تفسير الكتاب المقدّس،

الأب ابراهيم سعد،

“رسالة بولس الرّسول الثانيّة إلى أهل كورنثوس – الإصحاح الأوّل” 

إنّ الاستسلام، لأيٍّ كان، هو حالةٌ شيطانيّة، إلّا إذا كان هذا الاستسلامُ لله. إنّ السَّلام هو حالةٌ إلهيّة، غير أنّه ليس من الضروريّ أبدًا أن يترافق مع حالة من الاستسلام. في رسالة كورنثوس الثانية، يجزم بولس لأهل كورنثوس موضوع رسوليّته، الّتي لا يستطيع المساومة عليها لأنّها أمانةٌ من الله له. إنّ رسوليّة بولس هي مشروع إلهيّ، لا مشروع بولس الخاصّ.

يبدأ بولس الرّسول رسالته إلى أهل كورنثوس معرِّفًا عن نفسه بالقول:”بولس، رسول يسوع المسيح بمشيئة الله”. في هذا التعريف ردٌّ واضحٌ من بولس على كلّ الّذين يُشكِّكون في رسوليّته، إذ إنّه لم يكن من الرّسل الاثني عشر الّذين عرفوا يسوع وتتلمذوا على يده. وفي بداية هذه الرسالة أيضًا، يَذكُر بولس اسم “تيموثاوس”، مناديًا إيّاه “الأخ” وليس الرّسول، لأنّ “تيموثاوس” لم يكن يومًا رسولاً بل كان مرافقًا لبولس في رحلاته التبشيريّة. إنّ جميع الّذين رافقوا بولس الرّسول في مسيرته التبشيريّة تركوه ولم يبقَ منهم إلّا تيموتاوس، وما هذا إلّا دليل على أنّ المبشِّر يبقى وحيدًا، فالوَحدة هي مِن السّمات الّتـي ترافق كلّ رسول. يستخدم بولس الرّسول عبارة “كنيسة الله” في بداية رسالته للدلالة على أنّه يوجّه رسالته لا إلى المسؤولين في كنيسة كورنثوس إنّما إلى كافة المؤمنين في كورنثوس وجوارها، لذا يُضيف “في جميع آخائية”. إنّ عبارة “قدِّيس”، حسب المفهوم البُولُسيّ، هو كلّ إنسان آمن بالربّ يسوع. 

إنّ النِّعمة الّتي يتكلّم عنها بولس، هي النِّعمة الأُخْرَويّة، أي تلك الآتية من اليوم الأخير، أي من الله الآب. ليس السّلام الّذي يتكلّم عنه بولس ذلك السّلام المصنوع من أيدي بشريّة نتيجة مساومات وحسابات خاصّة أرضيّة، إنّما السّلام بالنسبة إلى بولس، هو ذاك الآتي من الله، وهو عطيّة مجانيّة منه للبشر. إنّ الإنسان يتمتّع بحريّة كاملة إمّا لرفض مِثل هذا السّلام أو للقبول به: فإن رَفَضَه، افتقده في هذه الفانية وفي الآخرة،؛ أمّا إن قَبِل به، فإنّه ينال السّلام الدّاخليّ الّذي لا يستطيع أحد أن ينزعه منه، ويساعده على عيش السّلام مع الّذين يُحيطون به على الرّغم من كلّ الصُّعوبات.

إنّه مِن الواضح في هذه الرّسالة أنّ أهل كورنثوس يُعانون من الضِّيق، بدليل وَفرَة استخدام بولس لمفردات التعزية، فَقَدْ وَرَدَتْ عبارة “التعزية” ومشتقّاتها، ستُّ مرّات في آيةٍ كتابيّة واحدة. يشجِّع بولس أهل كورنثوس على احتمال الضِّيقات الّتي يتعرَّضون إليها. إنّ التعزية لا تطال الأشخاص الحزانى على فقدانهم أعزّاء مِن هذه الفانية فحسب، إنّما تطال كذلك كلّ مَن يُعاني من الوَحدة. ولا يُقصَد بالوَحدة الأشخاص المتروكين مِن قِبَل الآخرين، إذ قد يكون الأشخاص برفقة كثيرين لكنّهم يشعرون بالوَحدة: فقد يطالب أحدهم بتطبيق الحقّ والعدل، وقد يُشارِكه كُثُرٌ هذا الهمّ غير أنّهم يتراجعون عن الوقوف إلى جانب هذا الإنسان خوفًا من العواقب السلبيّة الّتي تطالهم جرّاء الاستمرار في الدِّفاع عن الحَقّ. بالنسبة إلى بولس، إنّ التعزية البشريّة لن تكون فعّالة إلّا إذا كان يسوع المسيح هو مصدرها، إذ إنّه نبع كلّ تعزية.

إنّ كلّ حاملٍ للواء المسيح، سيُعاني من الاضطهادات والضِّيقات كما عانى يسوع المسيح نفسه: فالربّ يسوع قد تحمّل الآلام والشتائم والجلد لأنّه أعلن للبشر كلمة الحقّ، وهذه هي الحالة الّـتي سيعيشها كلّ مُعلِنٍ للكلمة الإلهيّة. ولكنّ التعزيات الإلهيّة ترافق وتُشدِّد كلّ مَن يعاني من الضِّيق. فكلّما تكاثرت الاضطهادات والضِّيقات، كلّما تكاثرت التعزيات الإلهيّة، إذ لا يستطيع أيّ إنسان الاستمرار في الصّمود في مسيرته المشبَّعة بالاضطهادات لولا التعزيات الإلهيّة الّتـي تَصِلُه مِن الله بطُرقٍ متنوِّعة. 

إنّ الاضطهادات الّـتي تعرَّض لها بولس الرّسول لم تُثنِه عن متابعة مسيرته التبشيريّة، لأنّ هدفه هو إيصال كلمة الله إلى النّفوس، كي تنال الخلاص بيسوع المسيح، لذا كان يُبارِك مُضطهديه، محتملاً كلّ الإذلال والشتائم الّتي يتعرَّض لها. إنّ بولس يُشدِّد أهل كورنثوس على احتمال الضِّيقات الّتي يُعانون منها، ويدفعهم إلى التذكُّر في كلّ مرّةٍ أنّ هناك آخرين أيضًا قد احتملوا الكثير من الاضطهادات، بل وأكثر منهم، في سبيل إيصال البشارة إليهم. استخدم بولس عبارة “فلأجل تعزيتكم وخلاصكم”، مرّتين في آية واحدة، للتركيز على الضِّيق الّذي يُعاني منه أهل كورنثوس، مُشدِّدًا إيّاهم على احتمالها ومعزيًّا إيّاهم بكلمة الله الّـتي تمنحهم الشَّجاعة والثبات في مسيرتهم الروحيّة. إنّ بولس استخدم عبارة “رجاؤنا لأجلكم ثابتٌ”، ليُذكِّر أهل كورنثوس أنّ هذا الرّجاء الّذي نالوه نتيجة إيمانهم بكلمة الله هو ثابتٌ لا يتزعزع، لأنّه غير مبنيّ على حسابات بشريّة بل على كلمة الله. إنّ بعض المؤمنين يقعون في حبائل الشيطان حين يستخدمون عبارات مِثل:”عسى، ربّما، مِن الممكن”، فكلّ تلك الكلمات هي عبارات شيطانيّة. إنّ الشِّرير قد سكن في الهيكل بدليل تَهَاوُن عددٍ كبير من المسؤولين في الكنيسة في إعلان كلمة الله دُون هوادة، أو خوف.

إنّ بولس يُخبر أهل كورنثوس بأنّهم سيشاركونه في التعزيات الإلهيّة، كما شاركوه في تحمّل الضِّيقات. إنّ بولس كان يُعاني من آلام حادّة في مَعِدته نتيجة تحمُّله كلّ تلك الاضطهادات الّـتي عانى منها مِنَ الّذِين يدعوهم “إخوةً” له في الإيمان، كما وَرَد في رسالته إلى أهل غلاطية. إنّ الاضطهادات الّتي عانى منها بولس في آسيا قد أَوصَلتْهُ إلى مرحلةٍ من الإحباط واليأس من الحياة. إنّ كلّ رسول سيتعرَّض لهذه التَّجربة حين يشعر أنّ كلّ عمَلِه التبشيريّ قد ذهب سُدىً. إنَّ بولس مستعِدٌّ للموت، لأنّ اتّكاله ليس على ذاته إنّما على الله الّذي يُقيم الموتى. إنّ الإنسان الّذي يتكِّل على ذاته، لن يتمكّن من الصّمود في وجه ألاعيب التخويف والضَّغط، والتّرغيب والتّرهيب الّتي يحيكها له الآخرون، بل سيسقط فيها، لأنّها كلّها مِن عمَل الشيطان. إنّ الّذين يرفضون الحقّ يلجؤون إلى استمالة الإنسان السائر في الحقّ، بوسائل متعدِّدة ومتنوِّعة، وإن فشلوا سعوا إلى إسكاته بالقوّة. إنّ الإنسان المتَّكل على الله لن يسكت عن إعلان الحقّ على الرّغم من كلّ الاضطهادات الّتي ينالها، لأنّ الله سيُغدِق عليه بالتعزيات الإلهيّة. إنّ بولس لا يخاف مِن الموت، لأنّه واثقٌ أنّ الله الّذي نجّاه مِن الموت في المرّات السابقة سيفعل ذلك على الدّوام إلى أن يحين موعد انتقاله من هذه الفانية، إلى الملكوت السماويّ.

إنّ بولس يدعو أهل كورنثوس للصّلاة من أجله، إن كانوا لا يستطيعون مشاركته في مسيرته التبشيريّة، كي يستطيع أن يتحمّل الضِّيقات الّتي يُعاني منها، ويكون سببَ شكرٍ لله مِن قِبَل الّذين يُبشِّرهم. إنّ بولس يُشهِد ضميره عليه في أمانته في إعلان كلمة الله. لقد كان بولس أمينًا في تصرّفاته للتعليم الّذي أعطاه إلى أهل كورنثوس، إذ لم يتهاون مع الباطل. يطلب بولس من أهل كورنثوس الثّبات في إيمانهم بالربّ يسوع على الرّغم من كلّ الضِّيقات الّتي يُعانون منها، لأنّ في ذلك فخرًا للرّسول يوم وقوفه أمام الربّ الدّيان العادل في اليوم الأخير، أي بعد انتقاله مِن هذا العالم. إنّ ثبات أهل كورنثوس في إيمانهم بالربّ هو شاهدٌ على رسوليّة بولس وإتمامه مشيئة الله فيه. إنّ إيمان أهل كورنثوس هو ثمرة جُهد بولس وتعبه في إيصال كلمة الله إليهم. بالنسبة إلى بولس، إنّ التبشير هو فريضةٌ وُضِعت عليه ولذا عليه أن ينقل إلى الآخرين كلمة الله بكلّ أمانة، أكان فرِحًا أم حزينًا. لذلك قال بولس الرّسول: “الويل لي إن لم أُبشِّر”، لأنّه بالنسبة إلى بولس، فالتَّبشير غير مرتبطٍ بمزاجيّة المبشِّر.

كان بولس يودّ المجيء إلى كورنثوس ليُشارِك أهلها في أخبار مسيرة رحلاته التبشيريّة. فكما أنّ يسوع لم يُراوغ في إعلانه البشارة، بل كان “الأمين” على كلمة الله، وفي كلامه كلّ “النَّعم”، كذلك هي حال بولس الّذي نقل كلام الربّ يسوع إلى الّذين بشَّرهم بكلّ أمانة وصدقٍ. في العقود البشريّة، يُوَقِّع أطراف العقد عليه في نهايته لـتأكيد مصداقيّة ما وَرَد فيه؛ أمّا الربّ يسوع فيُوقِّع على مِصداقيّة كلامه قَبل أن يتفوّه به، وهذا ما يُبرِّر استخدامه لعبارة: “الحقّ الحقّ أقول لكم”. إنّ هذه العبارة “الحقّ الحقّ أقول لكم”، تُشير على أنّ كلّ ما سيتبعها من كلام هو الحقيقة. في ختام هذا الإصحاح، شدَّد بولس أمام أهل كورنثوس على رسوليّته فقال إنّه مُرسَل من عند الله، وأنّه ممسوح مِن الله للتبشير بكلمته، وقد ختمه بالرّوح القدس الّذي أفاضه عليه في قلبه. لقد جعل بولسُ اللهَ شاهدًا على أقواله هذه إلى أهل كورنثوس. إنّ بولس قد طلب من أهل كورنثوس أن يشكروا الله على عدم استطاعته المجيء إليهم. في هذا الطلب تهديدٌ شديدُ اللّهجة من بولس إليهم، كي يُصحِّحوا مسارهم من جديد، فيعودوا إلى السيّر وِفق التّعليم الّذي بشَّرهم به. إنّ بولس مُحتارٌ في الطريقة الّتي عليه اللّجوء إليها في تعامله مع أهل كورنثوس، فهو لم يعد يُدرِك هل عليه باللِّين عليهم أم بالقوّة. إنّ بولس لم يأتِ إلى كورنثوس إشفاقًا منه على أهلها، فهو لا يريد أن تزداد عليهم الضِّيقات بسبب وجوده فيما بينهم. 

إنّ عددًا كبيرًا من أهل كورنثوس قد وافقوا بولس على تعليمه، فآمنوا بالربّ لكنّهم تراجعوا عن السيّر معه في مسيرته التبشيريّة خَوفًا من تعرُّضهم للاضطهادات والضِّيقات. إنّ أمثال هؤلاء المؤمنين هم كالمرائين: إذ إنّهم يريدون مشاركة بولس في ثمار تعبه في الرسالة، ويوافقون على ما يبشِّر به، من دُون مشاركته في تحمّل الضِّيقات والاضطهادات.

إنّ عالمنا اليوم يُعاني من أزمةٍ كبيرة، إذ يقوم البعض بتهميش الإنجيل لأنّه يتعارض مع مصالحهم الخاصّة، لذا هم يسعون إلى إسكات كلّ مَن يرفَع الصّوت عاليًا ويطالب بإعادة الإنجيل إلى مكانه الصَّحيح في وَسَط الجماعة المؤمنة. وهناك وسائل متعدِّدة ومتنوِّعة لإسكات الـمُطالب بإحقاق الحقّ: إمّا بتشويه سُمعته كي تتزعزع ثقة الآخرين به، وإمّا برصاصة قاتلة فيغيب عن ذاكرة المؤمنين، وينسى هؤلاء المطالبة بإعادة الإنجيل إلى مكانه الصَّحيح. إنّ كلّ هذه الاضطهادات قد عانى منها بولس أيضًا في أيّامه: فقد حاول كثيرون تشويه سُمعته أمام المؤمنين قائلين فيه إنّه يبشِّر بكلمة الله من أجل الحصول على الطّعام من المؤمنين. لقد دَفعت هذه الإشاعة مؤمنين كُثُرًا إلى عدم الإصغاء من جديد إلى أقوال بولس أو القبول بالتّعاليم الّذي يبشِّر بها، وبالتّالي لقد عطّل هؤلاء الـمبغِضون للحقّ وصول كلمة الله إلى المؤمنين. عند بلوغ مِثل تلك الإشاعات مسامِع بولس، قرّر عدم قبول الطّعام مُجدّدًا كي لا يكون ذلك سببًا في رفض المؤمنين لكلمة الله، فقرّر العمل في صناعة الخِيام كي يتمكّن من تأمين معيشته، على الرّغم من أنّ “خادم الهيكل، مِنَ الهيكل يأكُل”. ونتيجة صناعته في الخِيام، شّح نظر بولس فلم يعد بإمكانه الكتابة، لذا كان يستعين بتلاميذه ليُدوّنوا رسائله إلى الكنائس. ولكن حين كان يريد التعبير عن محبّته للمؤمنين في كنيسة معيّنة، كان يقول لهم إنّه هو الّذي دَوَّن تلك الرّسالة بخطّ يده. 

لقد تحمَّل بولس كلّ تلك الاضطهادات وسعى إلى إثبات عدم صِّحتها، لا دفاعًا عن كرامته إنّما مخافة تعطيل تلك الإشاعات لانتشار الإنجيل، وبالتّالي على خلاص النّفوس. فبالنسبة إلى بولس، على مشروع الله أن يتابع مسيرته في الوصول إلى النّفوس المتعطِّشة إليه على الرّغم من كلّ العراقيل الّتي قد تواجه الرّسول، إذ إنّ الأهمّ بالنسبة له هو إيصال كلمة الله إلى البشر أجمعين. لقد اتُّهِم بولس بأنّه يريد تقسيم الكنيسة، لذا مُنِع من دُخول أُورشليم والتبشير فيها. فما كان مِن بولس إلّا أن ذهَب إلى الأمم لتبشيرها بكلمة الله. إنّ كلّ هذه الاضطهادات الّتي واجهت بولس، وَجَّهها إليه “الإخوة”، أي المسؤولون في الكنائس الّتي بشَّرها. وعلى الرّغم من ذَلك، فهو لم يسعَ إلى إقامة خصوماتٍ معهم، بل كان يُعاملهم انطلاقًا من تعاليم يسوع المسيح الّتي يبشِّر بها أي بكلّ محبّة. إنّ هؤلاء “الإخوة الكَذَبة” يعيشون ازدواجيّة في الحياة: إذ يُعلنون محبّتهم للحقّ ولكنّهم في الحقيقة يعملون ضِدَّه. لذا رفَض بولس رِفقة هؤلاء مِن دُون مُعاداتهم، لأنّه لا يستطيع على مِثالهم المساومة على الحقّ.

إنّ يسوع المسيح قد عانى كذلك من تلك الاضطهادات نفسها إذ كان يحظى بالتّصفيق والتّهليل مِن قِبل المؤمنين عند قيامه بالأعاجيب، ولكنّه عند القبض عليه وصَلبِه، لم يبقَ معه إلّا ذاك “الّذي كان يُحبُّه”. إنّ هذه العبارة يمكن تفسيرها بطريقتين: الأولى أن يكون يسوع هو الّذي كان يُحب هذا التِّلميذ الّذي بَقِيَ معه عند أقدام الصَّليب؛ أمّا الطريقة الثانية فهي أنّ هذا التِّلميذ بَقِيَ مع يسوع إلى النِّهاية لأنّه كان يُحبّ يسوع. إنّ كِلا التفسيرين جائزان. قد يعتقد البعض، في التفسير الأوّل، أن يسوع يميِّز بين تلاميذه، لذا يأتي التفسير الثّاني ليقول إنّ التِّلميذ هو الّذي كان يُحبّ يسوع، وبالتّالي يُصبح عدم ذِكر اسم التِّلميذ مقصودًا لكي يتمكّن كلّ مَن يقرأ هذه الآية من أن يُدوِّن اسمه، فتكون تلك الآية الكتابيّة موجّهة له بطريقة شخصيّة.
إذًا، إنّ الضِّيقات الّتي عانى منها بولس كانت نتيجة حسد الإخوة الكَذَبة له، ورغبتهم في الحصول على مكانة بولس عند المؤمنين في عَمله التبشيريّ. لذا شوّهوا سُمعته أمام المؤمنين ومَنعوه من دُخول أورشليم فطاردوه وألقوا القبض عليه، وكانت مُحاكمته في روما. وكما حَدَث مع يسوع، كذلك حدَث مع بولس، إذ تمّ إلقاء القبض على يسوع ومحاكمته، وقد قال فيه عظيم أحبار اليهود في ذلك الحين: خيرٌ له أن يموتَ واحدٌ عن الأمَّة، مِن أن تهلك الأمَّة كلُّها. هذا أيضًا ما حدث مع بولس إذ فضَّل هؤلاء “الإخوة الكَذبة” إلقاء القبض على بولس ومحاكمته والحكم عليه بالموت، على أن تتعطّل مشاريعهم الأرضيّة الباطلة. إنّ اليهود حكموا على يسوع بالموت؛ أمّا بولس، فقد حكم عليه المسيحيّون من أصل يهوديّ بالموت. إنّ عَمل هؤلاء المسيحيّين ما هو إلّا دلالة على أنّهم لم يسمحوا للرّوح القدس الّذي نالوه في المعموديّة من أن يدخل إلى أعماقهم ويُغيِّر ذهنيّتهم القديمة.

إنّ هذا الكلام لا ينطبق فقط على اليهود في أيّام يسوع، والمسيحيّين من أصل يهوديّ في أيّام بولس، بل ينطبق أيضًا على بعض المسيحييّن في عالمنا اليوم، الّذين نالوا العماد مِن دُون أن يَسمحوا للرّوح القدس بأن يُغيِّر ذهنيّاتهم القديمة. إنّ المعموديّة ليست مجرّد مياه وزيت يُمسَح بهما الإنسان إنّما يرمز الزّيت إلى النّور والنّار ، رَمْزَي الرّوح القدس. إنّ الرّوح القدس هو نار آكلة تمحو كلّ فسادٍ وباطل من قلب الإنسان، فتجعله صادقًا مِن دون نوايا خبيثة، غير أنّ الله وحده يستطيع الدّخول إلى خفايا الإنسان ومعرفتها. لذا لا يعتقدنَّ الإنسان نفسه مُضطَهدًا من الآخرين نتيجة كلامه الجميل، فقد يكون الآخرون صالحين في الظّاهر ولكنّهم يرفضون قبول الحقّ لأنّه يُعطِّل مصالحهم الخاصّة.

إخوتي، إنّ العَمَل الكنسيّ ليس حِكرًا على المسؤولين في الكنيسة، بل هو واجبُ كلّ مؤمن نال المعموديّة، لأنّه أصبح عضوًا فيها، لذا على كلّ مؤمن أن يُعلن كلمة الله، كلمة الحقّ. إنّ إعلان المؤمن لكلمة الله لا يحتاج إلى بركةٍ من المسؤولين في الكنيسة، لأنّ الله منح هذا الحقّ لكلّ من نال الرّوح القدس في المعموديّة. وبالتّالي يحقّ لكلّ مؤمن أن يُعلِن كلمة الله بتواضعٍ ومحبّة للآخرين، لا من باب الكبرياء والتّعالي عليهم. إنّ كلّ البشر هم خطأة على حدٍّ سواء، لذا على كلّ مَن يرغب بإعلان كلمة الله أن يسعى إلى تحسين ذاته متخليًّا عن كلّ خطاياه، ومتسلِّحًا بالفضائل محاولاً الاستمرار قدر الـمُستطاع في حالة النِّعمة. إنّ كلمة الله ليست حِكرًا على أحد بل هي مُلكٌ لجميع المؤمنين. 

على كلّ مؤمن أن يسهر على نموّ كلمة الله في داخله، فيتمكّن من نقلها إلى الآخرين على الرّغم من كلّ الاضطهادات التّي سينالها، كما عليه أن يتذكّر دائمًا أنّه مع تكاثر الاضطهادات عليه، تزداد التعزيات الإلهيّة له. إنّ سفر الرؤيا يتكلّم عن “صبر القدِّيسين”، الّذي على كلّ مؤمن مُضطهَد أن يتحلّى به كي يتمكّن من احتمال كلّ الضِّيقات الّتي تواجهه، مِن دون أن يُصاب بالإحباط واليأس. لا يُقصَد بعبارة “صبر القدِّيسين”، أنّ المؤمن يُصبح قدِّيسَ الصَّبر، بل إنّه على المؤمن التحلّي بالصّبر الّذي يناله من القدِّيسين. في زمننا الحاضر، انقلبت كافة المقاييس: فتكاثر اللّهو وتضاءلت الجَدِّية، وسيطرت المصلحة الخاصّة على المصلحة العامّة. لذا طلب بولس الرّسول من أهل كورنثوس أن يُصلّوا له كي لا يقع في تجربة الإحباط واليأس نتيجة الاضطهادات الّتي يتعرَّض لها، فيمنحه الربّ نعمة الصّبر ويشجِّعه على احتمال تلك الضِّيقات، والثّبات في إيمانه بالربّ وفي مسيرته الرّسوليّة.

ملاحظة: دُوِّنت المحاضرة مِنْ قِبَلِنا بتصرّف.

Instagram
Copy link
URL has been copied successfully!
WhatsApp