قُدس الأباتي الكُلِّي الاحترام، أبويَّ الجليلَيْن، أحبَّائي، إخوتي وأخواتي،

تُسَيطر العَولمة على عالمنا اليوم، وخاصّة على المستويات الاقتصاديّة والماليّة والتِّجاريّة، وما تَصَرُّف الدُّوَل الغنيّة مع الدُّوَل الفقيرة إلّا دليل على ذلك: فالدُّوَل الغنيّة، ذات رؤوس الأموال، تُمارس امبرياليّة اقتصاديّة على الدُّوَل الفقيرة، للاستفادة مِن هذه الأخيرة اقتصاديًّا، بما يخدم مصالح الدُّوَل الكبرى. لا تطال العولمة فقط هذه المستويات الثلاثة في حياتنا اليوميّة، بل تطال أيضًا أعماق الإنسان إذ تسعى إلى زرع أفكارٍ ومبادئ وقِيَمٍ، تُشكِّل مُنطَلَقًا لِتَعامُل الإنسان مع أخيه الإنسان. للعولمة إيجابيّات وَسَلبيّات: فالعولمة قد جعلت العالم كلَّه مدينةً كونيّةً صغيرة، ومنَحت النَّاس بذلك سهولةً للتواصل فيما بينهم، إذ أصبح بإمكان البشر أن يتشاركون الأفراح والأحزان، وأن يكونوا على درايةٍ بكلّ تطوّرٍ يحدث في العالم على كافة الأصعدة. إنّ العولمة سهَّلَت أيضًا حياة البشر من خلال إعطائهم إمكانيّة للتبادل التجاريّ والحصول على كلّ ما يحتاجونه من السِّلَع. أمّا خطر العولمة الأكبر، فيَكمن في زرعها فِكرًا مُضّادًا لفِكر المسيح في النّفوس: فكما أنَّ الأَبْنِيَة تُهدَم عندما تتسرّب إليها المياه، كذلك تُهلَكُ النُّفوس أيضًا عندما تتسرّب إليها أفكار العالم.

إنّ العَولمة قد قدّمَت لمجتمعاتنا مفاهيم جديدة لم تكن مقبولةً في السّابق، إذ جعلَت على سبيل الـمِثال كلَّ مُنشِدٍ لأغنيةٍ مُطربًا، دون أخذ جمال صوته بالاعتبار، أي أنّها شوَّهت مفهوم الغناء الصَّحيح، ودفعَت البعض إلى الاعتقاد أنّ هذا المفهوم الجديد هو المفهوم الصَّحيح. كذلك، شوَّهت العَولمة مفهوم المظهر الحسن للإنسان، إذ قدَّمت له ثيابًا ممزّقة، ودفعته إلى اعتمادها كمِثال للمظهر الأنيق، في حين أنّ الإنسان كان يرمي في الماضي، ثيابَه الممزّقة لأنّها لم تَعُد صالحة. إنّ خطيئة الإنسان الأساسيّة هي التَكبُّر والأنانيّة، إذ إنّها تُخرِجُه من إطار صداقته مع الله، وبالتّالي تُدخِله في دائرة الموت. إنّ الخطيئة تؤدّي إلى موت الإنسان لأنّها تدفعه إلى التفكير بطريقة مغايرة لطريقة تفكير الله، وهذا ما يخلق فيه الحزن على الرّغم من تَوَفُّر كلّ وسائل الفَرح بين يديه. إنّ الخطيئة الأصليّة الّتي ارتكبها آدم، هي خطيئةٌ ناتجةٌ عن تفكيرٍ خاطئ مِن قِبَل الإنسان، بدليل أنّ آدم اكتشف عند مخالفتِه لأوامر الله أنّه عُريانُ، أي أنّ تفكيرَه أصبح مخالفًا لطريقة تفكير الله.

إنّ بولس الرّسول قال لنا في الرِّسالة الّتي تُلِيَت على مسامِعنا اليوم: “ليكن فيكم مِن الأفكار والأخلاق ما في المسيح يسوع”(في2: 5). في هذه الآية الكتابيّة، أراد بولس الرّسول التشديد على الأفكار أكثر مِن تشديده على الأخلاق، بدليل أنّه ذَكرها أوّلاً. إنّ المسيحيّة لَيْسَت مجموعة من الأخلاق الحميدة الّتي على المؤمِن ممارستها، لأنّه لو كانت كذلك، ما الّذي يميِّز المسيحيّة عن سواها من الأديان، خاصّة أنّ جميع الأديان تدعو أَتْباعها إلى فِعل الخير وتجنُّب الشِّر؟ بعبارةٍ أخرى، ما هو الجديد الّذي أتى به يسوع المسيح؟ إنّ الجديد الّذي أتى به المسيح، هو أنّه دعا البشر إلى اعتماد فِكر الله، أي التفكير بالطريقة الّتي كانوا يفكِّرون بها قبل سقوطهم في الخطيئة الأصليّة. حين سأل الشّابُ الغنيُّ يسوعَ المسيح، عن الطريقة الّتي عليه اعتمادها للوصول إلى الملكوت، أجابه الربُّ أنّه عليه التخلّي عن كلِّ ما يملك وإعطائه للفقراء. 

بهذا الكلام، أراد الربُّ يسوع حثَّ هذا الشّاب الغنيّ على التخلّي عن الممتلكات الأرضيّة، تعبيرًا عن تَخلِّيه عن فِكره القديم، واستعدادِه للقبول بفِكر الله، نهجًا لحياته. إنّ ما طَلَبه الربُّ يسوع من الشَّاب الغنيّ كان بالنسبة إلى هذا الأخير صعبَ التّحقيق، لذا ذهب هذا الشّاب حزينًا. جاء نيقوديموس إلى يسوع، ليلاً، ليسأله عن كيفيّة الحصول على الميراث الأبديّ، فكان جواب الربِّ له إنّه عليه الولادة من جديد، أي التخلّي عن فِكره القديم، واعتماد فِكر الله أسلوبًا لحياته كي يتمكّن من الوصول إلى الملكوت السماويّ. إنّ مَرْتا جاءت تشتكي إلى يسوع عن أختها مريم، فأجابها الربّ إنّ مريم تُصغي إلى كلمة الله، الّتي ستُعطيها فِكرًا جديدًا، فِكرًا سماويًّا هو فِكر الله، بدلاً من الفِكر القديم. إنّ المؤمِن الّذي لم يسمع بكلمة الله، لا يمكنه أن يعمل بها، أو أن ينال فِكر الله.

إنّ شعار جماعة “أذكرني في ملكوتك”، هذه المؤسَّسة الّتي نتواجد فيها اليوم، هو الحياة لا الموت؛ لذلك هي تسعى إلى إبعاد الموت الروحيّ لا الموت الجسديّ، عن المؤمِنِين. إنّ فِكر العالم هو الّذي يؤدِّي إلى موت الإنسان روحيًّا، لذلك علينا أن ننشر فِكر الله في عالمنا اليوم. إنّ الرَّجل الّذي تكلّم عنه إنجيل اليوم، يُشبه كلّ واحدٍ منّا: فهذا الرَّجل كان يعيش في القبور، ونحن اليوم نعيش في عالمٍ لا يمنحنا إلّا الموت. إ

نّ هذا الرَّجل الّذي تكلَّم عنه الإنجيل، هو إنسانٌ يسكن في القبور، أي أنّه يعيش كالأموات، لا كالأحياء. في عَيشِه بين القبور، فَقَدَ هذا الرَّجل هويّته، إذ عندما سأله الربُّ عن اسمه، أجابه أنَّ اسمه هو جيش أو فِرقَةٌ، أي أنَّ فِكر العالم الّذي يؤدِّي إلى هلاك الإنسان هو الّذي يسيطر على هذا الرَّجل، وهو الّذي يتكلَّم فيه. إنّ هذا الرَّجل يعيش في صراعٍ داخليّ بين الخير الّذي يريده ولكنّه لا يقوم به، وبين الشَّر الّذي لا يريده ولكن إيّاه يفعل، وهذا ما تكلَّم عنه بولس الرَّسول في إحدى رسائله. إنَّ انتقال أحبّائنا من بيننا، وعدم تَمكُّنِنا من رؤيتهم مجدَّدًا لا يسمّى موتًا، لأنّ الموت الحقيقيّ هو موت الإنسان روحيًّا، إذ يفقد الإنسان هويّته واسمه وكرامته، ويُصبح على مِثال الرَّجل الّذي تكلَّم عنه إنجيل اليوم، ساكنًا بين القبور. بشفائه هذا الرَّجل، أعاد الربُّ له هويّته وكرامته واسمه، الّتي سُلِبَت منه حين عاش بين القبور، أي بقبوله فِكر العالم الّذي يميته. إنّ المؤمِن الّذي يقبل العيش بين القبور، هو إنسانٌ قد نَسِيَ حقيقته، وهي أنّه ابن الله، ابن الحياة. 

إنَّ النّص الإنجيليّ يُقدِم لنا دليلاً على شِفاء هذا الرَّجل، إذ يُخبرنا أوّلاً، أنّه ارتدى ثيابه، واللِّباس في الكتاب المقدَّس هو علامةٌ على النِّعمة الّتي يعيشها الإنسان في حياته، والّتي يفقدها عند ارتكابه الخطايا. كما يُعطينا الكتاب المقدَّس دليلاً آخر، على شِفاء هذا الرَّجل، وهو أنّه عاد صحيح العقل، وبالتّالي مشكلة هذا الرَّجل الّذي كان يعيش في القبور، كانت مشكلةً عقليّة. إنّ أهل هذه المدينة، قد انزعجوا من عمليّة الشِّفاء الّتي تمّت، لأنّ يسوع بشفائه هذا الرَّجل، أرسل الرُّوحَ الشريرة إلى الخنازير الّتي هَلِكَت في البحر، ولهذا السَبب طلب أهل هذه المدينة من يسوع مغادرة مدينتهم. بالنسبة إلى أهل هذه المدينة، تشكِّل الخنازير مَصدرَ ثروتهم الأرضيّة، ومَصدَر تجارتهم، وبالتّالي بِـهَلاكها في البحر، فَقَدَ أهل تلك المدينة أموالهم، الّتي كانوا يعتمدون عليها للعيش، وهذا ما يؤكِّد لنا انغماس أهل تلك المدينة في فِكر هذا العالم. لا يستطيع أبناء هذا العالم القبول بفِكر الله، لذا يَرفضون كلّ مَن يقبل بفِكر الله، لأنّ في ذلك تهديدًا لمصالحهم الاقتصاديّة والتِّجاريّة.

إنّ هذه الذبيحة الإلهية، الّتي نحتفل بها اليوم، مع جماعة “أذكرني في ملكوتك”، لا نُقدِّمها فقط من أجل أمواتنا الّذين انفصلوا عنّا بالجسد، بل نقدِّمها أيضًا من أجلنا، نحن الأموات في هذه الأرض، كي نحيا مع الربّ. وهذه الذبيحة تدعونا إلى التفكير في الموت: أين نحن مِنَ الموت؟ هل نحن أحياء في هذه الأرض، ننتظر الموت، أم نحن أموات ننتظر الحياة مع الربّ في الملكوت؟ 

فلنسعَ إخوتي، في هذه الحياة، إلى الموت عن خطايانا وأهوائنا، وعن فِكر هذا العالم، كي نتمكّن من القيامة مع الربّ والحياة معه، عندما نموت في هذه الأرض. هذا ما قاله بولس الرّسول في كلامه عن القيامة، وما قصده آباء الكنيسة بقولهم للمؤمِنِين: “إنّ مُتَّ قبل أن تموت، فهذا يعني أنّك لن تموت عندما تموت”، وفي هذا الصَدد، ينسجم قولٌ لمحمَّد رسول المسلمين، مع هذا التَّعليم، إذ يقول:”إنّ النّاس نِيامٌ، فإذا ماتوا انْتَبَهوا”. إذًا، نحن نعيش في حُلمٍ لا ينتهي إلّا بموتنا الأرضيّ، فتبدأ حياتنا الحقيقيّة مع الربِّ يسوع.

فلنستعدّ إخوتي، لتلك الحياة الحقيقيّة مع الربّ، فنقبل الموت عن كلِّ فكرٍ أرضيّ، كي نستحقّ أن نكون في الملكوت، حين يدعونا الربُّ للقائه وجهًا لوجه.
في الختام، أصلّي من أجل هذا المركز ومن أجل جماعة “أذكرني في ملكوتك”، آباءً وأعضاء وعامِلِين فيها، وأخصّ بالذكِّر السيِّدة جانيت الهبر، كيما يهبها الربّ النِّعمة لكي تستمرّ في رسالة زرع فِكر الله في نفوس المؤمِنِين وقلوبهم، فتكون رسالة الصّلاة من أجل الرّاقدين، لا من أجل الموتى المؤمِنِين وحسب، إنّما من أجلنا نحن الأموات الأحياء، كي نخرج من قبور أفكارِنا القديمة، وننال الشِّفاء على مثال هذا الرَّجل الّذي كلّمنا عنه إنجيل اليوم.

إخوتي، فلنُصلّ اليوم من أجل إخوتنا الرّاقدين، ومن أجلنا نحن أيضًا الأموات الأحياء، كي نموت عن فِكر هذا العالم، الّذي يحمِل إلينا شتّى أنواع الموت، فنولَد ولادةً جديدة مع ميلاد الربّ في هذه الحياة، ونكون أهلاً لحياتنا الحقيقيّة مع الربّ في الملكوت. آمين.

ملاحظة: دُوِّنت العظة بأمانةٍ من قِبَلِنا.