تفسير الكتاب المقدّس،

الأب ابراهيم سعد،

“رسالة بولس الرّسول الثانيّة إلى أهل كورنثوس – الإصحاح الثالث عشر” 

النّص الإنجيليّ:

“هَذِه المَرَّةُ الثَّالِثَةُ آتِي إِلَيكُم. “على فَمِ شَاهِدَينِ وَثَلاثَةٍ تَقومُ كلُّ كَلِمةٍ”. قَدْ سَبَقْتُ فَقُلْتُ، وأَسْبِقُ فَأَقولُ كما وَأنا حاضِرٌ المَرَّةَ الثَّانِيةَ، وأَنا غائِبٌ الآنَ، أَكْتُبُ للّذينَ أَخْطَأُوا مِن قَبْلُ، ولِجميعِ البَاقِينَ: أَنِّي إِذا جِئْتُ أَيضًا لا أُشفِقُ. إذْ أَنتُم تَطلُبونَ بُرهانَ الـمَسيحِ الـمُتكلِّمِ فيَّ، الّذي لَيْسَ ضَعيفًا لَكم بل قَوِيٌّ فيكُم. لِأَنَّهُ وَإِنْ كانَ قَدْ صُلِبَ مِن ضُعفٍ، لَكِنَّهُ حَيٌّ بِقُوَّةِ الله. فَنَحنُ أَيضًا ضُعفاءُ فيهِ، لَكِنَّنا سَنَحْيا مَعَهُ بِقُوَّةِ الله مِن جِهَتِكُم. جرِّبوا أَنفُسَكم، هل أَنتم في الإيمانِ؟ امْتَحِنُوا أَنفُسَكم. أَم لَسْتُم تَعرِفونَ أَنفُسَكُم، أنَّ يَسوعَ المَسيحِ هُوَ فِيكُم، إِنْ لَمْ تَكُونوا مَرفُوضِينَ؟ لَكِنَّني أَرجُو أنَّكم سَتَعرِفونَ أَنَّنا نحنُ لَسْنا مَرفُوضِينَ. وَأُصلِّي إلى اللهِ أنَّكم لا تَعمَلونَ شيئًا رَدِيئًا، لَيسَ لِكَي نَظهَرَ نحنُ مُزَكَّينَ، بَلْ لِكَي تَصنَعوا أنتم حَسَنًا، ونَكونَ نَحنُ كأَنَّنا مَرفوضُونَ. لِأَنَّنا لا نستطيعُ شيئًا ضِدَّ الحَقِّ، بل لِأَجلِ الحَقِّ. لِأَنَّنا نَفرَحُ حِينَما نَكونُ نَحنُ ضُعفاءَ وأَنتم تَكُونونَ أَقوياءَ. وهذا أَيضًا نَطلُبُهُ كَمالَكُم. لِذَلِكَ أَكْتُبُ بِهَذا وَأَنا غائِبٌ، لِكَيْ لا أَستَعْمِلَ جَزمًا وَأَنا حاضِرٌ، حَسَبَ السُّلطانِ الّذي أَعطاني إيَّاهُ الرَّبُ لِلْبُنيانِ لا لِلْهَدمِ. أَخيرًا أَيُّها الإِخوَةُ افْرَحوا. اِكْمَلوا. تَعَزَّوا. اِهتمُّوا اهتِمامًا واحِدًا. عِيْشُوا بالسَّلامِ، وإِلَهُ الـمَحَبَّةِ والسَّلامِ سَيَكُونُ مَعَكُم. سَلِّموا بعضُكم على بعضٍ بِقُبلَةٍ مُقدَّسةٍ. يُسلِّمُ عَلَيكم جَميعُ القدِّيسِينَ. نِعمَةُ ربِّنا يسوعَ المَسيحِ، ومحبَّةُ الله، وشَرِكَةُ الرُّوحِ القُدُسِ مَعَ جَميعِكم. آمِينَ”.

شرح النّص الإنجيليّ:

يَختِم بولسُ الرّسول رسالتَه الثَّانية إلى أهل كورنثوس، بِبَرَكة الثّالوث الأقدس، قائلاً: “نِعمَةُ ربِّنا يسوعَ المَسيحِ، ومحبَّةُ الله، وشَرِكَةُ الرُّوحِ القُدُسِ مَعَ جَميعِكم”. إنَّ المؤمِن يكتشف حُبَّ الله الآب له، بنعمة الربّ يسوع، فيَدخُلُ في شَرِكَةٍ مع الله مِن خلال الرّوح القدس. وهذه البَركة الثّالوثيّةُ تُشَكِّلُ دستور المؤمِن، إذ تعبِّر عن السّلوك الّذي يريد هذ الأخير اتِّباعه في حياته تعبيرًا عن إيمانه بالثّالوث. إنّ المؤمِن الّذي يعيش وِفق هذا الدَّستور، أي وِفقَ نعمة الربّ ومحبّة الله وشَرِكَةِ الرّوح القدس، هو إنسانٌ يعيش في حالة سلامٍ داخليّ، وهذا السّلام يَظهَرُ جليًّا مِن خلال علاقاتِ المودّة الّتي يَبنِيها هذا المؤمن مع الآخرين من حولِه، فيسلِّم عليهم بقبلةٍ مقدَّسة، لا بقبلةِ غشِّ وغدرٍ، كما كانت قُبلَةُ يهوذا لِيَسوع المسيح، يَومَ سلَّمه إلى الموت. 

في هذا الإصحاح أيضًا، يُوصي بولس الرَّسول أهل كورنثوس بالفرح الدائم، لأنَّ كلّ حزنٍ عالميّ هو حزنٌ باطل، ولا بُدَّ له أن ينتهي مهما طال أَمَدُه. إنّ الحُزن الحقيقيّ الّذي يعيشه المؤمِن، هو حُزنِه لفقدانِه الربّ نتيجة انغماسه في اقترافه الخطايا، ولِعَدم انتباهِه لحبّ الربّ له. ويدعو بولس أيضًا في هذا الإصحاح أهل كورنثوس، إلى عيش السّلام الّذي يَنبَع مِن داخل الإنسان لا مِن خارجه: إذ لَيْسَ توقُّف المعارك العسكريّة هو مَن يمنَحُ السّلام الحقيقيّ للإنسانَ، بل الربّ يسوع. إنّ السّلام هو فِعلٌ لا نتيجة، أي أنّ السّلام ليس نتيجة توقُّف الحروب، بل هو حالةٌ يعيشها المؤمِن ويعبِّر عنها بأفعالٍ تُثمِر نتائجَ إيجابيّةً على المؤمِن نفسه وعلى الآخرين أيضًا. إنّ السّلام لا يكون نتيجةً إلّا إذا كان مِن ثمارِ الرّوح القدس. إنّ بولس يدعو أهل كورنثوس للتَّوبة عن خطاياهم، كي لا يُضطّر إلى التكلُّم معهم بقساوة حين يَحضُر بَينَهُم، لأنّ غايته مِنَ البشارة هي نشر الإنجيل وخلاص النّفوس، لا مراعاة أهواء البشر الأرضيّة. 

إنَّ بولس هو إنسانٌ مُتَصالِحٌ مع ذاته إذ لا يسعى إلى إرضاء النّاس بل إلى إرضاء الله. ولذلك، هو يدعو أهل كورنثوس إلى امتحان ذواتهم في الإيمان، فيُدرِكون إنْ كانوا يسعون إلى إرضاء الله أم إلى إرضاء النّاس. وهذا الامتحان للذّات لا يتحقّق في وقت الرّاحة والسّلام، بل في وقت الشِّدة والضِّيق: ففي وقت الصّعوبات والأزمات، يكتشف الإنسان ضُعفَه وحاجتَه إلى الله الّذي يمنحه القوّةَ لتَخطّي كلِّ المشاكلِ الّتي تعترِض حياته. إنّ كلّ قوّةٍ يَستخدِمُها الإنسان على الآخرين لا من أجلهم، لِـهَدمهم لا لبُنيانهم، ليست قوّةً من الله، لأنّها لا تزرع التعزية والرّجاء والفرح والسّلام في النّفوس، بل تُظهِر فقط تكبُّرَ الإنسان. إنّ الإنسانَ مدعوّ في كلّ يومٍ، إلى تَخَطّي ذاته، لكي يكون في كلّ يومٍ أفضلَ من اليوم السّابق. إنَّ عدمَ قُدرةِ الإنسان على تَخطِّي حزنه، تؤدِّي إلى غرَقِه في حالةٍ مِنَ الاكتئاب الّتي ينتج عنها ازدياد القلق والكآبة عنده، وإلى معاناته مِنَ الفتور الروحيّ، وإلى تَقلُّصِ طاقته على المحبَّة، ساعيًا إلى الانعزال إذ يعتقد أنّه بتلك الطريقة سينال الرّاحة الداخليّة. هذا الاعتقاد خاطئٌ تمامًا إذ لا يستطيعُ أحدٌ أن يمنح الإنسان الرّاحة الحقيقيّة والفرح الّذي لا يزول، إلّا يسوع المسيح، أي كلمة الله الحيّة والفاعلة فينا.

عند مواجهته للحزن، أكان نتيجة فقدانِ عزيزٍ أو نتيجة شِدِّةٍ أو مِحنةٍ في هذه الحياة، يَغرقُ المؤمِنُ في بحرٍ من الأحزانِ، ويَفقد كلّ قدرةٍ له على الفرح. إنّ المؤمِن الّذي يشعر بعدم قدرته على التخلُّص من الحزن، قد سلَّط في الحقيقة الحزنَ عليه، وأعطاه قوّةً للسيطرة عليه، بعبارةٍ أخرى، لقد جَعلَ مِن الحزن إلهًا له، لذا لا يعود اللهُ قادرًا على نَشل هذا المؤمِن من حزنه. في وقت الصّعوبات، يهَب الله المؤمِنِين به، قوّةً إلهيّة تساعدهم على إخراج الحزن من حياتهم، ومَنْحِهم الفرح الّذي لا يزول. إنّ عبادَتنا لله لن تُلغي المشاكل والأحزان من حياتنا، بل على العكس ستزداد هذه الأخيرة، ولكنّ الربّ سيَمنحُنا النِّعمة للمبادرة إلى حلّ الخلاف، فننطلق لمواجهة الآخر بروح المحبّة، باحثين عن سبيل للسّلام بين الطَرفيَن، فتتجلّى فينا تعزيات الرّوح القدس. 

إنَّ رَفْضَ أحد أطراف النِّزاع الوصول إلى حلٍّ، هو دليلٌ أكيد على رَفضِه للسّلام. إنّ الصّعوبات والشِّدة الّتي يواجهها المؤمِن، تتحوّل إلى حَقلِ اختبارٍ لصحّة إيمانه: فَمِن خلال تصرّفات المؤمِن، يكتشف هو أوّلاً ثمّ الآخرين، إن كان هو المتكلِّم، أم أنّ الربَّ هو المتكلِّم فيه. إنّ المؤمِن يَنتصرُ على الصُّعوبات مِن خلال تمسُّكِه بالصّبر، الّذي يصِفه البعض بـ “صَبرُ القدِّيسين”. إنّ المؤمِن يَعتمِد في حياته نهجًا مبنيًّا على تعاليم المسيح وقِيَمِه، لا على قِيَم النّاس ومبادئها، وبالتّالي لا يحقّ للمؤمِن الانزلاق في مبادئ الآخرين وتناسي مبادئه عند نشوء خلافٍ بينه وبين الاخرين. لا يجوز للمؤمِن أن يتخلّى عن مبادِئه المبنيّة على المسيح بسبب مخلوقٍ آخر على مِثاله، ولكن يحقّ للمؤمِن التخلِّي عنها إذا اكتشف أنّه أخطأ في اختيارِ إلهه، أي أنّه لا يحقّ للمؤمِن أن يتناسى عطايا الله وِنعَمه، من أجل مخلوقٍ ضعيفٍ لم يكتشف حُبَّ الربّ بعد، في حياته. 

إنّ الفرح الحقيقيّ مبنيٌّ على يسوع المسيح، نبعِ كلِّ فرحٍ، ولا يكتشِفه الإنسان إلّا إذا كان متصالحًا مع ذاته. إنّ الّذين يكرهون الحياة، هم في الحقيقة أشخاصٌ يخافون الموت، إذ يرفضون مواجهة صعوبات الحياة لأنّها تقدِّم لهم صُورًا للموت، كفراق الأحبّة، والمرض، وخيبات الأمل. إنّ الانتحار لا يُعبِّر عن رغبة الإنسان في الوصول إلى الملكوت السماويّ، ولقاء الحبيب، يسوع المسيح، وجهًا لوجه؛ بل يعبِّر عن خوف الإنسان من مواجهةِ إحدى صُوَر الموت في هذه الحياة، فيختارُ هذا الأخير الموتَ سبيلاً للتخلّص من تلك المواجهة، وما الخصومات بين البشر إلّا مِثال حيّ عن ذلك.

إنّ الابتسامة على وَجه المؤمِن تشكِّل إحدى وسائل التبشير بالمسيح. ويقول أحدهم: “إنّ الابتسامة أَمْرُها عجيبٌ: إن رَسَمتَها لحبيبٍ شَعرَ بالرّاحة، وإن رَسمتَها لعدوٍ شعرَ بالنَّدم، وإن رَسَمْتَها لِمَن لا تعرِفه تحوّلت إلى صَدَقة. إنّ الابتسامة هي وجهٌ مِن أوجه التبشير بربِّك”. إنّ الابتسامة الصّادقة نابعةٌ من القلب، وغير مرتبطة بالظّاهر. ابتسم للآخَر، وإن لم يقبل ابتسامتك، فإنّه لم يَندَمْ أحدٌ يومًا على ابتسامته الصّادقة. إنّ ابتسامتك الصّادقة هي فُرصَةٌ لك لتُعبِّر عن قِيَمِك ومبادِئِك، كما أنّها تعكس مصالحة الإنسان الّذي يقدِّمها للآخر مع ذاته. إنّ الإنسان الّذي يشعر بعدم قُدرَته على الابِتْسام للآخرين، هو في الحقيقة سَجين “امبراطورِه الدّاخليّ”، أي مشاكله الدّاخليّة وبالتّالي يتوجَّب عليه السَّعي إلى حلِّها، كي يتمكّن من “حَملِ الصّليب”، و”مواجهة الفريسيّين” في هذا العالم، والاستعداد لـ”تجارب البريّة” الّتي سيُخضعِك إليها إبليس. لا يستطيع المؤمِن أن يكون ضعيفًا إن كان يؤمِن حقًّا بأنَّ قوّة الله تعمل فيه. على المؤمِن أن يسعى لحلّ مشاكله أوّلاً، قبل السَّعي إلى حلّ مشاكل الآخرين، فإنّ التناقض بين تصرّفات الإنسان وإيمانه بالله يَنبَع من داخله لا من الآخرين.

إنّ الإنسان لا يستطيع أن يتخلّص من مخاوفِه، مِن دون كلمة الله. وهنا يُطرَح السؤال: ما هو دَورُ كلمة الله في حياتك؟ ما هي مكانتُها في قلبك؟ أَتَترّبع على عرش قلبك، كما يترّبع الـمَلِكَ على عرشه؛ أم أنّك تتعامل معها كأنّها مِن “حاشية الـمَلِك”، أي أنّها مجرَّد خادمةٍ لأهوائك، فلا تستعين بها إلّا إن كان فيها ما يبرِّر لك نزواتك الأرضيّة؟ إنّ المؤمِن هو الّذي يحدِّد دَورَ كلمة الله في حياته، فقراره هذا يعكس رغبته في هذه الحياة. 

إنَّ مُعاشَرَتَكَ لكلمة الله، يُوضِح لك حقيقة الصُّعوبات الّتي تواجهك في الحياة، فلا تُقلِّل من قيمتها ولا تُعظِّم شأنها: فإنّ اهمالها يؤدِّي إلى تفاقم الأمور سوءًا، أمّا تعظيمها فيؤدِّي إلى تفاقم وَضعِك الدّاخليّ، إذ تزرع فيك أوهامًا ومخاوفَ لا وجود لها. أمام صعوبات الحياة، على المؤمِن أن يكون كالرّقم “واحد” في جدول الضّرب، الّذي يُعطي الرّقم المضروب به قيمته الحقيقيّة من دون زيادةٍ أو نُقصانٍ. في وقت الشِّدة، على المؤمِن أن يلتجئ إلى كلمة الله، فيلتهب بنار الرّوح، روح التعزية والسّلام، ليتمكّن من إيجاد الحلول لمشاكله. وإذا فَشِل المؤمِن في إيجاد الحلّ لبعض المشاكل الّتي تواجهه، فعليه الثَّبات في كلمة الله، من دون السّماح لمشاكل هذا العالم بالتأثير على جوهره الدّاخليّ. إنّ محبّة الله تكون سبب فرحٍ للمؤمِن في وقت الرّاحة والسّلام، ولكنّها تتحوّل إلى مصدرِ إزعاجٍ له في وقت الشِّدة والصُّعوبات، لأنّها تفرِض عليه الثَّبات في إيمانه وَقتَ المِحَن. 

إنّ الثَّبات في الإيمان بكلمة الله، لا يعني أبدًا عدم الحزن في صعوباتنا، بل تعني عدم استسلامِنا للحزن كَمَن لا رجاء لهم، لإدراكنا أنّ هذا الحزن سوف يؤول إلى فَرحٍ لا نستطيع إدراكه الآن. إنّ المؤمِن سيكتشِف مع مرور الزَّمن، أنّه قد نال الخلاص، من خلال تَخطِّيِه لصعوبات الحياة، من دون أن تتمكّن الخطيئة من إغراقه في فِخاخها، وهذا سيسبِّبُ له فرحًا عظيمًا.

إنّ الحياة هي سلسلةٌ من خيبات الأمل يتعرَّض لها المؤمِن، ولكنّها تَحمِل له أيضًا، في طيّاتها، الرّجاء والأمل. على المؤمِن أن يختار إن كان يريد أن ينظر إلى الحياة من منظارِ أنّها سلسلةٌ من خيبات الأمل، أو أنّها سلسلةٌ من الأحداث الّـتي تبعث فيه الرّجاء والأمل. فمثلاً، في سرّ الافخارستّيا، قد يتحجّج بعض المؤمِنين بخطاياهم لعدم التقرّب من سرّ القربان الأقدس، وبذلك تكون خطيئتهم قد نجحت في إبعادهم عن الله؛ أمّا آخرون فقد يتقرّبون من سرّ المناولة المقدَّسة على الرّغم من خطاياهم، لأنّ رَغبَتَهم في التقرّب من الربّ أقوى من خطاياهم. إنّ الربّ قد جاء من أجل المرضى لا من أجل الأصحّاء، فالخطأة يحتاجون إلى الربّ لمساعدتهم على تنقية نفوسهم من الخطيئة، وبالتّالي عليهم التقرُّب، قَبلَ الأبرار، من سرّ المناولة المقدَّسة. في سرّ المناولة المقدَّسة، يَعرفُ الخطأة عدم استحقاقهم لِتَناول جسد الربّ المقدَّس، وبالتّالي يُدرِكون أنَّ تلك المناولة المقدَّسة هي عطيّةٌ مجانيّة من الربّ لهم. إذًا، على الخطأة الاقتراب من سرّ المناولة المقدَّسة لا الابتعاد عنها بسبب خطاياهم.

إنّ المناولة المقدَّسة ليست مكافأة للمؤمِن نتيجة برارته إنّما هي دواءٌ للقضاء على خطيئته. إنّ الله يُعطينا ذاته في سرّ القربان المقدَّس فنتقرَّب منه لننال الغفران والمسامحة والتعزيات الإلهيّةكعطايا مجانيّة منه، على الرّغم من خياناتنا المستمرّة وعدم التزامِنا بوعودنا المتعدِّدة له. وبالتّالي إن كُنّا نقبل عطايا الله لنا، ومسامحته لنا، أفلا يجب أن نُعامِل الآخرين كَما يُعامِلنا الله؟ بلى، علينا أن نتعلّم من الله،كيف نعيش الرّحمة والغفران مع إخوتنا البشر، فنتخلّى عن خلافاتنا الأرضيّة التّافهة، المبنيّة على أوهامٍ بشريّة. على كلّ مؤمِن أن يتذكّر أنّه لا يعرِف ساعة انتقاله من هذه الحياة، لذا عليه أن يعيش كلّ لقاءٍ له مع الآخر، كأنّه لقاؤه الأخير على هذه الأرض، ممّا سيؤدِّي إلى تغيير نظرته إلى الأمور مِن حَولِه. هذا ما نلاحظه جلِيًّا عند إخوتنا المشرفين على الموت، الّذين يحاولون في تلك اللّحظات الأخيرة من حياتهم الأرضيّة طَلب الغفران من الّذين أساؤوا إليهم، ومسامحة جميع المذنبين، عند معرِفتهم باقتراب ساعة لقائهم الأبديّ بالربّ، وخير مِثالٍ حيٍّ لنا هو لصّ اليمين الّذي طلب السّماح من الربّ على ما اقترفه من خطايا، قبل دُخوله للملكوت السماويّ. 

وهنا نطرح السؤال: هل تستحقّ هذه الحياة أن نستمرّ في خصوماتنا مَع مَن حَولنا؟ ألا تستحقّ هذه الحياة أن نعيشها بسلام مع إخوتنا المحيطين بنا، فنتصالح مع الجميع، كما يفعل إخوتنا المشرفين على الموت، قُبَيل انتقالهم من هذا العالم؟ غريبٌ هو عالم البشر، إذ يعيشون طوال حياتهم الأرضيّة في مخاصماتٍ مع مَن حولهم، وعند ساعة انتقالهم، لا يَذكُر الأحياء في هذه الأرض سوى حسنات المنتقل من بينهم، على الرّغم من السُّمعة السيئة لبعض المنتقلين. أَلَم يكن الأَجدر بنا رحمته حين كان لا يزال في هذه الحياة؟ غريبٌ هو سرّ الموت، الّذي يجعلنا، نحن قُساة القلوب، ينابيع رحمة وحنان تجاه إخوتنا في ساعة انتقالهم من هذا العالم. 

وهنا السؤال يُطرَح: ما هو سرّ تلك الرّحمة الفُجائيَّة عندنا: أَهوَ خوفُنا من معاملة الربّ لنا بقسوةٍ، حين نحضر أمامه في اليوم الأخير، على مِثال معامَلَتنا لإخوتِنا البشر، أم هو نتيجة اكتشافنا لعظمة محبّة الربِّ ورحمته؟ إنّ المؤمِن وحده يعرِف الجواب على هذا السؤال. وهنا نطرح سؤالاً آخر: إن كان باستطاعتِنا معاملة إخوتنا بالرَّحمة في ساعة الموت، ألا نستطيع عيش الرَّحمة تجاههم طوال أيّام السّنة؟ على المؤمِن أن يتصرّف مع الآخرين لا انطلاقًا من خوفِه من الله، بل انطلاقًا من محبّته لله، وبالتّالي لِتَحيا حياتك بسلام، عليك أن تصفح عن سيِّئات الآخرين تجاهك.

إنّ كلمة “الصَّفح”، تعني المغفرة للآخرين، وبإبدالنا أماكن الحَرفَين الأوّلين من هذه الكلمة، نحصل على كلمة جديدة، وهي “الفِصح”، وتعني القيامة، وهي تعبِّر عن قمّة الرّجاء المسيحيّ. وبالتّالي لا وجود لقيامة حقيقيّة في حياتنا، إن لم نَصفح بعضنا عن بعضٍ. في القيامة، صَفحَ الله عنّا، ومَحا كلّ خطايانا، وفَتَح معنا “صَفحةً جديدة”، فاتحًا لنا أبواب السّماء، وَجَعَلَنا أبناءه، أبناء الملكوت. لذا، علينا التشبُّه بالله، وفَتِح “صَفحاتٍ جديدة”، مع الـمُسيئين إلينا، لنتمكّن من العبور من خلال “الصَّفح” إلى “الفِصح” الحقيقيّ. فمن خلال صَفحِنا للآخرين، يمَنحُنا الربُّ مكافأةً عظيمةً، وهي الفِصح، أي نعمة العبور لمشاركته في ملكوته السماويّ.

بعد حصولِنا على كلّ هذا الفرح السماويّ من الله، ماذا يَنفعنا بعد ذلك استمرارنا في الخصومات مع البشر؟ إخوتي، فلنفرَح، ولنُسامح بعضنا بعضًا، لأنّه لا يوجد في هذه الحياة، ما يستحقّ أن نخسر من أجله الملكوت السماويّ. علينا أن ننظر إلى الحياة فنقول: إنّ الحياة جميلةٌ رُغم بشاعتها، لا الحياة بشِعة رغم حلاوتها. إنّ نظرتنا إلى الحياة هي الّتي تُحدِث فرقًا في حياتنا: فلنعِش حياتنا بسلام، من دون التفكير في محاسبة الآخرين إن كُنّا نرغب حقًّا في مسامحتهم، وعيش الرّحمة تجاههم. إخوتي، إنّ معاملة الآخر لنا، لا تؤثِّر على قيمتنا الحقيقيّة، لأنّ قيمتنا الحقيقيّة نستمِدُّها مِن نظرة الربِّ إلينا. انطلاقًا من هذه النَّظرة الجديدة إلى الحياة، تَحَمَّل بولس عذاباته وتعزّى بكلمة الله، فأخبر أهل كورنثوس بالاضطهادات الّـتي نالها، مُعطيًا إيّاهم تعزية لتَحمُّل صعوباتهم . لقد مات بولس ومات أهل كورنثوس، وبَقِيَت كلمة الله فاعلة في قلوب الّذين قَبِلُوها عبر العصور.

ملاحظة: دُوِّن الشرح بأمانةٍ مِن قِبَلِنا.

Instagram
Copy link
URL has been copied successfully!
WhatsApp