تفسير الكتاب المقدّس،

الأب ابراهيم سعد،

“رسالة بولس الرّسول الثانيّة إلى أهل كورنثوس – الإصحاح الثالث” 

النّص الإنجيليّ:

“أَفَنَبتَدِئُ نَمْدَحُ أَنفُسَنا؟ أَم لَعلَّنا نَحتاجُ كَقَومٍ رسائلَ توصيَةٍ إليكم، أو رَسائِل توصيةٍ منكم؟ أنتم رِسالتُنا، مكتوبةً في قلوبِنا، معروفةً ومقروءةً مِن جميعِ النّاسِ، ظاهرين أنَّكم رِسالةُ المسيح، مَخدومةً مِنّا، مكتوبةً لا بِحِبرٍ بل بِرُوحِ اللهِ الحيِّ، لا في ألواحٍ حَجَريّةٍ بل في ألواحِ قلبٍ لَـحْمِيَّةٍ. ولكن لنا ثقةٌ مِثْلُ هذه بالمسيحِ لدى اللهِ: لَيْسَ أنّنا كُفاةٌ مِن أنفُسِنا أَنْ نَفتَكِر شيئًا كأَنَّه مِن أنفُسِنا، بل كِفايَتُنا مِن الله، الَّذي جَعَلَنا كُفاةٌ لأَن نَكون خُدَّامَ عَهدٍ جديدٍ، لا الـحَرفِ بل الرُّوحِ، لأنَّ الـحَرفَ يَقْتُل ولكنَّ الرّوح يُحيِي. ثُمَّ إن كانَت خِدمَةُ الموتِ، الـمَنقوشَة بأحْرُفٍ في حِجارةٍ، قَد حَصَلَتْ في مجدٍ، حتّى لم يَقْدِرْ بَنو إسرائيلَ أنْ ينظُروا إلى وجه مُوسى لِسَببِ مجدِ وَجهِهِ الزَّائلِ، فكيفَ لا تكونُ بالأَوْلَى خِدمَةُ الرُّوحِ في مجدٍ؟ لأنَّه إن كانت خِدمَةُ الدَّينونَةِ مجدًا، فبالأَوْلَى كثيرًا تَزِيدُ خِدمَةُ البِرِّ في مجدٍ! فإنَّ الـمُمَجَّدَ أيضًا لَـمْ يُمَجَّدْ مِن هذا القبيلِ لِسَببِ الـمَجدِ الفائِق، لأنَّهُ إنْ كان الزَّائِلُ في مجدٍ، فبالأَولَى كثيرًا يكونُ الدَّائمُ في مجدٍ! فإذْ لنا رَجاءٌ مِثلُ هذا نستَعمِلُ مُجاهَرَةً كَثيرةً. وَلَيسَ كما كانَ مُوسى يَضَعُ بُرقُعًا على وَجهِهِ لكي لا يَنظُرَ بَنو إسرائيلَ إلى نهاية الزَّائِلِ، بل أُغْلِظَتْ أَذهانُهم، لأنَّهُ حتّى اليوم ذَلِكَ البُرقُعُ نفسُهُ عند قراءةِ العَهدِ العتيقِ باقٍ غيرُ مُنكَشِفٍ، الّذي يُبطَلُ في المسيح. لكنْ حتّى اليوم، حينَ يُقرأُ مُوسى، البُرقُعُ موضوعٌ على قَلبِهم. ولكن عندما يَرجِعُ إلى الربِّ يُرفَعُ البُرقُعُ. وأمّا الربُّ فَهوَ الرُّوحُ، وَحيثُ رُوحُ الربِّ هناك حُرِيَّةٌ. ونحن جميعًا ناظِرينَ مَجدَ الربِّ بوجهٍ مَكشوفٍ،كما في مِرآةٍ، تتغيَّرُ إلى تلكَ الصُّورةِ عينِها، مِن مجدٍ إلى مَجدٍ، كما مِن الربِّ الرُّوحِ”.

شرح النّص الإنجيليّ:

تتَّضح لنا جليًّا الأسباب الكامنة خلف كتابة بولس لتلك الرّسالة وهي أنّ بعض المؤمنين في كورنثوس يشكِّكُون في رسوليّة بولس، إضافةً إلى أنَّ بعضًا منهم، وَهُم مِن أصلٍ يهوديّ، يريدون فَرضَ الشريعة اليهوديّة على كلّ مؤمن وثنيّ يريد اعتناق المسيحيّة. إنّ مشكلة العودة إلى الشريعة اليهوديّة قبل اعتناق المسيحيّة هي مشكلةٌ رافقت كلّ العهد الجديد، إذ بالنسبة للمسيحيّين الّذين هُم مِن أصل يهوديّ، لا يمكن للمؤمن الوثنيّ الّذي ارتدّ إلى المسيحيّة أن ينال مفاعيل وَعدِ الله للشَّعب اليهوديّ إن لم يدخل ضمن مسيرة ذلك الشَّعب الّذي نال الوَعد الإلهيّ. إنّ نظريّة هؤلاء المسيحيّين تجعل الإنجيل وكلّ ما قام به يسوع باطلاً ولا نفع منه، لأنّه حسب هؤلاء، لم يكن الصّليب كافيًا كي ينال البشر الخلاص.

 إخوتي، لقد دخل بولس في صراع مع هؤلاء المؤمنين، وقد ربِح معركته، لأنّه لو فَشِل في ذلك، لكانت الشريعة اليهوديّة تُطبَّق على كلّ مسيحيِّي اليوم، أي لكانوا جميعًا مِن أصل يهوديّ، على الرّغم من تَجَسُّد المسيح ومَنحِه الخلاص لجميع البشر. إخوتي، لا مُشكلة عند يهود اليوم، في الاعتراف بيسوع المسيح ابنًا لله، لكنّ مُشكِلَتَهم تكمن في أن يكون المسيح يسوع مُخلِّصًا لجميع البشر، لا مُخلِّصًا حصريًّا لهم. إنّ المسيح لم يطرح إنجيله انطلاقًا مِن منظارٍ فئويّ، لأنّه لو فَعَل ذلك لكان تَحوّل المسيح إلى زعيم يهوديّ زمنيّ، ولكان اليهود طالبوا بإطلاق سراحه بدلاً من إطلاق سراح برأباس لأنّ المسيح في هذه الحالة كان سيُحقِّق مصالحَ اليهود الخاصّة، ولكن لكانت بالتأكيد ضاعت كلّ بشارته بالخلاص.

إخوتي، إنّ الشَّعب المؤمن يميل إلى الـحَرف لا إلى الرّوح، أي أنّه يميل إلى تطبيق الشريعة اليهوديّة لأنّه على الرّغم مِن أنّ الشريعة تُقيّد المؤمن، غير أنّها تُخفِّف عنه المسؤوليّة في كلّ الأخطاء الّتي قد يرتكبها، لأنّ الرّوح يُحرِّر المؤمن من كلّ القيود، ولكنّه يُلقي عليه المسؤوليّة في تحمّل الأخطاء الّتي قد يرتكبها. لقد أظهر التاريخ البشريّ أنَّ الإنسان منذ بداية الخليقة يرفض تحمّل مسؤوليّة أخطائه، وما قصّة آدم وحوّاء إلّا دليلٌ على ذلك: فآدم ألقى اللّوم على حوّاء حين أصبح أمام الله، وكذلك فعلت حوّاء إذ ألقت اللّوم على الحيّة. في عالمنا اليوم، يُلقي المسيحيّون المسؤوليّة في ارتكابهم الأخطاء على الشيطان. 

إخوتي، إنّ هذه المسؤوليّة الكُبرى الّتي يُلقيها المؤمن على الشيطان مبالغٌ فيها لأنّ المسيح قد جاء إلى أرضنا وحرّرنا من كلّ القيود وبالتّالي أَصبحنا المسؤولين المباشرين عن كلّ ما نقوم به، لذا لن يكون الإنسان مُبرَّرًا أمام الله في اليوم الأخير، حين يُلقي مسؤوليّة ارتكابه الأخطاء على الشيطان. إخوتي، لماذا نتكلّم عن الشيطان وكأنّه هو القويّ ونحن الضُّعفاء؟ ليس الإنسان ضعيفًا بسبب قوّة الشيطان، إنّما الشيطان قويّ بسبب ضُعفِ الإنسان، وبالتّالي ليس الشيطان قويًّا، إنّما الإنسان هو ضعيفٌ لذلك يَظهر الشيطان على أنّه قويّ. إنّ الشيطان يبقى ضعيفًا طالما نحن في حالة النِّعمة ونجاهد للبقاء في تلك الحالة. 

إنَّ الحريّة هي سيفٌ ذو حدَّين إذ إنّها من جِهة تُعطي الإنسان قيمته، غير أنّ الإنسان يتهرَّب مِن تحمّل نتائج أعماله الّتي تمنحه إيّاها الحريّة إذ في قلبه حنين للعبوديّة الّـتي تُعفيه من أيّة مسؤوليّة. إنَّ هدف الشيطان هو أن يجعل الإنسان متَّهَمًا أمام أبيه، وهو ينجح في ذلك حين يُواجه الإنسانُ اللهَ بخطاياه في اليوم الأخير انطلاقًا من أنّه خليقة ضعيفة وأنّ الشيطان هو المسؤول عن وقوعه في الخطايا. إنّ إلقاء الإنسان المسؤوليّة على الشيطان في الأخطاء الّـتي يرتكبها، يُقلِّل من قيمة عمل المسيح الخلاصيّ لأجله، إذ يعتبر الإنسان بهذا التصرّف أنّ موت المسيح على الصّليب ما كان كافيًا ليُحرّره من كلّ قيوده.

إنّ بولس يقيم مقارنةً بين شريعة موسى، وبين الشريعة التّي أتى بها يسوع في العهد الجديد. إنّ موسى قد صعد إلى الجبل لينال لَوْحَي الوصايا مِن الله، غير أنّه وَضَع بُرقعًا على وجهه إذ لا يستطيع أحدٌ أن يُعاين نور الله ويبقى حيًّا. إنَّ لَوْحَي الوصايا هما شريعة الشَّعب اليهوديّ، أي القانون الّذي عليه الالتزام به والسَّير بموجَبِه كي يُرضي الله. إنّ الهدف من الشريعة اليهوديّة هو إعطاء الحياة الأبديّة للإنسان، لكنّها لم تتمكّن من ذلك، إذ لم يتمكّن أحدٌ من المؤمنين أن يُطبِّقها. وبالتّالي شعر المؤمنون أنّهم سيبقون في خطيئتهم مهما فعلوا، أي أنَّ نصيبهم سيكون الموت الأبديّ بسبب عدم قُدرَتهم على تطبيق الشريعة بحَرفيّتها. إن كانت الشريعة اليهوديّة، ذلك النّاموس القديم قد حصل على المجد الّذي أتى به موسى على الجبل، فكم بالأحرى العهدُ الجديدُ، النّاموس الحقيقيّ، الّذي أتى به المسيح يسوع؟ إنّ بولس يقيم مقارنة بين عبوديّة النّاموس مع موسى، وبين حريّة المسيح.

إخوتي، إنّ الكنيسة تُعاني مِن أزمةٍ كبيرة في هذا الإطار: إذ إنّ أبناءها الّذين نالوا الرّوح بيسوع المسيح، لا يزالون يسلكون بحسب الجسد، وهذا ما نراه جَلِيًّا حين يهرع المؤمنون، على سبيل المثال، إلى طَرح الأسئلة على الكهنة عمّا هو مسموح به وما هو ممنوع في فترة الصّوم، وحين يُحرِّم رؤساء الكنيسة على المؤمنين الاحتفال ببعض الأسرار في هذا الزّمن كالزّواج مثلاً. إنّ الأسرار الّتي نحتفل بها تُعبِّر عن حضور الله، وبالتّالي يجوز الاحتفال بها في كلّ الأوقات. إنّ تربية المؤمنين لا تكون عبر حِرمانهم من الاحتفال ببعض الأسرار الكنسيّة في زمن الصّوم، إنّما عبر تنشئتهم على معناها الحقيقيّ.

 إنّ ذهنيّة النّاموس، أي ذهنيّة الـحَرف، ما زالت مُسيطرة في عالمنا اليوم، وقد انتصرت، للأسف، على ذهنيّة الرّوح، إذ إنّ غالبيّة المؤمنين يسيرون وِفق ذهنيّة الحَرف لا الرّوح. إنّ إرضاء الله لا يقوم على تميم المؤمن لواجباته الدّينيّة كما تقتضيها الشريعة، إذ ليس على المؤمن أن يقوم بالأعمال الحسنة لينال مُكافأةً مِن الربّ، بل على المؤمن القيام بها إنطلاقًا من علاقة البنوّة الّـتي تجمعه بالله أبيه، فيجد الله في أعمال المؤمن مسرَّته وافتخاره. إنّ إلَهنا ليس كبقيّة الآلهة الوثنيّة الّتي تُعاقب البشر على أخطائهم، وتُكافئهم على أعمالهم الصّالحة، بل إنّ إلَهَنا هو آبٌ مُحبّ يفرح بأعمال أبنائه الصّالحة ويحزن لارتكابهم الأخطاء الّتي تؤدّي بهم إلى الهلاك. وبالتّالي فما نُعانيه نحن البشر من تغيُّرات مناخيّة أو مصائب قد نقع فيها لا تُعبِّر أبدًا، كما كان يقول اليونان في القديم، عن “غضب الله على شعبه”، مِن جرّاء كثرةِ خطاياهم. هذه هي الذهنيّة اليهوديّة المبنيّة على الحَرف والّتي تغلغلت في مجتمعاتنا المسيحيّة، على الرّغم من أنّ المسيح قد مَنَحنا الحريّة.

إنّ بولس يُشجّع أهل كورنثوس، وبالتّالي جميع المؤمنين، على التعبير عن حريّة المسيح الّتي نالوها، وإلى نَزع كلّ بُرقُعٍ يمنعهم مِن مُعاينة نور وجه الله؛ غير أنّهم في أحيانٍ كثيرة، قد يَضَعون مِن جديد هذا البُرقع إمّا تعبيرًا عن خجلهم من اقترافهم الأخطاء، وإمّا لشعورهم بالحنين إلى العبوديّة. إنّ كلّ مؤمنٍ ينجح في نزع هذا البُرقُع عن وجهه، إنّما هو ينجح في الترقِّي من مرتبة الأجير إلى مرتبة البنوّة في علاقته مع الله الآب. إنّ علاقة الابن بذَويه في هذه الأرض هي خير مثال على علاقة المؤمن بربّه، فكما أنّ الابن يقوم بأعمال تُرضي ذَويه تعبيرًا منه عن مدى حبّه لهم، لا خوفًا من القصاص في حال كان عمله سيئًا؛ كذلك على علاقة المؤمن بربّه أن تكون، إذ على المؤمن أن يقوم بما يُرضي الله لا خوفًا من القصاص، إنّما تعبيرًا عن حبّه له. 

إنّ الإنسان لا يحتاج إلى ناموس في تعامله مع ذَويه، وبالتّالي لا حاجة به إلى ناموسٍ يحكم علاقته بالله الآب. إنّ الكتاب المقدّس ينقل قول الله لشعبه إنّه سيقطع معهم عهدًا جديدًا لا كالعهد القديم الّذي قطعه مع آبائهم حين كانوا في الصّحراء، وهذا العهد مكتوبٌ في قلوبهم أي على ألواحٍ من لحمٍ ودم لا على ألواحٍ حجريّة أو مكتوبةٍ بحبرٍ وموضوعة عصائب على عيونهم. إنّ لقاءنا مع الربّ يسوع، يدفعنا إلى رَفض ناموس الحَرف والتمسّك بناموس الرّوح. إنّ بولس لا يهمّه أن ينال المجد من النّاس في هذه الأرض، بل أن يكون إيمان هؤلاء بالربّ يسوع على يده سببًا لمجده أمام الله في اليوم الأخير. إنّ بولس لا يحتاج إلى أيّة رسالة في شأن رسوليّته ليُقدِّمها إلى أهل كورنثوس، لذا يتجرّأ ويقول لهم:”أنتم رسالَتُنا، مكتوبةٌ في قلوبنا”. 

إنّ عبارة “أنتم رسالتنا”، تُشير إلى أنّ أهل كورنثوس هم رسالة بولس الّتي تَسَلَّمها من الله ليُبشِّر الأمم، وهذه الرّسالة مقروءةٌ من جميع الّذين يسكنون في محيط كُورنثوس، إذ يشهدون على إيمانهم بالربّ يسوع، وقبولهم البشارة على يد بولس الرّسول. إنّ شهادة هؤلاء على إيمان أهل كورنثوس هو دليل على نجاح بولس في رسوليّته وسَبَبْ افتخارٍ له، وهي بمثابة رسالة توصية من أهل كورنثوس لبولس إلى الأمم الّتي سيبشِّرها على أنّه رسول حقًّا. إنّ بولس يَطرح على أهل كورنثوس سؤالاً حول تراجعهم عن الشّهادة للإنجيل الّذي قبلوه، في ظلّ هذه الأزمة الّتي يُعانون منها. إنّ بولس يُشجِّعهم من جديد على التمسُّك بشريعة الرّوح لا الحَرف، والمثابرة على الشهادة للإنجيل فيتمكّن المحيطون بهم مِن معرفة مفاعيل الحريّة الّتي أتى بها المسيح ومَنَحها لكلّ مَن يؤمن به. إنّ الّذين يُحيطون بنا لن يتمكّنوا مِن فَهم العهد الجديد إلّا مِن خلال شهادتنا له، ولكنّ الربّ قادرٌ أيضًا على أن يُلهِب قلوب غير المؤمنين من خلال الكتاب المقدّس مِن دون أن يكون هناك مبشِّر أو شاهدٌ لكلمة الله. لقد سألتُ يومًا أحد المرتَدِّين إلى الكنيسة عن سبب ارتداده، فقال إنّه ارتَدَّ لا بسبب المسيحيّين الّذين التقى بهم إنّما من خلال تأمُّله في كلمة أحد الآباء القدِّيسين. هذه هي قُدرة الرّوح على العمل في قلوب البشر من خلال الكلمة.

إنّ الهدف من رسائل بولس هو تذكير المؤمنين بكلمة الإنجيل الّـتي قبلوها، وإلى تصحيح مسارهم عند ضلالهم. إنّ بولس وجّه رسالته هذه إلى أهل كورنثوس حين لَمسَ عندهم شكًّا في هويّته كرسول، وبالتّالي في الكلمة الّتي نقلها إليهم. لقد كان أهل كورنثوس يعيشون الإنجيل على هواهم لا كما يريده الربّ لذا أرسل إليهم بولس هذه الرسالة للحزم في بعض الأمور السلوكيّة. لقد اتّهم بعض المؤمنين في كورنثوس بولس بأنّه ليس رسولاً وأنّه يبشِّر بكلمة الله من أجل مصالح شخصيّة، وما عانى منه بولس يُعاني منه أيضًا كلّ حاملٍ للواء الحقّ، لواء المسيح. إنّ بولس يقول لأهل كورنثوس في هذا الإصحاح إنّ الله قد جعله كَفُوءًا للقيام بالرسالة الّتي أوكله إيّاها وهي تبشير أهل هذه المدينة. ثمّ يُضيف فيقول لهم إنّ الحَرف يقتل، أمّا الرّوح فيُحيي: في القديم، كان الهلاك سيكون نصيب المؤمنين لأنّهم لم يتمكّنوا من عيش حَرفيّة الشريعة، غير أنّ هذا المصير لن يكون مصير الجميع لأنّ الربّ يسوع مَنَح المؤمنين به شريعة الرّوح، وبالتّالي حرّرهم من كلّ خطاياهم وأعطاهم بالرّوح القدس روح التبنيّ، فأصبحوا أبناءً للّه. 

إنّ الله الآب سيُجلِس جميع المؤمنين به على مائدته في الملكوت، لأنّ جميعم قد قبلوا أن يكونوا أبناءه. أمام هذا الحبّ المتفاني من الله، لا يجوز للمؤمن أن يقبل بأن تبقى خطاياه حاجزًا يَحول دُون مشاركته الآب وليمته الّتي أعدّها لجميع أحبّائه. وبالتّالي على كلّ مؤمن التخلّي عن خطاياه لا خوفًا من العقاب إنّما كتعبيرٍ منه على حبّه لله ورغبته في مشاركته الملكوت. على المؤمن أن يتخلّص من خطاياه انطلاقًا مِن ذهنيّة الرّوح الّذي يُحيي لا الحَرف الّذي يقتل، فيتخطّى كلّ أحزانه وعثراته، ليتمكّن من أن يكون فرِحًا في الربّ. على المؤمن إذًا، لا أن ينتظر كي تتغيّر الظروف ليتخلّص من خطاياه، إنّما عليه أن يتخلّص من كلّ خطاياه على الرّغم من كلّ الظروف، فينال الفرح الدّاخليّ الّذي لا يستطيع أحدٌ انتزاعه منه.

إنّ النّاموس بحسب بولس، هو لخدمة الموت، أي أنّ جميع النّاس هالِكون استنادًا إلى هذه الشريعة. إنّ النّاموس قد ناله موسى حين رأى مجد الله على الجبل، أمّا نحن فقد عاينَّا مجد الله حين تجسَّد يسوع ومَنحنا حريّة أبناء الله. إخوتي، لا يمكننا المقارنة بين ذهنيّة الحَرف الّتي أتى به النّاموس ونتيجتها هلاك جميع البشر لأنّهم لم يتمكّنوا من تطبيقه، وبين ذهنيّة الرّوح الّتي أتى بها المسيح، ونتيجتها الحريّة والحياة الأبديّة لكلّ الّذين يقبلون به مخلِّصًا وفاديًا لهم. لذا علينا ألّا نقبل، نحن المؤمنين، أن تسير الكنيسة وِفق شريعة الحَرف، بل علينا أن ندفعها للسَّير من جديد وِفقَ شريعة الرّوح، آمين.

ملاحظة: دُوِّن الشرح بأمانةٍ مِن قِبَلِنا.

Instagram
Copy link
URL has been copied successfully!
WhatsApp