أعداءنا ومن يسبب لنا الأذية لأنّه عند ذلك نكون كمن يركم جمرًا على رأس الذّي سببّ لنا الإساءة، فيشعر بجمرة حبّنا. هذا الأمر لا أحد يقوم به إلا يسوع والله الآب أبو يسوع. إيّاكم أن تتكبّروا فتصدِّقوا أنّكم تستطيعون أن تكونوا مثل يسوع. عليكم، كي تكونوا مثل يسوع، أن تقبلوا محبته لكم بصدق، ودون مصلحة، إنّما لكي تفرح وتتعزّى ولتنمو بالوعي واليقظة، إذ إنّ كلمة الله التّي تفرح بها، تنحتك وتجعلك إنسانًا جديدًا، وتفعل فعلها فيك، تجعلك إنسانًا جديدًا وليس صنمًا، إنسانًا جديدًا على صورة يسوع بالرّغم من ضعفك ومن خطاياك. إنّ هذه الكلمة التّي قبلتها بفرح وبصدق وجعلتك إنسانًا جديدًا، ستظهر للآخرين من خلال تصرّفاتك معهم فيصدِّقون كلمة الله ويعرفون أنّ الله محبّ ورحيم وأنّ الله موجود فيؤمنون باللّه، فيدخلون في الخلاص، جرّاء ما رأوه فيك من تصرّفات وتغيير في حياتك، وبسبب كلمة الله التّي قبلتها ونحتتك من جديد.
نحن نسير صوب الفصح، ولسنا ذاهبين للمشاركة في دفِن، لا تبكوا لأنّه صُلب بل افرحوا أنّ المسيح صُلِب لأنّه لو لم يُصلب المسيح لما كنّا اليوم حاضرين ههنا. نحن كنّا تحت أسياد الشهوة، أمّا الآن فنحن أبناء الحريّة. وإذا رفصنا أن نحصل على حريّة الأبناء لا نستطيع لوم الله على ما سيفعل. كلّ نقمة الانسان على الله هي أنّه يعيِّر الله الذّي قال أنّ من يقرع الباب سوف يُفتح له ويسألونه لماذا لم يُفتح لهم، صلّيْنا لك ولم تستجب. إنّ كلّ ذلك هو عمليّة ابتزاز للّه. إنّ المسيحيّين لبنانيون إذ يحبّون رشوة الله وابتزازه. فلا تعتقد نفسك مميّزًا عن سواك من البشر.
إذا أردت أن تكون مميّزًا، عليك المتاجرة بكلمة الله إذ لا أحد من الشعب الأممي يتاجر بكلمة الله. لو أنكر العالم بأسره، ورفض السبع مليارات نسمة الإيمان، وبقيت أنت المؤمن الوحيد على الأرض، تيّقن أنّ لديك القوّة نفسها التّي يملكها السبع المليارات لو آمنوا. كلّ محبة الله ورحمته تفيض عليك وحدك، في حال رفض الجميع الإيمان، وأنت تستطيع ان تعيد الإيمان للعالم بأسره. “ثقوا أنا غلبت العالم”، فإن لم تؤمنوا بهذا، فإن فصحكم طقوس وعادات.
ملاحظة: دوِّن الشرح بأمانةٍ من قبلنا.