تفسير الكتاب المقدّس،
الأب ابراهيم سعد،
“رسالة بولس الرّسول الثانيّة إلى أهل كورنثوس – الإصحاح الخامس”
النّص الإنجيليّ:
“لأنّنا نعلَمُ أنّه إنْ نُقِضَ بيتُ خيمتِنا الأرضيّ، فَلَنا في السّماوات بِناءٌ مِن الله، بيتٌ غير مصنوعٍ بيَدٍ، أبديّ. فإنّنا في هذه أيضًا نَئِّنُ مُشتاقين إلى أن نلبس فوقَها مَسكِننا الّذي مِن السّماء. وإن كُنّا لابسينَ لا نُوجَدُ عُراةً. فإنّنا نحن الّذين في الخيمةِ نَئِّنُ مُثقَلِينَ، إذ لَسْنا نُريدُ أن نخلَعَها بل أن نَلبس فوقها، لكي يُبتَلَع المائت من الحياة. ولكن الّذي صَنَعَنا لهذا عينه هو الله، الّذي أعطانا أيضًا عربونَ الرّوح. فإذا نحن واثقون كلَّ حينٍ وعالمون أنّنا ونحن مستوطِنون في الجسد، فنحن متَغَرِّبون عن الربّ، لأنّنا بالإيمان نَسلُك لا بالعِيان. فَنَثِق ونُسَّر بالأَولى أن نتغرَّب عن الجسد ونستوطِن عند الربّ. لذلك نحترِص أيضًا – مستوطِنين كُنّا أو متغرِّبين – أن نكون مَرضِيِّين عندَه. لأنّه لا بُدَّ لنا أنّنا جميعًا نَظهرُ أمام كرسيّ المسيح، لينال كلّ واحدٍ ما كان بالجسد بحسب ما صَنَع، خيرًا كان أم شرًّا. فإذ نحن عالمون مخافةَ الربّ نُقنِع النّاس. وأمّا الله فَقَد صِرنا ظاهِرين له، وأرجو أنّنا قد صِرنا ظاهرين في ضمائركم أيضًا. لأنّنا لَسنا نَمدَحُ أنفُسَنا أيضًا لدَيكم، بل نُعطيكم فرصةً للافتخار مِن جِهَتِنا، ليكون لكم جوابٌ على الّذين يفتخرون بالوجه لا بالقلب. لأنّنا إن صِرنا مُختَلِّين فللِّه، أو كُنّا عاقِلين فَلَكُم، لأنَّ محبّةَ المسيح تَحصُرُنا. إذ نحن نحسبُ هذا: أنّه إن كان واحدٌ قد ماتَ لأجل الجميع، فالجميع إذًا ماتوا. وهو ماتَ لأجل الجميع كي يعيش الأحياء فيما بعد لا لأنفسِهم، بل للّذي مات لأجلهم وقام. إذ نحن مِن الآن، لا نعرِف أحدًا حسب الجسد. وإن كُنَّا قد عرفنا المسيح حسب الجسد، لكن الآن لا نعرفه بعدُ. إذ إن كان أحدٌ في المسيح، فَهوَ خليقة جديدة: الأشياء العتيقة قد مَضَتْ، هوذا الكلّ قد صار جديدًا. ولكن الكلَّ مِن الله، الّذي صالحنا لنَفسِه بيسوع المسيح، وأعطانا خدمةَ المصالحة. أي إنَّ الله كان في المسيح مُصالحًا العالم لنفسِه، غير حاسبٍ لهم خطاياهم، وواضِعًا فينا كلمةَ المصالحة. إذ نسعى كسُفراء عن المسيح، كأنَّ الله يَعِظُ بنا. نطلب عن المسيح: تصالحوا مع الله، لأنّه جعل الّذي لم يعرف خطيئةً، خطيئةً لأجلنا، لنصير نحن بِرُّ الله فيه”.
شرح النّص الإنجيليّ:
في هذا النّص، نلاحظ تصعيدًا لاهوتيًّا في خطاب الرّسول بولس إلى أهل كورنثوس. إنَّ الآية الأخيرة، الّـتي تشكِّل خاتمة هذا الإصحاح، تتضمّن مُلخَّصًا عن كلّ ما ورد فيه. ولكي نتمكّن من فَهمِ مضمونه، علينا قراءة هذا الاصحاح بطريقة عكسيّة، أي مُبتدئين من نهايته لنصل إلى بدايته.
يستخدم بولس صُوَرًا رمزيّةً، في هذا الاصحاح، ليُعبِّر عن حقائقَ إيمانيّة لاهوتيّة، فيشبِّه مثلاً الجسد البشريّ بالخيمة. فكما أنّ الخيمة، تسقط عند هبوب الريّاح لأنّها بناءٌ هشّ، كذلك يسقط الجسد البشريّ في الخطيئة عند هبوب عواصف التجارب والصُّعوبات الحياتيّة. غير أنّ الإنسان المؤمن، كما يقول بولس، يملك إضافةً إلى هذا البناء الهشّ، بناءً آخرَ متينًا، لا يسقط أبدًا ولا يتزعزع أمام الصُّعوبات، وهو الجسد الروحانيّ في السّماء. يقيم بولس مقارنةً بين الإنسان الجسديّ، والإنسان الروحانيّ. إنّ نهاية الإنسان الجسديّ هي الموت، أمّا نهاية الإنسان الروحانيّ فهي عدم الفساد بسبب إيمانه بيسوع المسيح.
إنّ بولس يُعبِّر عن رغبته في التخلّي عن هذا البناء الجسديّ، أي عن استعداده للانتقال من هذه الأرض الفانية، إذ في قلبه شوقٌ لارتداء ذلك البناء السماويّ. إنّ استخدام بولس كلمة “عُراة”، تُذكِّرنا بآدم وحوّاء اللّذين كانا عارِيَيْن، وكانا لا يخجلان بذلك، إلى حين ارتكابهما المعصية الأولى. إنّ بولس يسأل الله ألّا تكون وقفَتُه أمامه في تلك اللّحظة الرهيبة، وَقفَةً مخجلةً، كما كانت وقفةُ آدم وحوّاء أمامه عند ارتكابهما المعصية الأولى، بل أن تكون وقفته أمامه وقفةَ إنسان مستعدّ لرؤية وجهه القدُّوس. إنَّ الإنسان يطمح إلى ارتداء البناء الروحيّ فوق بنائه الجسديّ، مِن دون القبول بالتخليّ عن ذلك البناء الجسديّ، على الرّغم من كلّ الأثقال والمتاعب الّتي يسبِّبها له ذلك الأخير.
يوضح لنا بولس الرّسول، في هذا الإصحاح وفي الآية الأخيرة منه، أنّ الإنسان قد نال نعمة ارتداء البناء السماويّ – بعد خَلْعِه لبنائه الجسديّ بالموت- بفضل المسيح الّذي حمل خطايا البشر، وقَبِلَ الموت على الصّليب من أجل خلاصهم. إنّ أُجرةَ الخطيئة هي الموت، غير أنّ المسيح يسوع كان إنسانًا بارًّا لم يرتكب إثمًا، لذا لم يكن عليه الموت، ولكنّه مات كما لو أنّه مرتكبٌ خطايا البشر أجمعين. إنّ الربّ يسوع طلب من الله الآب أن يُبعِدَ عنه كأس الموت، لا لأنّه يرفض الموت بل لأنّه يرفض أن يكون خائنًا ومُرتكبًا للآثام في نظر أبيه. إنّ الربّ يسوع عبَّر عن قبوله لمشيئة الله الآب مهما كانت، قائلاً له: “لتكن مشيئتك”. إنّ مشيئة الله الآب هي خلاص جميع البشر، ولتحقيقها كان على المسيح أن يقف وقفة الخاطئ أمام الله الآب. إنّ المسيح لم يَخَفْ مِنَ الموت، ولذا علينا، نحن المؤمنين به، عدم الخوف منه أيضًا. إنّ المؤمن لا يخاف الموت لأنّه يرفض الحياة، بل هو يرفض الموت لأنّه غير مستعدّ لملاقاة وجه الله القدُّوس وللمثول أمامه.
إنّ مفهوم الإنسان للموت ينطلق مِن إيمانه بالله وبرؤيته للحياة. لم تكن مشكلة الربّ يسوع في الموت على الصّليب وتحمُّل الآلام، بل كانت في وقوفه أمام الله الآب، وَقفَةً مخجلة، وقفةَ خاطئٍ، على الرّغم من برارته وأمانته. إنّ الربّ يسوع قَبِل أن يُطبَّق عليه عقاب الخطيئة، ألا وهو الموت، حبًّا بالبشر ومن أجل خلاصهم. لم يفهم البشر معنى هذا العمل الخلاصيّ، فاعتقدوا أنّ الربّ يسوع قد أصبح خطيئة في نظر الآب، لذا قَبِل الآب بموت ابنه على الصّليب ولم يُخلِّصه. إنّ هذا الاعتقاد خاطئٌ تمامًا، فالله الآب ينظر إلى الربّ يسوع، على أنّه الابن البّار لأنّه حقّق مشيئة أبيه حتّى النِّهاية.
إنّ الربّ يسوع أمينٌ لله أبيه، لذا طلب منه أن يُبعِد عنه كأس الخيانة، كأس الموت، ثلاث مرّات. إنّ يسوع على الصّليب، طلب من الله أبيه أن يغفر لصالبيه قائلاً: “اغفر لهم يا أبتِ، لأنّهم لا يدرون ماذا يفعلون”، على الرّغم مِن علمه بأنّهم كانوا عالمين بما هم فاعلون. إنّ عمل الغفران هذا، الّذي قام به يسوع، يُعبِّر عن محبّته العظيمة للبشر، إذ إنَّ المحبّة وحدها قادرة على سَترِ جمٍّ من الخطايا. إنّ عبارة “لا يدرون ماذا يفعلون”، تُشير إلى عدم معرفة هؤلاء الصّالبين أنّهم السبب في وقوف يسوع وقفة الخائن والخاطئ أمام الله أبيه. إنّ محاكمة يسوع كانت محاكمةً باطلة، والحُكم الّذي صَدر بشأنه هو أيضًا باطلٌ، لأنّه استنادًا للقانون البشريّ والدّيني، الموت هو عقاب المجرم والخاطئ، لا عقاب البّار والأمين. إنّ الموت لم يستطع أن يغلب يسوع المسيح بدليل قيامة المسيح من بين الأموات. لم يكن عرق يسوع يتساقط منه كالدّم، بسبب خوفه من الموت، إنّما بسبب رفضه أن يكون خائنًا في نظر أبيه.
إنّ الله الآب يعلم أنّ يسوع ليس خاطئًا ولا خائنًا بل هو أمينٌ له، كما أنّه يعلم أيضًا أنّ يسوع قد دفع بموته على الصّليب الفِديَة عن إخوته البشر، ليُخلِّصهم مِن الموت ويمنحهم الحياة الأبديّة. إنّ الموت يستطيع أن يبتلع الخطأة والأشرار، لكنّه غير قادر على ابتلاع الأبرار. إنّ المسيح هو ملء الحياة والبرارة، لذا لم يتمكّن الموت من ابتلاعه، فانتصر المسيح على الموت، وأفقده كلّ سلطانه على البشر وأعاد إليهم الحياة الأبديّة الّتي فقدوها بخطيئتهم الأولى. إنّ بولس الرّسول يُخبرنا عن عمل يسوع الخلاصيّ وانتصاره على الموت قائلاً: “أين شوكَتُكَ يا موت، وغلبَتُكِ يا جحيم؟” (ا كور 15). لم يعد باستطاعة الموت، أن يغلبنا نحن المؤمنين بيسوع، لأنّ المسيح قد غلبه وأعطانا الحياة الأبديّة. وبالتّالي، فإنّ الموت لن يتمكّن من الإمساك بالبشر والإيقاع بهم في قبضته على الدّوام، بل إنّ هذه المرحلة ستكون وجيزة وقصيرة، لأنّ الربّ سيأتي لنجدتنا وسيُحرِّرنا منه ويمنحنا القيامة في الحياة الأبديّة. في عمل المسيح الخلاصيّ، نال البشر نِعمة أنْ يكونوا بِرَّ الله في المسيح يسوع.
إنّ مشكلة المؤمن مع الموت لا تكمن في خوفه منه، لأنّ الموت قد فَقَدَ كلّ قدرة وسلطان على إخافته، إنّما المشكلة تكمن في خوف المؤمن مِن مواجهة الله بعد الموت وفي هذه الحياة أيضًا. على المؤمن، إذًا، الاستعداد لمواجهة الله ولرؤية وجهه القدُّوس منذ الآن. إنّ بولس يتشوّق للقاء الربّ وإلى ارتداء الخيمة الأبديّة فوق الخيمة الأرضيّة الّتي يلبسها. إنّ بولس الرّسول قد طلب من الله أن ينزع منه الآلام الجس
ديّة الّتي يعاني منها، كي يتمكّن مِنَ التبشير بكلمة الله بطريقةٍ أسرع، غير أنّ الله لم يستجب له قائلاً إنّ في ضُعفه تظهر قوّة الله، وإنّ نعمته تكفيه. إنّ جواب الله هذا لبولس لا يعني أبدًا أنّ ضُعفَ الإنسان سيتحوّل إلى نقطة قوّة، إنّما يعني أنّ الله سيَظهر للآخرين من خلال نقاط ضُعف المؤمن. كان بولس يُعاني من أمراضٍ كثيرة في جسده: أَلمٍ في معدته وشِّحٍ في نظره، وكان يعتقد أنّه في حال نال نعمة الشِّفاء مِن كلّ تلك الأوجاع سيتمكّن مِن نقل البشارة إلى الأمم بطريقة أسرع وأفضل. ولكنّ الربّ لم يستجب لطلبه هذا، كي لا يشعر بولس الرّسول بالكبرياء، فيعتقد أنّه هو المسؤول الأوّل والوحيد عن البشارة وأنّها بدونه لن تتمكّن مِن الوصول إلى الآخرين. إخوتي، إنّ البشارة ليست حِكرًا على أحدٍ، إنّما هي مسؤوليّة جميع المؤمنين على حدٍّ سواء، لذا لا يعتقدَّن أحدٌ أنّه غير قادر على إيصال البشارة إلى الآخرين بسبب ضُعفه، لأنَّ الله يعمل في ضُعف كلّ إنسان، فَفِيه تظهر قوّة الله. إنّ كلمة الله ليست رهن مزاج الإنسان، ولا هي رهن ضُعفِه: فكلمة الله تصل إلى الآخرين أَبشَّر بها الرّسول أم لا، كما أنَّها تصل إلى الآخرين على الرّغم مِن ضُعف الّذين يبشِّرون بها، إذ لا يستطيع الضُّعف البشريّ الحدِّ من مسيرة كلمة الله. في ضُعف الإنسان تظهر قوّة الله، كما أنّ قوّة الإنسان تبقى ضعيفة، مهما تعاظمت، أمام قوّة الله.
منذ بدء الخليقة، أي منذ آدم وحوّاء، ابتعدت البشريّة عن خالقها من خلال معصيتها الأولى، فنشأت بينها وبين الله خصومةٌ استمرّت لقرونٍ طويلة. لكنّ الربّ يسوع، الأخ البكر لكلّ البشريّة، رفض استمرار تلك الخصومة، فقرّر التجسُّد ورَضِيَ بالموت، في سبيل مصالحة البشريّة مع الله، فكان المبادر الأوّل لمصالحة البشريّة مع الله، غير أنّ البشر رفضوا عمل الله الخلاصيّ مِن أجلهم. إنّ الربّ يسوع أعطى البشريّة جمعاء نعمةَ المصالحة مع الله دون أيّ مقابلٍ، ولم يطلب منها سوى القبول بعمله الخلاصيّ أي بمصالحتها مع الله الآب من خلاله.
إنّ يسوع هو الشَّفيع الوحيد لنا عند الله إذ به تَمّت مصالحتنا مع الآب، وهذا ما يؤكِّده لنا بولس في كلامه حين يقول إنّه ليس لنا شفيعٌ أو وسيطٌ عند الآب إلّا يسوع المسيح الإنسان. إنّ مفهومَنا لشفاعة القدِّيسين تشوبه بعض الأخطاء: فالقدِّيسيون ليسوا شُفعاءَنا عند الله، بمعنى أنّهم واسطتنا لديه إذ لا شفيع لنا بهذا المعنى أمام الله إلّا يسوع المسيح، بل إنّ القدِّيسين هم شُفعاؤنا بمعنى أنّنا نطلب مساعدتهم في الصّلاة، كي يُساندونا في هذه الحياة فنواجه صعوباتنا ونتغلّب عليها، ونتمكّن من الوصول في النِّهاية إلى القداسة، أي إلى مشاهدة وجه الله القدُّوس. إذًا، إنّ شفاعة يسوع لنا، لا تُشبه أبدًا شفاعة القدِّيسين: فالمسيح قد منحنا نعمة المصالحة مع الله الآب، وبالتّالي منحنا المشاركة في الملكوت، أمّا القدِّيسون فشفاعتهم لنا تقتصر على مساندتنا في الصّلاة لكي نتمكّن من مواجهة الصُّعوبات في حياتنا فنحصل في النّهاية على القداسة ونتمتّع بمشاهدة وجه الله القدُّوس في الملكوت.
إنّ قبول المؤمن بوساطة يسوع تدفعه إلى العودة إلى الله، أي إلى التوبة، وإلى طلب المساعدة مِن إخوةٍ له، قد سبقوه في هذه المسيرة، فَقَبلوا بتلك الوساطة واختبروا فرح العيش مع الربّ، ونالوا تعزياته، لمساندته في هذه الحياة كي يتمكّن من الوصول إلى المصير نفسه، ألا وهو القداسة أي عيش الفرح مع الربّ. على المؤمن أن يواصل صلاته للقدِّيسين، لأنّ المؤمن ينال من خلال مساعدتهم والعضَد له في هذه الحياة، وصلاته لهم هي تعبير عن شراكة كنيسة الأرض بكنيسة السّماء.
لا نفع لنا إخوتي، من تقديم الرشوات للقدِّيسين في النذورات لأنّهم لا يملكون تلك القدرة الّتي تخوِّلهم إدخالنا إلى الملكوت، وبالتّالي علينا الاعتراف أنّ لا وساطة لنا ولا شفيع سوى يسوع المسيح الإنسان. إنَّ ردّة فعل البروتستانت على شفاعة القدِّيسين،كما نعيشها اليوم في عالمنا، مبرَّرة تمامًا، فرَفْضُهم لشفاعة القدِّيسين لا تَنمُّ عن جهلٍ أو كبرياء منهم، بل هي مستندة على كلام الإنجيل الّذي أورده بولس في رسائله قائلاً إنّه لا شفيع لنا ولا وسيط لنا عند الله إلّا يسوع الإنسان. إنّ القدِّيسين هم جبلة ضعيفة كسواهم من البشر، وبالتّالي لا يتميَّزون عن الآخرين بشيء. إنّ كلّ المؤمنين مدّعوون إلى القداسة وإلى محبّة المسيح واتِّباع تعاليمه المقدَّسة، كما فعل القدِّيسون، وبالتّالي فإنّ القداسة هي مصير كلّ مؤمن حقيقيّ بالمسيح. لقد رفض البروتستانت كتابات الآباء إذ اعتبروها خبرة روحيّة خاصّة ببعض المؤمنين وهي لا تنطبق على جميع البشر، وبالتّالي يستطيع أيّ مؤمن تدوين خبرته الروحيّة الخاصّة مِن دون اعتبارها مرجعًا روحيًّا.
كما رفض البروتستانت فكرة شفاعة القدِّيسين، والاعتراف بأنّ الموتى القدِّيسين يستطيعون مساندة إخوتهم الّذين لا يزالون في هذه الحياة. إخوتي، إنّ المسيح قد انتصر على الموت، وبالتّالي لم يعد الموتُ قادرًا على قطع الصِّلة بين الأحياء في هذه الحياة والأحياء في الملكوت. هذا هو إيماننا، ولذا نحن نقيم الصّلوات والذبائح الإلهيّة من أجل راحة أنفس موتانا، فنحن نؤمن أنّهم لا يزالون حاضرين معنا وإنْ كُنّا غير قادرين على رؤيتهم بالعين المجرَّدة. إنّ الله الآب يفرح حين يجد أنّ أبناءه الأحياء في الأرض، يتواصلون مع إخوتهم الّذين في السّماء من خلال الصّلاة: إنّه يفرح لمساندة القدِّيسين إخوتهم البشر كما يفرح بأمانة أبنائه الّذين في الأرض لإخوتهم الّذين انتقلوا إلى الملكوت. إنّ هذه الصّلوات المتبادلة بين أبناء الأرض وأبناء السّماء تُجسِّد المعنى الحقيقيّ للشفاعة، كما تعكس وحدة الكنيسة الأرضيّة مع الكنيسة السماويّة.
إنّ المؤمن يُصبح خليقة جديدة في المسيح، إذ مع المسيح زال كلّ ما هو قديم. لكنّ مشكلة الإنسان الأساسيّة تكمن في أنّه يريد الاستفادة من الجديد مع المحافظة على كلّ ما هو قديم. على المؤمن أن يختار بين القديم وما يقدِّمه له العهد القديم والشريعة اليهوديّة، وبين الجديد وما يقدِّمه له المسيح وشريعة الحبّ. إنّ المسيح يدعونا إلى عدم إصلاح الثوب العتيق بقطعةِ قماشٍ جديدة، كما أنّه لا يجوز إصلاح الثوب الجديد بقطعة قماشٍ عتيقة، لأنّنا سنُفسد كِلا الثوبين. غير أنّنا في الحقيقة، نقوم بما يعاكس كلام المسيح، وهذا ما يجعلنا في صراعٍ داخليّ، حين نُعلِن رغبتنا بالقبول بكلّ جديد يُقدِّمه لنا المسيح مع إصرارنا المحافظة على كلّ ما قدَّمته لنا الشريعة.
إنّ المسيح تجسَّد ومات من أجل خلاص البشر من دون استثناء: صالحين وأشرار. أمام عمل الله الخلاصيّ، ينقسم البشر إلى قسمين: منهم مَن قَبِلَ بخلاص الربّ له، فكانت حياته متجانسة مع تعاليم الإنجيل، ومنهم مَن لم يقبل بالخلاص، فكانت تصرّفاته شريرة تعكس عدم قبوله بالربّ مخلِّصًا له. إنّ الربّ غير مسؤول عن الشَّر في العالم، وبالتّالي لا يمكن للإنسان لَومَ الله على محبّته لجميع البشر ومَنْحِهِ الخلاص للجميع. إنّ الإنسان لا يملك الحقّ في تقسيم البشر إلى مستحقِّين للخلاص وغير مستحقِّين له، فهذا القرار هو خاصّ بالله دون سواه. إنّ المؤمن لا يستطيع منع الآخرين من ارتكاب الشرور، ولكنّه يستطيع أن يتضرّع إلى الله من أجل هذا الأخ الشرير، عسى الله يتمكّن من إيجاد طريقة يدخل فيها إلى قلب هذا الإنسان، فيتغيِّر ويتوب عن طريقه الشريرة. على المؤمن الاستمرار في التعامل مع هذا الأخ بكلّ محبّة، عسى تلك المحبّة تكون وسيلة لتغيير قلبه المتحجِّر.
يتابع بولس كلامه مع أهل كورنثوس قائلاً إنّه لا يسعى إلى الحصول على المدح منهم، بل يُخبرهم أنّه أحد الأسباب الّـتي تدفعهم إلى الافتخار به. إنّ كلام بولس هذا، لا يُعبِّر عن كبريائه أو تَقواه الكاذبة، بل يُعبِّر عن مدى وعيه وإدراكه لما يقوم به مِن عملٍ تبشيريّ. إنّ بولس قد بشَّر أهل كورنثوس بالمسيح، وقد قَبِل أهل تلك المدينة تلك البشارة وأعلنوا إيمانهم به، وهذا الإيمان هو سببٌ لافتخار بولس أمام الربّ حين يقف أمامه في اليوم الأخير، كما أنّ بولس يشكِّل سببًا لافتخار أهل كورنثوس إذ وصلت إليهم كلمة الله بواسطته وبكلّ أمانةٍ.
إنّ الإنسان يعاني من عدم انسجام بين عتيقه وبين الجديد الّذي أتى به يسوع. وهنا يُطرَح السؤال حول كيفيّة إصلاح الأمور على المستوى الشخصيّ أوّلاً، ثمّ على مستوى الجماعيّ، وأخيرًا على الصَّعيد العام، أي على مستوى الكنيسة والعالم. لا يمكن لشيء أن يصطلح من دون يسوع المسيح، فهو الوحيد القادر على إحداث التغييرات على كلّ الأصعدة. إنّ الإنسان يستخدم وسائل للضَّغط على الآخرين كي يُحدِث تغييرًا مُعينًا، ولكنّ هذا التغيير هو وقتيّ لا يدوم، لأنّ الله لا يرضى بمثل تلك الوسائل القمعيّة وغير الفعّالة.
إنّ الفكر الإرهابيّ لا يتمّ القضاء عليه عسكريًّا، إنّما من خلال تعريف أعضاء هذه الجماعات الإرهابيّة إلى يسوع المسيح، فيسوع المسيح هو الحلّ لكلّ الشرور في العالم. فالشَّر يزول حين يُدرِك جميع مرتكبيه أنّهم محبوبون مِن الله. أمّا على مستوى الكنيسة، فلا يمكننا الحديث عن إصلاحٍ فيها إلّا بعد عودة المسيح إلى مركزه الأساسيّ في قلب الكنيسة. فطالما أنّ دور المسيح هو مهمَّشٌ في الكنيسة، فإنّ الفساد سينتشر فيها أكثر فأكثر، ولكن حين يعود المسيح إلى وسط الجماعة فإنّ الإصلاح سيتمّ تلقائيًا، لأنّ حضور الله لا بدّ له أن يُغيِّر الذهنيّات والأفكار المتحجِّرة. على كلمة الله أن تسيطر من جديد داخل الكنيسة، فتكون لها الكلمة الأخيرة في كلّ القرارات المتَّخذة. حين جرّبه إبليس في البريّة، انتصر الربّ لأنّه كان متسلِّحًا بكلمة الله، فرَدُّ يسوع على كلام إبليس كان على الدّوام مستَنِدًا على كلمة الله في الكتاب المقدّس.
إنّ كلّ إصلاح في الكنيسة وفي العالم، وحتّى على المستوى الشخصيّ، لا يمكنه أن يتمّ حقيقةً إلّا إذا كانت مرجعيّته الأولى هي يسوع المسيح، أي كلمة الله. على جميع المؤمنين اختيار مرجعيّة واحدة لحلّ كلّ خلافاتهم، فإذا اختاروا كلمة الله مرجعيّةً أساسيّة ووحيدة لهم، فإنّ كلّ مشاكلهم ستتلاشى وتختفي أمام كلمة الحقّ. إنّ المسيح يدعونا كي نتخّذه مرجعيّة في حياتنا، لأنّه في حال وجود مرجعيّة أخرى في حياتنا فإنّ الآلام والأوجاع سترافقنا في هذه الخيمة الأرضيّة، ولن تنتهي إلاّ حين نلبس جسدنا السماويّ الأبديّ غير المصنوع بأيدٍ بشريّة. إنّنا نستطيع منذ هذه اللّحظة أن نرتدي ذلك اللّباس السماويّ، على الرّغم مِن جبلتنا الضعيفة وأخطائنا الكثيرة، فقوّة الربّ ستظهر في ضعفنا الأرضيّ والبشريّ.
ملاحظة: دُوِّنت المحاضرة مِن قِبَلِنا بتصرُّف.