تفسير الكتاب المقدّس،
الأب ابراهيم سعد،
“سِفر رؤيا القدّيس يوحنّا – الإصحاح 3: 12-22”
النّص الإنجيليّ:
“مَن يَغلِبُ فسأَجعَلُهُ عَمودًا في هيكلِ إلهي، ولا يَعودُ يَخرُجُ إلى خارجٍ، وَأَكتُبُ علَيهِ اسمَ إلهي، واسْمَ مَدينةِ إلهي، أُورشليمَ الجديدةَ النَّازلةِ مِن السَّماءِ مِن عِنْدِ إلهي، وَاسْمِي الجَدِيدَ. مَن لَهُ أُذُنٌ فَليَسْمَع ما يَقولُهُ الرُّوحُ للكَنائِسِ”. واكْتُبْ إلى ملاكِ كنيسةِ اللَّاوُدِكيِّينَ: “هذا ما يَقولُه الأَمينُ، الشَّاهِدُ الأمينُ الصَّادِقُ، بداءةُ خليقةِ اللهِ: أنا عارِفٌ أعمالَكَ، أنَّك لَسْتَ بارِدًا ولا حارًّا. لَيْتَكَ كُنتَ باردًا أو حارًّا! هكذا لأنَّكَ فاتِرٌ، وَلَسْتَ باردًا ولا حارًّا، أنا مُزمِعٌ أنْ أتقيَّأَكَ مِن فَمي. لأنَّك تَقولُ: إنِّي غَنيٌّ وقد اسْتَغنَيْتُ، ولا حاجةَ لِي إلى شيءٍ، وَلَسْتَ تَعلَمُ أنَّكَ أَنتَ الشَّقيُّ والبَائِسُ والفقيرُ والأعمى والعُريان. أُشِيرُ عَليكَ أَنْ تَشتَريَ مِنِّي ذَهَبًا مُصفَّىً بالنَّارِ لِكَي تَستَغنيَ، وثِيابًا بِيضًا لِكَيْ تَلبَسَ، فلا يَظهَرُ خِزْيُ عُريَتِكَ. وكَحِّل عَينَيْكَ بِكُحْل لِكَي تُبصِرَ. إنِّي كُلُّ مَنْ أُحِبُّهُ أُوبِّخُهُ وأُؤَدِّبُهُ. فَكُنْ غَيورًا وتُبْ. هاءنذا واقِفٌ على البابِ وَأَقرَعُ. إنْ سَمِعَ أَحَدٌ صَوْتِي وفَتَحَ البابَ، أَدخُلُ إليهِ وأَتَعشَّى مَعَهُ وَهُوَ مَعي. مَن يَغلبُ فَسَأُعطيهِ أنْ يَجلِسَ مَعي في عَرشي، كما غَلَبْتُ أنا أيضًا وَجَلَسْتُ مَعَ أبي في عَرشِه. مَن لَهُ أُذُنٌ فَليَسمَعْ ما يَقولُه الرُّوحُ للكَنائِسِ.”
شرح النّص الإنجيليّ:
إنَّ خلاصة القسم الأوَّل من هذا الإصحاح تتركَّز في الآية التَّالية: “لأنَّك حَفِظتَ كلمَةَ صبري، أنا أيضًا سأحفَظُكَ مِن ساعةِ التَّجربةِ العتيدةِ أن تأتي إلى العالم كُلِّه لِتُجرِّبَ السَّاكِنِينَ على الأرضِ”. يُخبرنا يوحنَّا الرَّسول بأنَّ هناك تجارب سيتعرَّض لها المؤمِنون بالربّ، ولكنَّ الربَّ سيحفظُهم منها، إذا حَفِظوا كلمته المقدَّسة.
إنّ سِفر الرُّؤيا موجَّهٌ في البدء إلى المؤمِنِين بالمسيح في الكنيسة الأولى الّذين كانوا تحت الشِّدة، أي تحت الاضطهاد الّذي كان يقودهم إلى الموت الجسديّ في حال عدم نُكرانهم للمسيح واعترافهم بالامبراطور إلهًا لهم. إنَّ المغزى من سِفر الرُّؤيا هو حثُّ المؤمِنِين على الثَّبات في إيمانهم عند تعرُّضهم للشِّدة، أو مواجهتهم لِتحدِّيات الحياة. إنَّ كلمة “الصَّبر” تعني في اليونانيّة، تحت الضِّيق أو تحت الشِّدة أو تحت الضَّغط. إنَّ المؤمِن مدعوٌّ إلى التّفكير في كلمة الله وتَذَكُّرها خصوصًا في أوقات الشِّدة والصُّعوبات. ولكن للأسف، في وقت الشِّدة، لا يتذكَّر المؤمِن من كلمة الله إلّا ما يحلو له، فيَستندُ إليها ليُضاعِف طِلباته إلى الله، من أجل تحقيق رغباته الأرضيّة البشريّة.
إنَّ يوحنّا الرَّسول يتكلَّم على صبر المؤمِن في وقت الشِّدة، وتمسُّكه بكلمة الله، كي يبقى ثابتًا في إيمانه من دون أن يتزعزع هذا الإيمان. عندما يكون المؤمِن لا يزال في بداية إيمانه بالربِّ، يشعر بالحماسة لتغيير العالم بواسطة كلمة الله؛ ولكنْ حين يتعرَّض للصُّعوبات الحياتيّة في مسيرته تلك، يتحوَّل همُّه إلى أن يبقى ثابتًا في إيمانه من دون أن تقوى عليه الحياة فتُغيِّره. في هذه الآية، يُخبرنا يوحنّا الرَّسول، كاتب هذا السِّفر، أنَّ العالم بأسرِه سيكون أمام تَحدٍّ وهو الاختيار ما بين عبادة إله الامبراطور، أو عبادة يسوع المسيح: فَمن قرَّر عبادة إله الامبراطور، ابتعد عن الخلاص.
إنَّ يوحنَّا الرَّسول يوجِّه كلامه في هذا السِّفر بشكل خاصّ إلى المؤمِنِين إذ إنَّهم “الحلقة الأضعف”، فَهُم الأكثر عُرضةً لهذا التحدِّي، فالمؤمِن هو قويّ من أجل نفسه ومن أجل الآخَرين، وليس قويًّا لِفرضِ سُلطَتِه على الآخَرين. فَمَهما كان الشَّر صغيرًا، فإنّه لا بُدَّ له من أن يؤثِّر على المؤمن، ولكن هذا لا يعني بالضَّرورة أن ينتصر الشَّر على المؤمِن، إنَّما يعني أنّ المؤمن سيتعرَّض للأذيّة.
في هذا الإصحاح، يشجِّع يوحنّا الرَّسول المؤمِنِين على احتمال فترة الشِّدة الّتي سيتعرَّضون لها والّتي قد تؤذيهم، لأنّها لن تطول كثيرًا، ومهما طالت تلك الفترة، فإنّها لا تُشكِّل إلّا نِصف الزَّمان. لذا، من خلال يوحنّا الرَّسول في هذا الإصحاح، يقول لنا الرُّوح إنّ “مَن يغلب فسأجعله عمودًا في هيكل إلهي”.
إنَّ كلّ هيكلٍ يُبنى على الأعمدة الّتي لا يمكن الاستغناء عن واحدٍ منها وإلا تعرَّض للتزعزع. وبالتّالي، حين يقول لنا الله، إنّنا أعمِدَةٌ في هيكله، فهذا يعني أنَّ الربَّ يسوع قد بنى جسده وكنيسته على المؤمنِين به، وهنا نتذكَّر قول الربِّ لبطرس: “وأنا أقول لك: أنتَ صَخرٌ وعلى الصَّخرِ سأبْني كَنيستي”(متى 16: 18). إنَّ عبارَتَي “أورشليم الجديدة”، و”اسمي الجديد”، تُشيران إلى حالة الملكوت الّتي سيكون عليها المؤمن عند احتماله بِصَبرٍ الشَّدائد الّتي سيُعاني منها.
إنَّ عبارة “اسْمَ مدينةِ إلهي، أورشليم الجديدة النَّازلة من السَّماء من عند إلهي” تعني أنَّ الله أصبح في أرض البشر، أي أنَّ الله أصبح معنا. في سِفر الرُّؤيا، تردَّدت العبارة التَّالية، حوالي سَبْع مرّات: “مَن له أُذُنُ فليسمع ما يقوله الرُّوح للكنائس”، وهذه العبارة غالبًا ما ردَّدها الربُّ يسوع في رسالته التبشيريّة. وهنا يُطرَح السَّؤال: أليسَت وظيفة الأُذُن الأساسيّة هي السَّمع؟ إنَّ تَشديد يوحنّا الرَّسول على هذه العبارة يؤكِّد على وجود آذانٍ للسَّمع، وآذانٍ للإصغاء أي للسَّمع بشكلٍ صحيح.
إنَّ “ملاك الكنيسة” هو المسؤول عن الكنيسة أي الأسقف، و”كنيسة اللّاودكيِّين” تعني كنيسة اللّاذقيّة. إنَّ بعض التَّرجمات قد استبدَلَت عبارة “بداءة خليقة الله”، بعبارة “رأس الخليقة”، إذ إنَّ العبارة الأولى قد أُسيءَ فَهمُها مِن قِبَل البِدَع فاعتبروا أنَّ الربَّ يسوع هو المخلوق الأوَّل في خليقة الله، مُنكِرين بذلك ألوهيّة الربِّ. إنَّ عبارة “الأمين” تشير إلى الربِّ يسوع. إنَّ عبارة “الأمين” في اليونانيّة تعني أيضًا المؤمِن. إنَّ عبارة “الأمين” كانت كافية للدَّلالة على الربِّ يسوع إلّا أنّ يوحنّا الرَّسول أراد التَّشديد على صِدق الربِّ وأمانته، فاستعمل عبارة “الشَّاهد الأمين الصَّادق”، وهي عبارات كلُّها تشير إلى الربِّ يسوع.
إنَّ البرودة واضحةٌ وهي تُعبِّر عن صِدق المؤمِن في الابتعاد عن الله، وكذلك الحرارة واضحةٌ وتُعبِّر عن صِدق المؤمن في العيش بِقُربِ الله. أمّا الفتور فهي حالة تبعث الحيرة إذ لا يمكننا معرفة ما إذا كان المؤمن حارًّا أو باردًا، فَهو، أي المؤمن، يسعى إلى المزج ما بين عبادته لله الواحد وما بين عبادته لإله الامبراطور للمحافظة على حياته، وهذا التَعدُّد في الآلهة أو “العبادات التَلفِيقيّة” لا يستطيع الله القبول بها. وهنا نطرح السُّؤال: كم من المرَّات نحاول التَّوفيق في حياتنا بين ما يطلبه الله منّا ورغباتنا؟ عندما وَضعَتْ الكنيسة سرّ التَّوبة ونظمَّته، سَعَتْ إلى مساعدة المؤمِن على الاقتراب من الله، غير أنَّ المؤمنِين سعوا إلى تحقيق رغباتهم في هذه الحياة الّتي لا تتوافق مع مشيئة الله، قَبْلَ التوبة عنها من خلال سرّ الاعتراف. إنَّ مِثلَ تلك التصرُّفات تُعبِّر عن استغلال المؤمن للحبّ الإلهيّ، وهذا ما يؤدّي إلى وقوع المؤمِن في حالةٍ من الفتور الرُّوحيّ.
في الإفخارستِيّا، ليس من الضَّرورة أن يشعر المؤمِن بحرارة في الإيمان، فالإفخارستِيّا ليست علاقة على المستوى الشَّخصيّ بين المؤمن والله، ففي الإفخارستِيّا، يؤكِّد المؤمن أُخوَّتَه للمؤمنِين في انتمائه إلى عائلة الله الآب. إنَّ تَقرُّبَنا من المناولة غير مرتبطٍ بإحساسنا بحرارة صلاتنا بل هو تعبير عن انتمائنا إلى عائلة الآب.
إنَّ بعض التصرُّفات الّتي تصدر عنّا، كالمشاركة في الذبيحة الإلهيّة من دون الشّعور بِحرارة الإيمان، تُعبِّر عن أمانتنا لله وصِدق محبَّتنا له، ومدى إخلاصِنا له. إنَّ القدَّاس الإلهيّ ليس فقط عطيّة من عند الله، إذ إنَّه أيضًا مسؤوليّة تقع على عاتق المؤمِن لتأكيد موقفه من الله، وهذا الموقف هو عدم خيانة المؤمِن للأُخوَّة الناتجة عن أُبوّة الله للبشر، وبالتّالي على المؤمِن أن يكون سندًا لأخيه الإنسان وأن يكون شفيعًا له، والعكس صحيح. إذًا، في الإفخارستِيّا، على المؤمِن التَمسُّك بالوَحدة مع إخوته، كي لا تتزعزع بسبب أوضاعه النفسيّة.
لا مشكلة عند الله مع الإنسان البارد ولا مع الإنسان الحارّ، إذ إنَّ هذين الموقِفَين يتَّسِمان بالوضوح، أمَّا الإنسان الفاتر فيُعاني الله معه إذ إنَّ موقفَه غير واضحٍ، لذلك نقرأ في هذا الإصحاح عبارة على لسِان الله: “فسأتقيَّاكَ من فمي”. إنَّ الحِياد في الكِتاب المقدَّس هو أمرٌ سلبيّ لا إيجابيّ، إذ بين الحقّ والباطل لا حياد، لأنّه إمّا أن يكون الإنسان مع الحقِّ وإمَّا أن يكون مع الباطل. إذًا، لا حياد بين الحقّ والباطل، لأنّه بسبب الباطل فُقِد الحقّ وبالتَّالي على المؤمن أن يكون مع الطرف الثّالث، ألا وهو الحقّ، فيُظهر الحقّ للآخَرين والتوبيخ على الباطل، فيتوب السَّالكون في طريق الباطل.
إذًا، يبقى على المؤمِن السَّائر في الحقّ مسؤوليّة إرشاد السَّائرين في الباطل إلى طريق الحقّ، ولكن هذا لا يعني أنّه على المؤمن دينونة إخوته السَّائرين في طريق الباطل، أو التَّفاخر عليهم. إنَّ التَّواضع هو الّذي يحفظ المؤمِن من كلِّ شرّ، فهو فضيلة، أُمّ كلّ الفضائل، أمَّا الكبرياء فهو الّذي يُوقِع المؤمن في كلِّ شرّ. مهما كانت الأمور الأرضيّة الّتي تمنحه القوَّة لتحقيق رغباته ومصالحه الأرضيّة، يبقى المؤمن على الرُّغم من ذلك “شَقيًّا وبائسًا وفقيرًا وأعمىً وعريانًا”.
إنَّ عبارة “عُريان” تُذكِّرنا بآدم الَّذي ابتعد عن الله، عندما أصغى إلى آخر غير الله، وصَدَّق كلامه. لا يستطيع الإنسان عبادة الله، والعيش بطريقة لا تتناسب مع تعاليم الله. في هذا السِّفر، ينصح الله المؤمِن أن يَغتنيَ به، إذ يستطيع أن يُقدِّم له ذَهبًا مُصَّفًى بالنَّار، أي ذَهبًا لا غِشَّ فيه. إنَّ الثِّياب البيض ترمز إلى الإنسان الـمُعمَّد حديثًا، أي غير الملوَّث بالخطيئة. إنَّ الكُحل يشير إلى استبدال المؤمن نظرته إلى العالم بِنَظرة الله إلى العالم، فيتمكَّن من رؤية الأمور بِعَينَيّ الله.
إنَّ الله يوبِّخ المؤمنِين لأنّه يُحبِّهم، وبالتّالي على المؤمِن عدم توبيخ الآخَرين السّالِكين في طريقهم الضّال إنْ لم يتمكَّن هؤلاء من الشُّعور بمحبّة المؤمِن لهم، لأنَّه في تلك الحالة سَيَنظر الآخَرون إلى المؤمِن على أنّه عدُوٌّ لهم، وبالتَّالي لن يُصغوا إليه. في هذا الإطار، يقول لنا بولس الرَّسول إنَّ مَن يُحبّ الآخر يكون كَمَن يَضَع جَمرًا على رأسِ الآخَر، وبالتّالي لا بُدَّ لهذا الآخَر من أن يشعر بمحبّة المؤمِن له، عاجلاً أم آجِلاً. إذًا، على المؤمِن أن يجد الطريقة المناسبة كي يشعر الآخر بحبِّه، فيتمكَّن عندها من توبيخ الآخر على طريقه السيِّئة من دون تحطيمه. إنَّ الله يؤبِّخ المؤمِن ويؤدِّبه. إنّ تأديب الله للمؤمِن يعني تربيته.
إنَّ فِعل “أُربِّي” مشتَّقٌ من فِعل “ربَّى”، المشتَّق هو أيضًا من كلمة “ربّ”، وبالتَّالي التَّربية هي إيصال الشَّخص الّذي نُربيِّه إلى الله. إنَّ بولس الرَّسول يقول لنا إنَّ العهد القديم هو “المؤدِّب” أو “الـمُربِّي”، وهي كلمة يونانيّة، تشير إلى ذاك الّذي يقود الإنسان القاصر نحو الخلاص، وبالتَّالي حسب قول بولس الرَّسول، الكِتاب المقدَّس هو الّذي يقود المؤمن إلى الله، أي إلى الخلاص. إنَّ هدف المؤمِن الّذي يُحبّ أخاه السَّالك في طريقٍ ضالّ، توبيخه لِتَربيَتِه، أي ايصاله إلى الله. إنَّ كلمة “تُب”، مشتَّقة من فِعل “تابَ”، الّذي يعني في العِبريّة “شابَ”، ويعني رَجِع أو عادَ. وبالتّالي، التَّوبة لا تعني ترك الخطايا، إنّما تعني العودة إلى الله.
إذًا، على المؤمن ألا يترك الخطيئة ويبقى سائرًا في طريقه الضَّال، بل عليه أن يترك الخطيئة ويسعي إلى حماية نفسه منها بتسلُّحه بحارسٍ يحميه من الدَّاخل، ألا وهو الربّ، فلا يبقى مكان الخطيئة في قلبه خاليًا كي لا يعود إليه الشِّرير مُصطَحبًا معه أرواحًا أكثر شَرًّا منه، كما يقول لنا الإنجيل. فَحِين يُقرِّر المؤمن الرُّجوع إلى الله، فإنّه تِلقائيًّا يبتعد عن الخطيئة. لذلك يُسَمّى سرّ العودة إلى الله “سرّ التَّوبة” لا “سرّ الاعتراف”، فلفظة “سرّ الاعتراف” تتخِّذ طابعًا طقسيًّا. ففي سرّ التَّوبة أنت تعترف لا بِتركِك الخطايا، إنَّما تعترف بعودتك إلى الله.
عند عودة المؤمن إلى الله في سرّ التَّوبة، يكون الله بانتظارِه تمامًا كما انتظر الأب في مَثل الابن الضَّال، عودة ابنه العائد بعد طول غياب: إذ قَبْل أن يبدأ الابن بالكلام، طلب الأب من خُدَّامه أن يُلبسوه الحلَّة الجديدة والحذاء في رِجليه، والخاتم في إصبعه الّذي يُشير إلى أنَّه وريثٌ لأبيه. إذًا، نحن أيضًا علينا الاقتراب من سرّ التَّوبة بحماسةٍ وحُبٍّ لإدراكِنا أنَّ الله الآب قد أعاد إلينا بُنوَّتنا له الّتي خسرناها بسبب خطايانا.
نحن نتقدَّم من سرّ الاعتراف لا لنَطلب من الله مسامَحتنا على خطايانا، بل نحن نتقدَّم من سرّ التَّوبة لأنّ الله سبَق وسامَحنا على خطايانا. فإنّه حين نتقدَّم من سرّ التَّوبة غير متأكِّدين مِن أنَّ الله قد قَبِلَنا كأبناء، فإنَّنا نتقدَّم من سرّ التَّوبة كَعَملٍ قانونيّ لا بُدَّ لنا من القيام به، أمَّا إذا كُنّا مُدرِكين أنَّ الله قَد قَبِلَنا كأبناء له، فإنَّنا نتقدَّم من سرّ التَّوبة كتعبير عن إخلاصِنا لله، معترِفين بِرُبُوبِيَّته وألوهيّته من جديد، وهذا يتطلَّب منّا إنكار خضوعنا لآلهة أخرى، المتمثِّلة في خطايانا. لذا نعترف بخطايانا بِجرأةٍ وبثقة ومن دون خوف.
إنَّ المؤمِن لا يعترف للكاهن، إنَّما لله، ولكنَّ الكاهن هو الممثِّل عن الكنيسة الّتي تفرح بعودة المؤمِنِين الخطأة إلى الله. إنَّ الكاهن هو شاهِد ومساعِد للمؤمِن، فَهو يُرشِده إلى الطَّريق كي لا يقع في الخطيئة مجدَّدًا. إنَّ مَهمة الكاهن تقوم على تعزية المؤمن الّذي حطَّمته الخطيئة، مُذَكِّرًا إيّاه بِحُبّ الله له، هذا الحبّ غير المشروط وغير المرتبط بخطايا الإنسان، داعيًا إيّاه إلى الاستفادة من محبّة الله ومن قبولِه له كابنٍ. إنَّ الكاهن ينمو روحيًّا من خلال سماعه اعتراف إخوته المؤمنِين، لأنّه حين يعترف الخاطئ بخطيئته أمام الكاهن، فإنَّه يُذكِّر هذا الأخير بإنسانيّته ويَحُثُّه على العودة إلى الله مع المؤمِنِين. إنَّ الحبّ يفترض توبيخًا وتأديبًا الآخر من أجل توبته.
إنّ الربَّ واقفٌ على باب قلوبنا ويقرعها وينتظر جوابنا، فالربُّ لا يقتحم النّفوس. إنَّ الربَّ يقرع الباب لكن المسؤوليَّة تقع على المؤمِن في فَتحِ الباب له، ليتمكَّن الربُّ من الدُّخول إلى قلب المؤمِن. وهذه الآية تُذكِّرنا بكلام الربّ مع زكَّا العشَّار:” يا زكَّا، أسرِع إنزِل. فاليَوم ينبغي أن أَمكُثَ في بيتِك” (لو 19: 5). فأسرَع زكَّا وفتح بيته لاستقبال الربَّ فَحَصَل الخلاص لهذا البيت. إنَّ الله، بمحبَّته للبشر الّتي لا مثيل لها، هو القادر على سحق البشر وعلى خَلقِ الكون بكلمة، لم يُعطِ لِنَفسِه حقَّ دخول قلوب البشر بالقوَّة.
إنَّ الربَّ يسوع، الّذي هو مَلِك الملوك، لا يدخل النُّفوس عنوةً، بل يقف أمام أبواب قلوب البشر ويقرعُها بِخَفرٍ، منتظرًا من هؤلاء فَتحَ الباب له. إنَّ الربَّ يطرق الباب بهدوءٍ لا بالقُوَّة. إنَّ عبارة “أتعشَّى” تُذكِّرنا بالعشاء الفِصحي الأخير الّذي احتَفَل به الربُّ مع تلاميذه، والّذي يحمل في طيَّاته معنىً خلاصيًّا. إنَّ العشاء يُعبِّر عن وَحدة الحال بين الجالِسِين إلى المائدة، إذ أصبحوا واحدًا بِفعل تناول الطَّعام ذاته.
إنَّ عبارة “مَن يَغلُب” تكرَّرت سَبْع مرّات، وهذه هي المرَّة الأخيرة. وفيها نلاحظ إضافةَ الرَّسول للعبارة التّالية “كما غَلبتُ أنا”، أي كما غَلب الربُّ يسوع. إنَّ الربَّ يسوع قَد غَلَب عن طريق الأمانة لله والشَّهادة بموته على الصَّليب. وبالتّالي، أراد الربُّ يسوع القول للمؤمِنِين إنَّه لا انتصارَ لهم إلّا إذا تشبَّهوا به فتَمَسَّكوا بالأمانة لله والإخلاص له حتّى لو قادهم ذلك إلى الاستشهاد أي الموت.
إنَّ المسيحيّ الحقيقيّ لا يستطيع أن يَغلُب بالتَّشبه بالعالم، من خلال صَلبِ الآخَرين وقَتلِهم، فالمسيحيّ الحقيقيّ ضَعيفٌ أمام شرِّ العالم، ومقاومة الشَّر تكون إمّا أن يُصبح الإنسان شرِّيرًا، وإمّا بمواجهته للشَّر بكلمة الإنجيل وهذا ما يَنظر إليه العالم على أنَّه ضُعفٌ. إنَّ الشَّر يُعلِّم المؤمن الحقيقيّ بعض الوسائل لمواجهته: فمثلاً، يطلب إلينا الربَّ مواجهة الّذين يتعاملون معنا بإزدراء، من خلال مساعدتهم على نِسيان أذيَّتهم لنا، أي خطيئتهم: “مَن ضَربك على خَدِّك الأيمن، فَدُر له الآخَر”(متى 5: 39) فعندما ينجح المؤمِن في التَّعامل هكذا مع المسيئِين إليه، فإنَّه يساعدهم على التَّوبة؛ عِوضَ حثِّهم على الدِّفاع عن خطيئتهم.
إذًا، على المؤمنِ أن يكون فِعله مخالفًا لرَّدة فِعل الإنسان المسيئ. إنَّ الفِعل وَرَدَّة الفِعل، هما مِن الطِّينة نفسها عند الإنسان، غير أنَّ الإنسان المؤمِن مدعوٌّ للقيام بفِعلٍ مخالفٍ لفِعل الأذيّة. إنَّ المسيحيّة ليست ضُعفًا إنَّما هي قوَّةٌ غريبة عن عالم البشر. إنَّ قوَّة المؤمِن مختلفة عن قوَّة بَقيّة البشر: أنتم في هذا العالم ولكنَّكم لستم من هذا العالم. نحن مدعوِّون إلى مواجهة شرّ العالم كما واجهه الربُّ يسوع، وهذا لا يُعَدُّ ضُعفًا، فالربُّ يسوع لم يكن ضَعيفًا، في مواجهته للشَّر.
ولكن، على الإنسان المؤمن أن يعرف كيف يوصِل إلى الآخَر أنّ سكوته عن إساءاته له ليس ضُعفًا إنّما هو نتيجةُ وجود حُبٍّ ساكِنٍ في داخِلِه، يمنعه من الردِّ على الأذيّة بأذيّة مشابهة. إنَّ هذا الأمر يتطلَّب عملاً على الذّات. وإليكم مِثالاً مِن حياة يسوع: عند إلقاء القبض على الربِّ يسوع في البستان، قام بطرس باستلال سيفه، وقَطعِ أُذَن أحد الجنود، وكان اسمه مَلخُوس، وهذا الاسم يونانيّ ويدلّ على أنَّ هذا الجنديّ هو وثنيّ لا يهوديّ. فقال الربُّ لبُطرس، بعد شفائه لهذا الجنديّ، إنّه استعمل الطريقة الّتي تمنع هذا الجنديّ من التَّوبة إذ قَطَع له أُذُنه، فلا يستطيع أن يسمع كلمة الله فيتوب. إنَّ الربَّ يسوع قَد غَفرَ لِصالبيه على الصَّليب، وهذا التصرُّف لا يعكس ضُعفَ المسيح بل قوَّته، فالقويّ هو الّذي يَغفر للضَّعيف لا العكس.
إنَّ قوَّة غفران الربَّ ظَهرت في إيجاده لصالبيه أسبابًا تخفيفيّة لفِداحة ما قاموا به تجاهه، إذ قال: “إغفر لهم يا أبتاه لأنّهم لا يدرون ماذا يَفعلون” (لو 23: 34). إنَّ يوحنّا الرَّسول، كاتب سِفر الرُّؤيا، يدعو المؤمِنِين إلى فَهمِ ما يقوله لهم. إنَّ الكنيسة قد أدرَكَت أنَّه قد يتمّ فَهم الاستشهاد بطريقة خاطِئة منِ قِبَل المؤمِنِين فيتحمَّسون لِتَسليم ذواتهم إلى المَضَطهِدِين. إنَّ مِثل هذا التصرُّف يُسَمَّى انتحارًا، لا استشهادًا.
إنَّ الكنيسة تدعونا إلى الهرب من الاضطهاد، إنْ كان ذلك مُتاحًا لنا، ولكنْ إنْ تَمَّ إلقاء القبض علينا، ولا مفرَّ لنا من الهرب من الموت إلّا بنُكرانِ إيماننا، فهي تشجِّعنا على الثَّبات في إيماننا بالربّ، حتّى ولو كلَّفنا ذلك الاستشهاد في سبيل الشَّهادة لإيماننا بالربِّ يسوع. وهذا ما حَدَث مع عمودَي الهيكل، بطرس وبولس، فَهُما حاولا الهروب من الموت، ولكن حين تمَّ إلقاء القبض عليهما، عبَّرا عن إخلاصِهما للربّ، فمات الأوَّل مصلوبًا رأسًا على عَقب، والآخر مقطوع الرأس. إنَّ بطرس وبولس هما عمودا الهيكل الّذي نُصلِّي فيه، وننتظر فيه مجيء الربِّ الثّاني. آمين.
ملاحظة: دُوِّن الشرح بأمانةٍ مِن قِبَلِنا.