محاضرة روحيّة،
الأب ابراهيم سعد،
الرّجاء في زمن الشدائد،
الموضوعُ صعبٌ جدًّا، لأنَّ كلمة “رجاء” لا نراها إلّا في المستحيلات. في هذا الإطار، إنّ أوّلَ مشهدٍ يتبادرُ إلى ذهننا، هو مشهدُ الصَّليب الّذي نَسيرُ نحوه، ونحن على بُعد أسبوعين من الاحتفال بهذا الحدث العظيم. لذلك، نستطيع أن نقول بكلِّ رجاء: “المسيح قام”، على الرُّغم مِن أنَّه ذاهبٌ إلى الموت، وهذا هو المستحيل! إنَّ الحديث عن الرَّجاء هو أمرٌ غير ممكنٍ، ما لم يكن مَصحوبًا بكلمة “آخ”: فالإنسان الّذي يعيش مرتاحًا لا يستطيع الكلام على الرَّجاء، لأنّ الرَّجاء ينبع بالضّرورة من شَخصٍ موجوع، فيُعبِّر عن وجعه بإطلاقه صَرخة “آخ”.
“وَلَيْسَ ذلِكَ فَقَطْ، بَلْ نَفْتَخِرُ أَيْضًا فِي الضِّيقَاتِ، عَالِمِينَ أَنَّ الضِّيقَ يُنْشِئُ صَبْرًا، وَالصَّبْرُ تَزْكِيَةً، وَالتَّزْكِيَةُ رَجَاءً، وَالرَّجَاءُ لاَ يُخْزِي، لأَنَّ مَحَبَّةَ اللهِ قَدِ انْسَكَبَتْ فِي قُلُوبِنَا بِالرُّوحِ الْقُدُسِ الْمُعْطَى لَنَا”(رومة 5: 3-5). عند قراءتنا هذا المقطع من العهد الجديد، نَطرح السُّؤال: هل نحن مُصدِّقون هذا الكلام أم لا؟! هذا هو النِّقاش! ولكن قَبل الغوض في موضوعنا، اسمحوا لي أن أُخبرَكم هذه القِصَّة: إنّ رفيق دَربي اليوم، “أبونا جريس”، هو كاهنٌ يقوم بخدمة رعيّةٍ بعيدةٍ جدًّا عن منزله، تضمّ ثلاثة عشرَ بيتًا مسيحيًّا، غالبيتُّهم من الـمُسنِّين، ما يَجعل خِدمة هذه الرَّعية أمرًا مُمِّلاً جدًّا؛ ولكن على الرُّغم من ذلك، ما زال أبونا جريس مُستَمِرًّا بكلِّ فرحٍ وحماسٍ في خِدمة هذه الرَّعيّة. وعندما سألته عن سبب اندفاعه وحماسِه لِخدمة هذه الرَّعية، أجابني: “لعلَّ جودي في تلك القَرية يُخلِّص نَفسًا”. إنّ “أبونا جريس” يَخدم هذه الرَّعيّة بدون مقابل، لا بسبب قداسته، بل بكلِّ بساطة، لأنّ هؤلاء لا يملكون شيئًا يُقدِّمونه له، وهذا أمرٌ لا يَقبُل به العديد من الكهنة.
إنّ رجاءَ هذا الكاهن لا يكمن في حصوله يومًا ما على راتِبٍ يُمكنِّه من تحسين طريقة معيشَته، بل في رغبته في تخليصِ نَفسٍ واحدةٍ على الأقلّ من هذه الرعيّة. من خلال رفقتي لِهذا الكاهن، تعلَّمتُ دَرسًا لم يتمكَّن لا اللّاهوت الّذي دَرَسْتُه، ولا السَّنوات الّتي أمضَيتُها في تعليم كلمة الله، من إعطائي إيّاه، دون أن يغيب عن فِكرنا أنّ هذا الكاهن ما زال إنسانًا خاطئًا كسائر البشر. للأسف، هذا هو وضع غالبيّة القُرى الجنوبيّة في لبنان، الّتي فَرِغَت من شبابها، ولم يَعد يَسكُن فيها إلّا كِبار السِّن، ولكن على الرُّغم من ذلك ما زال الكهنة في الكنيسة ينطلقون بكلِّ حماسٍ وفرحٍ لِخدمة المؤمِنين فيها، لا طَمعًا في الحصول على إغراءات هذا العالم، إنّما حبًّا بالربِّ يسوع، إذ لا إغراء إلّا إغراء الصّليب. إنّ الفضل في استمراريّتنا في هذه الرِّسالة لا يعود لنا، إنَّما لِكلمة الله الّتي ما زِلنا متمسِّكين بها والقائلة لنا:”الضِّيقَ يُنْشِئُ صَبْرًا، وَالصَّبْرُ تَزْكِيَةً، وَالتَّزْكِيَةُ رَجَاءً، وَالرَّجَاءُ لاَ يُخْزِي، لأَنَّ مَحَبَّةَ اللهِ قَدِ انْسَكَبَتْ فِي قُلُوبِنَا بِالرُّوحِ الْقُدُسِ الْمُعْطَى لَنَا”(رومة 5: 3-5).
“لِتَتَشَدَّدْ وَلْتَتَشَجَّعْ قُلُوبُكُمْ، يَا جَمِيعَ الْمُنْتَظِرِينَ الرَّبَّ” (مز 31: 24): إنّ الانتظار هو الرَّجاء. فهل نستطيع انتظاَر أمرٍ نُدرِك مُسبقًا أنّه لن يتحقَّق؟! بالطَّبع لا، لأنّنا لن ننتظر حدوثَه! إذا كنتَ تنتظرُ أمرًا لن يتحقَّق، فهذا يُسمَّى أملاً! إنّ الفرقَ كبيرٌ بين الأمل والرَّجاء: إنّ الرَّجاء هو انتظارُ أمرٍ سيتحقَّق عاجلاً أم آجلاً، ولكنَّ توقيتَ حدوث هذا الأمر لا يَدخل ضِمن حسابات الإنسان، لذا يقوم هذا الأخير بانتظار تحقيق رَجائه؛ أمّا الأمل فهو انتظارُ الإنسان حدوثَ أمرٍ يتمنَّاه دون أن يحصل على علاماتٍ أو تأكيداتٍ على إمكانيّة حدوث ذلك. إذًا، عندما يتحلَّى الإنسان بالأمل، فهو يتعلَّق برغبته في حدوثٍ أمرٍ قد يتحقَّق كما قد لا يتحقَّق، أمّا الرَّجاء فهو انتظار حدَث لا بُدَّ له من أن يَحدث لا محالة، أكان ذلك في حياة الإنسان الأرضيّة أم بَعد موته الأرضيّ.
إنّ صاحبَ المزمور يَدعونا إلى التَّحلِّي بشجاعة القلب، كي نتمكَّن من التَّغلب على اليأس والإحباط الّذي يُسيطر علينا. ويُضيف النَّبيُّ إرميا إلى صاحب المزمور، فيقول لنا: “مبارَكٌ الرَّجل الّذي يتوكَّل على الربِّ، وكان الربُّ رَجاءَه” (إرميا 17: 7). إنّ الرَّجاء هو الإيمان بوجودِ حلٍّ لمشكلةٍ معيّنة تواجهنا، لا يرى أحدٌ من المحيطين حلّاً لها. حين عُلِّق الربُّ يسوع على الصَّليب، كان جميع الحاضرين هناك يَرَون أنّ هذا الرَّجل ذاهبٌ إلى الموت ولا خَلاصَ له من هذا المصير المحتَّم. فهل يستطيع أن يترَّجى شيئًا من شَخصٍ معلَّق على الصَّليب؟! أمام هذا الوضع، لم يكن لدى الربِّ يسوع سوى بابٍ واحدٍ يَقرعه، وهو باب الله أبيه، فَطَلَب إليه المعونة قائلاً له: “في يديك استودع روحي” (لو 23: 46). لقد وَضع الربُّ يسوع على الصّليب، ذاته وكلَّ حياته بين يدَي أبيه لِيَفعل بِهما ما يريد. لذا، نلاحظ أنّ الله قد تدخَّل في هذا الوضع، وأقام الربَّ يسوع من الموت، بَعد ما يُقارب السِّتِّ وثلاثين ساعةً، أي في مُدّة تَقلُّ عن ثلاثةِ أيّام. إنّ الربَّ لم يكن على استعداد للتَّخلي عن ثقته بأبيه، في حال تأخَّر الله عن الاستجابة له أو في أسوأ الأحوال إنْ لم يستَجِب له. إليكم مِثالأً آخر من الكِتاب المقدَّس، وهو أبراهيم أبو المؤمِنِين الّذي طلب إليه الله أن يترك عَشيرَته وكلّ ما يَمِلك من أموال وأرزاق، وكلّ ما مِن شأنه أن يَمنحه الاستقرار والأمان ويَتبعه ليُحقِّق فيه مشروعه الخلاصيّ. إنّ ابراهيم لم يتردَّد في تَركِ كلّ شيءٍ واتِّباع الله، على الرُّغم من عدم حصولِه على بُرهانٍ يؤكِّد له صِحَّة الصَّوت الّذي سَمِعَه. إنّ ابراهيم، قد تَركَ كلّ ما يُعطيه الاستقرار والأمان، ورَضِيَ بأن يَعيش في عدم استقرار وعدم أمان، فقط لأنّه سَمع كلمة الله وصدَّقها، وعاش حياته على الأرض متمسِّكًا بكلمة الله، ومستندًا إلى قناعته بأنّ كلمة الله ستتحقَّق، على الرُّغم من أنّها لم تتحقَّق في أيّامه بل تحقَّقت في أيّام المسيح يسوع. في أيّام يسوع المسيح النَّاصريّ. إنّ ما قام به ابراهيم من مسيرة مع الله لَم يكن أمرًا سَهلاً أبدًا!
“فإذا لنا رجاءٌ مِثل هذا، نستعمل مجاهرةً كثيرة”(2 كور 3: 12): بحسب هذه الكلمة، يبدو أنَّ الرَّجاء هو الّذي يُعطينا الجُرأة. إنّ الرَّجاء لا يَمنح الإنسانَ الخَوفَ، ولكنْ لا يمكننا الحديث عن الرَّجاء في زمن الرَّاحة إنّما في زمن الضِّيقات والشَّدائد، وهذا يعني أنَّ عنوان موضوعِنا اليوم هو صحيحٌ تمامًا! إذا تكلَّم أحدٌ على شدائدِه أمام آخر، فإنّ هذا الآخر سيكتشِف لا محالة أنّ شدائدِه لَيست بشيءٍ مقارنةً بالشَّدائد الّتي يَسمعها من الآخَرين أو الّتي يراها عند الآخَرين. في وَسِطَ شدائده، يتوق الإنسان إلى رؤيةِ ما يرجوه، ونحن كمسيحيّين ليس لدينا رجاءٌ آخر، سوى ظهور مجد الربِّ، ولذا نحن في حالة انتظار دائم واستعدادٍ دائمٍ لرؤية رجائنا يتحقَّق.
إنّ الأبوابَ قد أُغلِقَت! فالله لم يَعد يستطيع أن يسمع تَذَّمُراتنا نحن البشر في كلِّ حين عليه، هو الربّ! نحن لا نتوَّقف عن التذَّمر على الربِّ لأنّه بكلِّ بساطة، نحن غير قادرين على فَهم كلمة الله، وغير قادرين على إدراك مدى محبّة الله لنا ورحمته لنا، كما أنَّنا غير قادرين على إدراك ما قام به لأجِلنِا. لذا، أدعوكم إخوتي، إلى إعادة قراءة الأمور مِن حَولِكم! لا تتوَّقفْ عند الضِّيق الّذي تُعاني منه اليوم، بل فكِّر دائمًا بالّذي ينتَظِرُك في ما بعد! قد يقول لي البعض: إنّه لن يكون بانتِظارِهم شيئٌ أبدًا، فالمشاكل ما زالت تزداد وتتراكم بَدل أن تصغر وتَزول! إنّ استمرارَكم في التَّذمر على المشاكل الّتي تواجهكم في حياتكم اليوميّة، والّتي تزداد مع الوقت، لن يُفيدكم شيئًا! أنظروا من حولكم، إلى الأحبّاء الّذين فقَدتموهم، وإلى الأمراض الّتي تُحيط بكم، وإلى العلاقات غير السّليمة مع الآخَرين كالأهل والأبناء والجيران، وإلى الضِّيقات والشَّدائد الماديّة والمعنويّة والنَّفسيّة الّتي تعانون منها ويُعاني مِنها مَن حولكم، هل ساهم التَّذمر في حلِّ أيِّ منها؟! إنّ التذمُّر الّذي نعاني منه قد يعود إلى نسِيان المسيحيِّين معنى رَجائهم وعُمقِه، إذ أرادوا البحث عن كلِّ ما مِن شأنه أن يقدِّم لهم رفاهيةً. للأسف، نحن نرغب في الحصول على الدَّلع من الله، وقد بلغَت بنا هذه الرَّغبة إلى حدِّ لَوم الله على خَطايانا الّتي نَحن نرتَكِبها؟!
إنّ الرَّجاء هو في الضِّيق! فإذا كانت خطيئتُكَ تُضيِّق عليك، فهذا يعني أنّه عليك أن تَطلب رَحمة الله القادرة على مَحو خطيئتك! ولكنَّ السُّؤال الّذي يُطرح الآن، هو: هل أنتَ أيّها الإنسان تَرغب في الحصول على رَحمة الله، أم أنَّك سعيدٌ بالتَّذمُّر وترغب في الاستمرار به؟! إنّ الهدف من حديثي اليوم ليس السَّعي إلى إرضائكم في ما تَسمعونه منِّي، بل أن أكون مستعدَّا وحاضرًا إلى الوقوف أمام الربِّ إذ مُتُّ اليوم. عندما سأقف أمامه في اليوم الأخير، سوف يسألني الربُّ عن هذا اللِّقاء، وعن سبب رفضي القدوم إلى جماعة “أُذكرني في ملكوتك”، وإعطائكم كلمة الله، الّتي باستطاعتها تَخليص نفسًا متى تَجاوَبَت معها. في هذا الوضع، أأستطيع رَفض المجيء إلى هذا اللِّقاء وإلقاء كلمةٍ من الله على مسامِعكم؟! إنّ المسألة ليست مسألة فضيلةً، بل المسألة هي “إن كنتُ أُبشِّر فليسَ لي فَخرٌ، إذ الضَّرورةُ موضوعةٌ عليّ، فوَيلٌ لي إن كنتُ لا أُبشِّر. فإنّه إن كنتُ أفعَل هذا طَوعًا فَلِي أجرٌ، ولكن إن كان كَرْهًا، فقد استُؤْمِنْتُ على وَكالةٍ” (1 كور 9: 16- 17)، لأنّه “على اسمه يَكون رَجاءُ الأُمم” (متى 12: 21). إخوتي، إنْ كُنتُم تنتظرون من الآخَرين حلّاً لمشاكِلكم، أقولُ لكم إنّكم لن تَحصلوا على أيّةِ نتيجة.
يقول لنا بولس الرَّسول: “لأنّنا بالرَّجاء خَلُصنا. ولكنَّ الرَّجاء المنظور ليس رَجاءً، لأنَّ ما يَنظُرُه أحدٌ كيف يَرجوه أيضًا؟” (رو 8: 24). إنّ الرَّجاء ليس انتظارَ حدوثِ أمرٍ أمامَك فتَشعُر على إثرِه بالطُّمأنينة، بل هو الإيمان بأمرٍ ما، هو من المستحيلات بالنِّسبة إلى المحيطين بِكَ، إذ يقولون لك: “يا أحمَق، ماذا تَنتَظِر؟”، فيأتيهم جوابُك: إنِّي أنتَظِرُ “مَجدَ الربِّ” (إش 40: 5).
“أَمْ يَقول مُطلَقًا مِن أجلِنا؟ إنّه من أجلِنا مَكتوبٌ. لأنّه ينبغي لحَرَّاثٍ أن يَحرُثَ على رَجاءٍ، وللدَّارِسِ على الرَّجاءِ أن يَكونَ شَريكًا في رَجائِه” (1 كور 9: 10). من خلال كلمة الله هذه، نُدرِك أنّ هناك عَملاً كثيرًا يتوجَّب علينا القيام به. إنّ مسؤوليّتنا تكمن في زَرِع الرَّجاء في وَسَطِ يأسِ البَشَر، وأن نزرع النَّباهة واليقظة الرُّوحيّة لِحُبِّ الله الّذي انسَكَب في قلوبنا مجّانًا من دون أيِّ مقابل.
إخوتي، في أحيانٍ كثيرةٍ، نتعرَّض في هذه الحياة لِتجاربَ تَدفعنا إلى الاستسلام والتَّوقف عن الاتِّكال على الله، إلى اليأس، إذ ننظر حَولَنا فلا نَجد إلّا ما يَدعونا إلى اليأس والإحباط. إنّ أصعب ما يُمكن أن يقعَ به الإنسان ليس ارتكاب الخطيئة، بل هو الانقياد لليأس الّذي يُوهِمُك بعدم امتلاكِكَ القدرة للوقوف من جديد. إخوتي، هَل تَعلمون أنّ الله “يَفرح”، بمعنى ما، عند وقوعكم في الخطيئة؟ إنّ الله “يَفرَح” لأنّ خطيئتكم تَدفعكم إلى رؤية ضُعفِكم والاعتراف، وبالتّالي إلى البَحث عن مُنقِذٍ، تستطيعون التَّعلق به لأنَّه الوحيد القادر على انتِشالِكم مِمَّا تُعانون منه، فيَكونُ مَرجعًا لكم! هذا ما حدث مع الشَّعب اليهوديّ في الصَّحراء، حيث لا ماء ولا طعام: لقد أدرَك هذا الشَّعب ضُعفَه فاعترَف بِحاجته إلى الله للحصول على الخلاص.
إنّ الله ليس المسؤول عن جوع الشَّعب في الصَّحراء وعن عَذاباتِه، بل إنّ الوضع، أي وجود الشَّعب في الصَّحراء هو المسؤول عن هذه الضِّيقة الّتي يُعاني منها الشَّعب. إنّه لَمِن السَّهل على الإنسان أن يَرمي على الله سببَ كلِّ معاناته، قائلاً: لِماذا يا الله، يُصيبني كلُّ ما أعاني منه اليوم؟ إنّ الإنسان الّذي يُدرِكُ حُبَّ الله المسكوب في قلبِه، يُدرِك أنَّ الله لا يستطيع القيام بأيِّ عملٍ يَهِدفُ إلى أذيّة الإنسان. وهنا، نَطرَح السُّؤال: مِن أينَ يأتي الأذى؟ على الإنسان أن يَبحث عن السَّبب الّذي أدَّى إلى تَعرُّضه للأذى! هُنا، صَبرُ القدِّيسين! إنّ أهمّ القدِّيسين هُم الّذين ماتوا ولم يَلفِتوا انتباه الآخَرين، ولكنَّ الله قد انتَبَه إليهم فسَكب في قلوبِهم محبَّته. وهنا أيضًا، نسأل: هل كان كُلُّ شيءٍ مؤمَّنًا لهؤلاء القدِّيسِين؟ هل كان كلُّ شيءٍ مؤمَّنًا للشُّهداء المسيحيِّين في الكنيسة؟ أقول لكم: لَم يَكُن أيُّ شيءٍ مؤمَّنٌ لهم.إنّ البطريرك إغناطيوس الإنطاكيّ، تلميذ الرَّسول بُطرس، رَفضَ مُحاولة بعض المؤمِنين مساعدته على الهروب من الموت، إذ اعتَبروا أنّ ما يقومون به هو أمرٌ حسنٌ كما يبدو ظاهريًّا. في الحقيقة، لم يكن ذلك فُرصةً ذهبيّة بالنِّسبة إليه، بل كان ذلك مُعاكِسًا لمشيئة الله، ولذا قال لهؤلاء: “أُتركوني أُطَحنْ تحت أنياب الأُسود، لأُعجَن وأصيرَ خُبزًا يُقدَّم قربانًا للمسيح”. بعد استشهاده، أصبح هذا البَطريرك قدِّيسًا، هو الّذي مات سنة 117. قد يقول البعض عن تَصرُّف هذا البَطريرك إنّه تَصَرُّفٌ أحمق، إذ كان عليه استغلال هذه الفُرصة الّتي عُرِضَت عليه للهروب من الموت! إنّ تَصرُّف هذا القدِّيس لا يُعبِّر عن رَغبته في الانتحار، إنّما عن رغبته في التَّخلِّي عن كلِّ شيءٍ أرضيّ، لأنّ ما مِن شيءٍ مضمونًا بالنِّسبة إليه، إلّا ذلك الّذي لا يُرى، والّذي به تعلَّق قلبه، وهو ذاك الّذي عُلِّقَ على الصَّليب ووَعدَه بالخلاص، فصدَّق القدِّيس وَعَد الله له. في تَطبيقٍ عمليّ وأرضيِّ لِما نقول: حين يَعِدُكم شَخصٌ تُحبُّونه بأمرٍ ما، فإنّكم ستُصدِّقونه، حتّى وإن لَم يَفِ هذا الأخير بما وَعَدكم به. أقول لكم إنّكم ستَرفضون كلام كلِّ إنسانٍ يقول لَكم عَكسَ ما وُعِدتم به. قد يقول لي البعض: إنَّ هذا غير منطقيّ! في اللَّحظة الّتي وقع فيها آدم في الخطيئة، أدرَك أنَّ كلَّ شيءٍ قد انتهى بالنِّسبة إليه، إذ قد طُرِدَ من الجَنَّة؛ غير أنّ الله لَم يَتركْه ووَجد لَه مُنقِذًا في المكان الّذي طُرِد إليه. وهذا ما حَدَث أيضًا مع قايين الّذي قَتَل أخاه، فأدرَك في لَحظةِ إقدامه على قَتلِ أخيه أنّه ارتَكَبَ جريمةً ضِدَّ الله، ولكنَّ الله لم يترُكه بل بَقي حاميًا له في قَلبِ منفاه، ومُدافِعًا عنه.
إنّ الكِتاب المقدَّس مليئٌ بالمسارات المشابهة من العهد القديم، وُصولاً إلى القدِّيسَين بطرس وبولس في العهد الجديد. كان الرَّسول بطرس مُقيَّدًا بالسَّلاسل وموضوعًا في السِّجن بانتظار ساعة استشهاده، ولكنَّ الربَّ تدَّخل فأرسل له ملاكه الّذي كسَّر السَّلاسل، فتمكَّن بطرس من الهروب، وآمن، نتيجة هذه الحادثة، الضَّابط الرُّومانيّ المسؤول عن حماية بطرس في السِّجن. إنّ سلاسل مار بطرس لم تتكسَّر لإعطاء الحريّة لبطرس، إنَّما مِن أجل خلاص نَفسٍ. إذًا، تَخيّلوا معي إخوتي، المسؤوليّة الملقاة على عاتِقِنا، في حين أنّنا نسمح لذواتنا في الغرق في اليأس والاحباط والحُزن، الّتي تُعيقنا عن القيام بما يَطلبه الربُّ منَّا. فما بالُكَ يا الله تُورِّط ذاتَكَ مع البشر؟! إنّ مستقبلَك يا الله متعلِّقٌ فينا، فإنّه إن لَم نَقُم، نحن المؤمِنين بِك، بالإعلان عَنك للآخَرين، فإنَّ هؤلاء لن يتمكَّنوا من معرِفَتِك، وبالتَّالي لن يكون الله موجودًا بالنِّسبة إليهم. إنّ الله قادرٌ بكلِّ تأكيد على الإعلان عن ذاته للآخَرين، من دون حاجته إلينا، ولكنَّه يريد أن يَعتِلن للآخَرين من خلالنا. إنّ الله قادر على صناعة أبناءَ لابراهيم من الحجارة، ما يعني أنّه لا يَحتاجُ إلينا للاعتلان للآخرين. ولكن إذا قَبِلنا المسيح في حياتنا، وتبنيَّناه نَهجًا وطريقًا لحياتنا الأرضيّة، فهل تستطيع الصُّعوبات والشَّدائد من الانتصار على انتظارنا لمجيء الربِّ؟! إنَّ القرار يَعود إلى الإنسان.
إنّ الزَّمن الّذي نعيش فيه هو مِن أصعب الأزمنة، إذ لا حُلول تَلوحُ في الأُفق. وفي ظِّل هذا الظَّلام المحيط بنا، هل نستسلم؟! إنّ الله وضع كلَّ قوَّته فينا، فهل نستسلم؟! إنّ الله وَضَع كلَّ محبَّته في قلبنا الضَّعيف، فهل نستسلم؟! إنّ الله قد أثبتَ عن وعوده الصَّادقة لنا من خلال دَم ابنِه يسوع المسيح على الصَّليب، فهل نستسلم؟! أتمنَّى ألّا يَفقد الله رَجاءَه فينا، لأنّه حينها تَكون المــُصيبة! آمين.
ملاحظة: دُوِّنت المحاضرة بأمانةٍ مِن قِبِلنا.
