تفسير الكتاب المقدّس،
الأب ابراهيم سعد،
“سِفر رؤيا القدّيس يوحنّا – الإصحاح 2: 12-29”
النّص الإنجيليّ:
“وَاكْتُب إلى مَلاكِ الكنيسة الّتي في بَرْغامُسَ: “هَذا يَقولُهُ الّذي لَهُ السَّيفُ الـمَاضي ذُو الـحَدَّيْنِ: أنا عارِفٌ أعمَالَكَ، وأَينَ تَسْكُنُ حَيثُ كُرسِيُّ الشَّيطانِ، وأنتَ مُتَمَسِّكٌ باسْمِي، وَلَمْ تُنكِرُ إيماني حتّى في الأيّامِ الّتي فِيها كانَ أنْتِيبَاسُ شَهيدِي الأَمينُ الّذي قُتِلَ عِندَكُم حَيْثُ الشَّيطانُ يَسكُن. وَلَكنْ عِنْدِي عَليْكَ قَليلٌ: إنَّ عِنْدَكَ هُناكَ قَوْمًا مُتَمَسِّكينَ بِتَعَليمِ بَلعامَ، الّذي يُعلِّمُ بَالاقَ أَنْ يُلقِيَ مَعْثَرَةً أَمامَ بَنِي إسرائيلَ: أَنْ يَأكُلوا ما ذُبِحَ للأوثانِ، وَيَزْنُوا. هَكذا عِنْدَكَ أَنْتَ أيضًا قَوْمٌ مُتَمَسِّكونَ بِتَعلِيمِ النُّقولاويِّينَ الّذي أُبغِضُهُ. فَتُبْ وإلّا فإنِّي آتِيْكَ سَريعًا وأُحارِبُهُم بِسَيْفِ فَمِي. مَن لَهُ أُذُنٌ فَليَسمَعْ ما يَقُولُهُ الرُّوحُ للكَنائِسِ. مَن يَغلِبْ فَسَأُعْطيهِ أَنْ يأكُلَ مِنَ الـمَنِّ الـمُخْفَى، وأُعْطِيهِ حَصَاةً بَيضَاءَ، وعَلَى الحَصَاةِ اسْمٌ جَديدٌ مَكتُوبٌ لا يَعرِفُه أَحَدٌ غَيرُ الّذي يَأخُذ”.
وَاكْتُبْ إلى مَلاكِ الكَنيسَةِ الّتي في ثَياتِيرا: “هَذا يَقُولُهُ ابْنُ اللهِ، الّذي لَهُ عَينانِ كَلَهيبِ نارٍ، وَرِجلاهُ مِثلُ النُّحاسِ النَّقِيِ: أَنا عارِفٌ أعمالَكَ وَمَحَبَّتَكَ وَخِدَمَتَك وَإيمانَكَ وَصَبرَكَ، وأَنَّ أعمالَكَ الأخِيرَةَ أَكثَرُ مِنَ الأُولَى. لَكِنْ عِنْدِي عَليكَ قَليلٌ: إِنَّكَ تُسَيِّبُ الـمَرأةَ إِيزَابَلَ الّتي تَقولُ إنَّها نَبِيَّةٌ، حتّى تُعلِّمَ وَتَغوِيَ عَبيدِي أَنْ يَزْنُوا ويَأكُلوا ما ذُبِحَ للأَوثانِ. وأَعْطَيتُها زَمانًا لِكَيْ تَتُوبَ عَنْ زِناها وَلَمْ تَتُبْ. ها أَنا أُلْقِيها في فراشٍ، والّذينَ يَزنُونَ مَعَها في ضيقةٍ عَظيمةٍ، إنْ كانُوا لا يَتُوبونَ عَن أعمالِهِم. وَأَولادُها أَقْتُلُهم بالـمَوتِ. فَسَتَعرِفُ جَميعُ الكَنائِسِ أنِّي أنا هو الفاحِصُ الكُلى والقُلوبِ، وسأُعطِي كُلَّ واحِدٍ مِنكُم بِحَسَبِ أَعمالِهِ. وَلَكِنَّني أَقولُ لَكُم ولِلباقِينَ في ثِيَاتِيرا، كُلُّ الّذينَ لَيسَ لَهُم هذا التَّعليمُ، والّذينَ لَمْ يَعرِفُوا أَعماقَ الشَّيطانِ، كما يَقُولونَ: إنِّي لا أُلقِي عَليكم ثِقلاً آخَرَ، وَإنَّما الّذي عِندَكُم تَمَسَّكوا بِهِ إلى أَنْ أَجيءَ. وَمنَ يَغلِبْ ويَحفَظْ أَعمالِي إلى النِّهَايةِ فَسَأُعطِيهِ سُلطانًا على الأُمَمِ، فَيَرعاهُم بِقَضيبِ مِن حديدٍ، كَما تُكسَرُ آنيةٌ مِن خَزَفٍ، كَما أَخَذْتُ أنا أيضًا مِن عندِ أبي، وأُعطيهِ كَوكَبَ الصُّبحِ. مَن لَهُ أُذُنٌ فَليَسمَع ما يَقولُهُ الرُّوحُ للكنائسِ”.
شرح النّص الإنجيليّ:
برغامس هي إحدى المدن في آسيا الصُّغرى. إنَّ الرُّوح طلب من يوحنّا الرَّسول أن يكتب إلى هذه الكنائس السَّبع الموجودة في آسيا الصُّغرى؛ والرَّقم سبعة هو رقم الكمال، وبالتّالي الكنائس السّبعة تشير إلى الكنيسة المقدَّسة جمعاء. إنَّ يوحنّا الرَّسول يكتب إلى كلّ كنيسة من هذه الكنائس السَّبعة، انطلاقًا من واقِعها الخاصّ. إنَّ صعوبات الكنائس في ذلك الزّمان هي صعوباتٌ تتعرَّض لها الكنيسة في كلِّ زمان. إنَّ السَّيفَ هو أداةٌ حادّة، يرمز إلى كلمة الله، وقد استعمل يوحنّا الرَّسول عبارة “سَيف” أكثر من مرّة في هذا الإصحاح: “السَّيف ذو الحَدَّين”، و”سيفِ فَمي”.
كذلك، لجأ بولس الرَّسول إلى استعمال عبارة “سَيف” في رسائله، قائلاً: “سيَف الرُّوح”، للإشارة إلى كلمة الله. إنَّ كلمة الله تُشدِّد المؤمِن في وقت الصُّعوبات، فَبِدُونِها يشعر المؤمن بالضَّياع، وبالتّالي يشعر بأنَّه غير قادر على اتِّخاذ القرارات الصَّحيحة خصوصًا في أوقات الشِّدة. وفي هذا الإصحاح، يُعبِّر يوحنّا الرَّسول عن خوفه مِن تَزعزع المؤمِنِين في إيمانهم بالربّ، عند تعرُّضهم للإغراءات والتّرهيب.
إنَّ كلَّ مؤمنٍ مُعرَّضٌ للوقوع في هذه التَّجارب، وإليكم مِثالٌ على ذلك: في زمن الميلاد، يربط بعض المؤمِنِين شعورهم بفرح العيد بالظروف الاقتصاديّة عِوَض ربطِ شعورهم بالفرح بالإله المخلِّص المولود، فيُخيَّل إلى السَّامِعين أنَّ مَصدَر الفرح الحقيقيّ هو الأمور الخارجيّة لا المسيح يسوع، صاحب العيد. للأسف في عيد الميلاد، نلاحظ غياب المسيح عن أفراحنا، إذ لم يَعُد المسيح موضوع العيد بل وسيلة للاحتفال بالعيد.
يَضع الاضطهادُ المؤمِنِين بالربّ، أمام خيارَين لا ثالث لهما: إمّا إنكار المسيح للمحافظة على حياتهم الأرضيّة، وإمّا تَمَسُّكهم بالمسيح، كلمة الله، على الرُّغم من كلِّ الضُّغوطات الّتي يتعرَّضون لها. إنّ كلمة الله تمنح المؤمِنِين بها الأمان الحقيقيّ، الّذي لا يستطيع أحدٌ من البشر إعطاءه للمؤمِنِين. إنَّ الأمان الحقيقيّ لا يقوم على محافظة المؤمِن على حياته الأرضيّة، بل يقوم على محافظة المؤمنِ على حياته الأبديّة في السّماء، حتّى ولو كلَّفه ذلك موته الجسديّ، نتيجة تمسُّكه بكلمة الله الحقّة. إنَّ عمل الربَّ الخلاصيّ من أجل البشر ليس مجرَّد قصَّةٍ تتناول قصَّة بطلٍ تاريخيّ، هو يسوع المسيح، بل هو حقيقةٌ لا يستطيع الآخَرون لَمسَها إلّا من خلال شهادة المؤمِنِين بالربِّ من خلال أقوالهم وأفعالهم في حياتهم اليوميّة.
إنَّ الربَّ يسوع قد قام بعمله الخلاصيّ لأجلنا وأوكَل إلينا، نحن المؤمِنون به، مَهمَّةَ نقلِ هذه البشارة إلى الآخَرين. يُنهي يوحنّا الرَّسول كلَّ رسالةٍ من هذه الرَّسائل السَّبعة إلى الكنائس السَّبعة في آسيا الصُّغرى بعبارة: “مَن يَغلب”، ولكنّ القِسم الثاني من هذه الـجُملة، يختلف بين كنيسة وأخرى، كلٌّ بحسب وَضعها. إنّ هذه العبارة، الّتي تردَّدت سَبعَ مرّات، لا تتحقَّق إلّا في العبارة الأخيرة: “مَن يغلب كما غلبتُ أنا”، أي كما غلب المسيح يسوع. إنَّ الربَّ يسوع قد أحبَّ البشريّة، فنال الصَّلب نتيجةَ حبُّه لهم، وبالتّالي إنَّ غلبة المسيح لم تكن بموته على الصَّليب بل بحبِّه للبشريّة. أمام رسالة المسيح، على المؤمِن اتِّخاذ القرار: إمّا بقبول حبِّ الربِّ له، فيتعلَّق به ويتبعه؛ وإمّا بِرَفضِ هذا الحبّ الإلهيّ، فيترك المؤمِن الله ساعيًا إلى إلغائه من حياته.
في هذا الإصحاح، يدعو يوحنّا الرَّسول المؤمِنِين إلى التمسُّك بما عِندهم إلى أن يَجيء المسيح. إنَّ عبارة “الّذي عِندَكُم”، تعني كلمة الله الّتي نالوها حين قَبِلوا الإيمان، وبالتّالي يدعو يوحنّا الرَّسول المؤمِنِين بالربِّ إلى التمسُّك برجائهم المسيحيّ في وقت الاضطهاد. إنّ عبارة “إلى أن أجيء”، ليست عبارةً ذات معنى مجازيّ، إنّما هي عبارة تدلُّ على حقيقة إيمانيّة، وهي مجيء الربّ الثّاني. إنَّ استعدادنا لمجيء الربِّ يكون بالتمسُّك بكلمة الله. لذلك، يقول لنا الرُّوح، من خلال يوحنّا الرَّسول: “مَن يَغلُب فسأعطيه مِنَ الـمَنّ الـمُخفى”.
إنَّ الـمَنّ يُذكِّرنا بالشَّعب اليهوديّ في الصَّحراء حين كان الله يُرسِل إليهم الـمَنَّ طعامًا، وهو لم يكن مَنًّا مَخفيًا عليهم بل في متناول أيديهم. إنَّ هذا الـمَنَّ الّذي حَصلوا عليه في الصَّحراء هو مَنٌّ أرضيّ، غير قادرٍ على منحهم الحياة الأبديّة. إنَّ بعضًا من الشَّعب اليهوديّ خافوا من عدم حصولهم على الطَّعام في اليوم التّالي، فخبّأوا قِسمًا من المنَّ فأصبح غير صالحٍ لليوم التّالي. وبالتّالي، على المؤمِنِين الثِّقة بالله، على الرُّغم من الصُّعوبات الّتي يواجهونها، كما فَعل إبراهيم في العهد القديم. إنّ ابراهيم آمَن بالله، فافتقر من كلّ شيءٍ أرضيّ ليَغتني بالله. هناك فرقٌ كبيرٌ بين الإيمان بالله وبين ابتزاز الله: فالابتزاز يقوم على محاولة إغراء الله بتقويّاتنا للحصول على عطاياه الإلهيّة، أمّا الإيمان فيقوم على تصديق كلام الله والعمل به قَبْلَ حصولنا على البراهين. إنَّ الشَّيطان يعرِف محدوديّته أمام الله، أمّا الإنسان فلا يعرفها إذ يتجرّأ على تهديد الله بالابتعاد عنه إنْ لم يُحقِّق لنا ما يطلبه منه.
إنَّ “الـمَنّ الـمُخفى” يَعني بِذرة الحياة الأبديّة. إنَّ الحصاة تُذكِّرنا بالعهد القديم إذ كان الشَّعب اليهوديّ يلجأ إليها للقرعة فيُدرِك كلّ فردٍ دَورَه. إنَّ الحصاة الّتي ينالها المؤمن مِنَ الله تُحدِّد له اسمه الجديد، الّذي لا يستطيع أحدٌ معرِفته. إنّ المؤمِن يُصدِّق كلام الله هذا، لذا هو يستمدِّ قوَّته من وعود الله للبشر، أي من كلمته الإلهيّة. إنَّ علاقة ابتزاز المؤمِن بالله معرَّضة للزعزعة في أوقات الشِّدة، لأنّها مبنيّة على مبدأ وجود مُنتَصِر وآخر مَغلوب: والمؤمِن في هذه العلاقة دائمًا هو المنتصر، والله هو المغلوب الدَّائم، لذا يتجرّأ المؤمن على وضع شروطِه على الله. إنَّ الله يدعونا قائلاً: “أُطلبوا أوّلاً ملكوت الله وبرَّه تُزادوا هذا كُلَّه”(متى 6: 23)، غير أنَّ عددًا كبيرًا من المؤمِنِين غير مقتنع بحقيقة وجود الملكوت، ويعتبرها مجرَّد فكرة فلسفيّة.
إنَّ إيمان الإنسان يتجلَّى في وقت الشِّدة والصُّعوبات لا في أوقات الرّاحة والبحبوحة، وبالتّالي لا يستطيع الإنسان اختبار سِفر الرُّؤيا وفَهمه إلّا عند مواجهته الصُّعوبات. إنَّ الصَّبر لا يختبره الإنسان إلّا عند تعرُّضِه للوجع. إنَّ سؤال الإنسان عن سبب وجود الأوجاع في هذه الدُّنيا يدلّ على قلَّة صبره، أمّا سؤاله عن كيفية مواجهته لها انطلاقًا من إيمانه بالربّ، فهذا يدلّ على عظمة صَبره. وإليكم مَثَلَين من الإنجيل: الأوّل بشارة الملاك لِزَكريّا الكاهن، والثّاني بشارة الملاك للعذراء مريم. في البشارة الأولى، تلَّقى زكريّا الكاهن البشارة من الملاك، غير أنَّه لم يُصدِّقها، فسأل عن براهين لتأكيد صحَّة أقوال الملاك، فأَتاه الجواب بأن يكون صامتًا إلى ساعة ولادة يوحنّا.
أمّا في البشارة الثانية، فقَد آمَنت مريم بكلام الملاك لها، ولكنّها طلبَت بعض التوضيحات حول كلامه، إذ لم تكن تملك إمكانيّات تساعدها على فَهم كلامه، فأَتاها الجواب بِنَسيبَتِها أليصابات الحامل في شيخوختها. كان زكريّا الكاهن رَجُلاً متزوِّجًا وبالتّالي لديه إمكانيّة للإنجاب على الرُّغم من أنَّه كان طاعنًا في السِّن، أمّا العذراء مريم فكانت بتولاً أي فتاةً غير متزوِّجة وبالتّالي لا إمكانيّة لديها للإنجاب، وبالتّالي مَن لا يملك إمكانيّة لتحقيق كلام الله آمن به، في حين أنَّ الّذي يملك إمكانيّة لتحقيق كلام الله شكَّ فيه. إذًا، إنَّ كلمة الله تَقلب كلّ المقاييس، رأسًا على عَقِب، مخالِفةً بذلك المنطق البشريّ.
فالإنسان لا يستطيع إدراك أفكار الله، وهذا ما يؤكِّده الله ذاته للمؤمِنِين به، إذ يقول: “فإنَّ أفكاري ليست أفكاركم، ولا طرُقكم طُرقي، يقول الربّ.كما تعلو السَّماواتِ عن الأرضِ،كذلك طُرُقي تَعلو عن طُرُقِكم، وأَفكاري عن أفكارِكم”(إشعيا 55: 8-9). إنَّ كلمة الله هذه الّتي قِيلَت لإشعيا لا تزال فاعلة في أيّامنا هذه، إذ نُسنِد إلى الله أفكارَنا، نطلب منه إنزال العِقاب على هذه الأرض بجميع الـمُسِيئين إلينا، ومحبّة الآخَرين على مِثال محبَّتنا لهم. حاول بولس الرَّسول تقديم إيضاح للمؤمِنِين حول علاقة الله بالكنيسة، فأعطاهم صورة سرّ الزَّواج إذ قال: “ليخضع بعضكم لبعضٍ بتَقوى المسيح.
أيّتها النِّساء إخضعن لأزواجكُّنَ خضوعكنَّ للربّ، لأنَّ الرَّجُلَ هو رأس المرأة كما أنَّ المسيح رأس الكنيسة الّتي هي جسده وهو مخلِّصها… أيّها الرِّجال، أحبُّوا نساءكم كما أحبَّ المسيحُ وجادَ بِنَفسِه من أجلها ليُقدِّسَها مُطهِّرًا إيّاها بِغَسلِ الماءِ وكَلِمة تَصحَبُهُ، فيَزُفُّها إلى نفسِه كَنيسَةً سَنِيَّةً لا دَنَسَ فيها ولا تَغَضُّن ولا ما أشبه ذلك، بل مقدَّسة لا عيبَ فيها”(أفسس5: 21-27). في الكنيسة، هناك سرّ زواجٍ واحد، هو سرّ زواج المسيح مع كنيسته،
أمَّا الرَّجل والمرأة فيدخلان من خلال زواجهما في سرّ زواج المسيح من كنيسته. إنَّ كلَّ زواج، يتطلَّب وجودَ طَرَفَين: إنَّ المسيح هو الطرف الأوّل في الزَّواج، أمّا الطرف الثّاني فهو الرَّجُل والمرأة مَجتَمِعَين، إذ إنّهما عروس المسيح. إنَّ الزَّواج هو مُمَثِّل للكنيسة الّتي هي عروس المسيح. إنَّ المفهوم الخاطئ لِسِرّ الزَّواج يؤدِّي بالمتَّزوجِين إلى فَتح دعاوى طلاق عند مواجهتهم للصُّعوبات، في حين أنَّ فَهمَهم الصَّحيح لسرّ الزَّواج الكنسيّ يُكسِبهم معنى أعمق لمفهوم التضحية ومفهوم الحبّ. وبالتّالي، يتحوَّل سرّ الزّواج إلى سباق في المحبّة بين الرَّجل وامرأته، كما يتسابق المسيح على محبّة كنيسته بغفرانه جميع خطاياها، دونَ كَللٍ أو مَللٍ.
إنَّ المنطق البشريّ في الحبّ، يستند إلى مواصفات الآخَر الحَسَنة؛ أمّا المنطق الإلهيّ في الحبّ، فهو مرتبطٌ بخطايانا، فالله يُحبّ البشر على الرُّغم من خطاياهم لأنّ الله محبَّة، وهو لا يستطيع إنكار حقيقته الإلهية هذه. إنَّ الله خلَّص البشريّة من خطاياها بِفعل محبَّته العظيمة للبشر، وهو لا يطلب من البشريّة إلّا القبول بهذا الخلاص، وإعلان قبولهم هذا من خلال غلَبَتِهم على كلّ معارك الشِّرير في هذه الحياة. إنَّ الغَلبة هي انتصارُ الإنسان في المعركة على العَدُّو، وهو الشَّيطان، وبالتّالي لا غلبة دون معركة. إنَّ الشَّيطان لا يمكنه الدُّخول إلى الكنيسة إلّا من خلال بعض المؤمِنِين الّذين يتماشون مع اعماله، كالنُّقولاويِّين الّذين يذكرهم لنا يوحنّا الرّسول في هذا الإصحاح.
إنَّ النُقولاويِّين هم مؤمِنون قد مَزجوا ما بين العبادة الصَّحيحة لله وعبادتهم للأوثان، وهذا عَمَلٌ لا يُرضي الله. إنَّ بلعام هو أحدى شخصيّات العهد القديم، الّذي أراد أن يلعن الله، فتكلَّم الحمار وبارك الله. إذًا، في الكنيسة، أي في دُور العبادة، أشخاصٌ أعداء للمسيح إذ يسعون إلى إبعاد المؤمِنِين عن التَّعليم الصَّحيح عبر بَثِّهم أفكارًا مخالفة لما علَّم المسيح يسوع. إنَّ الرُّوح يطلب من المؤمنِين العودة عن ضلالهم، أي التَّوبة.
وفي رسالته الّتي يوجِّهها إلى كنيسة ثياتيرا، يستخدم الرَّسول صِفات الله الموجودة في العهد القديم، والّتي تُعبِّر عن الألوهة حين يقول: “هَذا يَقُولُهُ ابْنُ اللهِ، الّذي لَهُ عَينانِ كَلَهيبِ نارٍ، وَرِجلاهُ مِثلُ النُّحاسِ النَّقِي”. إنَّ المقصود بعبارة “عيناه كلهيب نار”، هو أنَّ الله قادر على رؤية خفايا الكُلى والقلوب، والمقصود بعبارة “رجلاه كالنُّحاس النَّقي”، هو أنَّ كلمة الله لا تتزعزع.
يذكر لنا يوحنّا الرَّسول خمسَ صِفاتٍ اتسَّم بها ملاك الكنيسة في ثياتيرا، وهي: “الأعمال والمحبّة والخِدمة والإيمان والصَّبر”. إنَّ الأعمال هي نتيجة محبّة الإنسان للآخَرين، والمحبَّة ثمرتها الخدمة، والخدمة مبنيّة على إيمان الإنسان بالله، والثَّبات في الإيمان يتطلَّب صبرًا عند مواجهة المؤمن للصُّعوبات الحياتيّة. بعد ذِكره لحَسنات ملاك الكنيسة في ثياتيرا، يوجِّه الله من خلال يوحنّا الرَّسول، ملامة إليه بخصوص إيزابل، الّتي تدَّعي النبوءة، وتجتهد في حثِّ المؤمِنِين على الزَّنى.
إنَّ الزِّنى في الكِتاب المقدَّس يُعبِّر عن ابتعاد الإنسان عن الله، واتِّباعه لآلهةٍ وثنيّة، وهذا ما يقصده الرّسول بعبارة “يأكُلوا ما ذُبِح للأوثان”. هذا ما عاناه بولس الرُّسول على سبيل المِثال في كورنثوس الّتي كانت مدينة وثنيّة قبل قبولها الإيمان بالربِّ يسوع: فأَهلُها قد وَجَدوا صعوبةً في تَركِ عاداتهم الوثنيّة، بعد قبولهم الإيمان، لذا قاموا بالـمَزج ما بين العبادة لله الواحد والعبادات الوثنيّة، إذ كانوا يُشارِكون في بعض الاحتفالات الوثنيّة، وهذا ما أدّى إلى تشكيك بعض المؤمنِين. عند معرفته بالأمر، طلب بولس الرَّسول من المؤمِنِين في كورنثوس عدم المشاركة في الاحتفالات الوثنيّة.
إنَّ الكبرياء، أي التَّعالي على الآخَرين هو ناتجٌ عن نقصٍ في المحبّة عند المؤمِن، فالمحبَّة كما يقول لنا بولس الرَّسول:”المحبّة تَصبر، المحبّة تَخدم، ولا تَحسُدُ ولا تَتَباهى ولا تنتَفخ من الكبرياء، ولا تَفعل ما ليس بِشَريف ولا تسعى إلى منفعتها، ولا تَحنَقُ ولا تُبالي بالسُّوء، ولا تَفرحُ بالظُّلم، بل تَفرَحُ بالحقّ. وهي تَعذُر كلَّ شيء وتُصدِّقُ كلَّ شيء وتَرجو كلَّ شيء وتتحمَّل كلَّ شيء” (1 كور 13: 4-7). وبالتّالي على المؤمِن مخاصمة الخطيئة والتَّرؤف بالخاطئ.
إنَّ الربَّ يسوع يَكره خطيئة الإنسان، ولكنَّه يُحبُّ الإنسان، لذا يُطهِّره ويَغسله من خطيئته ثمّ يدعوه إلى الاتِّحاد به من جديد. إنَّ المسيح هو الذي يُجدِّد عهده مع الخاطئ بعد توبة هذا الأخير؛ وبإعلان الخاطئ توبته، يُجدِّدُ هذا الأخير قبوله بعهد الله. وهذا ما يَحدُث في القدَّاس الإلهيّ، إذ يُجدِّد الله عَهَده مع المؤمِنِين به، على الرُّغم من خطاياهم، ويُعلِن المؤمِنون قبولهم بهذا العهد الإلهيّ قائلين: “آمين”.
إنَّ الله يلوم ملاك الكنيسة في ثياتيرا على سماحه للوثنيِّة في الدُّخول إلى الكنيسة. إنَّ الوثنيّة لا تعني عبادة الأوثان، إنّما تعني عبادة الإنسان لإلهٍ آخر غير الله. إنَّ الّذي يَثبُت في إيمانه بالله على الرُّغم من كلِّ الصُّعوبات الَّتي يواجهها في هذه الحياة نتيجة إيمانه بالله، سيَمنحه الله نعمة الجلوس معه على العرش في اليوم الأخير لدينونة الشُّعوب.
إنَّ الرَّسول يشترك مع الربِّ في دينونة الشُّعوب إذ يتحوَّل الرَّسول إلى مِثالٍ لكلِّ مؤمنٍ اختار العيش مع الربِّ في الملكوت. إنَّ الرِّعاية هي لله وَحده، ولكنَّ الرَّسول يُصبح على مِثال الله، حين يعيش حياته الأرضيّة طائعًا لكلمة الله. على المؤمِن أن يسعى كي تكون أُذُنه مُصغية إلى كلمة الله، فيتمكّن، من النُّطق بها والسّلوك بموجبها في حياته الأرضيّة، ومواجهة تحدِّيات هذا العالم له بالمحبّة والخدمة والصَّبر.
إنَّ فَرحنا بالمولود الإلهيّ ليس مرتبطًا بالزِّينة الخارجيّة وبالأوضاع الاقتصاديّة الّتي نعيشها، بل بشَخصٍ آخر هو المولود الآتي مِن زمنٍ آخر لينقُلَنا إلى زمنٍ آخر هو زمن الحياة الأبديّة، زمن الملكوت السَّماويّ. وبالتّالي، لا يجوز لنا رَبطَ مصيرنا بالأمور الخارجيّة الفانية. يُخبرنا سِفر الرُّؤيا أنَّ مصير المؤمِن في هذه الحياة متعلِّقٌ بجوابه عن السُّؤال التّالي، عند تعرُّضه للاضطهاد: مَن هو إلهُك؟”، فإذا اعترف بالربِّ وتمسَّك به، نال الموت الجسديّ في هذه الحياة الأرضيّة، ورَبِح الحياة الأبديّة في الملكوت السَّماوي؛ أمّا إذا اعترف بالامبراطور أو الملك إلهًا له، نال الحياة في هذه الأرض وخسر الحياة الأبديّة، إذ انضمّ إلى “جماعة الشَّيطان”، أي من أعداء المسيح الّذي تكلَّم عنهم هذا الإصحاح من سِفر الرُّؤيا. إنَّ هدَف الشَّيطان هو دَفع المؤمنِين إلى الابتعاد عن الله، من خلال ضَرب نِقاط قوَّتهم لا نِقاط ضَعفِهم.
إنَّ الشّيطان يسعى إلى إضعاف إيمان كلّ مؤمنٍ، من خلال دَفعِ المؤمن إلى إفراغ أعماله الصّالحة من جوهرها، فيحثُّه مَثلاً على إدانة الآخرين وحَسدِهم. إنَّ سِفر الرُّؤيا موضوعٌ لهذه الأزمنة الصَّعبة الّتي نعاني منها اليوم، فنتمكَّن من خلال قراءتنا له من التشدُّد بإيماننا على الرُّغم من كلّ الصُّعوبات الحياتيّة الّتي نواجهها. يدعونا يوحنّا الرَّسول، من خلال هذا الإصحاح، إلى إعادة النَّظر في إيماننا، والتَّمسُك به إلى يوم مجيء الربِّ في اليوم الأخير. آمين.
ملاحظة: دُوِّن الشرح بأمانةٍ مِن قِبَلِنا.