تفسير الكتاب المقدّس،
الأب ابراهيم سعد،
“رسالة بولس الرّسول الثانيّة إلى أهل كورنثوس – الإصحاح الرّابع”
النّص الإنجيليّ:
“مِن أجلِ ذلِك، إذ لنا هذه الخِدمةُ كما رُحِمْنا لا نَفشَلُ، بَل قَدْ رَفَضْنا خَفايا الـخِزْيِ، غيرَ سالكِينَ في مَكرٍ، ولا غاشِّينَ كلمةَ اللهِ، بل بإظهارِ الحقِّ، مادِحينَ أَنفُسَنا لَدَى ضميرِ كُلِّ إنسانٍ قُدَّامَ اللهِ. وَلَكِن إنْ كان إِنجيلُنا مَكتُومًا، فإنّما هو مكتُومٌ في الهالِكين، الّذينَ فيهِم إلَهُ هذا الدَّهرِ قد أعمى أَذهانَ غيرِ المؤمنينَ، لِئلّا تُضيءَ لهم إنارةُ إِنجيلِ مَجدِ المسيحِ، الّذي هو صُورَةُ الله. فإنَّنا لَسْنا نَكرِزُ بأَنفُسِنا، بل بالمسيحِ يسوعَ ربًّا، ولكن بأَنفُسِنا عبيدًا لكم من أجلِ يسوعَ. لأنَّ اللهَ الّذي قال: “أَنْ يُشرِقَ نورٌ مِن ظُلمةٍ”، هوَ الّذي أشرَقَ في قُلُوبِنا، لإنارةِ مَعرِفَةِ مَجدِ اللهِ في وَجهِ يسوعَ المسيحِ. ولَكِن لَنا هذا الكنزُ في أَوانٍ خَزَفِيَّةٍ، لِيَكونَ فَضْلُ القوَّةِ لله لا مِنّا: مُكتَئِبينَ في كلِّ شيءٍ لكن غيرَ مُتضايقينَ، مُتَحَيِّرينَ لَكن غيرَ يائِسينَ، مُضطَهَدِينَ لَكِن غيرَ متروكينَ، مَطرُوحينَ لَكِن غيرَ هالِكينَ. حامِلِينَ في الجَسَدِ كُلَّ حينٍ إِماتةَ الربِّ يسوعَ، لِكَي تُظهَرَ حياةُ يسوعَ أيضًا في جَسَدِنا، لِأَنَّنا نَحنُ الأحياءَ نُسَلَّمُ دائمًا للموتِ مِن أجلِ يسوعَ، لِكَي تَظهَرَ حياةُ يسوعَ أيضًا في جَسَدِنا المائِت. إذًا، الموتُ يَعمَلُ فينا، ولَكن الحياةُ فيكم. فإذْ لَنا رُوحُ الإيمانِ عينُهُ، حَسَبَ الـمَكتوب: “آمَنْتُ لِذلِك تَكَلَّمتُ”، نَحنُ أيضًا نُؤمِن ولِذَلِكَ نتكلَّمُ أيضًا، عالِمِينَ أنَّ الّذي أَقام الربَّ يسوعَ سيُقيمُنا نَحنُ أيضًا بِيَسوعَ، ويُحْضِرُنا مَعَكم. لأنَّ جَميعَ الأَشياءِ هِيَ مِن أَجلِكم، لِكَي تَكونَ النِّعمَةُ وَهِيَ قَدْ كَثُرَتْ بالأَكثَرينَ، تَزيدُ الشُّكْرَ لِـمَجدِ الله. لذلِك لا نَفشَلُ، بل وإنْ كان إنسانُنا الخارِج يَفنى، فالدَّاخِلُ يتجَدَّدُ يومًا فيومًا. لأنَّ خِفَّةَ ضِيقَتِنا الوَقْتِيَّةَ تُنشِئُ لنا أكثَرَ فَأَكثَرَ ثِقلَ مَجدٍ أبديًّا. ونَحنُ غيرُ ناظِرينَ إلى الأشياءِ الّتي تُرى، بل إلى الّتي لا تُرى، لأنَّ الّتي تُرى وَقتِيَّةٌ، وأمّا الّتي لا تُرى فَأَبديَّةٌ”.
شرح النّص الإنجيليّ:
إنّ هذا الإصحاح من رسالة كورنثوس الثانية هو أحدُ أروع النّصوص الوِجدانيّة الصَّميميّة، حسب رأيي، لأنّه ينقل إلينا حقيقة واقع المبشِّر أي الحالة الّـتي يعيشها نتيجة عمله الرّسولي، متحلِّيًا بنعمة الصّبر ومتمسِّكًا بالرّجاء في مسيرته التبشيريّة بكلمة الله؛ كما ينقل إلينا تأثير كلمة الله الّتي ينطق بها المبشِّر في نفوس الّذين يبشِّرهم. إنّ البشارة بكلمة الله، تتطلّب جهدًا وتعبًا مِن قِبَل المبشِّر، كما أنّها تترافق مع اضطهادات وشِدَّة تطال الرّسول، ممّا يدفعه إلى الشُّعور بالاحباط واليأس والوَحدة. إنّ المبشِّر ينسى كلّ ما عاناه من شِدَّة وضِيقات حين يرى قبول الّذين بشَّرهم بكلمة الله، أي حين يراهم أحياءً في المسيح يسوع.
إنّ بولس استخدم صورة الآنية الخزفيّة والكنز، ليُعبِّر عن حقيقة ما يعيشه المبشِّر. إنّ هذه الآنية الخزفيّة الّتي يتكلّم عنها بولس هي آنية غير صالحة لشيء، ولكنّها تحوي في داخلها كنزٌ ثمينٌ. إنّ الآنية الخزفيّة هي ذات جبلة ضعيفة، أي أنّها معرّضة في كلّ أوان إلى التلاشي، لذا فالسؤال الّذي يُطرَح، هو: مَن الّذي يحمِل مَن: أَهيَ الآنية الّتي تحمِلُ الكنز أم أنَّ الكنز هو الَّذي يحمل تلك الآنية؟ إنّ الجواب واضحٌ تمامًا، وهو أنَّ الكنز هو الّذي يحملُ تلك الآنية لا العكس. فإنّه حين ينظر النّاس إلى هذه الآنية، فإنّهم لا يوجّهون أنظارهم إلى الآنية بحدِّ ذاتها، إنّما إلى الكنز الموجود في داخلها، وبالتّالي فإنَّ النّاس يُعطون المجد للكنز الموجود في تلك الآنية الخزفيّة لا إلى الآنية الخزفيّة بحدِّ ذاتها. على الرّسول إذًا، ألّا يترجّى الـمَدح مِنَ الّذين يبشّرهم، بل حَسبُه أن يكون ضميره مُرتاحًا تجاه الرسالة الّتي أَوكَلَهُ الله بها. إنّ الكآبة التّي يتكلّم عنها بولس هي ثمرةُ خيبة الأمل الّتي ينالها الرّسول مِنَ الّذين يبشِّرهم، وهذا ما يخلق في داخله حُزنًا كبيرًا. إنّ الكآبة تترافق غالبًا مع شعورٍ بالضِّيق، غير أنّ بولس يقول لأهل كورنثوس إنّه يشعر بالكآبة لكنّه لا يشعر بالضِّيق. إخوتي، إنّ الكآبة هي ثمرة عوامل خارجيّة لا علاقة للرّسول بها، أمّا الشعور بالضِّيق فهو يأتي من داخل المبشِّر، لذا فإنّ عدم شعور بولس الرّسول بالضيّق هو نتيجة تفاعله مع القوّة الموجودة في داخله، لأنّ قُوَّتَه تأتي مِن الكنز في داخله، أي مِن يسوع المسيح.
يُخبرنا بولس الرّسول عن صراعه الدّاخليّ، وهو صراعٌ يُعاني منه كلّ رسول. إنّ هذا الصّراع هو نتيجة عوامل خارجيّة يتعرَّض لها الرّسول تدفعه إلى التّراجع عن مسيرته التبشيريّة، مقابل قوّة داخليّة تدفعه إلى السير قُدُمًا في تلك المسيرة. فإن فازت، في هذا الصّراع، العوامل الخارجيّة على القوّة الدّاخليّة عند الرّسول، شَعَرَ هذا الأخير بالاكتئاب والضّيق والوَحدة وباضطهاد الآخرين له، إضافةً إلى شعوره بالحيرة نتيجة عدم سماع الآخرين لكلمة الله الّتي يبشِّرهم بها وعدم قبولهم بها، ممّا يدفعه إلى الشعور باليأس والإحباط. إنّ التَّجربة الّتي يتعرّض لها جميع النّاس دونَ استثناء هي تجربة الرّضوخ للأهواء الشخصيّة، غير أنّ الرّسول يسعى باستمرار إلى التحرُّر من تلك الأهواء من خلال تثبيت نظره على الكنز الموجود في داخله، ألا وهو المسيح يسوع. إضافةً إلى هذه التّجربة العامّة، يتعرَّض الرّسول إلى تجربة أخرى وهي رغبته في التراجع عن التبشير بكلمة الله، حين لا يجد لها قبولاً مِن قِبَل الآخرين، أي حين يشعر بأنّ لا فائدة من العمل الّذي يقوم به، فيُصاب بالإحباط واليأس. في هذه التجربة يشعر الرّسول برغبة في الاستقالة من مَهَمَّته الّتي تُشكِّل في الوقت نفسه هويّته الخاصّة.
إنّ بولس يُعرِّف عن نفسِه على هذا النّحو: أنا بولس المدعوّ رسولاً. إنّ تعريف بولس عن نفسه بهذا الشَّكل مُستَغرَبٌ بعض الشيء، إذ كان عليه أن يُعرِّف عن نفسه كما يلي: أنا الرّسول المدّعو بولس. في تعريف بولس عن نفسه، نجد أنّ رسوليّة بولس أصبحت اسمه وهويّته ومَهَمَّته. إنّ هذه الهويّة الّتي ينالها الرّسول هي سببُ شعوره بالمرارة والاضطهادات الّتي يُعاني منها، غير أنّ الله يمنحه قوّةً داخليّة تدفعه إلى متابعة هذه المسيرة. وبالتّالي إنّ قوّة الرّسول لا تأتي منه بل مِن الله؛ فبِدون الربّ يتراجع الرّسول عن تلك المسيرة أمام الضِّيقات الخارجيّة الّتـي تعترِض مسيرته الرسوليّة.
إنَّ الربّ يُعطي الرّسول قوّة تُمكِّنه مِن زرع الحياة في نفوس المؤمنين، على الرّغم من كلّ الاضطهادات والضِّيقات الّـتي يَتعرَّض لها، وهذا معنى كلام الرّسول بولس: إنَّ الحياة تعمل فيكم، والموت يعملُ فينا. إنّ الاضطهادات، والقهر والكآبة تُعبِّر عن الموت، ولكن ما يهمُّ بولس الرّسول هو أن تُعطى الحياة لكلّ الّذين يسمعون كلمة الله من خلاله ويقبلون بها. إنَّ كلّ معاناة بولس تنتهي حين يرى إنسانًا واحدًا يُعلِن قبوله لكلمة الله الّتي يبشِّر بها. يُشبِّه بولس قبول المؤمنين بكلمة الله على يده بعمليّة الولادة، لذا يقول في إحدى الرسائل الّتي كتَبَها إنّه يتمخّض فيهم، أي في الّذين يبشِّرهم، كي تتصوَّر فيهم صورة المسيح يسوع. ينظر بولس الرّسول إلى كلّ الّذين آمنوا على يده، على أنّهم أبناؤه في الإيمان، فعلى الرّغم من أنّ لهم آباءً ومعلِّمين كُثُرًا، ولكن بالنسبة إلى بولس، يبقى هو أباهم لأنّه هو الّذي وَلَدهم بالإيمان. إنّ بولس على ثقة تامّة أنّ الخِدمة الّتي يقوم بها تجاه هؤلاء المؤمنين لن تَفِشل، لأنّ اعتماده ليس على الجماهير الّتي تتبعه، إنّما على كلمة الله الفاعلة في نفوسهم. فكما أنّ عدم استفادة بعض المرضى من دواءٍ ما، لا يعني أبدًا أنّه عديم الفائدة، إذ إنّه ذو فائدة لأمراض معيّنة؛كذلك هي كلمة الله، فإنّ عدم قبول بعض السّامعين لها، لا يعني أبدًا أنّها مِن دُون فائدة، بل يعني ذلك استمرار خضوع هؤلاء السّامعين لرئيس هذا العالم. إن لم تتمكّن كلمة الله مِن أن تزرع الحياة فيك، فإنّ هذا دليل على أنّك ما زلت تحت عبوديّة أهوائك، لذلك لم تتمكّن من تصحيح رؤيتك إلى الأمور الّـتي تحيط بك. في الإنجيل، إنّ كلّ العُميان الّذين شفاهم يسوع كانوا من اليهود لأنّهم لم يتمكّنوا من رؤية الله الّذي كان متجسِّدًا أمامهم؛ أمّا كلّ الصُّم والبُكم الّذين شفاهم يسوع فقد كانوا من الوثنيِّين لأنّ كلمة الله لم تصل إليهم لذا لم يتمكّنوا من عيشها في حياتهم وإعلانها للآخرين. إنّ بولس أراد أن يقول لأهل كورنثوس إنّ الربّ يريد أن يُعطيهم من خلاله آذانًا كي يتمكَّنوا مِن سماع كلمة الله وبالتّالي إعلانها للآخرين، فالمؤمن الّذي يسمع كلمة الله ويقبل بها، لا يمكنه أن يحتفظ بتلك البُشرى لنفسه، بل إنّه يندفع لإعلانها للآخرين كي ينالوا هم أيضًا خلاص الربّ.
إنّ إيمانك هو هويّتك، وبالتّالي على صورة المسيح أن تكون مُجسَّدة فيك، فيتمكّن كلُّ مَن ينظر إليك من رؤية المسيح يسوع من خلالك، لا صورةَ إنسانٍ مُستعبَدٍ لأهوائه الأرضيّة. إنّ المؤمن يتميَّز مِن غير المؤمنين بأنّه يستطيع تمييز الخير الآتي من الربّ مِنَ الشَّر الّذي يلبس لباس النّور ليَغِشَّ المؤمنين ويُوقِعهم في حبائل التجربة. إنّ الإنسان الّذي يقوم بأعمال حسنة يستحقّ المديح، ولكنّ الشُّعور بالنَّشوة نتيجة مَديح الآخرين، يؤدّي إلى أذيّة هذا الإنسان لأنّه سيشعر بالغرور، وبالتّالي لن يقبل أيّ فشلٍ قد يتعرَّض له في المستقبل لأنّ سيُشعِره بالإحباط واليأس. على الإنسان ألّا يستسلم للإحباط والفشل، بل عليه أن يُحاول النّهوض في كلّ مرّة يتعرَّض فيها للتجربة، وهو لن يتمكّن من ذلك إلّا متى اعتمد على الله، وبالتّالي سيُدرِك أنّ قوّته لا تأتي منه بل مِن الله
إنَّ شعور الإنسان بالتفاخر على الآخرين جرّاء مَديح النّاس له لأعماله الحسنة، سيؤدّي به إلى الاعتقاد بأنّه هو الّذي يحمل الكنز لا العكس، وبالتّالي سيقع في التَّجربة نفسها الّتي وقع فيها إيلّيا النبيّ حين اعتقد أنّه المؤمن الوحيد في هذه الأرض الّذي لا يزال متمسِّكًا بإيمانه بالربّ. إنَّ مِثلَ هذا الإنسان يُعاني من الكبرياء، والكبرياء يُغيِّر مفهوم العطاء عنده: فَعِوَض أن يقوم الإنسان بالأعمال الحسنة من أجل إسعاد فقير من خلال تلبية احتياجاته، يتحوَّل العطاء عند ذلك الإنسان إلى مناسبة لسماع الـمَديح من الآخرين. إنّ مِثلَ هذا الإنسان لا يبحث عن مجد الله في الأعمال الّتي يقوم بها، إنّما عن مجده الأرضيّ، الذي يدفعه إلى التكبُّر على الآخرين.
إنّ الإنسان يَغِشُّ كلمة الله حين يستخدم تلك الكلمة من أجل تحقيق أهوائه، أي حين يستخدم تلك الكلمة الإلهيّة لا ليُبشِّر الآخرين بها شارحًا لهم ما الّذي يريد الله قوله للبشر من خلالها، بل ليُفسِّرها انطلاقًا مِن خدمة مصالحه الخاصّة. فقد يلجأ مثلاً أحد الرّاغبين بالانتقام إلى استخدام كلمة الله، ليُبرِّر أفعاله الشِّريرة، فيقول “كما تريدون أن يفعل النّاس بكم، افعلوه أنتم أوّلاً لهم”. حين قال الربّ تلك الكلمة، كان يريد أن يُشجِّعنا على معاملة الآخرين بالحُسنى، حتّى وإن أساؤوا إلينا لا إلى الانتقام منهم. فالإنسان إذًا، قد يلجأ إلى الاحتيال على كلمة الله لتبرير تصرّفاته الّتي لا يرضاها الله. إنّ الإنجيل يُصبح ضعيفًا حين يستخدمه الإنسان لا ليعيش وِفقَ مضمونه الحقيقيّ، إنّما ليختار منه ما يخدم مصالحه، فيتحوّل الإنجيل إلى مُحفِّز لهذا الإنسان لاستغلال الآخرين. إنّ غير المؤمنين سيُجدِّفون على الله وكلمته بسبب إنسان يدّعي الإيمان، وهو يُفسِّر كلمة الله على هواه لا حسبَ قصدِ الله. إنّ غير المؤمنين يُمجِّدون الله حين يُشاهِدون مؤمنًا يسلك في الطريق الصّحيح، أي حين تعكس تصرّفاته كلام الله حقيقةً. لا يبحث بولس في مسيرته التبشيريّة عن مَديح النّاس له في هذه الفانية، بل عن إيمانهم على يده بكلمة الله، فقبولهم بكلمة الله وعيشهم بموجبها، هو مديحٌ لبولس وسببٌ لافتخاره، حين يقف في حضرة الله في اليوم الأخير.
لا يحقّ لأيِّ مؤمِن أن يقسم النّاس ما بين هالكين وغير هالكين، بل عليه أن يُعلِن كلمة الله للآخرين مِن دون تمييز أو تفرقة بين البشر. وبالتّالي، فإنَّ طريقة تصرّفنا مع الآخرين هي الّتي تجعل الإنجيل مكتومًا عنهم أم مُعلَنًا لهم: فإن كانت تصرّفاتنا مُطابقة لتعاليم الإنجيل،كان الإنجيل مُعلَنًا لهم، أمّا إذا كانت غير ذلك، فالإنجيل يبقى مكتومًا عنهم. إنّ المقصود بإله هذا الدّهر هو “الشيطان”، وقد يتخِّذ أشكالاً متعدِّدة: المال، السُّلطة، أو خطيئة معيّنة. إنّ هذه الأشكال المتعدِّدة لإله هذا الدّهر هي الّتي تجعل الإنسان غير قادر على الرؤية بطريقة صحيحة، فيَصُمُّ أُذنيه عن سماع كلمة الله وما تطلبه منه تلك الكلمة. فالإنسان مثلاً، الّذي يشعر بأنّه أساء إلى أخيه الإنسان، بكلمة جارحة، لا يطيق سماع عظةٍ حول “مَن قال لأخيه يا أحمق، يستحقّ نار جُهنَّم”. لذا عند سماعه تلك الكلمة، فإمّا أن يُعلِن توبته عن ما صدَر عنه مِن كلامٍ جارح، وإمّا أن يَصُمَّ أذنيه عن سماع تلك الكلمة، وكأنَّ تلك الكلمة لا تعنيه، فيخرج من الكنيسة كما دخل أي مِن دُون أن يسمح لكلمة الله بأن تلمس كيانه، وتُغيّر قلبه. إنَّ كلمة الله تمتحن الإنسان، وعند هذا الامتحان الكبير، تظهر حقيقة هذا الإنسان فيتبيّن إن كان من أبناء هذا الدّهر، أم من أبناء الملكوت. يقول بولس الرّسول إنّ معركتنا ليست مع لحمٍ ودم، إنّما مع سلاطين هذا العالم، أي مع أفكار هذا العالم، بدليل أنّه عند حصول أيّة مشاجرةٍ، فإنّ الإنسان لا يتشاجر مع الآخر بسبب جسدِه، إنّما بسبب أفكاره الّـتي لا تنطبق مع أفكار الطرف الآخر. إنّ اختلافًا في الرأي حول فكرة معيّنة أو فلسفة، قد تؤدّي إلى قيام مظاهرات شعبيّة، وهذا ما نراه جَلِيًا في المجموعات المتطرِّفة الّتي تدافع عن فلسفة تؤمن بها، لذا تقتل الآخرين بحجّة الدّفاع عن هذه العقيدة الّتي تتمسَّك بها. وهذا هو “السّلوك بمكرٍ” الّذي تكلّم عنه بولس، إذ قد يتباهى بعض المؤمنين بالسَّنوات الّتي أمضُوها في الصلاة، على الرّغم من أنّ تصرّفاتهم لا تعكس إيمانهم بالله، بل تعكس إيمانهم بإله هذا الدّهر. إنّ بعض المقتدرين يتباهَون بالعطاء، فيطلبون تسجيل أسمائهم على ألواح نُحاسيّة كي يتمكّن جميع المؤمنين من رؤية عطاياهم وشُكرِهم عليها. ولكن لا يمكننا أن ننكر أنّ البعض الآخر منهم، يتبرّع للمحتاجين في الخفاء، أي مِن دُون أن تُعرَف أسماؤهم. أقول لكم إخوتي، إنّ هؤلاء قد تأمّلوا في كلمة الله في الإنجيل وعاشوا وِفق ذهنيّته، أمّا أولئك فإنّهم لا يعرِفون بماذا يُؤمنون، إذ إنّهم لم يتصفّحوا الإنجيل بدليل تصرّفهم وِقف ذهنيّة إله هذا الدّهر. إنَّ بعض المفاهيم الإيمانيّة تحتاج إلى تصحيح في عقول المؤمنين.
إنّ بولس يُشدِّد على أنّه لا يكرز بنفسه، إنّما هو يكرز باسم يسوع المسيح، وبالتّالي يريد بولس أن يُركِّز أمام أهل كورنثوس على أنّ الربّ يسوع هو الّذي يقود حياته، أي أنَّ أعماله تُعبّر عن استجابته لمشيئة الله. إنّ بولس يُشجِّع أهل كورنثوس على أن يتخِّذوا منه مثالاً لهم، فلا يسمحوا لأهوائهم وحساباتهم الخاصّة وأحقادهم من السيطرة عليهم. إنّ بولس يُعلِن عن استعداده بأن يكون عبدًا للّذين يبشِّرهم بكلمة الله، إن كان ذلك يخدم الهدف الّذي يصبو إليه، وهو: أن يتصوّر المسيح فيهم. إنّ بولس يُذكِّر أهل كورنثوس بأنّ الله قادرٌ على أن يُشرقَ في الظلمة ويفيض نورهم، وبالتّالي هو قادرٌ على أن يُشرِق في نفوسهم المظلمة ويُنيرها. إنّ هذا النّور الّذي يَفيض فيهم هو كفيلٌ بأن يجعلهم قادرين على رؤية مجد الله، على رؤية حضوره الله في حياتهم، من خلال وجه المسيح. إنّ الإنسان يستطيع أن يرى مجد الله في وجه يسوع- الإنسان، إذ قد عكس لنا المسيح كلّ ما في الله مِن مجدٍ. حين يتمكّن الإنسان مِن رؤية المسيح في وجه كلّ إنسان يلتقيه، فإنّه في هذه الحالة يكون قد تمكّن من معرفة الله حقًّا، غير أنَّ ذلك سيجعله يتعرَّض للاضطهادات، وبالتّالي إلى الشُّعور بالمرارة والإحباط لأنّ هذا العالم يرفض كلمة الله، كلمة الحقّ، ويضطهدها لأنّها تُهدِّد مصالحه.
إنّ بولس يُخبر أهل كورنثوس أنّه يتعرّض للموت في كلّ يوم، بسبب إعلانه كلمة الله: فيقول لهم إنّه تعرَّض للجلد والسَّجن، مرّات عديدة، ثمّ يُخبرهم بأنّه كان أيضًا مُعرَّضًا للموت حين انكسرت فيه السفينة في وسط البحر مرّات عديدة، وأنّه أيضًا تعرَّض للجوع، وللعيش في العراء مرّات كثيرة في سبيل خدمة كلمة الله وإعلانها للبشر أجمعين. إنّه يُخبرهم بذلك، ليُشدِّد أمامهم، على استعداده للموت من أجل يسوع المسيح، وأنّه تحمّل الكثير في جسده المائت الفاني، كي يُوصِل الكنز الموجود فيه، هو الآنية الخزفيّة الهشَّة، إلى جميع الأمم. إنّ كلّ ما عاناه بولس مِن شدّة واضطهادات لم يدفعه إلى اليأس، بل شدّده في متابعة المسيرة، لأنّ هدفه هو نقل الحياة الجديدة إلى كلِّ الأمم، من هنا كلامه لأهل كورنثوس: إنّ الموت يعمل فينا، أمّا الحياة فتعمل فيكم.
إنّ عالمنا اليوم يحتاج إلى أشخاص يؤمنون بالربّ، ويعيشون وِفق تعاليمه، إذ إنّ إنساننا اليوم قد أضاع مفاهيم الإنجيل الصَّحيحة، لذا يتزعزع إيمانه أمام الصّعوبات الّتي تواجهه، ويشعر بالإحباط واليأس فيتراجع عن مسيرته الإيمانيّة. إنّ كلام بولس إلى أهل كورنثوس يُذكِّرنا بأنّ الرّسول الحقيقيّ للمسيح، يتسلّح بالصّبر، ولا يتوانى عن محبة الآخرين على الرّغم من كلّ الشدائد الّتي يُعانيها، وذلك لأنّه يصبو إلى عيش الإنجيل وتبشير كلّ المسكونة به. إنّ الإنجيل يُشجِّعنا على ذلك أيضًا إذ يقول لنا: “طوبى لكم إذا عيّروكم واضطهدوكم وقالوا عنكم كلّ كلمة من أجل اسمي”. لا يحقّ للمؤمن أن يستخدم كلمة الله من أجل هَدم الآخرين وانتقادهم، بل على المؤمن أن يستند إليها من أجل بنائهم ودَفعهم إلى العودة عن طريقهم الضّالة مستخدمًا لغة المحبّة الّتي علّمنا إيّاها الربّ يسوع. في مساء كلّ يوم، على المؤمن أن يفحص ضميره، فيُدرِك أعماله الخاطئة الّتي ارتكبها في النّهار ويتوب عنها، راجيًا الله أن يرحمه ويغفر له كلّ ذنوبه. على كلّ مؤمن أن يُجاهر بإيمانه مهما كانت حالته، أكان إنسانًا بارًّا أم خاطئًا، لأنّ الأساس هو إظهار الكنز الموجود في داخل كلّ مؤمن، وهو يسوع المسيح، لا أن يُظهر المؤمن نفسه للآخرين. وبالتّالي لا يحقّ للمؤمن أن يتذرّع بخطاياه كي يتراجع عن إعلانه لكلمة الله، متحجِّجًا بأنّه حين يُصبح صالحًا يُكمِل تلك المسيرة. إخوتي، إن انتظار الإنسان وصوله إلى مرحلة القداسة والكمال لإعلان كلمة الله، هو مجردُ خيالٍ، لأنّ الإنسان في هذه الحالة لن يتمكّن من إعلان كلمة الله أبدًا في هذه الحياة، فالكمال في هذه الحياة ليس ممكنًا أبدًا، لأنّ الله وحده هو الكامل دُون سواه. إنّ المسيح يستطيع إصلاح الإنسان من خلال كلمته، حين يُجاهر هذا الأخير بالكنز المدفون في داخله، فكلمة الله قادرة على إصلاح الخطأة ولا يستطيع أحد منعها من أن تفعل فِعلها في حياة الإنسان الّذي يسمعها. إنّ بعض المؤمنين لا يتقرّبون من سرّ المناولة الإلهيّة بحجّة أنّهم غير مستّحقين لذلك.
إخوتي، على الجميع التقرُّب من سرّ المناولة، لأنّ الكلمة الإلهيّة الّتـي نتناولها هي الّتي تجعلنا مستحقّين لها، إذ لا أحد من البشر يستحقّ تلك النِّعمة. إخوتي، إنّ المناولة الإلهيّة هي الّتي تجعل الإنسان عظيمًا وهو لا يستطيع أن يُصبح عظيمًا من دون تلك النِّعمة الإلهيّة. إخوتي، إنّ سرّ المناولة ليس حِكرًا على أحد، بل هو نعمة إلهيّة تُمنح لجميع المؤمنين، لذا فعدم اقترابك منها، يجعلك أنت الخاسر الوحيد لتلك النِّعمة، لذا لا تتكبّر على الله، وتعال واقترب مِنه. إنّ خطاياك لا يُمكن أن تُشكِّل حاجزًا بينك وبين الله، فإنّ الله قد نَسيَ كلّ خطاياك، وهو لا يهتمّ إلاّ بخلاصك. إنّ غالبيّة المؤمنين ينظرون إلى كلمة الله على أنّها قصاصٌ من الله لهم على ما ارتكبوه من أخطاء، غير أنّ الحقيقة هي عكس ذلك تمامًا، فكلمة الله هي الكلمة الشّافية لجميع المرضى. إنّ جميعنا خطأة، ونحتاج إلى الشّفاء من أخطائنا، ووحدها كلمة الله تمنحنا هذا الشِّفاء. إنّ نظرة الإنسان الخاطئة إلى كلمة الله تدفعه إلى التعامل مع الله لا كابنٍ له، بل كأجيرٍ أو عبدٍ عنده. بالنسبة إلى بولس، إنّ إيمان أهل كورنثوس بالله على يده، يُشكِّل بطاقة عبوره إلى الملكوت. غير أنّ بولس يشعر بالانزعاج، حين يرى أنّ أهل كورنثوس قد استسلموا لأهوائهم الّتي قد سيطرت عليهم، وخاصّة بعد أن بشَّرهم بكلمة الله بكلِّ إخلاصٍ وتفانٍ، وصدق. إنّ أهل كورنثوس قد رفضوا بولس في مدينتهم بعد أن بشَّرهم بكلمة الله، لأنّهم قد صدّقوا بعض الإشاعات الـّتي لفَّقَها بعض المؤمنين الحاسِدين لعمل بولس. إنّ بولس لم يستطع القبول بأن تتعطّل كلمة الإنجيل بسبب هؤلاء المؤمنين الحاسِدين، لذا عبّر عن انزعاجه من تصرّفاتهم في رسائل عديدة، فقد نَعَت الغلاطيّين بالأغبياء، حين صدّقوا مِثل تلك الإشاعات.
حين يرفض المؤمِن ما يُقدَّم لأجله مُصِّرًا على البقاء في حالة العبوديّة، فهذا لا يُعبّر عن حكمته بل عن جهله وحماقته. إنّ بشارة بولس بكلمة الله لن تفشل لأنّ نعمة الله قد فاضت في الكثيرين. إنّ بشارة بولس بكلمة الله، قد كلّفته تعبًا وجُهدًا واضطهادات كثيرة، غير أنّه لا يبالي بكلّ تلك المتاعب لأنّ الحياة عاملة في داخله، وهي الّـتي تُجدِّده وتدفعه إلى المثابرة في مسيرته التبشيريّة، على الرّغم من أنّ جسده مائت، أي مجبول بالضُّعف. فكما أنّ الحبّ لا يموت طالما أنّه يتجدّد يوميًّا، كذلك هي الحياة، فإنّ الإنسان الّذي لا يتجدّد يوميًّا يُعبِّر عن موت الحياة فيه على الرّغم من أنّه لا يزال على قيد الحياة. إنّ الحياة الموجودة في داخل الإنسان قادرة على تجديده يوميًّا حتّى وإن مات جسديًّا. إنّ الحياة لا تتجدّد بالرَّتابة اليوميّة الّتي نعيشها في حياتنا، إنّما تتجدّد الحياة يوميًّا من خلال التحدّيات الّـتي تواجه الإنسان في حياته. إنّ كلمة الله الحيّة في داخلك، قادرة على كسر كلّ رتابة في حياتك، ولكن متى أمات الإنسان كلمة الله في داخله، قتل الحياة فيه، وألقى المسؤوليّة في كلّ أخطائه على كلمة الله. إنّ بعض المؤمنين يتوقَّفون عن الصّلاة لأنّ الله لم يُحقّق لهم ما يطلبونه، وهذا ما يُعبّر عن قتلهم كلمة الله في حياتهم، لأنّها لم تُجدِّدهم. إنّ أسهل أمرٍ يقوم به الإنسان هو إلقاء مسؤوليّة أخطائه، إمّا على الله، وإمّا على الشِّرير، مِن دُون أن يُحمِّل نفسه أيّة مسؤوليّة. لذا، نجد أن المؤمن يلجأ إلى استخدام الضمير: “أنا”، لا ليقول “أنا خاطئ” فيتوب عن خطاياه، إنّما للإشادة بأعماله الصّالحة على حساب الآخرين الّذين يُلقي عليهم مسؤوليّة أيّ تقصير في عمله. إنّ فَرَح الإنسان لا يكمن في التباهي بالماضي إنّما في السّعي للحصول على الخيرات الآتية. لذا فلنتوقّف إخوتي، عن النظر إلى عطايا الله للآخرين، ولننظر إلى عطاياه لنا في كلّ يوم، ساعين إلى تفعيلها في حياتنا، عِوَض لوم الله على عطاياه للآخرين وَحَسْدِهم عليها. إخوتي، إنّ الأطبّاء النفسيّين يؤمِّنون معيشتهم من الأزمات الإيمانيّة الّتي يُعاني منها المؤمنون، الّذين ابتعدوا عن الله، وعن قراءة كلمته في الإنجيل. إخوتي، إنّ المؤمنين الّذين يتعمَّقون في كلمة الله، ينالون الشِّفاء الحقيقيّ، لذا فلنسعَ إلى التعمّق أكثر في كلمة الله، ولنسعَ إلى الأمور الّتي لا تُرى، لأنّ تلك الّتي تُرى وقتيّة وزائلة أمّا تلك الّتي لا تُرى فهي أبديّة.
ملاحظة: دُوِّن الشرح بأمانةٍ من قِبَلِنا.