تفسير الكتاب المقدّس،
الأب ابراهيم سعد،
“سِفر نشيد الأنشاد – من الإصحاح الأوّل إلى الثامن”
اليوم، سنتنزّه في حديقة نشيد الأنشاد لِنُدخلَكم في جوِّ الكتاب الرُّومنسيِّ. هو ديوان غزلٍ مجهول المصدر ولكن موجود في قانون الكتاب المقدَّس، في مجموعةٍ تُسمَّى الكُتُب الحِكَميّة أو الأدب الحِكميّ ولكن النّاس يجدون فيها صعوبةً لأنّهم لا يجدون فيها حواراً مباشراً بين الله وشعبه. هو شعرٌ يجري بين حبيبَيْن.
في الأدب الرّهبانيِّ خاصّةً، يعتبرون هذا الكتاب كحوارٍ بين الله والنّفس البشريّة أو العكس بمعنى أن تصِلَ العلاقة بين الإنسان والله إلى هذا المستوى من الحبّ، وأن يُسلِّمَ الإنسان نفسَهُ إلى الحبيب ويقبل الإنسانُ حبَّ الحبيب للنَّفس البشريَّة. القدّيسون العِظام، الكِبار الّذين وصلوا إلى مرحلة كبيرة من فَهْم حبّ الله لهم، يصلّون بفرحٍ عظيمٍ. فيُمكنكم قراءة سفر نشيد الأنشاد ابتداءً من هذا المستوى،
أن تصلَ الأمور، بين حبيبيْن، إلى مستوى الوحدة وحتّى إلى تفاصيل عشق الإنسان للإنسان. لذلك، عندما يصلُ الكلام إلى الحبّ الكبير، الكامل لا نستطيع القول أنّنا نتكلّم عن الحبّ الرّوحانيّ فقط ولكن عن الحبّ، في أبعادِهِ كلّها، حتّى التّعابير الجسديّة، عندما لا يعود باستطاعة البشريّة التّعبير عنْهُ بالكلمات تُعبّر عنه بحركات الجسد. إذاً حتّى العلاقة الجسديّة، في إطار الحبّ، تكون كلماتٍ ولكنّها ليست كالكلمات، يُعبَّر عنها بجوارح الإنسان كلّها، بأحاسيسه كلّها. لذلك عندما تقرأون هذا النّشيد، عليكم أن تفهموه بعمقٍ، أي أنّ الحبيب يُحبّ الحبيبة بتفاصيلها كلّها فيَراها من أجمل بنات عصرها: “أنا سوداء لكنّي جميلةٌ”، حتّى وإن كانت قبيحة هو يراها ولا يرى غيرها. هذا هو الحبّ.
إذاً هذه الرّوحيّة، هذه الذّهنيّة في العلاقة بين الإنسان والله تصِل إلى هذه المرحلة يعني أنّكم تخطّيتم مرحلةَ العبد والسّيّد، مرحلة الأجير وربّ العمل، ووصلتم إلى مرحلة “العريس والعروس” وليس الزّوج والزّوجة، لأنّ “العريس والعروس” يبقى الحوار بينهما عبارةً عن الغزل الدّائم بعد وقتٍ من العرس، وعندما يُصبحان في مرحلة الزّوج والزّوجة، يصير الحوار بينهما عن أمور الحياة فيخفّ التّعبير عن الحبّ ما يجعل أحد الطّرفيْن يعتقد أنّ الحبّ قد خفّ. الزّواج مقبرة الحبّ لأنّ التّعبير عن الحبّ يتضاءل والإنسان كائن يحنّ إلى التّعبير، ويحنّ أكثر إلى سماع تعبير الآخر فهو يحبّ الكلام الجميل والمدح كما وَصفَ العلاقة على أنّها دائماً علاقة حيّة ومُشتعِلة. إذا لم تكنْ العلاقةُ بين الإنسان والله على هذا النّحو أي أنّ هناك بُعداً واستخفافاً في بعض الأمور يُؤدّيان إلى الانتباه إلى آخر.
هنا تبدأ الخطيئة وهي الجُرح الواضح للحبّ وليست التّمرّد على مشيئة الله ولكن هي أن تجرحَ علاقةَ الحبّ لأنّه قد سبق الخطيئة بلادةُ أحد الطّرفيْن وجعلَ العلاقة أمراً مفروغاً منه وكأنّها عادةٌ يوميّةٌ فيحصل الجفاف. لذلك عندما تسمع المرأة كلاماً لطيفاً من آخر، أو الرّجل من أخرى، يُعيدُهما إلى حياتهما الأولى فتنتعش ذاكرتهما ويبتعدان عن العلاقة. من المهمّ جدّاً أن تفهموا نشيد الأنشاد على أنّ الحبيب لا يرى في الكون أحداً إلّا حبيبته والعكس صحيح، وإلا أنتم تتّجهون إلى عبادةٍ أخرى غير عبادة الله. والحبّ عبادة، والحبّ عُبوديّة ولكنّه عبادة وعبوديّة طوعيّتان، فأنتم غير مُرغمين عليه.
كلّ حبّ لا يحتوي على مفهوم العبوديّة ليس حبّاً ولهذا السّبب ينتهي، وكلّ حبّ يحتوي على العبوديّة لا ينتهي إلّا بالقيامة. فإذا كنتَ تحبّ آخر وتُمارس عبوديّةً طوعيّةً بسبب حبّه فهناك قيامةٌ ستحصل إمّا له، إمّا لك، وإمّا لكلاكما. فمن غير الممكن ألّا تحصل القيامة أي الفرح الأبديّ. مهما كانت الظّروف التي تقف في وجه العلاقة، إذا بقي الحبّ على اشتعالهِ، يتخطّى الظّروف كلّها. لذلك مهما كانت هناك حواجز بين الإنسان وبين الله، إذا تعثّر أو أخطأ وكانت علاقة الحبّ قويّة سيقوم من خطيئتهِ، من مرضهِ.
الفكرة الأساسيّة هي أنّ العلاقة بين الرّبّ والإنسان هي كالعلاقة بين “العريس والعروس”. العلاقة الثّانية المقابلة لها هي علاقة الأبّ بابنهِ. هذه العلاقة تكون عمليّة مبادرة من الأب، والابن بدورهِ يتقبّل حبّ الأب. ليس من المهمّ أن يُحبّ الابن أباه باعتبار الأب ينتظر حبّ ابنه، أمّا بين “العريس والعروس” فتُصبح العلاقة أقوى إذا شعر الطّرفان بتبادل الحبّ. إذاً النّشيد، هنا، يُعطي هذه الصّورة.
مثلاً: يقول في القصيدة الأولى: “أنا سوداء لكنّي جميلة يا بنات أورشليم …”، هو يستعمل صفات لأجمل الأماكن وأفضلها ليتكلّم عن كمال جمال حبيبتهِ. “لا تلتفِتَنَّ إلى كوني سوداء فإنّ الشّمس قد جعلتني سمراء، قد غضبَ عليّ بنو أمّي فجعلوني ناطورةَ للكُروم والكرم الّذي لي لم أنظره. أخبرني يا مَن تُحبّهُ نفسي، أين ترعى وأين تربِض عند الظّهيرة، لئلَّا أكون تائهة عند قُطعان أصحابي”. ترَون الشّوق إلى العلاقة القويّة بين النّفس البشريّة والله. يُجيبُها المُصغون إليها: “إن كنتِ لا تعرفين أيّتُها الجميلة بين النّساء، فاخرجي في إثر الغنم وارعي جداءكِ عند مساكن الرّعاة.
يُجيب الحبيب قائلاً: “لقد شبّهتُكِ يا خليلتي (أيّ الرّفيقة في اللّيل والنّهار) بفرس في مركبات فرعون، ما أجمل خدّيكِ بين العقود، وعُنقكِ بين القلائد، فنصنع لكِ عقوداً من الذّهب مع جِمانٍ من الفضّة بينما الملك في حاشيتِهِ أفاح نارديني رائحته. حبيبي صُرّة مُرّ لي بين ثديَيَّ يبيت، حبيبي عنقود حنائن في كروم عين جدّي. جميلةٌ أنتِ يا خليلتي جميلةٌ أنتِ وعيناكِ حمامتان. جميلٌ أنتَ يا حبيبي وعذبٌ وفِراشُنا ريّان… بيتِنا أرز أخزيته سرو. أنا نرجس الشّارون وسوسنة الأودية، كالسّوسنة بين الشّوك. كذلك خليلتي بين البنات كالتّفاحة في أشجار … كذلك حبيبي بين البنين في ظلّهِ اشتهَيْتُ الجلوس، وثمره حلوٌ في حلقي، أدخلَني بيتَ الخمر ورايتهُ عليّ هي الحبّ. صوتُ حبيبي هوّذا مُقبلٌ وهو يضفر على الجبال ويقفز على التّلال. حبيبي يُشبه غزالاً، هوّذا واقفٌ وراء حائطنا يتطلّع من النّوافذ ويترصّد من الشّبابيك. حبيبي تكلّم وقال لي: قومي يا خليلتي، يا جميلتي وهلّمي فإنّ الشّتاء قد مضى، والمطر وقف وزال، قد ظهرت الزّهور في الأرض، ووافى أوان الأغاني، وسُمِعَ صوتُ اليمامة في أرضنا، التّينة أخرجت …”.
لقد لاحظتم الحوار بين الحبيب وحبيبته. نجد في الصّور كلّها فنّ الجمال، تعابير الحبّ، في أبعاده الجسديّة والرّوحيّة، موجودة في هذه القصائد. الحالة الّتي يعيشها الإنسان وهو يُصلّي، إذا كانت أقلّ من مُستوى العشق، تُصبح صلاته للطّلب فقط. هناك العلاقة بين حبيب وحبيبة يقضيان عمرَيْهما يتكلّمان ولكن من دون أن يطلبا شيئاً من بعضهما إلّا أن يبقى الحبيب يُحبّ الحبيبة والعكس. أي أن يرتفع مستوى العلاقة بين الطّرفيْن أبعد من المصلحة الشّخصيّة، فتصبح حاجتك حاجةً وحيدةً وهي أن يبقى الحبيب أمام عينيْك وليست حاجتك إلى الأمور الدّنيويّة. هذا ما يجعلك غير مُكترث بالأمور الدّنيويّة ” لنطرح عنّا كلّ همّ دُنيويّ كوننا مُزمِعون أن نستقبل ملك الكلّ” وهذا يعني أيضاً أنّ الحاجة إلى الطّعام تصبح من دون أهميّة فتحيا أنتَ من وجود الحبيب فقط “ليس بالخبز وحدهُ يحيا الإنسان بل بكلّ كلمة تخرج من فم الله”.
إضافةً إلى أنّ الحبيب يشعر بالسّعادة بمجرّد أن يأتي ذكر الحبيبة أي أنّ الحبيب حاضرٌ في حياة الحبيبة والعكس صحيح، كأن يكون الله حاضراً في حياتكم في كلّ لحظة فكم من الأمور ستُصلَح في حياة النّاس. العلاقة العشقيّة بين الحبيب والحبيبة، بين الله والنّفس البشريّة، تنعكس على النّاس الآخرين فلا تكون علاقةً خاصّةً. إذا كانت علاقتك مع الله على هذا المستوى، تكون علاقتك مع الآخرين تلقائيّاً مُفرِحة، تبني النّاس، وتُصلِحُهم، وتُقوّم سلوكهم. والدّليل على ذلك أنّ هناك قسم من النّاس يجتمع حول القدّيسين لأنّهم يتأثّرون بهم.
على سبيل المثال، القدّيس سمعان العموديّ، وقد سُمّيَ بالعموديّ لأنّه كان يُبشّر النّاس ويُرشدهم فبنى غرفةً على عمود ينام فيها ويُصلّي، وعندما يحين وقت إرشاد النّاس ينزل إليهم. ولأنّ علاقته باللّه كانت على مستوى عالٍ من الأهميّة، كانت الجموع تأتيه لتسمع ما يختبر من علاقة بينه وبين الله وتنتفِع منها. كما القدّيس مارون أيضاً وهو ناسك، كان يصل اللّيل بالنّهار وهو راكعٌ وفاتحٌ يديه من دون أن يتعب.
أحبّوا كما القديس مارون أحَبَّ من دون الحاجة أن تفعلوا كما فعل فلا يعود التّعب والسّهر والجوع حواجز تمنع هذه العلاقة. بما أنّ الإنسان لم يصلْ إلى هذه المرحلة من حبّ الله، عليه، على الأقلّ، أن يكتشف ويُدرك أنّ الله وصلَ إلى هذه المرحلة من حبّهِ له. أي إنسان يُحبّ امرأةً ويراها تخونه يسامحها كأن شيئاً لم يحصل فيكون هذا الحبيب غبيّاً.
هكذا الله ينظر إليكم كعريسٍ ينتظر العروس ويُحبّ، في ليلة الدّخلة، أن يراها ناصعة البياض ولكن سُرعان ما يكتشف أنّها مُتّسِخة بالوحول فيغسلها ويعود بها من دون عيب. ويتكرّر ذلك كلّ يوم. هذا هو الحبّ الإلهيّ. نجده في رسالة أفَسُس الّتي تُتلى عند الإكليل: “هو يغسلها بالكلمة لتصبح من دون عيب”.
الحبّ هو سرّ لأنّه لا يُدرك ولا يُفسّر لذلك يقول بولس عن هذا السّرّ، “أقول هذا بالنّسبة إلى المسيح والكنيسة” فهذا هو سرّ الزّواج في الكنيسة وليس سرّ الزّوجَيْن، “أمّا أنتم فليُحبّ كلّ واحدٍ امرأته كنفسه…”. سرّ الزّواج هو بين يسوع والكنيسة. يصبح الزّواج المسيحيّ سرّاً عندما يتّفق الزّوجان أن يكونا الكنيسة أي العروس فيكون المسيح العريس فيبدأ السّرّ وتعيشون حالة الحبّ.
ينعكس حبُّكَ للمسيح على علاقتك بشريكك لذلك تظهر المعاملة والتّضحية والتّحمّل والصّبر فيتحوّل الزّواج إلى مشروع صليبٍ ينتهي بالقيامة. إذاً، إذا كانت العلاقة على مستوى العشق الإلهي فهي لا تتأثّر بالعيوب الموجودة في كلا الطّرفيْن لأنّ هناك ما هو أعظم وأكبر وأعمق.
سيبقى هذا الحبّ المثال وسنظلّ نسعى للوصول إليه. الكمال هو مَن يسعى إلى الكمال والحبّ هو مَن يسعى إلى الحبّ. كما لا يُمنكك تعلّم السّباحة خارج المياه كذلك لا يُمكنك تعلّم الحبّ إلّا في بحر الحبّ. وهذا كلّهُ يتطلّب تواضعاً كبيراً. عندما يقبل الإنسان محبّة غيره يكون هذا تواضعاً أمّا عندما يكتفي بمحبّة غيره فيكون هذا كبرياء. الإنسان يُمارس مع الله العلاقة الثّانية. أمّا القدّيسون، بعد قبولهم محبّة الله، فقدّموا الأمانة والإخلاص للحبّ.
الكلام الّذي ستقرأونه فيما بعد مثل: “إن التَمَستُهُ فما وجدتُهُ، صادَفني الحُرّاس في المدينة فقلتُ لهم: أرأيتم مَن تُحبُّهُ نفسي؟ فما إن تجاوزتُهم حتّى وجدتُ مَن تُحبُّهُ نفسي فأمسكتُهُ ولن أُطلقَهُ حتّى أُدخلَهُ بيت أمّي وخِدر مَن حبِلَت بي”. بمعنى أنّك تستطيع ألّا تبحث عن حبيب ولكن إن بحثتَ عنه ستجده. أنتَ تبحث وهو الّذي يجعلك تجده. أتذكرون عندما ذهبت مريم إلى قبر المسيح ووجدته فارغاً فقالت لهم: “لقد أخذوا ربّي ولا أعرف أين وضعوه” وهي تبحث عنه هو الّذي أظهر نفسه لها. إذاً إذا بحثتَ عمّن تُحبّهُ نفسك سوف تجده. “أستحلِفكنّ يا بنات أورشليم ألّا توقِظنَ ولا تُنبّهنَ الحبّ حتّى يشاء. مُعَطّرٌ بالمرّ، بالبخور، بجميع مساحيق التّجّار، هوذا سرير سُليمان (صورة العظَمة عند الملك). جميلةٌ أنتِ يا خليلتي جميلةٌ أنتِ. (يبدأ بتفاصيل جمالِها) : عيناكِ كحمامتيْنِ من وراء نِقابِكِ، وشعرُكِ كقطيع معز يهبط مِن جبل جلعاد، أسنانُكِ كقطيع خرافٍ مجزوزة”.
“إنّي نائمة وقلبي مُستيقظ (لأنّها تنتظر حبيبها)، إذا بصوت حبيبي قارِعاً أن افتحي لي يا أختي، يا خليلتي (إذاً الحبيبة هي العالم كلّهُ فلا يعود بحاجةٍ إلى صديق أو إلى أخ) يا حمامتي يا كاملتي فإنّ رأسي قد امتلأ مِن النّدى وخصائلي مِن قطرات الّليل قد نزعْتُ ثوبي فكيف ألبسهُ، قد غسلتُ رجليّ فكيف أُوسّخهما، حبيبي أرسل يدَهُ مِن الثّقب فتحرّكَت له أحشائي، فقُمتُ لأفتح لحبيبي وكانت يدايَ تقطران مُرّاً (نوع مِن العطور) وأصابعي بالمرّ السّائل على مقبض المِزلاج ففتحتُ لحبيبي لكنّ حبيبي ولّى ومضى. نفسي فاضت مِن تواريه، التمستُهُ فما وجدتُهُ ودعوتُهُ فلم يُجبني. صادفني الحُرّاس في المدينة فضربوني وجرحوني (على الرّغم مِن العذاب الّذي تُعانيه تبقى تبحث عن الحبيب) وحُرّاس الأسرار نزعوا عنّي ردائي، أستحلفُكُنَّ يا بنات أورشليم إن وجدتُنَّ حبيبي بماذا تُخبِرنهُ؟ بأنّ الحبّ قد أسقمني. ما فضل حبيبك على حبيبٍ آخر أيّتُها الجميلة بين النّساء حتّى تستحلفيننا هكذا؟ فتُجيب: حبيبي أبيض، أصهب، علمٌ بين ألوف، رأسُهُ ذهب، خصائله كسعف النّخل، عيناهُ كحمامتيْنِ على أنهار المياه تغتسلان… يداه حلقتان مِن ذهب، ساقاهُ عموداً مِن رُخام مُختار كالأرز، حلقُهُ كلّهُ عذوبة بل هو شهيّ بجملته. هذا حبيبي وهذا خليلي يا بنات أورشليم ( أيّ أنّها لن تتخلّى عنهُ) أين ذهب حبيبكِ أيّتُها الجميلة في النّساء، إلى أين توجّهَ حبيبك فنلتمسه معك؟ حبيبي نزل إلى جنّتِهِ، إلى روضة الأطياب ليرعى في الجنّات ويجمع السّوسن. أنا لحبيبي وحبيبي لي”.
هذه هي العبوديّة فالعبد هو ملك سيّده. يقول لها حبيبها وقد عاد: “جميلةٌ أنتِ يا خليلتي (ويصفُها): ما أجمل قدميْكِ بالحذاء يا بنت الأمير (الصّور مأخوذة من القصر لذلك قيل أنّه كلام سُليمان لأنّ لا أحد يعرف الغنى في القصور سوى الملوك)”. يسكن الحبيب والحبيبة القصرَ من دون القصر الفعليّ بسبب علاقة الحبّ.
“أنا لحبيبي وأشواقه إليّ، هلمَّ يا حبيبي لنخرج على الحقول ولنبِت في القرى. من لي بك كأخٍ لي قد رضِع ثدييّ أمّي فأجدك في الخارج وأُقبّلك بغير أن يحتقروني ثمّ آخذك وأدخل بك إلى بيت أمّي فتُعلّمني وأنا أسقيك الخمر وعصير الرّمان. أستحلفكنَّ يا بنات ألّا توقظنَ ولا تُنبّهنَ إلى الحبّ حتّى يشاء. إجعلني كخاتمٍ على قلبِكَ، كخاتمٍ على ذراعك فإنّ الحبّ قويٌّ كالموت، سِهامُهُ سِهام نار ولهيب الرّبّ المياه الغزيرة لا تستطيع أن تطفئ الحبّ، والأنهار لا تغمر الحبّ ولو بذل الإنسان كلّ ما لبيته في سبيل الحبّ لاحتُقِرَ احتقاراً “.
يعني هذا الكلام أنّكم إذا لا ترَوْن الله في العلاقة بينكم وبينه على هذا المستوى حتّى لو لم تصلوا إليه سيبقى الحال بينكما على ما هو عليه: طلبات وخوف ووعود كي لا يفعل ما يؤذيكم، كالظّالم المُتسلّط على النّاس الّذين يتوجّب عليهم إرضاءه. عن أيّ إله تتكلّمون وهنا يقول إن كان هذا هو إلهكم الّذي يحبّ على هذا النّحو فانتفعوا ولكن لا تتكبّروا أي لا تكتفوا فقط بحبّه لكم بل بادروا بأن يشعر الله بأنّ حبّه لم يذهب سُدىً، ولوعرفَ الله أن حبّه سيذهب سدىً لن يتوقف الله عن حبه لكم. عيشوا هذه الحالة على الأقلّ بالصّلاة حتّى وإن كنتم تجدون أنّ الصّلاة مملّة فمن يُحبّ لا يملّ من الجلسة وليس من الكلام. الصّلاة هي نفسها كما هو كلام الحبيبيْن ولا يملّان فلماذا نملّ من الصّلاة؟ لأنّ تحديد العلاقة هي عبارة عن طلبات ووعود خوفاً. تقول رابعة العدويّة وهي مُتصوّفة مُسلِمة: “أنا مَن أهوى ومَن أهوى أنا” هذا هو الاتّحاد الكامل. عندما تذهبون إلى الجنّة وتقرعون الجرس لا يفتح الله لكم إلّا عندما تُصبحون أنتم والله واحداً فتتمّ الوحدة.
ملاحظة: دُوِّنَ الشرح بأمانةٍ من قِبَلنا.