أودُّ البدء في شرح هذا النَّص انطلاقًا من الآية الأخيرة، كي يتسنَّى لنا أن نفَهم مَن هو المقصود بعبارة “الوَحش”، فَنَتمكَّن من فَهم النَّص بشكلٍ أفضَل. وهذه الآية الأخيرة تقول:”هُنَا الْحِكْمَةُ! مَنْ لَهُ فَهْمٌ فَلْيَحْسُبْ عَدَدَ الْوَحْشِ، فَإِنَّهُ عَدَدُ إِنْسَانٍ، وَعَدَدُهُ: سِتُّمِئَةٍ وَسِتَّةٌ وَسِتُّونَ”. في هذه الآية، يُخبرنا الرَّسول يوحنّا، كاتب هذا السِّفر، أنّ هذا الوَحش هو إنسانٌ وعدد اسمه هو سِتُّمئةٍ وستَّةٌ وسِتُّون. قديمًا، في الأبجديّة اليونانيّة، كان كلُّ حرفٍ يرمز إلى عددٍ مُعيَّن، فالحروف العَشرة الأولى ترمز إلى الأعداد من واحد إلى عشرة بحسب تَسلسُلِها الأبجديّ، 

أمّا ما يلي الحرف العاشر، فلا يُحسب عدده أحَدَ عشر بل عِشرين، ثمّ الحرف الّذي يليه، ثلاثين، وبعد الانتهاء مِن العَشرات نَنتقل إلى المِئات: هكذا يُحسَب تعداد الحروف حتّى آخر حرفٍ في الأبجديّة اليونانيّة. وبالتّالي، استنادًا إلى لائحة الأعداد المقابلة للحروف الأبجديّة، إذا جَمَعنا حروف اسم “نيرون” نحصل على الرَّقم ستُّمئةٍ وَسِتَّةٌ وسِتُّون. وهنا أودُّ الإشارة إلى أنَّه في التَّرجمة اللاتنيّة، لا يُقال “نَيرون” بل “نِيرو”، لذا تمّ استبدال الرَّقم ستُّمئة وستَّةٌ وسِتُّون بالرَّقم ستُّمئةٍ وستَّةُ عشر، إذ تمّ حَذف حرف النُّون الّذي يَرمز إلى العدد خمسين.

إنَّ الهَدَف من كتابة سِفر الرُّؤيا هو تعزية المؤمِنين وتقويَتهم وحثِّهم على احتمال ما يتعرَّضون له من اضطهاد، مُتَمسِّكين بالصَّبر. كان الامبراطور الرُّوماني يضطهد المؤمنِين بِهَدف إخضاعهم لعبادة إلهه، ودَفعِهم إلى التخلِّي عن عبادتهم للإله الحقّ. إنّ المؤمِنِين الّذين رَفضوا الخضوع لعبادة إله الامبرطور دَفعوا ثَمن ثباتهم: الموت قَتلاً. كان المؤمِنون يَخضعون لِسُلطة الامبراطور، كونهم كانوا يعيشون في أراضٍ تابعة للامبراطوريّة، ولكنَّهم رَفضوا الخضوع لعبادة إله الامبراطور. عند مواجهته للاضطهاد، على المؤمن الاختيار بين أمَرَين: إمّا المحافظة على حياته الأرضية على حساب شهادته للربّ، أو الشهادة للربّ على حساب حياته الأرضيّة، والقرار يعود إلى المؤمن وَحده. وعند اتِّخاذه القرار الصَّحيح، على المؤمن التحلِّي بِصَبر القدِّيسِين.

إنّ بعض النَّاس قد استغلُّوا ما يحدث في مجتمعنا لِمآرِب خاصَّة، فاعتبروا أنّ أحداث اليوم تؤكّد صِحَّة سِفر الرُّؤيا. وهذا ما حَدَث أيضًا في القرن الماضي، وإليكم مِثالٌ على ذلك: في التّرجمة الإنكليزية لِسِفر النبيّ حزقيال، وبخاصَّة في كلامه عن الحرب الأهليّة (حزقيال 38)، استغلّ البعض عبارة spoil الواردة في هذا النَّص والّتي تعني “غنيمة”، فاعتبروا أنّ النبيّ قد تنبّأ عن الحرب على البترول؛ كما قد تمّ استغلال كلمة “ماشك”، الواردة في النّص ذاته في سِفر حزقيال، والّتي تعني في العِبريّة “ماسك القضيب”، أي الـمَلِك، وفسَّروها على أنّها تعني موسكو. إخوتي، إنّ المؤمن بالربّ لا يُفسِّر أحداث اليوم على أنّها تحقيق لنبوءات الكِتاب المقدَّس، بل يقرأ الكِتاب المقدَّس، ليتمكّن من فَهم أحداث اليوم بشكلٍ صحيح. فإنّ تفسير أحداث اليوم على أنّها تحقيق لنبوءات الكِتاب المقدَّس يزرع في نفوس المؤمنِين الهلَع والخوف.

إذًا، إخوتي، بالعودة إلى تفسير نصّ سِفر الرؤيا الّذي نعالجه اليوم، نجد أنّ المقصود بعبارة “الوَحش” هو الامبراطور “نَيرون”. إنَّ سِفر الرُّؤيا قد كُتِب لا في أيّام الامبراطور “نَيرون” بل في أيّام الامبراطور “دومتيانوس” الّذي خَلفَ الامبراطور نَيرون. إنَّ الامبراطور نَيرون، قد اضطهد المسيحيِين، ولكنَّ اضطهاده لهم كان اضطهادًا فوضَوِّيًا عشوائيًّا، غير إيديولوجيّ، أي غير مبنيّ على عقيدة. أمّا اضطهاد الامبراطور دومتيانوس للمسيحيّين فكان اضطهادًا ممنهجًا، إيديولوجيًّا، أي مبنيًّا على عقيدة، تقوم على رَفض الدِّين المسيحيّ وإجبار المسيحيِّين على التخلِّي عن إيمانهم والخضوع لإله الامبراطور، أي العبادة الوثنيّة.

“ثُمَّ وَقَفْتُ عَلَى رَمْلِ الْبَحْرِ، فَرَأَيْتُ وَحْشًا طَالِعًا مِنَ الْبَحْرِ لَهُ سَبْعَةُ رُؤُوسٍ وَعَشَرَةُ قُرُونٍ، وَعَلَى قُرُونِهِ عَشَرَةُ تِيجَانٍ، وَعَلَى رُؤُوسِهِ اسْمُ تَجْدِيفٍ. وَالْوَحْشُ الَّذِي رَأَيْتُهُ كَانَ شِبْهَ نَمِرٍ، وَقَوَائِمُهُ كَقَوَائِمِ دُبٍّ، وَفَمُهُ كَفَمِ أَسَدٍ. وَأَعْطَاهُ التِّنِّينُ قُدْرَتَهُ وَعَرْشَهُ وَسُلْطَانًا عَظِيمًا”. 

من خلال هذا الكلام، أراد كاتب هذا السِّفر أن يُخبِر المؤمنِين بالربّ أنَّ الامبراطور دومتيانوس يُشبه مِن حيث الأفعال والأقوال، الامبراطور نَيرون، الّذي قَتل العديد من المؤمنِين وأهمُّهم الرَّسولَين بُطرس وبولس، لا بل إنّ الامبراطور دومتيانوس هو أكثر ضَراوةٍ في اضطهاده للمسيحيِّين مِن سَلَفِه. وبالتّالي، يُدرِك المؤمنون عند سماعهم هذا الكلام أنّ الامبراطور نَيرون، الّذي مات في آواخِر سِتِينيَّات القرن الأوّل للمسيحيّة، قد عاد إلى الحياة مِن خلال الامبراطور دومتيانوس، لأنّ الاضطهاد لم يتوقَّف بل ازدادَ شدَّةً. إنّ التِّيجان تُشير إلى أنّ الوَحش هو مَلِك، وعبارة “عشرة قرون وعشرة تيجان”، تُشير إلى امبراطوريّة روما. ثمّ يُضيف يوحنّا الرَّسول فيقول لنا إنّ على رؤوس هذا الوحَش اسم تَجديف، وهذا يعني أنَّ مَلِكَ روما، أي الامبراطور، يَحثُّ المؤمنِين على نُكران إلَههم والخضوع لإلهه الوثنيّ، بقوّة السُّلطان الـمُعطى له، كونه حاكم الامبراطوريّة.

إنّ يوحنّا الرَّسول قد استخَدم هنا صُوَرًا مأخوذةً من سِفر النيّ دانيال. إنّ النَّمر هو حيوانٌ سريع التقدُّم، والدُّب هو حيوانٌ ذاتُ قوائمَ كبيرةٍ وثابتةٍ، والأسد هو حيوانٌ يُزمجر فيُرعِب بِصَوته بقيّة الحيوانات. إذًا من خلال هذه الصُّوَر، أراد يوحنّا الرَّسول إخبارنا عن سرعة وقوّة الاضطهاد الّذي يتعرَّض له المؤمنون بالربّ، والرُّعب الّذي يسعى الامبراطور إلى زَرعه في نفوس المؤمِنِين من خلال اضطهاده للمسيحيِّين. إنّ عبارة “التِّنين”، تُشير إلى العِبادات الوثنيّة، أي إله الامبراطور.

“وَرَأَيْتُ وَاحِدًا مِنْ رُؤُوسِهِ كَأَنَّهُ مَذْبُوحٌ لِلْمَوْتِ، وَجُرْحُهُ الْمُمِيتُ قَدْ شُفِيَ. وَتَعَجَّبَتْ كُلُّ الأَرْضِ وَرَاءَ الْوَحْشِ، وَسَجَدُوا لِلتِّنِّينِ الَّذِي أَعْطَى السُّلْطَانَ لِلْوَحْشِ، وَسَجَدُوا لِلْوَحْشِ قَائِلِينَ: «مَنْ هُوَ مِثْلُ الْوَحْشِ؟ مَنْ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُحَارِبَهُ؟» وَأُعْطِيَ فَمًا يَتَكَلَّمُ بِعَظَائِمَ وَتَجَادِيفَ، وَأُعْطِيَ سُلْطَانًا أَنْ يَفْعَلَ اثْنَيْنِ وَأَرْبَعِينَ شَهْرًا”. مِن خلال هذا الكلام، يُخبرنا يوحنّا الرَّسول عن سجود بعض المؤمنِين للتِّنين أي لإله الامبراطور، الّذي مَنح الامبراطور هذا السُّلطان. إنّ المؤمنِين الّذين سَجدوا لإله الامبراطور، قد استبدلوا عبارة “مَن مِثل إلهنا؟”، الّتي كان يردِّدها الشَّعب المؤمن في العهد القديم، بعبارةٍ مُشابهةٍ لها، وهي:”مَن هو مِثلُ الوَحش؟ مَن يستطيعُ أن يُحاربُه؟”. 

إذًا، استبدل المؤمنِون الّذين سَجدوا لإله الامبراطور نشيد التَّعظيم لله، بنشيدِ تَعظيمٍ للآلهة الوثنيّة، أي للشَّيطان. هذا هو هَدفُ الشَّيطان: إبعاد المؤمِنِين عن عبادة الله الحيّ. إنّ الشَّيطان يربح ويَصل إلى هدفه، عندما يسجد له بعض المؤمنِين، نتيجة إمّا خوفهم من الامبراطور الّذي يعمَد إلى ترهيبهم، وإمَّا قبولهم بالإغراءات المقدَّمة لهم مِن الامبراطور بهدف دَفعهم إلى السُّجود لإله الامبراطور. أمّا البعضُ الآخَر من المؤمِنِين، فقد رَفضوا الابتعاد عن الله، مهما كلَّفهم الأمر.

 إنَّ سِفر الرُّؤيا موجَّهٌ لا إلى المؤمِنين الّذين سَجدوا لإله الامبراطور، إنّما إلى المؤمنِين الّذين يجاهدون في ظلّ الاضطهاد الّذي يتعرَّضون له، للثَّبات في إيمانهم بالربِّ يسوع، وهُم يُظهِرون استعدادًا إلى الاستشهاد في سبيل المحافظة على إيمانهم. إنّ العدد “إثنين وأربعين شهرًا” يساوي ثلاث سنوات ونِصف السَّنة، وهذا يعني أنَّ الاضطهاد لن يدوم إلى الأبد، إذ مَهما طال فإنّه لا بُدَّ له مِن أن ينتهي، ولكنْ “مَن يَصبُر إلى المنتهى، فَذاكَ يَخلُص”.

“فَفَتَحَ فَمَهُ بِالتَّجْدِيفِ عَلَى اللهِ، لِيُجَدِّفَ عَلَى اسْمِهِ، وَعَلَى مَسْكَنِهِ، وَعَلَى السَّاكِنِينَ فِي السَّمَاءِ. وَأُعْطِيَ أَنْ يَصْنَعَ حَرْبًا مَعَ الْقِدِّيسِينَ وَيَغْلِبَهُمْ، وَأُعْطِيَ سُلْطَانًا عَلَى كُلِّ قَبِيلَةٍ وَلِسَانٍ وَأُمَّةٍ. فَسَيَسْجُدُ لَهُ جَمِيعُ السَّاكِنِينَ عَلَى الأَرْضِ، الَّذِينَ لَيْسَتْ أَسْمَاؤُهُمْ مَكْتُوبَةً مُنْذُ تَأْسِيسِ الْعَالَمِ فِي سِفْرِ حَيَاةِ الْخَرُوفِ الَّذِي ذُبِحَ. مَنْ لَهُ أُذُنٌ فَلْيَسْمَعْ! إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَجْمَعُ سَبْيًا، فَإِلَى السَّبْيِ يَذْهَبُ. وَإِنْ كَانَ أَحَدٌ يَقْتُلُ بِالسَّيْفِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُقْتَلَ بِالسَّيْفِ. هُنَا صَبْرُ الْقِدِّيسِينَ وَإِيمَانُهُمْ”. إنّ هذا الكلام، يُقدِّم لنا صورةً واضحة عن الحرب الّتي يقودها الشَّيطان، فَهو يقود حربًا ضِدَّ الله، وضِدَّ كلِّ مَن يتبَع الله. إنّ الاسم يُشير إلى حضور الشَّخص وإلى تاريخه، وبالتّالي حين يَشنُّ الشَّيطانُ حربًا على اسم الله، فإنّه يَشنُّها على حضور الله في هذا العالم، لذا يقوم الشَّيطان باضطهاد المسيحيِّين مِن خلال حَثّهم على التَّجديف على اسم الله، في محاولةٍ منه لإلغاء حضور الله في هذا العالَم. 

في هذا الإصحاح، يُخبرنا الرَّسول أنَّ بعض المؤمنِين سيسجدون للشَّيطان، وهذا ما سيدفَع هذا الأخير إلى إعلان انتصاره في هذا العالَم، إلّا أنّه لن يتمكَّن من إخضاع المؤمنِين المكتوبة أسماؤهم في سِفر حياة الخروف المَذبوح، أي في سِفر المسيح يسوع. في بداية هذا السِّفر، كلَّمَنا يوحنّا الرَّسول عن الخروف الـمَذبوح الّذي يجلس على العرش السَّماويّ، وقد انتصر في معركته على الشَّر، فأدرَكْنا أنَّه يُحدِّثنا عن الربِّ يسوع. في هذا الإصحاح، يقول لنا يوحنّا الرَّسول إنّ أسماء المؤمنِين الّذين لن يسجدوا للشَّيطان مكتوبةٌ في “سِفر حياة الخروف الـمَذبوح منذ تأسيس هذا العالَم”،

 هذا الكلام لا يعني أنّ الله قد سَبَق واختار هؤلاء المؤمنِين دون سواهم للثَّبات في الإيمان الصَّحيح منذ إنشاء العالَم على الرُّغم من كلّ ما سيتعرَّضون له من اضطهادات، بل يعني أنّ الله سيَعرِفُ مُسبَقًا عند تعرُّضِك للاضطهاد، بالقرار الّذي ستتخِذُّه قَبْل تنفيذِك له. إذًا، ليس الموضوعُ موضوعَ تعيين الله لأشخاصٍ مُعَيَّنين للثّبات في إيمانهم به، إنّما الموضوع هو معرفةُ الله الـمُسبقة بِقَرار الإنسان، فالله لا يُجبِر أحدًا على اتِّباعه بل يترك للإنسان حريّة الاختيار ويَحترِم قراره. قد يتمكَّن الشَّيطان مِن قَتلِ المؤمنِين وتعذيبهم، ولكنّه لا يستطيع التأثير على حريّتهم والتحكُّم بإخلاصهم لله. في هذا الإصحاح، يُكرِّرُ يوحنّا الرَّسول عبارة ذَكَرها سبعَ مرّات في الإصحاحات الثَّلاثة الأولى مِن هذا السِّفر، وهي: 

“مَن له أُذُنٌ فليسمَع”؛ ولكنّ الفرق بين هذه الجملة في هذا الإصحاح وبين ذِكر هذه الجملة في الإصحاحات الثلاثة الأُوَل، هو أنَّه في الإصحاحات الثلاثة الأُوَل، تُذكر هذه الجملة مُضافٌ إليها عبارةٌ أخرى وهي: “ما يقوله الرّوح للكنائس”، أمّا في هذا الإصحاح فقد اكتَفى الرَّسول بِذِكر القِسم الأوَّل مِن هذه الآية. 

في هذا الإصحاح، يُخبرنا يوحنّا الرَّسول أنّ المؤمِنين سيتعرَّضون للسَّبي والقَتل والتَّهجير وكافّة أنواع الاضطهاد، ولكن على المؤمنِين التحلِّي بِصَبر القدِّيسِين كي يتمكَّنوا مِن اجتياز هذه الـمَرحلة وَهُم ثابتون على إيمانهم بالربّ. إنّ كلمة “قدِّيس” في العهد الجديد، تَعني “المعمَّدون”، فكلُّ مُعمَّدٍ بالنِّسبة إلى كاتب هذا السِّفر هو قدِّيس. وكذلك بولس الرَّسول يستخدم هذه العبارة في رسائله للإشارة إلى المؤمِنِين الّذي قَبلوا العِماد، إذ بالنِّسبة إليه، كلّ مُعمَّدٍ باسم الربِّ يسوع هو مدعوٌّ إلى السُّلوك في طريق القداسة.

“ثُمَّ رَأَيْتُ وَحْشًا آخَرَ طَالِعًا مِنَ الأَرْضِ، وَكَانَ لَهُ قَرْنَانِ شِبْهُ خَرُوفٍ، وَكَانَ يَتَكَلَّمُ كَتِنِّينٍ، وَيَعْمَلُ بِكُلِّ سُلْطَانِ الْوَحْشِ الأَوَّلِ أَمَامَهُ، وَيَجْعَلُ الأَرْضَ وَالسَّاكِنِينَ فِيهَا يَسْجُدُونَ لِلْوَحْشِ الأَوَّلِ الَّذِي شُفِيَ جُرْحُهُ الْمُمِيتُ، وَيَصْنَعُ آيَاتٍ عَظِيمَةً، حَتَّى إِنَّهُ يَجْعَلُ نَارًا تَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ عَلَى الأَرْضِ قُدَّامَ النَّاسِ، وَيُضِلُّ السَّاكِنِينَ عَلَى الأَرْضِ بِالآيَاتِ الَّتِي أُعْطِيَ أَنْ يَصْنَعَهَا أَمَامَ الْوَحْشِ، قَائِلًا لِلسَّاكِنِينَ عَلَى الأَرْضِ أَنْ يَصْنَعُوا صُورَةً لِلْوَحْشِ الَّذِي كَانَ بِهِ جُرْحُ السَّيْفِ وَعَاشَ”. 

مِن خلال هذا الكلام، يُخبرنا يوحنّا الرَّسول عن رؤيته لِوَحشٍ ثانٍ، هو الامبراطور دومتيانوس، وهو وَحشٌ ضَعيف، إذ إنّ قرونه هي قرون خروفٍ، وبالتّالي أراد الرَّسول تشجيع المؤمنِين على عدم الخوف من اضطهاد هذا الامبراطور لهم، لأنّه على الرُّغم من كلِّ سُلطانه وجبروته، فإنّه يبقى ضَعيفًا. إنّ هذا الوَحش يتكلَّم كتِّنين، أي أنّه يتابع مسيرة التِّنين في نَقلِ الكُفر إلى العالم من خلال محاربة المؤمِنِين وحثِّهم على نُكران إيمانهم. إنّ الوَحش سَيَقوم بآياتٍ عَظيمة، على مِثال الله، فيُضلِّل المؤمِنِين بالمسيح، إذ أصبح الوحش من خلال هذه الأعمال الخارقة مسيحًا دَجَّالاً. في التَّرجمة اليونانيّة للكِتاب المقدَّس، تُستَخدم عبارة “ضِدَّ المسيح”، للإشارة إلى المسيح الدَّجال.

إنّ المؤمن الَّذي يسعى إلى بناء علاقة مع المسيح، سيتمكَّن من التمييز بين المسيح الدَّجال والمسيح الحقيقيّ؛ أمَّا المؤمن الذي لا يسعى إلى تلك العلاقة مع الربّ، فإنّه لن يتمكَّن مِن التمييز بين المسيح الدَّجال والمسيح الحقيقيّ، فيَتَضَلَّل. إنّ بعض المؤمنِين سيَقعون في الضَّلال ويتركون المسيح الحقيقيّ لاتِّباع مسيح دجّال، مُتمثِّلٌ في الامبراطور، الّذي يملِك القوّة والسُلطان، لذا هو قادرٌ على تأمين الاحتياجات الأرضيّة للتّابِعين له. من خلال اغراءاته، سينجح الشَّيطان، المتمثِّل في الامبراطور، في دَفع بعض المؤمِنِين إلى ترك الإله الحقيقيّ الذي قد يبدو ضَعيفًا في نَظرهم، إذ تعرَّض للإهانة والصَّلب من شَعبه، لاتِّباع إلهٍ وثنيّ قويٍّ في نَظَرهم لأنّه يُعطيهم كلّ ما يريدونه. وهذا ما نلاحظه في مجتمعنا الشَّرقي، 

إذ إنَّ القدِّيسَين الأكثر شُهرةً في مناطقنا والّتي تُشاد على اسمَيهما الكنائس، هما مار الياس ومار جرجس؛ فبِحَسَب التَّقليد، يُصوَّر لنا الأوّل حاملاً سيفًا قَتل به كهنة بَعل الّذين يرمزون إلى العبادة الوثنيّة، وأمّا الثّاني فيُصوَّر لنا حاملاً رُمحًا قَتَل به التِّنين الّذي يرمز إلى الشَّيطان. وفي ظلّ الاضطهاد، يسعى المؤمنون إلى اتِّباع إلهٍ قويّ قادٍر على الدِّفاع عنهم ودَرء الاضطهاد عنهم. بفضل إيمان مار الياس ومار جرجس وثباتهما في إيمانهما باللّه، ازداد تمسُّك المؤمنِين بإيمانهم بالربّ وقد اتَّخذا هذين القدِّيسَين شَفيعَين لهما، اللّذين انتصرا على الشِّرير وقَهرا الآلهة الوثنيّة الّتي لها عيون ولا تَرى، لها آذانٌ ولا تَسمَع، لها أفواهٌ ولا تتكلَّم. وقد صَنَع المؤمنون الّذين سجدوا للوَحش صورةً له، ليَعبُدوه مِن خلالها.

“وَأُعْطِيَ أَنْ يُعْطِيَ رُوحًا لِصُورَةِ الْوَحْشِ، حَتَّى تَتَكَلَّمَ صُورَةُ الْوَحْشِ، وَيَجْعَلَ جَمِيعَ الَّذِينَ لاَ يَسْجُدُونَ لِصُورَةِ الْوَحْشِ يُقْتَلُونَ”. لقد خاف بعض المؤمنِين من قوَّة وعظمة الامبراطور فسَجدوا لإلهه، الّذي تمّ إنشاء صورةٍ له لعِبادته، إذ اعتبروه إلهًا حيًّا؛ هذا هو الوَهم الّذي يلجأ الشَّيطان إلى زرعه في نفوس المؤمِنِين ليَتَمَكَّن من تَضليلهم عن الإيمان الحقّ. إنّ الّذين سيسجدون للإله الوثنيّ سيكونون في حماية الامبراطور، ولن يتعرَّضوا لأيّ اضطهادٍ، ولكنَّهم سيَخسرون فُرصة مشاهدة الخروف المذبوح الجالس على العرش السَّماويّ؛ أمّا الّذين سيرفضون الخضوع للإله الوثنيّ، فإنَّ الاضطهاد سيُلاحقهم حتّى يتمكَّن مِنهم ويَقتلهم.

“وَيَجْعَلَ الْجَمِيعَ: الصِّغَارَ وَالْكِبَارَ، وَالأَغْنِيَاءَ وَالْفُقَرَاءَ، وَالأَحْرَارَ وَالْعَبِيدَ، تُصْنَعُ لَهُمْ سِمَةٌ عَلَى يَدِهِمِ الْيُمْنَى أَوْ عَلَى جَبْهَتِهِمْ، وَأَنْ لاَ يَقْدِرَ أَحَدٌ أَنْ يَشْتَرِيَ أَوْ يَبِيعَ، إِلَّا مَنْ لَهُ السِّمَةُ أَوِ اسْمُ الْوَحْشِ أَوْ عَدَدُ اسْمِهِ. هُنَا الْحِكْمَةُ! مَنْ لَهُ فَهْمٌ فَلْيَحْسُبْ عَدَدَ الْوَحْشِ، فَإِنَّهُ عَدَدُ إِنْسَانٍ، وَعَدَدُهُ: سِتُّمِئَةٍ وَسِتَّةٌ وَسِتُّونَ”. في القديم، كان النَّاس يضعون الأوشام على أجسادهم تعبيرًا عن انْتِمائهم. إنّ الميرون الّذي يُمنَح للمُعمَّد هو خَتمٌ يوسَم به المؤمِن تعبيرًا عن انتمائه إلى الكنيسة. 

وفي هذا الإطار، في أثناء الاحتفال بِسِّرّ الميرون في الكنيسة الأرثوذكسيّة، يقول الكاهن للمُعمَّد إنّه ينال “خَتمَ الرُّوح القدس”، ويمسحه الكاهن بالميرون على حواسه الخمسة، تعبيرًا عن انتماء كلّ هذه الحواس إلى الربَّ يسوع، إذ أصبح مدعوًّا كي يرى ويسمع ويسلك كما سَلك المسيح يسوع. في المعموديّة، يُمهَر المؤمن بالخَتم المقدَّس، فتُعرَف مرجعيَّته. ثمّ يتابع الرّسول يوحنّا كلامه للمؤمِنِين فيطلب إليهم التحلِّي بِصَبر القدِّيسِين، كي يتمكَّنوا من الثّبات في إيمانهم على الرُّغم من الاضطهاد. 

إنّ الجميع سيكونون تحت سُلطة الشِّرير، مَن يتراجع عن إيمانه يخسر الملكوت، ومَن يثبت في إيمانه ينال نعمة مشاهدة الربّ الجالس على العرش السَّماويّ. إنّ اليَد اليُمنى، تُشير إلى التَّعامل مع الآخَرين. أمَّا الجَبهة، فكان اليهود قديمًا يَضعون عليها عصائب مُدَوَّنٌ عليها وصايا الله، كي تبقى تلك الوصايا نُصبَ عيونهم، فلا يَحيدون عنها. ومن خِلال هذا الكلام، يُخبرنا يوحنّا الرَّسول أن الّذين سَجدوا للوَحش، قد استبدلوا العصائب الّتي كان يدوِّن عليها وصايا الله، بعصائب أخرى مدوَّن عليها وصايا التِّنين، فلا يَحيدون عنها تعبيرًا عن إيمانهم بالشِّرير، فيُدرِك جميع الرائين لهم أنَّ هؤلاء القَوم قد ابتَعدوا عن الله. ويتابع يوحنّا الرَّسول فيُخبرنا أنَّ البَيع والشِّراء أصبح مَحصورًا بِيَد غير المؤمِنِين إذ لم يَعد باستطاعة المؤمنون شراءَ ما يحتاجون إليه؛ بِمعنى آخر، أصبح المؤمنون غير الخاضِعين للوَحش مهدَّدون بِالطَرد من وظائفهم، وبالتّالي خسارة مَورَد رِزقهم، ما يجعلهم يعانون من خَطَر الموت جوعًا.

إذًا، إنّ الحالة الّتي نعيشها اليوم في مجتمعنا، هي نفسها حالة المؤمنِين في سِفر الرُّؤيا: ففي هذه المرحلة من حياتنا، نواجه صعوباتٍ كثيرة، إذ نجد ذواتنا أمام تحدٍّ يفرِض علينا الاختيار ما بين اتِّباع الربّ أو آلهةٍ أخرى، حتّى نجتاز هذه المرحلة ونحن ثابِتون في إيماننا بالربّ. إنَّ سِفر الرُّؤيا لا يَبطُل أبدًا، إذ إنَّ المؤمن لا يزال يواجه، بِغَضِّ النَّظر عن كورونا، العبادات الوثنيّة والشَّر والشَّيطان، في أدَّق تفاصيل حياته. فالمؤمن يبقى باستمرار في حالة خوفٍ من أن يتعرّضَ للطَرد من عَمَلِه بسبب ثباته في إيمانه ورَفضه كلَّ ما لا يتماشى مع تعاليم الربّ.

إنّ ما نسمعه اليوم في عالَمنا عن الجِباه والأوشام والرَّقم ستمئةٍ وستَّةٌ وستُّون، لا يعني أبدًا أنَّ مجيء الربِّ أصبح قريبًا. فالربّ يأتي في كلّ لحظةٍ في حياة المؤمن وهو لا يترك المؤمن أبدًا. ولكنَّ السُّؤال الّذي يُطرَح هو: هل سيبقى المؤمن مع الربّ على الدَّوام، في زمن السّلام كما في زمن الاضطهاد؟ هل سيبقى المؤمن مع الربّ في أيّام شبابه وكذلك في أيّام شيخوخته؟ هل سيبقى المؤمن مع الربّ في الغِنى وفي الفَقر، في الحريّة وفي العبوديّة؟ 

إذًا، في هذه الحياة، على المؤمن أن يتَّخِّذ موقفًا واضحًا يُعبِّر عن إيمانه، وهذا الموقف ينطَلِقُ من صورة الإله الموجودة نُصبَ عينَي المؤمن، أكانت صورة الوَحش، أم صورة الخروف الـمَذبوح الّذي غلب أولاً على الصَّليب والّذي سيغلِب في اليوم الأخير والّذي سيمسح كلَّ دَمعةٍ من عيون المؤمنِين به. إذاً، أمام التحدِّيات، تَظهر قوّة إيمان الإنسان ومدى ثباته في إيمانه، وصَبره على احتمال الشَّدائد في سبيل شهادته للربّ، الّذي عليها أن تُضاهي قوّة الوَحش وسلطانه. هذا الزَّمن هو زمان المؤمن، فيه يتَخِّذ الإنسان موقفه الصَّريح الّذي يُعبِّر عن إيمانه، ولكن على المؤمن أن يتذكَّر أنّه مهما طال زمن الاضطهاد فإنّه سيبقى قصيرًا قياسًا بِزَمن الله الّذي لا ينتهي وهو زمن الأبديّة. 

مهما كانت قوّة الامبراطور الوثنيّ عظيمة في اضطهاد المؤمنِين فإنّ زمنه سيبقى 666، ولن يُصبح أبدًا 777، الّذي يُعبِّر عن زمن الله. فزمن الامبراطور الوثنيّ يبقى زمنًا ناقصًا، أمّا زمن الله فهو زمنًا كاملاً، يُعبِّر عن كمال الله وقدرته وقوّته، فالله هو القدير على كلِّ شيء وهو ضابطُ الكُلّ. إنّ زمن التِّنين يبقى ناقصًا ولن يتمكَّن المؤمن من الانتصار عليه إلّا بقوّة المسيح، أي بِثَباته في إيمانه بالربِّ يسوع.

إنّ إخلاص المؤمن للمسيح يسوع لا يَظهر في الاضطهاد الصَّغير، بل في الاضطهاد الكبير الّذي يقود إلى الموت والاستشهاد. فعندما يكون المؤمن غير قادرٍ على احتمال الاضطهاد، يكون الوقت قد حان كي تَظهَر صورة الحَمل الـمَذبوح في عينَي المؤمن وفي حياته، فينال القوّة من الربّ على الصَّبر على الاضطهاد. مهما طال الاضطهاد فإنه لا بُدّ له من أن ينتهي، إذ لا شيءَ يدوم إلّا وَجهُ الله.

ملاحظة: دُوِّن الشرح بأمانةٍ من قِبلنا.