تفسير الكتاب المقدّس،

الأب ابراهيم سعد،

“سِفر الحكمة – الإصحاح الأوّل” 

المقدّمة

المزامير: هي من ضمن عائلة كبيرة ممّا يُسمّى الأدب الحِكَميّ في الكتاب المقدس. هناك الكتب الموسَويّة أيّ التّكوين والخروج، ثمّ كُتب الأنبياء، ثمّ الكتب الحِكَميّة مثل كتاب الأمثال، كتاب سفر الجامعة، كتاب المزامير، كتاب نشيد الأنشاد، وكتاب سفر الحكمة. تُدعى هذه الكتب الأدب الحِكَميّ لأنه يتميّز بالطّابع الحِكَميّ والإرشاديّ، نجد فيه وصايا نتيجة خبرات أشخاص استخلصوا من الحياة الجوهر وأعطوه لأولادهم أو لتلاميذهم أو لمجتمعهم. 

وقد اطَّلعنا على بعض المزامير وسنتطّلع على القسم الثّاني من الأدب الحِكميّ: مقطع من سفر الحِكمة، مقطع من سفر الأمثال، مقطع من نشيد الأنشاد الّذي لا يتآلف معه النّاس لأنّه قصيدة غزل إباحيّ بين حبيبَيْن، ويتضمّن تعابير مُرتبطة بالجسد إلى حدّ أنّ بعض مُفسّري الكتاب المُقدّس ينصحون المؤمنين بعدم قراءة كتاب نشيد الأنشاد. من المهمّ أن تطلّعوا عليه إذ إنّه موجود في الكتاب المُقدّس ويتضمّن هدفاً مُختلفاً عن القراءة السّطحيّة للأمور. فعندما يقول “نهداكِ” علينا أن نفهم هذه الكلمة بمعناها الاستعاريّ. لقد أثار جدلاً لدى النّاس: هل هو حوارٌ غزليّ بين حبيبٍ وحَبيبته؟ أم هو حوار بين الله وشعبه؟ والله يَستعمل شَعبه كأنه حبيبته على الرّغمِ من لونها الأسود (تقول: “أنا سوداء لكنني جميلة”) أم هو خطاب بين النّفس البشريّة والله؟ هناك جدالات أخرى عديدة حول كتاب نشيد الأنشاد. 

فقديماً، في الكنيسة الأولى، كان هناك خلاف حول إدراجه في الكتاب المُقدّس أو عدم إدراجه. ما يهّمني في هذا الموضوع هو أن ندخل إلى الكتاب المُقدّس في زواياه كلّها لأنّها بمجموعها أساسيّة فهو ما يراه الكاتب من علاقة بين الله وبينك أو كيف تسمع كلمة الله، تحفظها وتُطيعها أو كيف ترفضها. أغلبيّة النّاس لا تُحبّذ العهد القديم لأنّهم يرَون فيه تاريخ الشّعب اليهوديّ ولكن فعليّاً هو تاريخ كلمة الله على الشّعب اليهوديّ.

نحن في صراعٍ دائمٍ بين ما نؤمن به وما نفعله.
وبما أنّنا نقترب من زمن الصّوم، يجب أن تعيشوا مفهوم الصّوم ذهنياً وقلبيّاً حتى لو لم تصوموا جَسديّاً. والصوم هو إحساسٌ واضحٌ بمفهوم الالتزام بمسيرة الإنجيل التي نعيشها معاً كمجموعة. فتتحرّرون من عادات وتقاليد تُسبّب ابتعادكم عن الصّوم. ليس الصّوم حالة مشاركة المسيح في آلامه وفي موته فيتبدّد مفهوم الصّوم، ولكن هي مشاركته بقيامته. عندما تدعو أحدهم إلى مأدبة، يُشاركك في الطّعام وليس في دفع ثمنه، فتُصبحان حالةً واحدةً. فالمسيح هو الّذي تعب وأنت مدعوٌّ إلى مشاركته بقيامته. ونقوم بمشاركة المسيح في قيامته بإحياء شخصٍ ميْتٍ، لذلك المرمى الأساسيّ للصّوم هو الإنسان الآخر، هو الاهتمام بالّذين لا خبز لهم والاهتمام بإطعامهم. وتكمُن خطورة الصّوم في الاعتقاد بأننا نشارك المسيح في آلامه وموته. فتتّجهون للإماتة ولكن لا يوجد في الصّوم ما يُسمى بالإِماتة. إذا اعتبرتَ أنّ الإماتة هي محاربة أمرٍ ما فعليك أن تقوم بها طوال حياتك. الأمر الوحيد الذي عليك القيام بإماتته هو خطاياك.

أمّا مشاركة المسيح في قيامته في بداية الصّوم تكمن في أن نجعل الصوم يحملُ، في المرتبةِ الأولى، طابِعَ الفرح أيّ زَرع فرح العطاء وتوعية مفهوم الحُبّ الإلهّي الّذي نعيشه. الصّوم هو مساعدة الآخر المحتاج وستفرحون بعطائكم أكثر من المحتاج، فتكسر خبزك للجائع، كما يقول الكتاب المُقدّس. إذا أردنا إعادة قراءتنا لمفهوم الصّوم – حتّى وإن كنتُ مُتطرّفاً بما سأقوله- لا يحملُ الصّوم هدفاً مُختلفاً عن الإنسان الآخر. فالصّوم يتعلّق بك أي أنت تُعالج نفسَكَ بالصوم. هو موسم الفرح، يُسمّى الفصح بموسم المواسم والدّليل على ذلك أنّ الصّوم الأهمّ هو الصّوم المُرتبط بالفصح، فهو ينتهي بأحد الفصح وليس بأسبوع الآلام كما يعتقد البعض. أنت تُشارك في فصح المسيح، في قيامة المسيح. لا ينتهي صومك بالفصح بل يبدأ بالقيامة ويتحقّق “بالمسيح قام”.

إذا لم تجعلوا الصّوم حياكةً مع الفصح، تكونوا قد دخلتم في موضوع آخر، أي في معتقد آخر من أجل التّكفير عن الخطايا، وخاصةً في ما يتعلّق بالطّعام. لا تُساعدوا عائلةً مُحتاجةً في نهاية الصّوم ولكن ساعدوها بشكلٍ يوميّ. الإحساس اليوميّ بأنّ الآخر يشترك معك بفرح الفصح، فأنت لا تُطعمه ولكن تُشاركه بالفرح. المسألة مُرتبطة بكيفيّة مشاركة النّاس بفرحها وحزنها لأنّ كلّ شيء تعطيه يمكنك أن تحصل عليه من جديد، إلّا الوقت.

تغيّر مفهوم المشاركة بسبب تغيّر الإنسان وليس الزّمن والأيّام. أنت لا تنقطع عن الطّعام لكي تُطعم الفقير ولكن بسبب رغبتك في جعله يُشاركك فرحك فينسى حزنه لمدّة من الزّمن. فالموضوع، هنا، هو الفقير وليس الطّعام أو المال. كما أقول أنا: “إذا انفتح قلبك انفتح كفّك”. إذا فكّرتم، ذهنيّاً بهذه النّاحية في الصّوم، ستعيشون هذا الفرح وإن لم تصوموا فيكون هذا دافعاً لليقظة الرّوحيّة لديكم فتنتبهون إلى بعض الأمور الغائبة عن تفكيركم.

أنتم لستم كسائر الشّعوب لأنّ إلهكم قرّر أن يكون إنساناً كي تنظروا إليه وتروا فيه الإنسان لذلك صار يسوع إنساناً، ولذلك عندما قام، ظهر بصورة بُستانيّ أو غريبٍ. إذاً أنت تختبر القيامة بالبُستانيّ، بصورة الفقير أو بالغريب الّذي تلتقي به في الطّريق. يبدأ الصّوم بمشاركة المسيح بقيامته لا بموته.

الحِكمة هي أن ترى بعيْنَيْ الله، وإلّا أصبحتَ ترى بعيْنيْكَ أو بعيْنيَّ؛ كاف المخاطب هي دليل على إدانة الآخر وياء المتكلّم هي دليل على الكبرياء والأنانيّة.

شرح الإصحاح الأوّل:

سفر الحكمة، الآية الأولى: “أحِبّوا البِرّ يا أيّها الّذين يَحكمونَ الأرض وفكّروا في الرّب تفكيراً صالحاً، والتمسوه أيّ اتبعوه. بصفاءِ قلوبكم؛ لا بذكاء العقل فالقلب يعرف الطّريق بشكلٍ أسرع من العقل. لأنه يكشفُ نَفسَهُ للّذين لا يجرّبونَهُ، و يتجلّى للّذين لا يكفُرونَ بِهِ؛ أي يقطعون العلاقة مع الله. 

فإنّ الأفكارَ المِعوَجّة تُبعد عن الله؛ فيُصبح همّك غير همّ أن يكون الله راضٍ ولكن أن تكون أنتَ راضياً أو أحدٌ آخر راضياً. والقُدرة إذا امتُحِنَت تُخذي الأغبياء، إنّ الحِكمةً لا تدخل النّفس السّاعية إلى الشّرّ ولا تسكنُ الجسدَ المَدين للخطيئة. فإن الرّوح القدس المُؤَدّب يَهربُ مِن الخِداع ويبتعد عن الأفكار الغبيّة. 

إنّ الحكمة روحٌ يحبّ الإنسان؛ أي جعلَ من الحِكمة شخصاً وهي روح الله كي يقولوا بأنّ الله يُمكنه أن يكون على الأرض وفي السّماء في الوقت نفسه فجعلوا الحِكمة بين النّاس فيقولون: 

“تمشي في الطّرقات، في الأسواق والأزقّة”. فلا يُهمل مُعاقبة المُجذّف على أقوالِ فَمه لأنّ الله شاهدٌ لِكِليَتَيْه؛ أي أنّ الرّب يَعلمُ أفكارنا كلّها. ويقول يسوع أنّ الخطايا كلّها تُغفر إلّا التّجذيف والمُجذّف هو الّذي اختَبر تدخّل الله وحضوره في حياته ولكنّه يرفُضُه و يُكذّبُه)، ورقيبٌ صادقٌ لقلبهِ والله سامعٌ للسانهِ؛ أيّ أنّ الرّب يسمعُ حتّى أفكارنا، 

إنّ الله مالئ المسكونة. والذّي بِه يتماسُك كل شيء لهُ عِلمٌ بِكلّ كلمة، فلذلك لا يخفى عليهِ ناطقٌ بسوء ولا ينجو من العدل المُتّهِم، سَيُحَقّقُ في نيات الكافِر، وصوت أقواله يبلغ إلى الرّب برهاناً على آثامهِ؛ يقول المسيح: “من فضلة القلب يتكلم اللّسان” أي أنّ ما تنطق به ما هو إلا انعكاسٌ لِوضعك الدّاخليّ. اللّسان يكشف خفاياك لذلك الله رحمك وخلقك بلسانٍ واحدٍ ولا أحد يستطيع الكذب لأنّ الرّبّ رقيبٌ صادقٌ على قلبه. لأن الأٌذُنَ الغيرَ تسمع كلّ شيءٍ وضجيج التّذمّرات لا يَخفى عليها، فاحذروا من التّذمّر الّذي لا خيرَ فيه؛ أيّ أنّ الذي يتذمّر كثيراً سيُعاني من المشكلات الدائمة بسبب تفكيرهِ السّلبي: 

“كُنْ جميلاً ترَ الوجود جميلَ”. وكُفّوا ألسنتكم عن النّميمة؛ أي ابدأ، منذ بداية صومك، بأن تكون حكيماً وراقِب نفسك وكلماتك وظنونك فستكتشف أنّك إذا كنتَ غارقاً بهذه الأمور لن تعرف فرح القيامة. لأنّ الكَلمة الّتي تُقال في الخِفية لا تذهب سُدىً؛ أيّ أنّ الكلمة السّيئة ستُؤذي أحدهم حتّى لو لم يَسمعها أحد، والكلمة الجميلة حتّى لو لم يسمعها أحد لا تذهب سُدىً)، والفم الكاذب يَقتل النّفس؛ لأنّ للكذب نتائج سلبيّة على النّفس البشريّة. 

مَن يكذب يصبح عاجزاً عن تصديق غيره، فالكذب هو الوهم. لا تسعوا إلى الموت بتضليل حياتكم ولا تجلبوا عليكم الهلاك بأعمال أيديكم، لأنّ الله لم يصنع الموت ولا يُسَرُّ بهلاك الأحياء، فإنّه خلق كلّ شيء لكي يكون، و إنّ خلائِقَ العالم مفيدةٌ و ليس فيها سمٌّ مُهلِك. و لا مُلك لمثوى الأموات على الأرض لأن البِرّ خالدٌ؛ إنّ الإنسان هو نفسه سبب تعاسته لأنه اتّبع الغباء والحماقة. 

بولس الرّسول قال لأهل غلاطية: “أيّها الغلاطيّون الأغبياء، من رقاقم حتّى تحيدوا عن الإنجيل الصّحيح؟” إذاً الغباء هو في الابتعاد عن كلمة الله أو بالاعتقاد بوجود نبع آخر لها وحياةٍ أخرى في مكانٍ آخر. تكمن خطورة الوهم في سرعة تصديقه وصعوبة الحقيقة في بطء تصديقها ولكن إذا صدّقتَ الوهم سوف تقع وإذا صدّقتَ الحقيقة ولو بعد حين سوف تقوم. في الأحد الّذي يسبق بداية الصّوم، يُقرأ مقطع الغفران أي أنّك في الفصح سوف تفرح لأنّ يسوع قد غفر لك خطاياك.

ملاحظة: دُوِّنَ الشرح بأمانةٍ من قِبلنا.

Instagram
Copy link
URL has been copied successfully!
WhatsApp