تفسير الكتاب المقدّس،
الأب ابراهيم سعد،
“سِفر رؤيا القدّيس يوحنّا – الإصحاح الخامس عشر”
النّص الإنجيليّ:
“ثُمَّ رَأَيْتُ آيَةً أُخْرَى فِي السَّمَاءِ، عَظِيمَةً وَعَجِيبَةً: سَبْعَةَ مَلاَئِكَةٍ مَعَهُمُ السَّبْعُ الضَّرَبَاتُ الأَخِيرَةُ، لأَنْ بِهَا أُكْمِلَ غَضَبُ اللهِ. وَرَأَيْتُ كَبَحْرٍ مِنْ زُجَاجٍ مُخْتَلِطٍ بِنَارٍ، وَالْغَالِبِينَ عَلَى الْوَحْشِ وَصُورَتِهِ وَعَلَى سِمَتِهِ وَعَدَدِ اسْمِهِ، وَاقِفِينَ عَلَى الْبَحْرِ الزُّجَاجِيِّ، مَعَهُمْ قِيثَارَاتُ اللهِ، وَهُمْ يُرَتِّلُونَ تَرْنِيمَةَ مُوسَى عَبْدِ اللهِ، وَتَرْنِيمَةَ الْخَرُوفِ قَائِلِينَ: «عَظِيمَةٌ وَعَجِيبَةٌ هِيَ أَعْمَالُكَ أَيُّهَا الرَّبُّ الإِلهُ الْقَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ! عَادِلَةٌ وَحَقٌ هِيَ طُرُقُكَ يَا مَلِكَ الْقِدِّيسِينَ! مَنْ لاَ يَخَافُكَ يَا رَبُّ وَيُمَجِّدُ اسْمَكَ؟ لأَنَّكَ وَحْدَكَ قُدُّوسٌ، لأَنَّ جَمِيعَ الأُمَمِ سَيَأْتُونَ وَيَسْجُدُونَ أَمَامَكَ، لأَنَّ أَحْكَامَكَ قَدْ أُظْهِرَتْ». ثُمَّ بَعْدَ هذَا نَظَرْتُ وَإِذَا قَدِ انْفَتَحَ هَيْكَلُ خَيْمَةِ الشَّهَادَةِ فِي السَّمَاءِ، وَخَرَجَتِ السَّبْعَةُ الْمَلاَئِكَةُ وَمَعَهُمُ السَّبْعُ الضَّرَبَاتِ مِنَ الْهَيْكَلِ، وَهُمْ مُتَسَرْبِلُونَ بِكَتَّانٍ نَقِيٍّ وَبَهِيٍّ، وَمُتَمَنْطِقُونَ عِنْدَ صُدُورِهِمْ بِمَنَاطِقَ مِنْ ذَهَبٍ. وَوَاحِدٌ مِنَ الأَرْبَعَةِ الْحَيَوَانَاتِ أَعْطَى السَّبْعَةَ الْمَلاَئِكَةِ سَبْعَةَ جَامَاتٍ مِنْ ذَهَبٍ، مَمْلُوءةٍ مِنْ غَضَبِ اللهِ الْحَيِّ إِلَى أَبَدِ الآبِدِينَ. وَامْتَلأَ الْهَيْكَلُ دُخَانًا مِنْ مَجْدِ اللهِ وَمِنْ قُدْرَتِهِ، وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يَقْدِرُ أَنْ يَدْخُلَ الْهَيْكَلَ حَتَّى كَمِلَتْ سَبْعُ ضَرَبَاتِ السَّبْعَةِ الْمَلاَئِكَةِ”.
شرح النّص الإنجيليّ:
إنَّ هذا السِّفر موَّجهٌ إلى المؤمِنِين الّذين هُم تحت الشِّدة، تحت الاضطهاد؛ وكان يُتلى على مسامِعهم في الكنيسة. لذلك، أراد يوحنّا، كاتب هذا السِّفر، من خلال هذا الإصحاح، إعطاء المؤمِنِين صورةً عن الأيّام الأخيرة، أيّام الانتصار والغلبة في الحرب الّتي يقودها الله ضدَّ الشَّيطان والخاضِعين له، علَّ ذلك يبعثُ في نفوسهم التعزية والقوّة للمثابرة على احتمال الاضطهاد الّذي يُعانون منه بأشكالٍ مختلفةٍ: تعرُّضُهم للجوع ولِقَطعِ أرزاقِهم وللموت.
“ثُمَّ رَأَيْتُ آيَةً أُخْرَى فِي السَّمَاءِ، عَظِيمَةً وَعَجِيبَةً: سَبْعَةَ مَلاَئِكَةٍ مَعَهُمُ السَّبْعُ الضَّرَبَاتُ الأَخِيرَةُ، لأَنْ بِهَا أُكْمِلَ غَضَبُ اللهِ”: إنّ عبارَتي “عَظيمة وعجيبة”، تُشيران إلى ضخامة وقوّة غضب الله على الشِّرير والخاضِعين له، الّذين لَهم “سِمةُ الوَحش”. إنَّ الرَّقم سبعة يُشير إلى الكمال، وبالتّالي، عبارة ” السَّبع الضربات الأخيرة”، تُشير إلى أنَّ غضَب الله قد اكتَمل على أعدائه، وهو، أي الله، يُعلِن حَربه النِّهائيّة ضِدَّهم للقضاء عليهم.
“وَرَأَيْتُ كَبَحْرٍ مِنْ زُجَاجٍ مُخْتَلِطٍ بِنَارٍ، وَالْغَالِبِينَ عَلَى الْوَحْشِ وَصُورَتِهِ وَعَلَى سِمَتِهِ وَعَدَدِ اسْمِهِ، وَاقِفِينَ عَلَى الْبَحْرِ الزُّجَاجِيِّ، مَعَهُمْ قِيثَارَاتُ اللهِ، وَهُمْ يُرَتِّلُونَ تَرْنِيمَةَ مُوسَى عَبْدِ اللهِ، وَتَرْنِيمَةَ الْخَرُوفِ قَائِلِينَ: «عَظِيمَةٌ وَعَجِيبَةٌ هِيَ أَعْمَالُكَ أَيُّهَا الرَّبُّ الإِلهُ الْقَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ! عَادِلَةٌ وَحَقٌ هِيَ طُرُقُكَ يَا مَلِكَ الْقِدِّيسِينَ! مَنْ لاَ يَخَافُكَ يَا رَبُّ وَيُمَجِّدُ اسْمَكَ؟ لأَنَّكَ وَحْدَكَ قُدُّوسٌ، لأَنَّ جَمِيعَ الأُمَمِ سَيَأْتُونَ وَيَسْجُدُونَ أَمَامَكَ، لأَنَّ أَحْكَامَكَ قَدْ أُظْهِرَتْ».
إنَّ البَحر الزُّجاجيّ، هو بَحرٌ مُغطَّى بالزُّجاج، أي أنَّه يَمنع الواقِفين عليه من الغَرق في البحر، وبالتّالي هو أصبح وسيلة نجاةِ الغالبِين على الشِّرير من الموت. لقد استَخدم الرَّسول يوحنّا، كاتب هذا السِّفر، في الإصحاحات الماضية، عبارة “مَن يَغلِب”؛ أمّا هنا فاستَخدم عبارة “الغالبِين”، أي الّذين تمكَّنوا مِن غَلبَة الشِّرير، كما غلبَه الربُّ يسوع على الصّليب، بانتصارهم على “الوَحش وصورته وسِمَتِه وعدد اسمه”، أي برفِضهم الخضوع للامبراطور وجبروته وعباداته الوثنيّة. إنَّ الوقوف على البَحر الزُّجاجيّ والعزف على القيثارة يدلُّ على الفرح الّذي يشعر به المؤمنون عند انتصارهم على الشِّرير.
إنّ “ترنيمة موسى” قد رتَّلها الشَّعب اليهوديّ مع نَبيِّهم موسى بعد عبورهم البَحر الأحمر، تعبيرًا عن شعورهم بالفرح لِحصولهم على خلاص الله بإبعادهم عن فِرعون وعباداته الوثنيّة. إنّ ترنيمة موسى قد وَردت مرَّتين في العهد القديم: الأولى في سِفر الخروج 15، والثّانية في سِفر تثنية الاشتراع 32. إنَّ ترنيمة الخروف قد وَرَدت في الإصحاح 5 من هذا السِّفر، وفيها عَبّر السّاكنون في السّماء عن عظمة الله ومَجده. إنَّ هاتين التَّرنيمَتَين، تُعبِّران عن حَدثَين مُهمَّين: التَّرنيمة الأولى تُعبِّر عن إنقاذ الله لِبَني اسرائيل مِن مِصر على يد موسى، والتَّرنيمة الثانية تُعبِّر عن إنقاذ الله للمؤمِنِين به على يد الخروف، أي المسيح يسوع. إنَّ عبارات الترنيمة الثانية موجودةٌ أيضًا في سِفر المزامير.
إنّ عبارة “القادر على كلّ شيء” تعني القَدير، وهي صِفةٌ لا تُعطى إلّا لله. إنّ القدِّيسِين هُم الّذين غَلبوا كما غَلَب الخَروف، فَتَحلَّوا بالصَّبر على الشَّدائد الّتي عانوا منها، فماتوا إمَّا شهداء، وإمّا وَهُم ثابتون في إخلاصِهم للربّ يسوع. إنّ الغضب الّذي حَكم به الله على الأشرار، هو حُكمٌ عادلٌ وحَقّ. إنّ مخافة الله نَوعان: أوَّلاً، مخافة المؤمِن لله، وهي لا تعني خوف المؤمن مِن الله، إنّما تعني خوفُه مِن أن تتزعزع علاقته باللّه نتيجة تصرُّفه الخاطئ، أو بسبب تراجعه عن الإيمان أو عدم الصَّبر على الشَّدائد؛ أمّا خوف غير المؤمِن مِن الله فهو ناتجٌ عن أعماله السّيئة، لِعلمه أنّ الله سَيَسحقه بِغَضبه الكامل في اليوم الأخير. إنّ الله يَغضَب على الشّرير لأنّ هذا الأخير حاول بكافة الطُّرق إبعاد المؤمنِين باللّه عن العبادة الحقَّة. إنّ الله قديرٌ على حماية عبيده، وإنقاذهم مِن فمّ الشِّرير، مِن فَم التِّنين.
في هذا الزَّمن الّذي نعيشه، نعيش “سِفر الرُّؤيا”، لأنّنا نعيش في حالةٍ خوفٍ مِن الـمَرض وَمِن الجوع وَمِن الحرب، وفي هذه الظُّروف الصَّعبة يدعونا كاتب هذا السِّفر إلى التَّرنيم لله وتعظيمه لأنّه سيُخلِّصنا في اليوم الأخير مِن كلّ ما نُعانيه اليوم. إنَّ المزمور 22، يُعبِّر عن عمق معاناة الإنسان في وقت الضِّيق، والّذي لا يجد سوى الله ليَشكو له همّه، لذا صَرخَ إليه في هذا المزمور قائلاً: “إلهي، إلهي، لماذا تَركتَني؟”. إنَّ هذا المزمور قد صلّاه الربُّ يسوع على الصَّليب عندما صَرخَ إلى أبيه باللُّغة الأرامية قائلاً:”إلهي، إلهي، لماذا تَركتني؟”.
إنَّ الحبيب لا يُكلِّم حبيبه بِاللُّغة الِفُصحى مستخدمًا عباراتٍ منمَّقة، إنَّما باللُّغة العاميّة مستخدمًا عباراتٍ نابعةٍ من القلب، وبالتَّالي فإنَّ صَرخة يسوع على الصَّليب تَعكس نوع العلاقة الّتي تجمعه باللّه أبيه، ألا وهي علاقة حُبٍّ، إذ استخدم الربُّ اللُّغة المحكية أي اللُّغة الأراميّة بدلاً من اللُّغة العِبريّة أي اللُّغة الفُصحى. في هذا الإصحاح، يُقدِّم لنا كاتب هذا السِّفر صورةً عجيبةٍ ومُدهِشة، إذ يُصوِّر لنا الّذين عانوا من الاضطهاد ويعانون منه، يُنشِدون ترانيم التَّسبيح والتَّعظيم للربّ، نتيجةَ إيمانهم به. إنَّ هذا المشهد الّذي يُقدِّمه لنا يوحنّا الرَّسول في هذا الإصحاح يُذكِّرنا بالفِتية الثّلاثة الّذين كلَّمنا عنهم سِفر دانيال، إذ قال لنا إنّهم كانوا يُسبِّحون الله وهُم في أتُّون اللَّهيب، قائلِين: “قدُّوس، قُدُّوسٌ، قدُّوس”. إنَّ هذه التَّسبحة تُردَّد في الكنيسة الشَّرقيّة في يوم سبَّت النُّور، أي بعد موت الربِّ يسوع وقَبْل إعلان قيامته المجيدة.
وفي هذا الإطار أيضًا، نتذكَّر قول بولس الرَّسول: “لا موت ولا حياة، لا ملائكة ولا رؤساء، ولا أمورَ حاضرة ولا مستقبَلة، لا عُلوَ ولا عُمق ولا خليقة أخرى، تَقدر أن تَفصِلنا عن محبّة الله الّتي هي في المسيح يسوع ربِّنا” (رو8: 38- 39)، وبالتّالي، على المؤمن في وقت الضِيق ألّا يَفقدَ سلامه وأمانه وطمأنينتِه الّتي حصل عليها نتيجة علاقته بالربّ المبنيّة على الحبّ، على الرُّغم من الصُّعوبات الّتي يُقدِّمها له العالم. وهنا نتذكَّر أيضًا قول بولس الرَّسول، بما معناه، أنّنا آنيةٌ خَزفيّةٌ محطَّمةٌ، نَحمل في داخلنا الكنزَ الأعظم ألا وهو الربُّ يسوع. وهنا يُطرَح السُّؤال: مَن يَحمل مَن: هل الآنية المحطَّمة هي الّـتي تَحمل الكَنز، أم أنَّ الكنز هو الّذي يحمل هذه الآنية الخَزفيّة؟ إنَّ الجواب عن هذا السُّؤال هو أنَّ الكَنز هو الّذي يحمل هذه الآنية ويزيد من قيمتها.
إنّ الاسم هو الحضور، في صلاة الأبانا، نقول:”ليتمجدَّ اسمك”، أي لِيَكُن حضورك يا ربّ مُقدَّسًا فيما بَينَنا. إنَّ عبارة “قدِّيس” في اللُّغة العِبريّة تَعني الـمَفروز. عندما يتمُّ فَرزُ أمرٍ ما أو شخصٍ ما لِوَظيفةٍ مُعَيَّنة، فهذا يعني أنّ ملكيّة هذا الشيء أو مرجعيّة هذا الشَّخص أصبَحت مَعروفة وواضحة. إنَّ القدِّيس هو الشَّخص الّذي فُرِزَ أو فَرَز نفسه ليَكون “أرضَ وَقفٍ لله”، أي مُلكًا لله. عندما يكون إنسانٌ مُلكًا لله، فهذا يعني أنّ الشَّر لن يُسيطر عليه، أكان مُتجسِّدًا في أشخاصٍ، أو ظروفٍ أو أحداث. في هذا الإصحاح، أراد كاتِب هذا السّفر أن يقول للمؤمِنِين الّذين هُم تحت الضَّغط، إنَّ وَقت تعظيم الله قد حان أو أصبح قريبًا منهم، لأنّه مهما طال الاضطهاد فإنَّه لا بُدَّ لَه مِن أن ينتهي.
“ثُمَّ بَعْدَ هذَا نَظَرْتُ وَإِذَا قَدِ انْفَتَحَ هَيْكَلُ خَيْمَةِ الشَّهَادَةِ فِي السَّمَاءِ، وَخَرَجَتِ السَّبْعَةُ الْمَلاَئِكَةُ وَمَعَهُمُ السَّبْعُ الضَّرَبَاتِ مِنَ الْهَيْكَلِ، وَهُمْ مُتَسَرْبِلُونَ بِكَتَّانٍ نَقِيٍّ وَبَهِيٍّ، وَمُتَمَنْطِقُونَ عِنْدَ صُدُورِهِمْ بِمَنَاطِقَ مِنْ ذَهَبٍ”.
إنَّ الهيكل هو مكانُ حضور الله. إنَّ خيمة الشَّهادة، في العهد القديم، هي خيمة الاجتماع الّتي كان الله حاضرًا فيها من خلال تابوت العَهد. في اليوم الأخير، سيَظهر الحضور الكبير لله في السَّماء، وبالتَّالي أراد كاتب هذا السِّفر أن يُخبر المؤمنِين عن الجائزة الّتي سينالونها، إذا ما بَقوا ثابتين في إيمانه بالربِّ يسوع حتّى اليوم الأخير. إنَّ خروج الضربات السَّبع من الهيكل، يُشير إلى أنّ هذا الغَضب على الشَّر هو قرارٌ إلهيّ، وبالتَّالي الحقّ والقداسة سوف يقهران قوى الشَّر وقوى الشَّيطان، مهما عَظُمَت. إنَّ التَّزنُّر بالذّهب يُشير إلى الـمُلوكيّة. إذًا، يُخبر كاتب هذا السِّفر المؤمِنِين أنَّهم سَيُصبحون ملوكًا في السَّماء.
“وَوَاحِدٌ مِنَ الأَرْبَعَةِ الْحَيَوَانَاتِ أَعْطَى السَّبْعَةَ الْمَلاَئِكَةِ سَبْعَةَ جَامَاتٍ مِنْ ذَهَبٍ، مَمْلُوءَةٍ مِنْ غَضَبِ اللهِ الْحَيِّ إِلَى أَبَدِ الآبِدِينَ. وَامْتَلأَ الْهَيْكَلُ دُخَانًا مِنْ مَجْدِ اللهِ وَمِنْ قُدْرَتِهِ، وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يَقْدِرُ أَنْ يَدْخُلَ الْهَيْكَلَ حَتَّى كَمِلَتْ سَبْعُ ضَرَبَاتِ السَّبْعَةِ الْمَلاَئِكَةِ”.
إنَّ غضب الله سَيَكون “إلى أبد الآبدين”، أي أنَّه لا رَحمةَ مع الشِّرير، مع الشَّيطان وعُبَّاد الأوَثان.
في سِفر إشعيا، يَصِف لنا النبيّ ظُهور الله له في الهيكل، فيُخبرنا أنَّ أذيال الله قد ملأت الهَيكل، أي أنَّ الله قد ملأ الهيكل حُضورًا ومَجدًا، كما يُخبرنا عن إنشاد ملائكة الله ترنيمة “قدُّوس، قُدُّوس، قُدُّوس” تَعظيمًا لله. إنّ الدُّخان يدلُّ على حضور الله ومَجده، ففي العهد القديم، كان الله يَمشي مع شعبه تحت شكل عمود النَّار. إنَّ عبارة “غَضب الله الحيّ”، تَعني أنَّ الله وَحده هو الذي سيبقى حيًّا، إذ سَيُبيد الشَّرَ. في نهاية هذا الإصحاح، يُخبر كاتب هذا السِّفر المؤمنِين بالله أنَّ الوقَت قد حان كي يرتاحوا من الاضطهاد، إذ ستنتهي كلَّ شِدَّة وضيق.
إذًا، يُشكِّل هذا الإصحاح تعزيةً للمؤمِنِين الّذين هُم تحت الشِّدة والضِّيق. فانطلاقًا من الإصحاح 12، بدأنا نُلاحظُ تطوُّرًا في المَشهد: ففي الإصحاح 12، أخبرنا كاتب هذا السِّفر، عن المرأة الحُبلى الّتي رَفَضت التخلِّي عن ابنها، فَوَلدته ثمّ اختُطِف منها إلى السَّماء، وقد قُلنا إنّ هذه المرأة ترمز إلى الكنيسة الّتي هَربت إلى البراري تَجنُّبًا للاضطهاد، فحافَظت على إيمانها بالربّ. وفي الإصحاح 13، أعلَن لنا كاتب هذا السِّفر إعلان الله انطلاق الـمَعركة الأخيرة في حربِه على الشَّر. وفي الإصحاح 14، أخبرنا كاتب هذا السِّفر أنّ عدد الـمُخلَّصين من اليَهود هو مئةٌ وأربعةٌ وأربَعون، وهذا يرمز إلى عددٍ غير مَحدود. وسنكتشِف في الإصحاح 16،
أنَّ غَضب الله لا يَقتَصِرُ على غير المؤمنِين باللّه من الوَثنيِّن، عابدي الأوثان، إذ إنَّه سيَطال أيضًا كلّ المؤمنِين الّذين خَضعوا للعبادات الوثنيّة، وهو ما سَيُرمَز إليه بِغَضب الله على البَحر. إذًا، إنَّ الإصحاح 15 هو إصحاح يَبعث على التعزية والفَرح في وقت الشِّدة لأنَّ مَجدَ الله قد أصبَح قريبًا. وهنا قد يتساءل البَعض: كيف يستطيع المؤمن أن يَشعر بالفرح والتَّعزية في ظلّ الاضطهاد؟ كيف يستطيع المؤمن المحافظة على سلامه الدَّاخليّ حين نجد أنَّ الأجواء حَوله لا تُوحي باقتراب الخير؟ في هذه الحالة، إخوتي، يَصِل المؤمِن إلى حدِّ الوقوع في التجربة، الّتي يطلب إلى الله مساعدته على عدم الوقوع فيها، في صلاة الأبانا.
إنَّ التجربة تقوم على اتِّخاذ المؤمِن موقفًا من الله الّذي خلَّصه من كلّ شِدَّة، بِتَحويله إلى عَدُوٍّ له. إنَّ هَدف الشِّرير هو أن يجعل مِن المؤمِن عدُوًّا لله، أي غير مُصدِّقٍ لكلامه. إنَّ الله صادِقٌ، ولكن حين لا يُصدِّق المؤمن الله، فهذا يعني أنَّه قرَّر الانفصال النِّهائيّ عن الله، تمامًا كما فَعل آدم، حين كان في الفِردوس. فآدم قد صدَّق كلام الحيّة الّتي ترمز إلى الشِّرير، بدل أن يُصدِّق كلام الله ويَعمَل به. إنَّ التَّجربة الكبرى الّذي قد يَقع فيها المسيحيّون، هي أنْ يقرِّروا جَعل الله عَدُوًّا لهم، فيبتعدون عنه مُختارين البقاء في أماكن الموت، حيث اللاحياة.
إنَّ إشعيا النبيّ، قال:”آمِنوا فَتَأمنوا”، أي أنَّه رَبَط حصول الإنسان على الأمان عند إيمانهم باللّه. قد يتساءل البعض فيقول: أين نَجِد مِثل هذا الإيمان الثَّابت في الله، في عالَمِنا اليوم؟ هذا ما يدعونا إليه سِفر الرُّؤيا: أن نبدأ مِن ذواتنا، فنكون أمثولةً للآخَرين في إيماننا باللّه، فنستمدَّ قوَّتنا من الله في كلّ أوقات حياتنا، وخصوصًا في وقت الشّدَّة.
لا شيء يستطيع أن يُعزِّي المؤمن الّذي يعاني من الشِّدة، سوى كلمة الله. بعد زوال الوباء عن عالمنا، لن يزول الاضطهاد بل سيتخِّذُ أشكالاً أخرى، على سبيل الـمِثال، عَرض الرَّشاوى على المؤمن للقيام بأعمال غِشٍّ لا يرضى الله عنها، والسُّكوت عن الحقّ. إنَّ الاضطهاد لن يترككم بسلام ولن تتمكَّنوا من التخلُّص منه إلّا متى جاء المخلِّص فيُخلِّصكم. إنَّ الربَّ سيأتي في اليوم الأخير ليُخلِّصنا من الاضطهاد الّذي نتعرَّض له، وبالتّالي علينا أن نكون أُمناء له حتّى ذلك اليوم، لنتمكَّن من سماع صوته قائلاً لِكُلِّ واحدٍ منّا: “كُنتَ أمينًا على القَليل، فسأقيمك على الكَثير”، وبالتّالي سنتمَّكن من دخول فَرح سيِّدنا، وهذا ما سيَجعلنا في قمّة الفَرح.
صحيحٌ أنّه قد نتعب من احتمال الاضطهاد، لأنَّ الشَّر كالنَبع يدفق دَفقًا في شرِّه، ولكنَّ الخالق أيضًا مِثل النَّبع يُدفِق خيرًا على مُحبيِّه. وهنا يُطرَح السُّؤال: في مواجهتنا للاضطهاد، مياهُ أيِّ نبعٍ سَنَختار أن تَجرِفَنا: مياه الشَّر أم مياه الخَير؟ فإذا كانت رُكَبَكم قويّةً بِفضل كلمة الله الّتي حَفِظتموها، وروح الله الموجود فيكم، أدعوكم إخوتي، إلى عدم الاستهانة بما هو موجودٌ فيكم والاستعانة به. لا تستهينوا بعمل الله فيكم، ولا تُقلِّلوا من قيمة الأمور الشِّريرة الّتي تتعرَّضون لها، والّتي تتصدَّون لها بِفعل كلمة الله. “لا تستَرخِصوا” عمل الله وحبّه ورحمته لكم، أمام ظروفٍ تعترض حياتكم وتَقتُلُكم نَفسيًّا. فَفِيها يَظهر صَبرُ القدِّيسِين. آمين.
ملاحظة: دُوِّن الشرح بأمانةٍ مِن قِبَلنا.