أبَويَّ الحَبيبَين الفاضِلَين، إخوتي بالربّ يسوع،

ها نحن نلتقي اليوم لنحتفل بالذكرى الثَّامنة لتأسيس هذا المركز الروحيّ لجماعة “أذكرني في ملكوتك”، الّذي يعكس حضور الله في مجتمعنا اليوم، وهو إحدى علامات الرّجاء في زمننا الحاضر. إنّ حضورنا، هنا واليوم، هو تأكيدٌ منّا على قبولنا بدعوة الله لنكون علاماتِ رجاءٍ داخل عالمنا الـمُظلم والـمُثقَل بأعباء هذه الحياة.

منذ بداية الخليقة، والله يكلّم شعبه، فأرسل له رسلاً وأنبياءَ أمثالَ ابراهيم وموسى وإرميا وهوشع وحزقيال، وجميع أنبياء العهد القديم، الكبار منهم والصِّغار، وهو لا يزال يكلِّمنا إلى يومِنا هذا، ويدعو بعضًا من الـمؤمِنِين لاتِّباعه والتكرُّس له، لذلك نقرأ في الكتاب المقدَّس: اِسمعي أيّـتها الأُمَم وانصُتي أيّتها الشُّعوب، لأنّ الربّ يتكلّم. ومِن أهمّ الدّعوات في تاريخ الخلاص، دعوة الله للعذراء مريم، الّتي كان لها دورٌ أساسيّ في تحقيق خلاص الله للبشر. إنَّ الربّ يكلِّمنا نحن أيضًا اليوم الحاضرين ههنا، وهو يدعونا إلى القداسة من خلال التزامنا بمشروعه الخلاصيّ لنا، ولذا على كلّ مؤمِن أن يُصغي إلى أعماقه، ليتمكّن من سماع صوت الربّ في داخله.

إنَّ بشارة العذراء مريم، الّتي نحتفل بها اليوم في هذا الأحد المبارك، هي أيضًا بشارةٌ بولادة المسيح فيما بيننا، لأنّه بقبول مريم بشارة الملاك لها، تحقّقت ولادة المسيح في أرضنا. ولكنّ للأسف، لم يتمكّن البشر من رؤية تلك الولادة الإلهيّة في يوم البشارة لأنّهم يلهثون وراء الأضواء الـمُبهِرة، ولذا لم يتمكّنوا من رؤية الربّ يسوع الّذي وُلِد في أحشاء مريم في لحظة قَولها “نَعَم” لمشروع الله في حياتها، لأنّه كان لا يزال مُختبئًا في داخلها. وبالتّالي، كي نتمكّن من رؤية المولود، علينا التركيز على كلّ ما هو مخفيّ وغير ظاهرٍ أمام عيون الجسد. إخوتي، لننطلق اليوم معًا، صوب النّاصرة، حيث كانت بداية عيد الميلاد، فميلاد الربّ لم يبدأ في بيت لحم إنّما في النّاصرة، حيث كانت العذراء مريم تعيش حياة خفيّة، بعيدةً عن ضوضاء هذا العالم، وحيث تلقَّت البشارة. إنَّ الربّ يسوع، على مِثال مريم، لم يسعَ إلى إظهار ذاته وقوَّته للحصول على مجدٍ عالميّ زائل، بل سعى إلى عيش حياةٍ خفيّة بعيدةٍ عن الأضواء. لا نستطيع أن نـتأمّل في دعوة مريم من دون التأمّل في دعوة موسى الّتي تمّت من خلال العلَّيقة المشتعلة. إنَّ العلَّيقة المشتعلة من دون أن تحترق، ترمز إلى العذراء مريم في بتوليّتها وأمومتها، فهي على الرّغم من أنّها ولَدت الربّ، بَقِيَت عذراء.

إنَّ العذراء مريم هي أمّ يسوع، وهي أيضًا أمّ البشريّة جمعاء. في يوم البشارة، كانت كلّ الإمكانيّات مفتوحة أمام العذراء، إذ إنّها تملك ملء الحريّة لقبول البشارة أو رَفضِها. إنّ الحياة تَعرِض على الإنسان سلسلة من الأحداث الّتي تفرِض عليه اتِّخاذ المواقف تجاهها، إمّا برَفضِها أو بالقبول بها. وهنا نطرح السؤال: ما هي الأمور الّتي على المؤمِن القبول بها والرّضوخ لها في الحياة، وما هي الأمور الّتي يتوجّب عليه رَفضُها؟ على الإنسان أن يطلب من الربّ نعمة الحكمة فيُجيد قول “نَعم” للأمور الّتي تستحقّ ذلك، وقول “لا”، للأمور الّتي عليه رَفضُها. يعتقد البعض أنّ عدم رَفضِهم لما يطلبه الآخرون منهم، يُكسِبُهم محبّتهم، فأصبحوا عاجزين عن قول “لا”، على أيّ أمرٍ كان، ولذا هم يقولون “نَعَم”، على الدّوام. إنَّ هذا الاعتقاد خاطئٌ تمامًا لأنّه على المؤمِن أن يبحث عن إرضاء الله لا عن إرضاء الآخرين.

عبّرت مريم عن طاعتها لله بقولها “نَعَم” لمشروعه في حياتها، وقد كانت تلك الـ”نَعَم” أبديّة، فلم تتراجع مريم عن طاعتها لله عندما واجهتها الصّعوبات بل على العكس زادتها عَزمًا على إكمال مسيرة الخلاص الّتي كشفها الله لها. بِقَولها “نَعم” للملاك، قالت مريم “نَعم” للحياة، “نَعَم” للحبّ، “نَعم” للقداسة، “نَعم” لمشروع الله في حياتها على الرّغم من كلّ الصُّعوبات. وبالتّالي، على المؤمِن أن يتشبَّه بالعذراء مريم، فيقول “نَعَم”، لمشروع الله في حياته، لمشروع الحبّ والحياة، ويرفض كلّ مشروع يؤدِّي به إلى هلاك نفسه، نابِذًا الحقد والبُغض وكلّ أعمال الشِّرير. على الأهل أن يرفضوا لَعِبَ دور السَّحرة أمام أولادهم فيحقِّقوا لهم كلّ ما يَتَمنّون. على الأهل أن يكونوا حازمِين مع أولادهم، فيقولوا “نَعَم”، على الأمور الصّالحة لأولادهم، وأن يرفضوا الأمور الّتي لا نفع منها شارحِين أسباب ذلك الرّفض لأولادهم، راسمِين بكلمة “لا” الضوابط الاجتماعيّة والأخلاقيّة في تربية أولادهم. تحرّروا أيّها الأهل من كلّ أرقٍ تُسبِّبه لكم بعض نظريّات علم النّفس الحديث، وقولوا “لا” لأولادكم، دون خوفٍ مِن إصابتهم بِعُقَد نَفسِيّة.

إنّ كلمة “لا” تُذكِّرنا بمعصية آدم وحوّاء لكلمة الله. إنّ هؤلاء الأشخاص قد انغلقوا على ذواتهم ورفضوا سماع كلمة الله، لذا غرقوا في الخطيئة. فلنَتَعلّم مِن تجربتهم، ولنسعَ إلى معاشرة كلمة الله باستمرار، لنُدرِك ما هو مشروع الله الخلاصيّ لنا ونقبل به، قائلِين له:”نَعَم”، على مِثال العذراء مريم. على المؤمِن أن يسعى في حياته أن يتشبَّه بمريم فيطلب من الربّ أن يمنحه طواعيّة مريم وإيمان مريم، وفَرح مريم في تطبيقها لمشيئة الله. إنَّ كلّ مؤمِنٍ يملك ملء الحريّة لقبول مشروع الله في حياته أو رَفضِه.

ليست مريم “باب السّماء” كما يردّد المؤمنون في صلواتهم، بل هي “السّماء” بحدِّ ذاتها. إنّ مريم لم تقف على باب السّماء خارجًا، بل دخلت إليها، وهي موجودة مع ابنها يسوع وجمهور الملائكة والقدِّيسِيين. إنّ السّماء ليست مكانًا محدّدًا نقصِدُه بعد انتقالنا من هذه الفانية، بل السّماء هي مسكن الله، أي حيث نجد الله هناك تكون السّماء. في يوم بشارة مريم في النّاصرة، حضر الملاك إلى بيتها، قائلاً لها:”الربّ معك”، أي أنّ بيت مريم في النّاصرة تحوّل إلى سماء، لأنّ الربّ جاء إليه. وهذا ما تُعبِّر عنه الكنيسة البيزنطيّة حين تقول في مريم إنّ أحشاءها أصبحت أرحب من السّماء.
إنّ المؤمِن يستطيع أن يحوّل أرضه إلى سماء، حين يطيع كلمة الله، ويسعى على الدّوام للسير وِفق تعاليم الربّ ويبقى بمعيّته. في المعموديّة، نال المؤمِن النِّعمة بأن يكون هيكلاً لله، أي أنّه منذ تلك اللّحظة، أصبح حاملاً لكلمة الله، وهو بالتّالي مدّعو للتبشير بها ونقلها للآخرين. إنّ مشروع الله للبشر عظيمٌ جدًّا، ولذا لا يستطيع المؤمِن الالتزام به والثبات فيه دون طلب المعونة من العذراء مريم، الّتي كانت أوّل مَن قَبِل مشروع الله الخلاصيّ والتزم به، حين قال “نَعَم”. 

فلنتَّخذ إخوتي العذراء مريم مِثالاً لنا وشفيعة في طاعتها لله، فنقبَل أن نكون على مِثالها أرضًا خصبة صالحة كي تُزرَع فينا كلمة الله وتنمو في أحشائنا. ولنقلع من نفوسنا كلَّ عُقمٍ، أي كلّ ما يمنعنا من تحقيق مشيئة الله في حياتنا، فنتحوّل من أرضٍ يابسة عقيمة إلى أرض صالحة تنمو فيها كلمة الله. مُخطِئٌ مَن يعتقد أنّ باستطاعته أن يُغيِّر البشر، مستندًا على قوّته الذاتيّة، لأنّه استنادًا إلى الخبرة البشريّة على مرّ العصور، وحدها كلمة الله أَثبَتَت جدارتها في تغيير البشر بطريقة فعّالة ودائمة، وتحويلهم من أشرار إلى أبرار. فَمَن يطيع الله، أي مَن يسمع كلمته ويحفظها ويعمل جاهدًا على تحقيقها في حياته، يُغيِّر روح الله حياته، فيتحوّل قلبه إلى سماء يسكن فيها الله ويستريح.

في الختام، أتوجّه بالمعايدة القلبيّة لكلّ المسؤولين في هذه الجماعة وبخاصّة السيِّدة جانيت الهبر.كما أسأل الله أن يجعل من هذا المركز مكانًا يشعّ بحضور الله، ويساهم في نقل كلمة الله إلى كلّ فاقدٍ للرّجاء كما كانت أحشاء مريم، فتتمكّن تلك الكلمة الإلهيّة من تَغيير قلوب البشر أوّلاً، ثمّ تغيير العالم، فيتحوّل عالمنا إلى سماءٍ جديدة. أرجوكم إخوتي، أن تحملوا كلمة الله الّتي سمعتموها اليوم إلى الجياع والعِطاش لها في محيطكم. كما أسألكم أن تتخلّوا عن السلبيّة في حياتكم، فتُميِّزوا الأمور الّتي يجب القبول بها من الأمور الّتي عليكم رفضها. كونوا إيجابيّين مع الآخرين وانقلوا لهم الفرح والرّجاء، والنَظرة الإيجابيّة إلى الحياة.

علينا نحن، أعضاء جماعة “أذكرني في ملكوتك”، أن نكون مميَّزين عن سائر المؤمِنِين، فننقل الرّجاء إلى الآخرين دافعين إيّاهم إلى ترك اليأس جانبًا، لذا فلتكن وجوهنا مبتسمة على الدّوام، تشعّ نورًا وسلامًا وحبًّا، تعكس حبّنا لكلمة الله. أسأل الله أخيرًا أن يقدِّسنا كما قدَّس البتول مريم، وأن يحوّل أرضنا الفانية إلى سماء جديدة، من خلال عيشنا لكلمته في حياتنا اليوميّة. آمين.

ملاحظة: دُوِّنت العظة بأمانةٍ من قِبَلِنا.