“اطلُبوا أوّلاً ملكوت الله…” (مت 33:6)
بقلم المطران أنطوان بو نجم، راعي أبرشيّة أنطلياس المارونيّة،
الكلمةُ المتكرّرة في الفصل 6 من إنجيل متّى هي “لا تهتَمّوا” وهل من المعقولِ ألّا نخافَ ولا نهتمَّ ولا نقلقَ؟؟
حياتُنا كلُّها همومٌ وقلقٌ، ونشعُرُ بأنّنا مكبّلون بشؤونِ الحياةِ، بالمأكلِ والـمَشْرب والملبَسِ، بالمدارسِ والمسكنِ والصحّة… بخاصّةٍ في هذه الظّروفِ الّتي نعيشُها.
أيُعقَلُ ألَّا نهتمّ بأمورِ معيشتِنا الأساسيّةِ!؟
يعطينا يسوعُ مَثلَ العصافيرِ والزَّنابقِ، فالعصافيرُ لا تَزرعُ ولا تحصُدُ ولا تخزِنُ في الأهراءِ، والآبُ السّماويُّ يَقوتُها، وكذلك الزّنابقُ فهي تنمو دونَ أنْ تتعَبَ أو تغزِلَ. فلنفهم جيّدًا إذًا ما يقولُه يسوعُ. فهو لا يطلُبُ منّا ألّا نهتمَّ أبدًا، إنّما يوجِّهُنا كي نهتمَّ بما هو أساسيٌّ في الحياةِ ألا وهو إعطاءُ الأولويّةِ للرَّبِّ، والباقي حينَها سيُعطى لنا ويُزادُ.
فبدلَ أنْ نهتمَّ فقط بالمأكلِ والملبَسِ حريٌّ بنا أنْ نهتمّ أوّلًا ونعملَ من أجلِ ملكوتِ اللهِ وعدالتِه، وندعَ الرَّبَّ يهتمُّ بالباقي. من هنا ضرورةُ تمييزِ ما هي أولويّاتُنا في الحياةِ. فأينَ هو ملكوتُ اللهِ؟ جوابًا على أسئلة بيلاطسَ وقتَ المحاكمةِ، يُجيبُه يسوعُ قائلًا: “ليستْ مملكتي من هذا العالمِ…” (يو 36:18). وفي حديثٍ له مع الفريسيّين يوضِحُ يسوعُ أنّ ملكوتَ اللهِ في داخلِ الإنسانِ (لو 21:17). ويشبِّهُ يسوعُ ملكوتَ اللهِ بحبّةِ الخردلِ، أو بالخميرةِ، لنفهمَ أنّ ملكوتَ اللهِ يكمُنُ في الأمورِ الصَّغيرةِ الّتي علينا أن نحيطَها بكلِّ الحبِّ والاهتمامِ. وهذا هو مبدأُ القداسةِ، إنّه قائمٌ على عملِ الأمورِ الصّغيرةِ بمحبّةٍ كبيرةٍ. فالقديسةُ تريزيا الطفل يسوعَ مثالٌ لنا في فهمِ هذا المبدأ وعَيشِهِ، فقد فهِمَتْ أنَّ رسالتَها إنّما هي الحبُّ، وبدونِه يفقِدُ كلُّ شيءٍ معناه، وهي الّتي في كتاباتِها تقولُ إنّها تريدُ أنْ تكونَ قطرةَ ندًى على ورقِ الزَّنبقِ. فقطرةُ النَّدى هذه ليسَتْ بشيءٍ بالمقارنةِ مع نهرٍ كبيرٍ، لكنَّها هي الّتي تُنْعِشُ الزَّنبقةَ. قطرةُ النَّدى هذه لا أحد يوليها أهميّةً إنّما هذا لا يعني أنَّها بذاتِها بدونِ أهميّةٍ.
لقد عاشَ يسوعُ في النّاصرةِ ثلاثين سنةً في الخفاءِ، ولا نعرِفُ شيئًا عن حياتِه طوالَ هذه المدّةِ، وكأنّه ما عمِلَ شيئًا خلالَها، قبلَ بدْءِ حياتِهِ العلنيّةِ والبِشارةِ. لماذا لم يبدأ البشارةَ قبل بلوغِهِ الثلاثين من العمرِ؟ ومَنْ قالَ إنَّ الحياةَ الخفيّةَ مَضيَعةٌ للوقتِ؟
إنّنا نبني ملكوتَ اللهِ في داخلِنا بقيامِنا بأعمالٍ صغيرةٍ بمحبّةٍ كبيرةٍ لامتناهيةٍ.
علينا أنْ نعرِفَ أنَّ الرَّبَّ لا يقيسُ الأمورَ بمقياسٍ بشريٍّ، إنّما مقاييسُه مُختلِفَةٌ. فالرَّبُّ ينظرُ إلى الدَّاخلِ، إلى عمقِ الإنسانِ والأشياءِ، ولا ينظرُ إلى ظاهرِها. ويسوعُ المسيحِ قد بَدأَ حياةَ البشارةِ منذُ أنْ حلَّ في أحشاءِ مريمَ مُتجسّدًا، وذهبَتْ به أمُّه إلى نسيبتِها أليصابات، وصولًا إلى الميلادِ، حتّى موتِه وقيامتِهِ…
فلنَبدأْ بِبنائه فينا ولنَجعلْ يسوعَ يملِكُ في حياتِنا، هذه هي الأولويّةُ والباقي سيُعطى لنا.