تفسير الكتاب المقدّس،
الأب ابراهيم سعد،
“رسالة بولس الرّسول الثانيّة إلى أهل كورنثوس – الإصحاح الثامن”
النّص الإنجيليّ:
“ثُمَّ نُعرِّفُكُم أَيُّها الإِخوةُ نِعمَةَ اللهِ الـمُعْطاةَ في كنائِسِ مَكِدُونِيَّةَ، أَنَّهُ في اختِبارِ ضِيقَةٍ شَديدَةٍ فاضَ وُفُورِ فَرَحِهِم وَفَقْرِهِمِ العَميقِ لِغِنى سخائِهم، لأنَّهُم أَعطَوْا حَسَبَ الطَّاقَةِ، أَنا أَشْهَدُ، وَفَوقَ الطَّاقَةِ، مِن تِلقاءِ أَنفُسِهِم، مُلْتَمِسِينَ مِنَّا، بِطِلبَةٍ كثيرةٍ، أَن نَقبَلَ النِعمَةَ وَشَرِكَةَ الخِدمَةِ الَّتي للقدِّيسِينَ. وَلَيْسَ كَما رَجَوْنا، بَل أَعْطَوْا أَنْفُسَهُم أوّلاً للربِّ، وَلَنا، بِمَشِيئَةِ اللهِ. حَتَّى إِنَّنا طَلَبْنا مِن تِيطُسَ أَنَّهُ كَما سَبَقَ فابْتَدَأَ، كَذَلِكَ يُتَمِّمُ لَكُم هَذِهِ النِّعْمَةَ أَيضًا. لَكِنْ كَما تَزْدَادُونَ في كُلِّ شيءٍ: في الإِيمانِ وَالكَلامِ والعِلْمِ وَكُلِّ اجْتِهادٍ وَمَحَبَّتِكُم لنا، لَيْتَكُم تَزدَادُونَ في هَذِهِ النِّعمَةِ أَيضًا. لَسْتُ أَقُولُ على سَبيلِ الأَمْرِ، بل باجْتِهادِ آخَرينَ، مُخْتَبِرًا إِخْلاصَ مَحَبَّتِكم أَيضًا. فَإِنَّكم تَعرِفُونَ نِعْمَةَ رَبِّنا يَسوعَ المسيحِ، أَنَّهُ مِنْ أَجْلِكُمُ افْتَقَرَ وَهُوَ غَنيٌّ، لِكَي تَسْتَغْنُوا أَنْتُم بِفَقْرِهِ. أُعْطِيْ رَأْيًا في هذا أَيضًا، لِأَنَّ هذا يَنْفَعُكُم أَنْتُم الَّذينَ سَبَقْتُم فابْتَدَأْتُم مُنذُ العامِ الماضِي، لَيْسَ أَن تَفعَلُوا فَقَط بَلْ أَنْ تُرِيدُوا أَيضًا. وَلَكِنِ الآنَ تَمِّمُوا العَمَلَ أَيضًا، حتَّى إنَّهُ كَمَا أَنَّ النَّشاطَ للإِرادَةِ، كَذَلِكَ يَكُونُ التَّتْمِيمُ أَيضًا حَسَبَ ما لَكُم. لِأَنَّهُ إِنْ كانَ النَّشاطُ مَوجودًا فَهوَ مَقبُولٌ على حَسَبِ ما للإِنسانِ، لا على حَسَبِ ما لَيْسَ لهُ. فَإِنَّهُ لَيْسَ لِكَي يَكُونَ لِلآخَرينَ راحةٌ وَلَكُمْ ضِيقٌ، بَلْ بِحَسَبِ الـمُساواةِ. لِكَيْ تَكونَ في هذا الوَقتِ فُضَالَتُكُم لإِعْوازِهِم، كَي تَصيرَ فُضَالَتُهُم لإِعْوازِكُم، حَتَّى تَحْصُلَ الـمُساواةُ. كَما هُوَ مَكْتُوبٌ: “الّذي جَمَعَ كَثيرًا لَم يُفضِلْ، والَّذي جَمَعَ قليلاً لَمْ يُنقِصْ”. وَلَكِنْ شُكرًا للهِ الّذي جَعَلَ هذا الاجْتِهادَ عَينَهُ لأَجْلِكُم في قلبِ تيطُسَ، لِأَنَّهُ قَبِلَ الطِّلْبَةَ. وَإِذْ كانَ أَكْثَرَ اجْتِهادًا، مَضَى إِلَيْكُم مِن تِلقاءِ نَفسِهِ. وَأَرْسَلْنا مَعَهُ الأَخَ الّذي مَدْحُهُ في الإِنجيلِ في جَميعِ الكَنائِسِ. وَلَيْسَ ذَلِكَ فَقَط، بَلْ هُوَ مُنتَخَبٌ أَيضًا مِنَ الكَنائِسِ رَفيقًا لَنا في السَّفَرِ، مَعَ هَذِهِ النِّعمَةِ الـمَخدُومَةِ مِنَّا لِمَجدِ ذَاتِ الربِّ الواحِدِ، وَلِنَشَاطِكُم. مُتَجَنِّبِينَ هَذا أَنْ يَلُومَنا أَحَدٌ في جَسامَةِ هَذِهِ الـمَخدومَةِ مِنّا. مُعْتَنينَ بأُمورٍ حَسَنَةٍ، لَيْسَ قُدَّامَ الربِّ فَقَط، بَلْ قُدَّامَ النَّاسِ أَيضًا. وَأَرْسَلْنا مَعَهُما أَخانَا، الّذي اخْتَبَرْنا مِرارًا في أُمورٍ كَثيرَةٍ أَنَّهُ مُجْتَهِدٌ، وَلَكِنَّهُ الآنَ أَشَدُّ اجْتِهادًا كَثيرًا بِالثِّقَةِ الكَثيرَةِ بِكُم. أَمَّا مِن جِهَةِ تِيطُسَ، فَهوَ شَريكٌ لي وَعَامِلٌ مَعي لِأَجْلِكُم. وَأَمَّا أَخَوانا فَهُما رَسُولا الكَنائِسِ، ومَجْدُ المَسيحِ. فَبَيِّنوا لَهُم، وَقُدَّامَ الكنائِسِ، بَيِّنَةَ مَحَبَّتِكُم، وافْتِخارِنا مِنْ جِهَتِكُم”.
شرح النّص الإنجيليّ:
في هذا الإصحاح، يُعالج بولس الرّسول موضوع العطاء قائلاً إنّه يتوجّب على الكنائس الغنيّة أن تهتمّ بحاجات الكنائِس الفقيرة. وفي هذا الصّدد، يلتقي بولس الرّسول مع لوقا الإنجيليّ الّذي نقل إلينا في سفر أعمال الرّسل، صورةً مِثاليّة عن الشراكة في الخدمة، الّتي كانت تعيشها الكنيسة الأولى، قائلاً: “وكانوا يُواظبون على تعليم الرّسل، والمشاركة وَكسْرِ الخبز والصّلوات” (أعمال 2: 42). إنّ الشراكة في الخدمة لا تقوم على المشاركة في الطّعام وحَسب، إنّما تقوم أيضًا على مشاركة المؤمنِين بعضهم البعض الهموم الحياتيّة، ليتمكّن الأغنياءُ مِنهم مِن سدِّ حاجات الإخوة المحتاجين، محاولين بذلك القضاء على الفقر، بعطاءاتهم، مُتغلّبين على التّجربة الأخطر الّتي ينصبها لهم الشِّرير وهي بثُّ شعورٍ بالتَّقصير تجاه حاجات إخوتهم الـمُعوَزين. يتعرّض المؤمِنون الـمَيسُورون أيضًا لإحدى أخطر تجارب الشِّرير، وهي قائمة على تحليلهم لأوضاع المحتاجين قبل تقديمهم العطايا لهم،كوَسيلةٍ للتهرّب مِن تلبية الحاجات المطلوبة. على الكنائس الغنيّة أن تمدَّ يد العَون إلى الكنائس المحتاجة، لأنّ مَن يعرِض عليهم حاجةَ تلك الكنائس، هو بولس الرّسول الّذي بشَّر الكنائسَ الغنيّة والكنائس الفقيرة على حدٍّ سواء، أي أنّه يعرف حاجةَ كلٍّ مِن تلك الكنائس، ولذلك فهو لن يترددّ في طلب المساعدة كلّما رأى حاجةً لذلك. إنّ العطيّة الماديّة الّتي يُقدِّمها المؤمِن، هي “نِعمةٌ مِنَ الله” للمحتاج، حَسْبَ تعبيرِ بولس الرّسول. فالغنى الماديّ هو عطيّةٌ مجانيّة مِن الله للإنسان، ولذا فإنّ الإنسان الّذي يُقدِّم عطيّةً للمحتاج إليها، يدخل بعمله هذا في شراكة الخدمة، ويُدخِل المحتاجين بعطائه هذا في شراكة المحبّة معه.
في هذا الإصحاح، يبدو واضحًا دَور بولس الأبويّ والرِّعائي تجاهَ أهل كورنثوس، إذ يستخدم أسلوبًا لطيفًا معهم لتوجيه الملاحظات: فبولس الرّسول لا يوجّه الملاحظات لأهل كورنثوس بغاية دينونتهم، إنّما لتشجيعهم على تحسين مسيرتهم الإيمانيّة؛ كما أنّه يمدحهم لا لزرع الغرور في نفوسهم إنّما مِن أجل حثِّهم على متابعة مسيرتهم في العطاء للآخرين. إنّ بولس الرّسول هو أبٌ روحيّ للكنائس الّتـي بشَّرها، أي أنّه يعرف طاقة كلٍّ منها على العطاء، كما يعرف إحتياجات كلِّ واحدةٍ منها. ولذا فإنّه عندما يطلب مساعدةً ماديّة مِن إحدى الكنائس، فإنّه لا يطلب منها ما يزيد عن قُدرتها، إنّما هو يطلب منها حسب طاقتها. لذا على الكنائس لا أن تُقلِّل من كميّة عطاءاتها للآخرين، بل أن تُعطي على حسب قُدرتها، وهذا ما قصده بولس الرّسول بعبارة “على حسب الطّاقة”. إنّ كلام المديح الّذي ناله أهل كورنثوس مِن بولس الرّسول على عطاءاتهم للكنائس الأخرى يشكِّل تعزيَةً لهم، وتحفيزًا لمتابعة تلك المسيرة. وما نعيشه في عالمنا اليوم هو أكبر دليلٍ على ذلك، إذ إنّ الحاجات الماديّة كبيرة في مجتمعاتنا، وتفوق في بعض الأحيان قدرة المؤمِنين الـمَيسُورين على سدِّها، لذا على الرّعاة في الكنائس أن يلجأوا إلى كلام المديح والتَّحفيز على العطاء، لا اللّجوء إلى كلام التوبيخ الّذي يقتل روح الخدمة في النّفوس، زارعًا فيها شعورًا بعدم جدوى عطاءاتهم المتواضعة. ليس على الرّاعي أن يدين المؤمِنين على عطاءاتهم الصَّغيرة، بل أن يشكرهم على ما قدَّموه مهما كان قليلاً، لأنّ كلّ عطاءٍ يقوم به الإنسان تجاه أخيه المحتاج، هو ذو قيمةٌ كبيرةٌ في نظر الله. غريبٌ هو منطق الإنسان: إذ ينسى كلّ حسناتِ أخيه الإنسان، يومَ يفقدَ هذا الأخير كلّ قُدرةٍ على الإحسان إليه، أو يومَ يُسيء إليه عن غير قصدٍ منه. إنّ منطق الله مختلفٌ كلّ الاختلاف عن منطق الإنسان: فهو أي الله ينسى كلّ سيئات الإنسان يومَ يقوم هذا الأخير بعملٍ واحدٍ صالحٍ، ولا يعود الله يذكرِ من ماضي الإنسان سوى ذلك العمل الصّالح الّذي قام به، وهذا ما يبرِّر قَولنا إنّ “لا إله إلّا الله”.
إنّ الإنسان الّذي يُعطي المحتاجين، مِنَ النِّعَم الّتي نالها مِن الله بمجانيّة، ينال بدلاً عن تلك العطاءات الأرضيّة فيضًا وافرًا من النِّعَم. وبالتّالي لا يقتصر الشُّكر على الإنسانِ المحتاجِ للإنسان المِعطاء، بل يطال الإنسان المِعطاء أيضًا: إذ على الإنسان المِعطاء أن يشكر لا الإنسان المحتاج الّذي قَبِلَ العطيّة وحَسب، بل الله أيضًا على فيضِ نِعَمِه عليه. إنّ العطاء يزرع في قلب الإنسان المحتاج فَرَحًا كونه حصل على حاجته الّتي يُنشِدُها، كما أنّ الإنسان المِعطاء يشعر بالفرح أيضًا كَونه أفَرَح قلب الآخر، فالإنسان المِعطاء يشتَرِكُ مِن خلال عطائه في شركة الخدمة والمحبّة. إنّ العطاء لا يُشعر الإنسان المِعطاء بالتّقصير تجاه الآخر، بل إنّه يزرع في قلب المحتاج والـمُعطي فَرَحًا لا يمكن وَصفه. إنّ الفرح الّذي يزرعه العطاء في قلب الإنسان لا يختبره إلّا الإنسان الّذي يُعطي مِن عُمقِ حاجته، وكذلك الإنسان المحتاج الّذي حصل على عطاءٍ بعد أن كان قد قطع كلَّ أملٍ بالتفاتة الآخر نحوه. إنّ “نعمة الله” الّتي يمنحها مؤمِنٌ لآخرٍ محتاج، تقتل في نفسِ الإنسان الـمُعوَز كلّ إحباطٍ ويأسٍ، كما أنّها تقوّي فيه الإيمان بالربّ الّذي يهتمّ به، وبالتّالي ينال تعزيةً مِن عند الربّ حين يرى أنّه لا يزال في العالم أشخاص صالحون مستعدّون لتلبية حاجات إخوتهم. إنّ الأعاجيب لَيْسَت الأعمال الخارقة الّتي يقوم بها الله مع أبنائه على الأرض، من خلال قدِّيسيه الّذين انتقلوا من بيننا إليه، بل الأعاجيب هي الشِّفاءات الدّاخليّة الّتي يحصل عليها المؤمِنون الـمِعطائون، والمؤمِنون المحتاجون نتيجة فِعل العطاء. على المؤمِنين تحاشي الوقوع في فخّ التّقصير الّذي يزرعه في داخلهم الشِّرير، كما أنّه عليهم تحاشي الوقوع أيضًا في فخّ تحليل أوضاع المحتاجين قبل إقدامهم على تقديم العطايا لهم. على الإنسان أن يُعطي الآخر بفرحٍ تعبيرًا عن حبّه له. إنّ العطاء “على حسب الطّاقة”، يخلق في الآخر المحتاج، طاقةً أكبر وأعظم لمتابعة هذه الحياة، إذ ينال بفضل “نعمة الله” هذه، معنىً جديدًا لوجوده في هذه الحياة. إنّ أعظم فضائل الإنسان هي تلك المحبّة الـمُترجمة خدمةً وانتباهً للآخر لأنّه مهما كان الإنسان بارعًا في الوَعظ والتَّعليم والعِلم، فإنّ مواهبه هذه كلِّها، تبقى ناقصة ولا جدوى منها إن لم تكن مقرونة بالتفاتةِ محبّة صوب الآخر، قادرة على زرع الرّجاء والتّعزيَة في نفوس الآخرين. إنّ كلام بولس الرّسول لأهل كورنثوس في هذا الإصحاح، لم يكن “على سبيل الأمر” أي أنّ كلامه في موضوع العطاء لم يكن مِن أقوال الربّ، بل هو نتيجة اختباره واختبار آخرين لشراكة الخدمة أي العطاء، وهذا ما قصده بقوله:”لَسْتُ أَقُولُ على سَبيلِ الأَمْرِ، بل باجْتِهادِ آخَرينَ، مُخْتَبِرًا إِخْلاصَ مَحَبَّتِكم أَيضًا”.
في هذا الإصحاح، يطرح بولس الرّسول على أهل كورنثوس ذهنيّة جديدة وبسيطة، تقوم على اكتشاف كلّ مؤمِن للنِّعم الّتي منحه إيّاها الله في حياته، فيتمكّن مِنَ الاشتراك بها مع الآخرين. على كلّ مسيحيّ أن يتسلّح بهذه الذهنيّة: فيشكر الـمُعطي العاطي، أي الله، واهِبه كلَّ تلك النِّعَم، ليتمكّن مِن إدراك قيمة وجوده من خلال مساعدة الآخرين وإدخال الفرح إلى قلوبهم؛ كما يشكر المحتاجُ اللهَ، لأنّه نال “نعمةً منه”، بفعل التفاتةِ مؤمِنٍ لحاجته، فأكَّد له بعطائه حقيقةَ وجود الله في الحياة، وأدرَك بالتّالي معنى وجوده. آمين.
ملاحظة: دُوِّنت المحاضرة مِن قِبَلِنا بتصرُّف.