أبتِ، الأب شربل عزيز، إخوتي المؤمنِين،

نحتفلُ اليومَ في هذه الذبيحةِ الإلهيّة، بِتَأسيسِ جماعةِ “أذكرني في ملكوتك”، في هذه الكابيلّا الخاصّةِ بعائلةِ “آل تابت” في هذا الحيّ، في عشقوت. أنا لن أتكلَّمَ على الجماعة، بل سأترُكُ الكلامَ بعدَ القدَّاس، للسَّيِّدة جانيت الهبر، السَّاعيةِ الأُولى لتأسيسِ هذه الجماعة، الّتي انتشَرتْ في لبنان وخارجِه، لِتُعرِّفَكم إليها.

إنّ كلَّ جماعةٍ رسوليّةٍ، هي جزءٌ لا يَتجزّأُ مِنَ الكنيسة. وكلمةُ “كَنِيسة” في اللُّغةِ الآراميّة وفي اللُّغةِ اليونانيّة، تعني الجماعة. ومِن أهمِّ صِفاتِ الجماعة، أن تكونَ منفتحةً على الجميع، لا منغلقةً على ذاتِها، لئلّا تتحوَّلَ إلى بِدعةٍ. إنّ وجودَ جماعةِ “أُذكرني في ملكوتِكَ” يؤكِّدُ على استمرايّةِ حضورِ الكنيسةِ في عالَمِنا اليوم. وهنا، أودُّ أن أقولَ لكم، إنّ رسالةَ هذه الجماعة، ألا وهي الصّلاةُ من أجلِ موتانا، هي رسالتُنا جميعًا. إنّ الصّلاةَ مِن أجلِ موتانا يُشكِّلُ دَينًا علينا إيفاؤُهُ بِشَكلٍ يوميّ، مِن خلالِ صلاتِنا لأجلِهِم، وخصوصًا في القُدَّاس الإلهيّ.

إخوتي، نحن نؤمِن بكنيسةٍ واحدة. لماذا هي واحدةٌ؟ لأنّ رأسَها هو واحدٌ، وهو يسوعُ المسيح. لقد خُلِقتِ الكنيسةُ بالمسيح، وقد افتداها المسيحُ، وهي مدعوّةٌ للسَّير نحوَهُ، فتتمكَّنُ مِن اللِّقاءِ به، هو الألفُ والياء، البِدايةُ والنِّهاية، في الملكوت. ولكنَّ الكنيسةَ تتألّفُ من ثلاثةِ أقسامٍ: أوّلاً: كنيسةُ السَّماءِ الّتي يَرأسُها يسوعُ المسيح، وتَضُمّ بِشَكلٍ أساسيٍّ العذراءَ مريم والشُّهداءَ والقدِّيسِين العظماءَ والطُّغماتِ الملائكيّة؛ ثانيًا: الكنيسةُ المجاهِدةُ، أي كنيسةُ الأرض، وتَضُمُّنا نحن الّذين لا نزالُ نَسيرُ في “وادي الدُّموع” كما نقولُ في إحدى الصَّلوات، محاولِين مِن خلالِ مَسيرَتِنا الأرضيّةِ استرجاعَ ما خَسِرناه ألا وهو الخلود، أي الحياةُ الأبديّة؛ وأخيرًا، كنيسةُ الـمَطهَر. إذًا، كنيسةُ السّماءِ وكنيسةُ الأرضِ وكنيسةُ الـمَطهر تُشكِّلُ كلُّها كنيسةً واحدة، أي أنّها تُشكِّلُ معًا جماعةً واحدةً مترابطةً مع بَعضِها البعض، ورأسُها يسوعُ المسيح. إنّ الكنيسةَ المارونيّةَ، تُوَجِّهُ صلواتهِا اليوميّةَ، وخصوصًا في القدَّاس الإلهيّ، إلى كنيسةِ الـمَطهَر. 

إخوتي، إنَّ حَسَناتِ القدَّاساتِ الّتي نُقدِّمُها إلى الكاهنِ كي يَذكُرَ موتانا في قدَّاسِه هي عملٌ صالح؛ ولكن مِن المفضَّلِ أن نشاركَ في هذه القدّاساتِ، ونحن في حالةِ النِّعمة، أي معتَرِفين بخطايانا قَبلَ المناولة، فنتمكَّنَ من تَناولِ القُربانِ الّذي نُقدِّمُه من أجلِ راحةِ أحبّائِنا. غالبًا ما يَتركُ لنا أحبّاؤُنا ميراثًا بعد وفاتهِم، ولذا نحن نَدينُ لهم بالصّلواتِ الّتي نُقدِّمُها من أجلِ راحةِ أنفُسِهِم، فأمواتنُا يتَّكِلون علينا من أجلِ تقصيرِ مدَّةِ مَطهرِهم. قلائلُ جدًّا هُم الّذين تمكَّنوا من الدُّخولِ مباشرَةً إلى السَّماء، أمثالَ العذراءِ مريم والقدِّيسِ يوسف والقدِّيسِ بطرس والقدِّيسين؛ أمّا الغَالبيّةُ السّاحقةُ مِن موتانا المؤمِنِين فَهم ينتظِرون في الـمَطهر، قَبل صعودِهم إلى السَّماء، فموتانا ،كما تقولُ الرِّسالةُ الّتي سمِعناها قَبلَ قليل، يَخلُصون كَمن يَمُرّون في النَّار. إنّ العذراءَ مريم، سيدِّةَ النَّجاة، شفيعةَ هذه الكنيسة، تُصوَّرُ لنا وهي تَنتَشِلُ أنفُسَ موتانا مِن الـمَطهرِ وتُصعدُهم إلى السَّماء.

مَن هي الأنفُسُ الـمَطهريّة؟ إنّ الأنفسَ الـمَطهريَّةَ هِي أوّلاً أبناءُ عائلةِ “تابت”، الّذينَ أسَّسوا هذه الكابيلّا، واشتَرَطوا قبلَ وفاتِهم أن يَتِمَّ تقديمُ ما لا يقلُّ عن خمسٍ وعشرين قدَّاسًا في السَّنة، من أجلِ راحةِ أنفُسِهم، وهُم في غالبيّتهِم رُهبانٌ، وكهنةٌ أبرشيُّون، مُقابلَ تقديمِهم هذه الكابيلّا للكنيسة. وفي صورةِ سيِّدةِ النَّجاةِ الموجودةِ في وَسَطِ الكنيسة، يَظهرُ أبناءُ هذه العائلةِ على أنّهم نفوسٌ في الـمَطهر. اِستنادًا إلى إيمانِنا المسيحيّ، نحن نؤمِنُ بأنّنا جميعَنا سنَنتَقلُ من هذه الأرضِ إلى الـمَطهرِ قَبل دخولِنا إلى السَّماء، إذ لا يمكنُنا أن نُعايِنَ اللهَ ونحن في حالةِ خطيئة. في الـمَطهرِ، تتطهَّرُ نفوسُنا وتُبيَّضُ من الخطيئةِ، قَبلَ لقائِها بالربّ. إذًا، مسألةُ وجودِنا في المطهرِ بعدَ موتِنا الأرضيِّ هي مسألةُ وقتٍ. 

إخوتي، ليس اللهُ هو الّذي يَدينُنا، كما هو التّفكيرُ السّائدُ في الكنيسةِ الشرقيّة، ولكنَّنا نحن الّذين نَدينُ أنفسَنا من خلالِ أعمالِنا الأرضيّة. وفي هذا الإطارِ، أتذكَّرُ قولَ آباءِ الكنيسةِ الّذين كانوا يقولون إنّ الّذي أمضى حياتَه عائشًا في الظّلمةِ، سيُواجِهُ صعوبةً في النَّظرِ إلى الشَّمس، لأنّه لم يَعتَدْ على رؤيةِ النُّور، وسيُفضِّلُ متابعةَ حياتِه في الظُّلمة. كذلك، نحن المؤمِنِين، إذا اختَرْنا العَيشَ في الظّلمةِ على هذه الأرض، فإنّنا سنَختارُ الظّلمةَ أيضًا بعدَ موتِنا الأرضيّ؛ وإذا اختَرنا العيشَ في النّورِ على هذه الأرض، فإنّنا سنتلقي بالشَّمسِ الإلهيّةِ الّتي لا يَغربُ نورُها أبدًا. إخوتي، إنّ ظُلمةَ الخطيئةِ هي أبشَعُ من ظُلمةِ هذه الدُّنيا؛ وإنّ نورَ المسيحِ الّذي خَلَقَ المجرَّاتِ والكواكبَ هو أقوى بِكَثيرٍ مِن نورِ الشَّمس. مَن اعتادَ على ظُلمةِ الخطيئةِ، لا يستطيعُ أن ينظرَ إلى نورِ المسيحِ السّاطعِ، ولذلك سيَذهبُ إلى الـمَطهرِ كي يتنقَّى ويتبيَّضَ من الخطيئةِ، فيُصبحَ مستحقًّا الاتِّحادَ النِّهائيَّ بالربِّ يسوعَ في السَّماء. بموتِه الأرضيِّ، يتحرَّرُ الإنسانُ من أشياءَ ثلاثةٍ هي: المادَّةُ والزَّمانُ والمكان. 

إنّ المكانَ والزَّمانَ غيرُ موجودَين إلّا في عالَمِنا البشريّ، أمّا بعدَ الموتِ، فلا مكانَ ولا زمان؛ والوقتُ الّذي نُمضِيهِ بعدَ الموتِ في الـمَطهر، قد وَصَفهُ القدِّيسُ بولس بقولِه إنّهما زمانٌ ومكانٌ ممجَّدان. في الـمَطهرِ، تتعذَّبُ الأرواحُ البشريّةُ، الأرواحُ المؤمِنةُ، بالنَّارِ، فالنّارُ هنا هي تَشبيهٌ للإشارةِ إلى الحالةِ الّتي يعيشُها المؤمِنُ في الـمَطهرِ بعيدًا عن الله. إنّ العذراءَ مريم قد مُنِحَتْ نِعمةً من السَّماوات، وهي أن تقومَ بِتَخليصِ نفوسٍ مؤمنةٍ من الـمَطهرِ، في كلِّ عيدٍ من أعيادِها. لقد مُنِحَتْ هذه النِّعمةَ لأنّها كُليَّةُ القداسةِ، فَجَسدُها لم يعرِفِ الفسادَ، لأنّها لم تَعرِفِ الخطيئةَ، وقد اتّخذَ الربُّ الإلهُ جسدًا منها. من الجميلِ جدًّا، أن تتأسَّسَ جماعةُ “أذكرني في ملكوتِكَ” في كابيلّا سيِّدةِ النَّجاةِ، الّتي من المفتَرَضِ أن تكونَ شفيعةَ هذه الجماعةِ أيضًا.

إنّ السّؤالَ الّذي يُطرَحُ الآن: لماذا نُقدِّسُ؟ ما فائدةُ القدَّاسِ، بالنِّسبةِ إلينا؟ إخوتي، نحن نذهبُ إلى الكنيسةِ للمشاركةِ في القدَّاسِ الإلهيِّ، لا من أجلِ مشاهدةِ عَملِ الربِّ يسوعَ الخارقِ بتحويلِ الخبزِ والخمرِ إلى جَسَدِه ودمِه بِفعلِ حلولِ الرُّوحِ القدس، إنّما من أجلِ تقديسِ ذواتِنا. فكلَّما تَقرَّبْنا من اللهِ وسَمِعْنا كلمَتَه وتجاوَبْنا معها، وكلَّما تَغذَّيْنا من جسدِه ودَمِه، ساهمْنا في تقديسِ نفوسِنا. نحن لا نذهبُ إلى الكنيسةِ، ليُقدِّسَ الكاهنُ نيابةً عنّا، بل نذهبُ كي نتقدَّسَ من خلالِ المشاركةِ في صلواتِ الجماعةِ في الكنيسة.  

ما علاقةُ القدَّاسِ بخلاصِ الأنفسِ الـمَطهريّة؟  إخوتي، كما سبَق وقُلْنا، إنّ الكنيسةَ تتألَّفُ من ثلاثةِ أقسام: الكنيسةِ السّماويّةِ، والكنيسةِ الأرضيّةِ والكَنيسةِ الـمَطهريّة. في القدّاسِ الإلهيّ، تجتمعُ هذه الأقسامُ الثّلاثةُ للكنيسةِ وتتشاركُ الصّلاةَ معًا من أجلِ بعضِها البعض. بِحَسْبِ التّعليمِ الفاتيكانيِّ الثّاني، في القدّاسِ الإلهيّ، تُولَدُ الكنيسةُ، ومنه تتغذَّى؛ وبالطَّبعِ ليس المقصودُ هنا بالكنيسةِ المبنى الحجريّ، إنّما جماعةُ المؤمِنِين. إنّ القدَّاسَ الإلهيَّ هو ذبيحةُ الابنِ الوحيدِ، الّتي رضِيَ عنها الآب. في إيمانِنا المسيحيّ، يستطيعُ اللهُ الآبُ أن يرفضَ ذبيحةَ أيِّ مؤمنٍ وصلَواتِهِ، إن لم تكنْ طاهرةً، ولكنّه لا يستطيعُ أن يرفضَ ذبيحةَ ابنِه، لأنّها طاهرةٌ ومقدَّسةٌ. 

إنّ اللهَ يَقبلُ الذَّبيحةَ الّتي يُقدِّمُها هو، من أجلِ خلاصِنا. وهنا، نَتذكَّرُ ما نُردِّدُه في القدَّاسِ إذ نقول: “ممّا لكَ، نُقرِّبُ لكَ”. إنّ أعظمَ ما يمكننُا تقديمُه لأمواتِنا هو القدَّاسُ الإلهيُّ بِشَكلٍ صالحٍ، أي أن نُشاركَ في الذَّبيحةِ الإلهيّةِ ونحن في حالةِ النِّعمةِ، أي معتَرِفين بخطايانا، فنَستحقَّ أن نتناولَ القربانَ المقدَّسَ، بعدَ أن نكونَ قد طلَبنا من الكاهنِ تقديمَ القدَّاسِ من أجلِ موتانا. من الجميلِ جدًّا أن تجتمعَ العائلةُ بأكملِها في الكنيسةِ من أجلِ المشاركةِ في الصّلاةِ لأجلِ راحةِ أنفسِ موتاها، وهنا نجدُ ضرورةً للتّذكيرِ بأنّ كنيسةَ السَّماء، وكنيسةَ الـمَطهرِ وكنيسةَ الأرضِ تُشكِّل جماعةً واحدةً رأسُها يسوعُ المسيح. إنّ الصّلواتِ والقُدّاساتِ الّتي نُقدِّمُها من أجلِ موتانا، تعودُ بالفائدةِ عليهم، إذ تساعدُهم على تقصيرِ مُدَّةِ مَطهرِهم؛ وهُم مَتى ارتفعوا إلى السَّماءِ يُعيدونَ إلينا  الصّلواتِ والقدّاساتِ الّتي نُقدِّمُها من أجلِهم، فنتقدَّسُ نحن من خلالهِا. إذًا العلاقةُ بيننا وبين أمواتِنا، هي علاقةٌ تَسيرُ بالاتِّجاهين إذ يستفيدونَ من صلاتِنا لهم، ونستفيدُ من صلواتِهم لنا حينَ يُصبحونَ في الملكوت. وهذا تـأكيدٌ على أنّنا جماعةٌ واحدةٌ.

ملاحظة: دُوِّنت العظة بأمانةٍ مِن قِبَلِنا.