تفسير الكتاب المقدّس،
الأب ابراهيم سعد،
“رسالة بولس الرّسول الثانيّة إلى أهل كورنثوس – الإصحاح الثاني”
النّص الإنجيليّ:
“ولكنّي جَزَمْتُ بهذا في نفسي أن لا آتي إليكم أيضًا في حُزن، لأنّه إنْ كُنتُ أُحزِنُكم أنا، فـمَن هو الّذي يُفرِحُني إلّا الّذي أُحزَنْتُه. وكتبْتُ لكم هذا عينِه حتّى إذا جئتُ، لا يكون لي حُزنٌ مِن الّذين كان يجب أن أفرحَ بهم، واثقًا بجميعكم أنَّ فرحي هو فرح جميعكم. لأنّي مِن حُزنٍ كثيرٍ وكآبة قلبٍ كَتبْتُ إليكم بدموعٍ كثيرة، لا لكي تحزنوا، بل لكي تعرِفوا المحبّة الّتي عندي، ولا سيَّما مِن نحوِكم. ولكنْ إنْ كان أحدٌ قد أَحزَنَ، فإنّه لم يُحزِنْي، بل أَحزَن جميعُكم بعض الحزن لكي لا أَثقُلَ. مِثلُ هذا يكفيه هذا القصاص الّذي مِن الأكثرين. حتّى تكونوا – بالعكس- تُسامِحونه بالحَرِيّ وتُعزّونَه، لِئلّا يَبتلع مِثلُ هذا مِن الحُزنِ المفرط. لذلك أطلب أن تُمكِّنوا له المحبّة، لأنّي لهذا كَتَبْتُ لكي أعرف تزكيتكم، هل أنتم طائعون في كلّ شيء، والّذي تُسامِحونه بشيء فأنا أيضًا. لأنّي أنا ما سامحْتُ به- إن كنْتُ قد سامَحْتُ بشيء- فَمِن أجلِكم بحضرة المسيح، لئلّا يطمع فينا الشيطان، لأنّنا لا نجهل أفكاره. ولكن لَمَّا جِئتُ إلى تَرواس، لأجل إنجيل المسيح، وانفَتَحَ لي بابٌ في الربّ، لم تكن راحة في روحي، لأنّي لم أجد تيطس أخي. لكنْ وَدّعتهم فخرجتُ إلى مَكدونيّة. ولكن شُكرًا لله الّذي يقودُنا في موكِب نُصرَتِه في المسيح كلَّ حين، ويُظهر بنا رائحة معرِفَتِه في كلِّ مكان. لأنّنا رائحة المسيح الذكِّية لله، في الّذين يَخْلُصون وفي الّذين يهلِكون. لهؤلاء رائحة موتٍ لموت، ولأولئك رائحة حياةٍ لحياة. ومَن هو كَفوءٌ لهذه الأمور. لأنّنا لسنا كالكثيرين غاشِّين كلمة الله، لكن كما من إخلاص، بل كما مِن الله، نتكلّم أمام الله في المسيح”.
شرح النّص الإنجيليّ:
إذًا، يتَّضح لنا، في هذا الإصحاح، عَتَب بولس على بعض المؤمنين الّذين أحزنوا الكنيسة بتصرّفاتهم. لقد غضب بولس من تلك التصرّفات، لذلك دعا أصحابها إلى إعلان توبتهم عنها، وشجّع أهل كورنثوس إلى احتضانهم والتعبير عن محبّتهم لهم كي تكون توبتهم سبب فرحٍ لهم وللكنيسة جمعاء في كورنثوس. في نهاية هذا الإصحاح، يقول بولس الرّسول: “لأنّنا لسنا كالكثيرين غاشِّين كلمة الله”، ممّا يدفعنا إلى الاستنتاج أنّ تلك التصرّفات الخاطئة الّـتي صَدرت عن بعض المؤمنين قد طالت موضوع رسوليّة بولس. لقد بشَّر بولس بكلمة الله، التّي كانت رفيقته الدائمة في مسيرته الرسوليّة، كما رافقَه في تلك المسيرة كلام النّاس، الّذي لم يتوانَ عن تشويه سُمعته إلى يوم مماته. مهما كانت الأسباب الّتي دفعت إلى تشويه سُمعة بولس: أكان الحسد، أم الجهل، أكان ذلك عن قصد أم عن غير قصد، فالهدف واحد وهو تعطيل وصول كلمة الله إلى أكبر عددٍ من البشر.
إنّ بولس لم يُضيِّع وقته في الردّ على الإشاعات الّتي كانت تطال شخصه، مِن دُون أن تؤثّر على مسيرته التبشيريّة، لذا كان يحتملها متابعًا مسيرته التبشيريّة ليتمكّن من إيصال كلمة الله إلى النّاس أجمعين. غير أنّه لم يكن باستطاعته التهاون مع الإشاعات الّـتي كانت تؤثِّر على بشارته بكلمة الله، لذا كان يسعى إلى إظهار عدم صِدقها، خوفًا من أن يُصدِّقها الّذين يُبشِّرهم، فلا يقبلون بعد ذلك الإصغاء للبشارة الّـتي يُعلنها، فيتعطّل الإنجيل. لقد عمد البعض إلى تشويه سُمعة بولس عند المؤمنين، فقالوا فيه إنّه يُبشِّر بكلمة الله من أجل منفعته الخاصّة أي من أجل الحصول على الطّعام، فردّ بولس على تلك الإشاعات الّتي انتشرت في كورنثوس من خلال هذه الرسالة، لأنّ بولس لا يستطيع المساومة لا على رسوليّته ولا على كلمة الله. عند سماعه تلك الإشاعات، لم يستطع بولس السّكوت، بل دافع عن نفسه لأنّ في دفاعه عن نفسه، دفاعًا عن رسوليّته. لقد دافع عن رسوليّته كي لا يذهب تعبه وجُهدَه في الرسالة سُدىً، إذ إنّ التبشير بكلمة الله، حَسَب بولس، هو واجبٌ على الرّسول، لا مدعاة لتفاخره.
إخوتي، ما عانى منه بولس من تشويهٍ لسُمعته نتيجة تبشيره بكلمة الله، ما زال مستمرًّا إلى يومنا هذا، ويعاني منه كلّ مبشِّرٍ. في الكنيسة، هناك مجموعتان: الأولى تعمل وِفق حساباتها الخاصّة البشريّة، أمّا الثانية فتعمل وِفقَ حسابات الله أي وِفق إرادته. وتُعاني المجموعة الّـتي تُبشِّر بكلمة الله بكلّ أمانة، مِن الاضطهادات مِن قِبَل المجموعة الّتي تعمل وِفقَ حساباتها الخاصّة، إذ تلجأ هذه الأخيرة إلى إسكات المجموعة الأخرى بكافة الوسائل: أوّلاً بتشويه السُّمعة من أجل زعزعة ثقة المؤمنين بالمبشِّرين بكلمة الله، وإن لم ينجحوا في ذلك فإنّهم يلجؤون إلى إسكاته بالقوّة أي بالقتل. وتبرِّر المجموعة التّي تَضطهد المبشِّرين تصرّفاتها بأنّها تنتقد شخص المبشِّر نفسه لا عمله التبشيريّ، مُدَّعيَةً أنّها تدافع عن كلمة الله، عالمةً ضِمنًا أنّها بهذه التصرّفات تُعطِّل الإنجيل. إنّ كلمة الله الّتي يُعلنها الإنسان الخاطئ، تَفضحُه وتَفضحُ إخوته البشر الخطأة، وَعِوَض أن تكون ثمرةُ هذا الإعلان توبة الخطأة، تنهال الاضطهادات على الّذي أعلن كلمة الله.
لقد عانى بولس أيضًا من الاضطهادات من قِبل بعض المؤمنين، ولكنّ ردّه على ذلك كان عنيفًا إذ استخدم في هذا الإصحاح عبارة: “نحن رائحة المسيح الذكيّة لله”. إنّ الرائحة تنتشر بسرعةٍ، ولا يستطيع أحد أن يُعفي نفسه مِن الشَّم، أو إنكار وجود رائحةٍ في الأجواء، سواء أَأَحبّها أم لا. إنّ للإنجيل رائحة ذكيّةً، وهي ستصل إلى الجميع بواسطة المبشِّرين، فمَن يقبلها يَنَلْ الحياة الأبديّة، ومَن يرفضْها، يَكُن مصيره الهلاك. إخوتي، في حديثنا مع الآخرين عن الخلاص، علينا تجنُّب استخدام بعض التّعابير مِثل: “قصاص، عقاب، حُكْم”، لأنّ الخلاص ليس حُكمًا يُصدِره الله بحقّ البشر الخطأة، إنّما الخلاص هو ثمرة أعمال المؤمن ومواقفه: فإن كانت مواقف الإنسان تُعبِّر عن قبوله الحياة الأبديّة وإيمانه بها، فإنّه حتمًا سينالها في اليوم الأخير، أمّا إن كانت تصرّفاته لا تُعبِّر عن ذلك، فالهلاك سيكون مصيره لأنّ أعماله تُعبِّر عن رفضه للحياة الأبديّة. إذًا، لا ينال الإنسان الخلاص استنادًا إلى أحكام الله، إنّما استنادًا إلى أعمال الإنسان، أي أنّ خلاص الإنسان مرتبطٌ بقبوله له، لا بحُكم الله عليه، فالله لا يستطيع منح الإنسان الخلاص بالقوّة.
إنّ استخدامنا لِلُغة القصاص في كلامنا مع الآخرين عن الخلاص، يدفعهم إلى الخوف من العودة إلى الله، وإلى التردّد في إعلان توبتهم، إذ سيشعرون بأنّه لا فائدة من التوبة لأنّ العقاب هو نصيب كلّ مَن يرتكب الخطايا. أمّا إذا أخبرنا النّاس أنّ خلاصهم مرتبطٌ بأعمالهم في هذا العالم، فإنّهم حينها سيشعرون بالفرح لاستطاعتهم تغيير مصيرهم عند تغيير سلوكهم، وبالتّالي سيشعرون بضرورة التوبة، وسيتقرّبون من الله من جديد بفرحٍ سائلين الربّ مغفرة الخطايا لهم. إذًا، إخوتي، لا يحقّ لأيّ إنسان أن يُحدِّد مصير أخيه الإنسان، بل إنّ أعمال كلّ إنسان ومسلكيّاته هي الّتي تُحدِّد مصيره، وبالتّالي فإنّ إمكانيّة العودة عن الضَّلال والتوبة إلى الله متوافرة في كلِّ آنٍ. إنّ هذا الكلام لا يعني أبدًا التَّساهل مع الخطيئة، إنّما يعني عدم زجّ الآخرين في سجن تصرّفاتهم الماضية والخاطئة، عبر إعطاء الفرصة لكلّ إنسان لتصحيح ما ارتكب من أخطاء والتوبة عنها.
إنّ بولس يشرح لنا في هذا الإصحاح أنّ هناك أزمة حقيقيّة بين الّذين تصرّفوا بطريقة خاطئة في الكنيسة، وبين الّذين نالوا الأذيّة نتيجة تلك التصرّفات. إنّ بولس يدعو الّذين أخطأوا إلى التوبة،كما يدعو الآخرين الّذين يعانون نتيجة هذه التصرّفات، إلى التوقّف عن الحزن، وإلى قبول عودة هؤلاء الخطأة ومحبّتهم. إنّ بولس يشعر بالحُزن الكبير نتيجة التصرّفات السيئة لبعض المؤمنين، بدليل استخدامه لمفردات الحُزن بكثرةٍ في هذا الإصحاح. يُقسَم هذا الإصحاح إلى قسمين: القسم الأوّل يتناول الحُزن، أمّا القسم الثّاني فهو يشدِّد على ضرورة المسامحة. إنّ الخطيئة تخلق جُرحًا عميقًا عند الّذي يرتكبها، وبالتّالي عندما يتلقَّى المسامحة من الآخرين، فإنّه ينال بلسمةً منهم لتلك الجِراح الناتجة عن خطاياه. إنّ المسامحة تمنح الخاطئ تعزيةً إلهيّة، وتدفعه إلى العمل على تحسين ذاته، والتعويض عن أخطائه. على الإنسان الّذي يُسامِح ألّا يشعر بالافتخار لدى مسامحته الآخر، لأنّ المسامحة ليست امتيازًا يحصل عليه البعض، إنّما هدف المسامحة بلسمة جِراح الخاطئ ودَفعُه إلى التوبة عمّا ارتكب من أخطاء.
إنّ المسامحة لا تعني نِسيان الخطايا، إنّما تعني تخلّي الإنسان الّذي تعرَّض للأذى عن شعوره بالكراهية للّذي أَذنبَ تجاهه. وبالتّالي، إنّ المسامحة غير مرتبطة بمدى مقدرة الخاطئ على التغيير في مسلكيّاته أو لا، بعد حصوله على المسامحة. على المؤمن، انطلاقًا من إيمانه بالمسيح، أن يسامح الآخرين الّذين أَذنبوا إليه، تاركًا الحريّة للرّوح كي يعمل في قلب الآخر، على بلسمة جُروحاته وتغييره من الدّاخل. إنّ عدم المسامحة تعني أنّ هناك شخصين يحتاجان للعلاج: أوّلاً الخاطئ، ومن ثمّ الّذي تعرَّض للأذيّة. إنّ الله يُعَيِّنك في اللّحظة نفسها، الّتي تتلقّى فيها الأذيّة، طبيبًا على أخيك الّذي وجّه لك الأذيّة: فالّذي تعرَّض لك بالأذيّة هو شخصٌ مريضٌ مُصابٌ بالجُروح، وبالتّالي يحتاج إلى معالجة، وهذه المعالجة هي رَهنُ يَديك إذ إنّك عندما تسامحه تُفسِح له المجال بالشُّعور بأهميّة التوبة. إنّ الإنسان الّذي يُسامح يُشبه في تصرّفاته الطبيب الّذي يُعالِج مريضًا: فالطبيب لا يُناقش المريض في إمكانيّة العلاج، بل يُعطيه العِلاج اللّازم لشفائه، والطبيب لا يتفاخر بنفسه عند إجرائه عمليّة جراحيّة بل يفرح لأنّ آخرَ قد نال الشِّفاء بواسطة عمله الطبيّ هذا. إذًا، الهدف مِن المسامحة، يتعلَّق بالّذي قام بالأذيّة لا بالّذي تعرَّض للأذيّة، أي أنّ الهدف من المسامحة هو الآخر لا أنا.
إنّ بولس يُركِّز على ضرورة المسامحة، لأنّ مَن يُسامِح يُصبح شريكًا لله في خَلق الآخر مِن جديد: فإنّك عندما تُسامِح الآخر، تدفعه إلى التّغيير والتحسين في ذاته، كي يُصبح خليقةً جديدة. إخوتي، مَن لا يُسامِح أخاه الإنسان، هو إنسانٌ قد حَكم على الآخر بعدم المقدرة على التغيير، وبالتّالي حَكم عليه بالموت. مَن لا يُسامِح هو إنسان لا يملك القدرة، أو بالأحرى يرفض أن يُصدِّق ويرى أنّ باستطاعة الآخرين أن يتحلّوا هم أيضًا مِثلَه، بالطّيبة والقلوب النقيّة. إخوتي، على المؤمن أن يُسامح الآخرين، لا أن يدينهم بسبب أخطائهم، لأنّه متى سامح الإنسانُ الآخرَ الـمُذنِب شَعَرَ هو بالرّاحة والسّلام الداخليّ، وأعاد الحياة إلى الّذي أخطأ إليه. لا يحقّ لأيٍّ من المؤمنين أن يُعطِّل مشروع الله : فالربّ يسوع قد جاء إلى أرضنا من أجل عودة الخطأة ولذا على كلّ مؤمن بالمسيح أن يُسامِح مَن أذنَب إليه فيُعيد إليه الحياة. إخوتي، إنّ عودة السّلام الداخليّ إلى قلبك هو أمرٌ في غاية الأهميّة، لكنّ الأهمّ هو عودة الحياة إلى خاطئ، قد أصابته الخطيئة بجروحٍ عميقة.
ما يهمّ بولس هو: عدم زعزعة الكنيسة، جسد المسيح السريّ، أي تعطيل الإنجيل، مسيرة الكنيسة. لذا إنّ بولس لا يجد أيّة صعوبة في طردِ أيّ إنسان خارج الكنيسة إن كان هذا الأخير يسعى إلى زعزعة الكنيسة وهدم جسد المسيح السريّ. إنّ موقف الكنيسة تجاه الهراطقه، هو موقف بولس نفسه تجاه هؤلاء الّذي يُساهمون في تعطيل الإنجيل. في أثناء ممارسة الكهنة سرّ الاعتراف، عليهم الانتباه جيّدًا كي لا يُظهروا للتائبين صورة الله الآب على أنّه الدَيّان الّذي لا يهتمّ إلّا لمعاقبة البشر على شرورهم، بل عليهم أن يُظهروا لهم صورة الله المحبّ الّذي ينتظر عودة أبنائه بشوقٍ كبير. فبحسب قول أحد المعلِّمين الروحيّين، على الكاهن أن يرفع النبرة عاليًا في العظة أثناء احتفاله بالذبيحة الإلهيّة، فيَتَنَبَّه المؤمنون إلى خطاياهم ويتوبوا عنها، أمّا في سرّ التوبة، فعلى الكاهن أن يجمع شَملَ حُطام هذا الإنسان البائس الخاطئ، مستخدمًا لغة المحبّة لا التخويف من جُهنَّم، فيشعر هذا الإنسان التائب بالفرح لعودته عن ضلاله إلى أحضان الله الآب، فيسعى إلى التغيير في ذاته.
لقد استخدم بولس الرّسول عبارة: “بدموعٍ كثيرة”، ليدّل على الكآبة الكبيرة الّتي يُعاني منها نتيجة هذه الأزمة الّتـي تَمرُّ بها كنيسة كورنثوس. على المؤمن الّذي يُسامح ألّا يدين الآخر على نواياه، فيقول في الآخر: إنّني سامحت مَن أخطأ إليّ، لكن هذا الأخير ما زال يُضمِر لي الشَّر في قلبه. إخوتي، لا نأخُذنَّ مكان الله أبدًا، فالله هو الوحيد القادر على معرفة ما في الكِلى والقلوب. إخوتي، ليس كلُّ الخطأة أشرارًا، والدّليل هو وجودكم أنتم المؤمنين في هذه القاعة، الّذين تُصغون إلى كلمة الله مع عِلمِكم أنّكم في الحقيقة خطأة وضُعفاء، غير أنّكم لستم في الحقيقة أشرارًا. حين يرفض الإنسان المسامحة، رابطًا مسامحته للآخر بنوعيّة الخطيئة المرتكبة، فإنّ هذا التصرّف يدلّ على أنّ المشكلة لا تكمن في الشخص الـمُذنب إنّما في الّذي يُسامِح. يُحاول بولس الرّسول، في هذا الإصحاح، أن يجمع بين المؤمنين، الخطأة منهم والصّالحين، داعيًا الصّالحين إلى احتضان الخطأة ومعاملتهم بمحبّة لدى عودتهم عن طريق الضّلال. ولكنّ الـلّافت في الأمر هو أنّ بولس يقول:”لئلّا يطمع فينا الشيطان”، وفي هذا الكلام تذكيرٌ منه لأهل كورنثوس أنّهم كمؤمنين يعلمون أفكار الشيطان، ويعلمون أيضًا أنّه لا يستسلِم أبدًا، وهو يرغب في إبعاد أكبر عددٍ منهم عن الإيمان الصّحيح.
إنّ الشيطان يُشبه النّار الّتي تبقى مشتعلة ما دام الحَطَبُ مُؤَمَّن، فالشيطان يبقى قويًا ما دام قادرًا على زرع الخلافات بين المؤمنين، والمحافظة على وجودها فيما بينهم. لا يرغب الشيطان في إبعاد المؤمن عن الله وَرَميه في جُهنَّم فحَسْبُ، بل يرغب كذلك في شَقِّ الكنيسة كي لا يتمكّن المؤمن بعد ذلك من العودة إلى الله من خلال أسرار الكنيسة متى اكتشف مدى فظاعة أخطائه، فهَمُّ الشيطان هو زرع الشِّقاق والخلافات في الكنيسة.
ويتابع بولس الرّسول حديثه إلى أهل كورنثوس قائلاً إنّه ليس كالكثيرين “غاشِّين” لكلمة الله، ليُشدِّد على إخلاصه لكلمة الله، على عكس بعض المؤمنين مِن أهل كورنثوس الّذين يسعون إلى تعطيل الإنجيل، وبالتّالي إلى هدم جسد المسيح السريّ. إنّ الغِشّ يقوم على أن يتوهّم الإنسان أنّ ما يُعاكس الحقيقة هو الحقيقة فعلاً. إنّ أكبر غِشٍّ لكلمة الله هو حين يستخدم أحد المبشِّرين كلمة الله لا من أجل إيصالها إلى المؤمنين، إنّما بغاية أن يصل هو إلى الآخرين، أي من أجل مصالحه الخاصّة. إخوتي، هذا الكلام لا يعني أبدًا أنّه إذا وصلتني كلمة الله من خلال أحد البشر الخطأة الّذين يسعون جاهدين إلى تغيير ذواتهم ولم يفلحوا بعد في ذلك، لا يُعتَبَر ذلك غِشًّا، لأنّ كلمة الله لا تتغيّر وهي صادقة حتّى وإن صَدرت مِن فم أحد الخطأة. فمثلاً: إنّ قال أحدهم إنّه لا يجوز لنا الكذب، وهو يكذب، فهذا لا يعني أبدًا أنّ الكَذب أصبح مُباحًا، بل على هذا الكلام أن يُشكِّل دعوةً لسامعيه كي يتذكَّروا أنّ الكذِب هو خطأ، حتّى وإن لم يتمكّن بعد، ذاك الّذي نطق بهذه الكلمة الإلهيّة، مِنَ التوقّف عن الكَذِب. لا يجب التوقّف عند حقيقة ذلك الإنسان الّذي يُبشِّرنا بكلمة الله وإدانته، بل علينا أن نسعى للعمل بكلمة الحقّ الّتي ذكَّرنا بها.
إنّ الكنيسة في عالمنا اليوم، تُعاني من أزمة كبيرة، وهي أزمة ثقةٍ بين رجال الدِّين والشَّعب. هذا هو فرح الشيطان أن يتمكّن مِنْ قَطعِ رباط الثِّقة بين أبناء الكنيسة. إنّ المسيح قد قال “إنّ أبواب الجحيم لن تقوى على الكنيسة”، غير أنّني أقول لكم إنّ الشيطان يستطيع ذلك إن تمكّن مِنْ قطع الثِّقة بين أعضاء جسد المسيح السريّ. إنّ الشيطان قادرٌ على إيقاع البشر في حبائل مكائده الّتي ينصبها لهم، ولكنّه لن يتمكّن من السيطرة على الكنيسة، جسد المسيح السريّ إذا بقيَ أبناؤها مجتمعين حول يسوع المسيح. فمتى فُقِدَتِ الثِّقةُ بين أعضاء الجسد الواحد، مات الجسد كلّه. إنّ الكاهن هو المسؤول الأوّل عن إيصال كلمة الله إلى كافة المؤمنين. ليس الكاهن هو مَن يمنح الخلاص للشَّعب، إنّما هو المسؤول عن إيصال الخلاص لهم. إنّ كلام الربّ يسوع لرُسله: “ما تحلُّونه على الأرض يكون محلولاً في السّماء وما تربطونه على الأرض يكون مربوطًا في السّماء”، لا يُشكِّل أبدًا امتيازًا لهم، إنّما مسؤوليّة كُبرى سلَّمهم إيّاها الربّ وسيُحاسَبون عليها في اليوم الأخير. إنّ سرّ الاعتراف ليس امتيازًا للكهنة على باقي المؤمنين، إنّما مسؤوليّة ودينونة لهم في اليوم الأخير. إنّ سرّ الاعتراف هو تأكيد لاستمراريّة المسؤوليّة الّتي سلَّمها الربّ لرُسُلِه، وبالتّالي للكهنة.
إنّ الإنسان يجد سهولةً في إدانة الآخرين بينما يصعب عليه التّعامل معهم بالرّحمة. إنّ الرّحمة هي صفة إلهيّة، لا يرغب كثيرون من المؤمنين بالتحلّي بها مع الآخرين. إنّ القضاء والعدل مِن دُون رحمة هو ظُلمٌ للبشريّة الّتي تُحاكَم. إنّ لجوء المؤمنين إلى استخدام لغة التَّعميم، قائلين مثلاً “إنّ جميع النّاس هم غشَّاشون أو كذَّابون”، هو دلالةٌ على أنّ الشيطان قد سكن في الهيكل، أي أنّه نجح في إدخال الشَّك إلى قلوب بعض المؤمنين وإلى خلق انشِقاقات في صفوفهم. إنَّ التركيز على هفوات الآخرين لا يؤدّي إلى دَفع الآخرين إلى تصحيح أخطائهم، إنّما يهدف إلى زعزعة الثِّقة بين أعضاء الكنيسة وفُقدانها، وهذا ما يريده الشيطان. إنّ بولس يسعى في هذه الرسالة إلى تحذير أهل كورنثوس من الاستمرار في السير في هذه الطريق الملتوية، وهو يدعوهم إلى الصّلاة كي يتمكّنوا من تصحيح مسار بعض المؤمنين الآخرين مِن دون إدانتهم. إخوتي، على “كلمة الحقّ” أن تحكم كنيستنا اليوم، من جديد. إخوتي، عبر التّاريخ، كان الشَّعب المؤمن هو حافظ وديعة “الإيمان”، وعلى شعبنا المؤمن اليوم أن يسهر، كما العادة، على تلك الوديعة، فيُساهم في تفكيك مُخطّطات الشِّرير الّذي يرغب في زرع الشِّقاق في الكنيسة، وبالتّالي إلى خرابها.
إخوتي، إنّ الكاهن هو كسائر البشر مُعرَّض للوقوع في الخطيئة، فهو لا يُخلَق قدِّيسًا بل يسعى إلى الوصول إلى مرحلة القداسة. لذا علينا ألّا نضع هالة القداسة حول أيٍّ من الكهنة، بل علينا أن نسعى إلى إصلاحه بالمحبّة وروح التواضع متى أخطأ، فالإنسان الّذي يشعر بأنّه محبوبٌ سيسعى إلى إصلاح ذاته، أمّا الّذي لا يشعر بمحبّة الآخرين بل بإدانتهم له فإنّه لن يسعى إلى تحسين ذاته. لا يجب أن ننسى حسنات الآخرين عند ارتكابهم الأخطاء، بل علينا أن نُحيطهم دائمًا بالمحبّة كي يتمكّنوا من إصلاح ذواتهم في كلّ مرّةٍ يقعون فيها في إحدى تجارب الشِّرير.
إخوتي، إنَّ كنيستنا اليوم، يُعوِزها مجد الربّ. وإنّ الأزمة التّي تُعاني منها كنيستنا لا نستطيع أن نجد لها حلاًّ عبر تناقل أخطاء المسؤولين فيها بالنميمة والثرثرة، إنّما بالصّلاة والثّبات في الإيمان فنكون نحن شعب الله، كما عَهِدَنا تاريخنا، حافظي وديعة الإيمان عبر الدّهور. إخوتي، لن نتمكّن من إصلاح المسؤولين في الكنيسة أو بالأحرى كلّ المؤمنين الّذين يرتكبون الأخطاء الفادحة إلّا إذا تمسَّكنا بكلمة الإنجيل، وَتَحلَّينا بروح المحبّة والتواضع، لا بروح الشِّقاق والانتقاد والحقد والكراهية، طالبين من الله أن يمنحنا صبر القدِّيسين في مسيرة إصلاحنا للكنيسة ودَرء الخطر عنها، خطر الشِّقاق الّذي هو مُخطَّط الشِّرير. آمين.
ملاحظة: دُوِّن الشرح بأمانةٍ مِن قِبَلِنا.