في هذا الإصحاح، نلاحظ تَحَوُّلاً في المشهد عند كاتب السِّفر، إذ يُخبرنا عن امرأةٍ حُبلى، اعتقد الكثيرون أنّها العذراء مريم، ولكنَّها في الحقيقة ترمز إلى الكنيسة الأولى، الّتي نشأت في البيئة اليهوديّة الّتي فيها وُلد المسيح يسوع.

“وظَهرَتْ آيةٌ عَظيمةٌ في السَّماء: امرأةٌ مُتَسَربِلةٌ بالشَّمسِ، والقَمَرُ تَحتَ رِجلَيْها، وعلَى رأسِها إكليلٌ مِن اثْنَي عَشَر كَوكَبًا. وَهِيَ حُبلى تَصرُخُ مُتَمَخِّضَةً وَمُتَوَجِّعةً لِتَلِد”. إنّ عبارة “امرأةٌ مُتَسربلةٌ بالشَّمس والقمر تحت رِجلَيها”، تُشير إلى أنَّ هذه المرأة قد حَظِيت بالـمَجد والعَظَمة. وهذا ما كانت عليه الكنيسة الأولى. عندما نقول “الكنيسة” في تفسير هذا الإصحاح، فَنحن لا نقصد الكنيسة كما نَعرِفها اليوم، بما فيها مِن زؤانٍ وقَمح، بل نقصد بهذه العبارة، جماعة المؤمنِين الـمُخَلَّصِين بِشهادة يَسوع المسيح، الثّابتون في إيمانهم بالربّ على الرُّغم من اشتداد الصِّعاب عليهم. في العهد القديم، كان هناك اثنا عشر سبطًا لإسرائيل، أمّا الاثنا عَشَر كوكبًا في الكنيسة، فَهُم الرُّسل الاثني عَشَر.

“وَظَهَرَتْ آيَةٌ أُخرى في السَّماءِ: هُوَذا تَنِّينٌ عَظيمٌ أَحمَرُ، لَهُ سَبعةٌ رؤوسٍ وَعَشرَةُ قُرونٍ، وعَلى رؤوسِه سَبَعَةُ تِيجانٍ. وَذَنَبُهُ يَجُّرُ ثُلثَ نُجومِ السَّماءِ فَطَرَحَها إلى الأرضِ”. إنَّ اللَّون الأحمر يرمز إلى الدَّم، وبالتّالي هذا اللَّون يُشير إلى الاضطهاد الّذي سَيُعاني منه المؤمِنون بالربّ، والّذي سَيَقودهم إلى الاستشهاد، أي إلى سَفك دِمائهم في سبيل المحافظة على إيمانهم. 

إنّ التِّنين يرمز إلى إله روما، إله الامبراطور. وبالتّالي، ما أراد كاتب هذا السِّفر أن يَقوله للمؤمِنِين هو أنّ روما، الّتي تَعبُد الأوثان وعلى رأسها الامبراطور، ستُحارِب كلَّ مَن يؤمِن بالمسيح. إنَّ الحرب الّتي سَتَقودها روما ضدَّ المؤمنِين بالربّ، مَبنيّة على اختيار المؤمِن ما بين أمرَين لا ثالث لَهما، وهما: إمّا الخضوع للامبراطور وإلهه، أي إنكار إيمانه بالربّ يسوع، وإمّا الموت قَتلاً. إنّ الوَحش الّذي سَيُخبرنا عنه كاتب هذا السِّفر يَرمز إلى الامراطور نَيرون، الّذي اضطهد المسيحيِّين. إنّ الحرب الحقيقيّة هي حَربٌ بين عبادة الأوثان وعبادة الإله الحيّ؛ والطرَف الأوّل يُمثِّله الامبراطور، 

أمّا الطرف الثّاني فيُمثِّله المؤمنون الثَّابتون في إيمانهم بالربّ. وهذا ما يُخبرنا به كاتب هذا السِّفر حين يقول لنا إنّ حرَبًا استباقيّة وَقَعت في السَّماء، بين ميخائيل وجنوده، والتِّنين وجنوده. إنّ سلوك الإنسان يُعبِّر عن أفكاره: فإذا كانت أفكاره الإيمانيّة واضحةً، فهذا يُشير إلى كونِه إنسانًا مُنفَتِحًا ومُحِبًّا وَخَدومًا؛ أمّا إذا كانت أفكارُه تعكسُ تَعصُّبًا إيمانيًّا، فهذا يشير إلى كونه إنسانًا ذات مَنْحى إلغائي للآخَر باستعماله أساليب التَّرهيب أو التَّرغيب مَعه.
“والتِّنينُ وَقَفَ أمامَ الـمَرأةِ العَتيدَةِ أن تَلِدَ، حتّى يَبتَلِعَ وَلَدَها مَتى وَلَدَتْ. فَوَلَدَتْ ابْنًا ذَكَرًا عَتِيدًا أنْ يَرعى جَميعَ الأُمَمِ بِعَصًا مِن حديدٍ”. إنَّ هَدفَ التِّنين هو إلغاء الكنيسة، إلغاء وجود المؤمنِين بالربّ يسوع؛ ولكنّه لم يَفلَح في تحقيق هَدَفِه لأنّ المرأة بِحَسَب هذا النَّصّ قد وَلَدَتْ ابنها. إنّ العصا الحديديّة ترمز إلى الملوكيّة. 

إنَّ الربَّ يسوع قد وُلِد في البيئة اليهوديّة الّتي وُلِد فيها الرُّسل. وقد انتشر الإيمان المسيحيّ في العالم كُلِه، ووصل إلى روما، أي إلى أقاصي الأرض، في ذلك الوقت، بِفَضل الرُّسل، على الرُّغم مِن كلّ الاضطهادات الّتي عانوا مِنها، وهذا دليلٌ على أنّ الحرب بَين العِبادَتين قد انطَلَقَتْ.
“واخْتُطِفَ وَلَدُها إلى الله وإلى عَرشِه، والمرأةُ هَرَبَتْ إلى البَرِيّة، حَيْثُ لَها مَوضِعٌ مُعَدٌّ مِنَ اللهِ لِكَي يَعُولُوها هُناكَ ألفًا وَمِئَتَينِ وسِتِّينَ يَومًا”. إنّ المسيح صَعِد إلى السَّماء وَجَلَس على العرش، وهذا يبعث في المؤمِنِين تعزيةً في نفوسِهم، إذ يَحُثُّهم على الثَّبات في إيمانهم رُغم كلّ الصُّعوبات كي يتمكَّنوا من الجلوس إلى جانب يسوع المسيح على العرش السماويّ. 

إنّ الله هو الّذي يَجلس على العرش السَّماويّ، وبالتّالي جلوس الربّ على هذا العرش يُشير إلى ألوهيّته، هو الحَمل الـمَذبوح، كما وَصَفه كاتب هذا السِّفر في الإصحاحات السَّابقة. في زمن الاضطهاد، كان الرُّسل والمؤمنون يهربون من الموت، إلى البريّة أي إلى أماكن آمنة. وهنا يجب الإشارة إلى أنَّه ليس المطلوب مِن المؤمن أن يُقدِّم نفسَه للإمبراطور فيَقتُله هذا الأخير، بل المطلوب أن يحاول المؤمن الهرب من الموت قَدر المستطاع، ولكن إنْ كان لا مَفَرَّ له من الموت شهيدًا أو نكرانَ إيمانه، فَعَليه حينها أن يَختار الموت على أن يُنكِر إيمانه. 

إنَّ الرَّقم “ألفًا ومِئَتَين وسِتِّين يومًا” يُساوي ثلاث سِنين ونِصف السَّنة، وهذا يعني أنَّه مهما طال زمن الاضطهاد فإنّه لن يكون زمنًا أبديًا بل زمنًا قصيرًا وَقتيًّا، إذ سينتهي عند مجيء المسيح الّذي سيمسَح كلّ دَمعةٍ من عيون المؤمنِين به. إنَّ الاضطهاد مهما طال، فلا بُدَّ مِن أن يكون له نهاية، أمّا الجلوس على العرش السماويّ مع الربّ، فهذا لا نهاية له.

“وَحَدَثَتْ حَربٌ في السّماء: مِيخائيلُ ومَلائِكَتُهُ حاربوا التِّنينَ، وحاربَ التِّنينُ وملائكَتُهُ ولَم يَقوَوا، فَلَمْ يُوجَد مَكانُهم بَعدَ ذَلِكَ في السَّماءِ. فَطُرِحَ التِّنينُ العَظيمُ، الحَيَّةُ القديمةُ المدعُوُّ إبْلِيسَ والشَّيطانَ، الّذي يُضِلُّ العالَم كُلَّهُ، طُرِحَ إلى الأرضِ، وَطُرِحَتْ مَعَهُ ملائكَتُهُ”. 

إنَّ ميخائيل وملائكته حاربوا التِّنين، وقد انتصروا عليه إذ أوقعوه أرضًا، خائر القِوى، وهذا يعني أنّ الإيمان المسيحيّ سَيُحارِب العبادة الوثنيّة. بهذا الكلام، أراد كاتب سِفر الرُّؤيا تشجيع المؤمنِين على التحلِّي بالمزيد مِن الصَّبر على شدائدهم، لأنّ الكلمة الأخيرة سَتَكون للربّ، الّذي انتصر على الشِّرير على الصَّليب، وسينتصر عليه أيضًا في اليوم الأخير. في هذا الإصحاح، نلاحظ ذِكر أربعة أسماء تُشير إلى الشِّرير: التِّنين العَظيم، الحيَّة القديمة، إبليس، والشيطان.
– إنّ التِّنين العَظيم هو إله الامبراطور، أي العبادة الوثنيّة، فعلى الرُّغم مِن عدم وجود إلهٍ آخَر سِوى الله، إلّا أنَّ الوثنيِّين لا يزالون يؤمنون بوجود إلهٍ آخَر، وهو الّذي يَعبُدونه. إنّ التِّنين قد سَقَط إلى الأرض، وبالتّالي عليه تقديم أسبابٍ لله على اضطهاده للمسيحيِّين. بوقوعه على الأرض، يُعلِن الشِّرير خِسارته مشروعه في الحصول على السَّماء، كما يُعلِن انتصار الربِّ عليه وانتصار مشروع الله الخلاصيّ. ولكنَّ الشِّرير لن يَقِف مَكتوفَ الأيدي بَعد سُقوطه إلى الأرض، بل سَيُحاول الانتقام لِتلك الخِسارة من خلال اضطهادِه للمؤمِنِين، وما على المؤمِنِين بالمسيح إلّا الصَّبر حتَّى يُعلِن الله في اليوم الأخير انتصاره على الشَّرير.

– إنّ الحيّة القديمة تُذكِّرنا بقصَّة آدم وحوَّاء: إنَّ هَدَف الحيّة هو إبعاد الإنسان عن الله، بِمَعنى آخَر حثُّ الإنسان على قَطعِ علاقته بالربّ. وهذا هو أيضًا عَملُ التِّنين.
– إبليس: إنّ عبارة “إبليس” تعني الـمُفرِّق. وهو يعمل على التفريق بين المؤمِن وربِّه.
– الشَّيطان: إنّ هذه العبارة في العِبريّة تعني الـمُدَّعي العام. وعَملُ الـمُدَّعي العام يقوم على إقناع القاضي أي الله، بارتكاب الـمُتَّهم، أي الإنسان، ما يستوجِب إدانته بأشَدِّ العقوبات. في هذا الإطار، نتذكَّر قصَّة أيُّوب الصِّديق. ففي هذه القِصَّة، نجد أنَّ الشَّيطان قام بتقديم شكواه إلى الله بِحقِّ أيّوب، إذ اعتبر أنَّ هذا الإنسان البارّ الّذي يملِك خَيراتٍ كثيرة على هذه الأرض، سَيَترك الله حين يتعرَّض للشَّدائد والضِّيقات. إذًا، أراد الشَّيطان اتِّهام أيّوب أمام الله في محاولة مِنه لِقَطع العلاقة بين الإنسان والله وحثِّ الله على إصدار حُكمٍ صارمٍ تجاه الإنسان المؤمِن. 

إنّ هَدَفُ الشَّيطان هو خرابُ الملكوت. إنّ همَّ الشِّرير هو إنهاء الله مِن فِكر البَشَر، إنهاء العبادة الحقيقيّة مِن سلوك البشر، فيَسود على العالَم ويَحكمه، لذا يعملُ الأشرار في هذا العالَم على قَتلِ الأبرار والصِّديقِين، مُعتَقِدين أنّهم بِذَلك سيتمكَّنون مِن السَّيطرة على هذا العالَم وإخضاعه لَهم. وفي هذا الإطار، في إنجيل يوحنّا، يقول الربُّ يسوع عن الشِّرير بأنّه رئيس هذا العالَم. 

إنَّ رئيس هذا العالَم قد خَسِر مَعرَكته الأولى مع الربّ، على الصَّليب، وسَيَخسَر الحرب في مجيء الربِّ الثّاني أي في اليوم الأخير. إذًا، إنّ الحرب بين الشِّرير والله، ستتحقَّق فينا، وما على المؤمنِين إلّا المحاربة بسلاح الربِّ يسوع، أي بالإيمان والإخلاص لشهادة الربّ يسوع، فنتمكَّن مِن رِبح الحَرب، إذ سنَغلِب كما غَلب الربُّ يسوع، بحسب تعبير الملاك في الإصحاحات الأولى مِن هذا السِّفر. 

إنّ الربَّ يسوع قد غلَبَ الشِّرير على الصّليب مِن خلال إخلاصه للآب السّماويّ، فرَفَضه البشر ولذا قَتلوه. إذًا، القتل هو مشروع الشيطان، أي مشروع الشِّرير، فالشِّرير لا يَقتُل الإنسان المؤمِن مِن أجل القتل، إنّما يقتُله بِهَدف إبعاده عن إيمانه بالربّ. في زمن اضطهاده للمسيحيِّين، كان الامبراطور نَيرون، أي الوَحش، يعفو عن المؤمِنِين حين يُنكِرون إيمانهم بالربّ. في هذا الإصحاح، عندما قال كاتب هذا السِّفر للمؤمِنِين إنّ الشَيطان قَد طُرِح أرضًا هو وملائكَتُه، أراد أن يزرع في قلوب المؤمنِين الّذين يُعانون من الاضطهاد تعزيةً، إذ إنَّ وقوع الشِّرير أرضًا يؤكِّد خسارته الحرب، وما على المؤمنِين إلّا انتظار إعلان الربّ انتصاره.

“وسَمِعْتُ صَوتًا عَظيمًا قائلاً في السَّماءِ:”الآنَ صارَ خلاصُ إلهِنا وَقُدرَتُهُ وَمُلكُهُ وسُلطانُ مَسيحِه، لأنَّه قَد طُرِحَ الـمُشتَكي على إخوَتِنا، الّذي كان يَشتَكي عَليهم أمامَ إلَهِنا نَهارًا وَلَيلاً. وَهُم غَلبُوهُ بِدَمِ الخَروفِ وبِكَلِمَةِ شهادَتِهم، ولَم يُحِبُّوا حياتَهم حتّى الموتِ. مِن أجلِ هذا، افْرَحي أيَّتها السَّماواتُ والسّاكِنونَ فيها. وَيلٌ لِساكِنِي الأرضِ والبَحرِ، لأنَّ إبليسَ نَزَلَ إليْكُم وبِهِ غَضَبٌ عَظيمٌ! عالِمًا أنّ لَهُ زَمانًا قَليلاً”. 

إنّ هذا الصَّوت الّذي سُمِع من السَّماء، هو إعلانُ انتصارِ الربّ في المعركة، وبالتّالي إعلان خلاصه للبشر. إنّ عبارة “الـمُشتكي” تعني الشيطان، فَهَدَفُ الشَّيطان هو إحداث فِتنَة بين المؤمِنِين والله. لم يَكن هَدَفُ المؤمِنِين المحافظة على حياتهم الأرضيّة وخسارة إيمانهم، لذلك كانوا يُفضِّلون خسارة حياتهم الأرضيّة ورِبح الملكوت. وهنا نتذكَّر قول الربّ: “ماذا ينفع الإنسان لَو رَبِح العالَم كُلَّه وخسِر نفسَه؟ (متى 16: 26). في هذا الإصحاح، يُخبرنا كاتب هذا السِّفر عن العِرس السَّماويّ في اليوم الأخير، الّذي سيُشارِك فيه كُلُ مَن بَقيَ ثابتًا في إيمانه بالربّ يسوع. إنَّ عبارة “السَّاكنون فيها” تُشير إلى المؤمِنِين بالربّ الّذين سبَقونا إلى الملكوت إذ استشهدوا في سبيل إيمانهم بالربّ. 

إنّ الشِّرير الّذي خَسِر معركته مع ميخائيلَ وملائكته، وسَقَط إلى الأرض، لن يرضى بهذه الهزيمة، لذا سيحاول التعويض عن تلك الخسارة من خلال إنزال الويلات بالمؤمنِين بالربّ السَّاكِنين على الأرض. مهما كان الشِّرير قوِّيًا في نَظَر البشر، بسبب قوّة الاضطهادات، إلّا أنَّ قوَّته هذه، بالنِّسبة إلى الربّ، تُعبِّر عن رَفضِه إعلان خسارته في حَربِه مع الله. من خلال هذا الكلام، أراد كاتبُ السِّفر حَثَّ المؤمِنِين على التحلِّي بالصَّبر واحتمال الشَّدائد، فيتمكَّنوا من اجتياز تلك المرحلة وَهُم ثابتون في إيمانهم بالربّ. لا يحتاج الإنسان إلى الصَّبر في وقت الراحة والبَحبوحة، بل يحتاج إليه عندما يكون الإنسان “تَحت الضِّيق”. إنّ الاضطهادات الّتي يتعرَّض لها المؤمِن قد تكون بِسَبب عاملٍ بشريّ طبيعيّ، ولكنّها قد تكون أيضًا تعبيرًا من الشِّرير عن خِسارته الحرب مع الله.

“ولَمَّا رأى التِّنينُ أنَّه طُرِحَ إلى الأرضِ، اضْطَهَدَ المرأةَ الّتي وَلَدَتْ الابنَ الذّكَر، فأُعطِيَتِ المرأةُ جَناحَي النِّسرِ العَظيمِ لِكَي تَطيرَ إلى البريَّةِ إلى مَوضِعِها، حَيثُ تُعالُ زَمانًا وزَمانَين ونِصفَ زمانٍ، مِن وَجهِ الحيّةِ. فألقَتْ الحَيَّةُ مِن فَمِها وَراءَ المرأةِ ماءً كَنَهرٍ لِتَجعَلَها تُحمَلُ بالنَّهرِ. فأعانَتْ الأرضُ المرأةَ وفَتَحَتِ الأرضُ فَمَها وابْتَلَعَتِ النَّهرَ الّذي ألقاهُ التِّنينُ مِن فَمِه. فَغَضِبَ التِّنينُ على المرأةِ، وذَهَبَ لِيَصنَعَ حَربًا مَعَ باقي نَسلِها الّذين يَحفَظونَ وصايا الله، وعِندَهُم شهادةُ يسوعَ الـمَسيح”. 

عندما رأى التِّنين أنّه طُرِح إلى الأرض، أي حين أدرَك أنّه خَسِر كلَّ قوَّته إذ خَسِر الحرب مع الله، حاول الشِّرير التعويض عن تلك الخِسارة باضطهاده للكنيسة، أي اضطهاده للمؤمنِين. إنّ عبارة “الابن الذَّكَر” تُشير إلى الربِّ يسوع. إنَّ النِّسر يرمز إلى الحماية. عند عبورهم البحر الأحمر، قال الربُّ لِشَعبِه، إنّه عبَّرهم ذلك البحر على أجنحة النُّسور، وهذا يعني أنّه حماهم من خَطر البَحر، لأنَّ البَحر قد تحوَّل إلى أرضِ يابسةٍ، فلَم تُلامس أرجُلُ الشَّعب المياه، وبالتّالي فقَدَ البَحر كلَّ قُدرةٍ له على إهلاك الشَّعب اليهوديّ عند عُبورِهم فيه. إنَّ صُورَةَ البَريّة أو الصَّحراء هي مُهمَّة جدًّا، بِخَاصَّةٍ في العهد القديم. إنّ البَريّة ترمز إلى اللّاحياة، لأنّها مكانٌ لا طعامَ فيه ولا ماء، إذ لا يُوجَد فيه أيُّ مَعلَمٍ من معالِمِ الحياة. 

إنَّ الإنسان لا يستطيع الصُّمود في البَريّة إلّا إذا كانت لديه حمايةٌ من الربّ. إنّ مُشكلَة الربِّ مع شَعب اسرائيل تكمن في أنَّ الشَّعب أراد عبادة الآلهة الوثنيّة مع الإبقاء على عبادتهم لله، فكانوا يلجأون إلى الآلهة الوثنيّة في بعض الأحيان كإله الـمَطَر أو إله الخِصب، مُعتَقدِين أنَّ هذه الآلهة قادرة على حلِّ مشاكِلهم. لذا، أخَذَ الربُّ شَعبه إلى البَريّة، حيث اللَّاحياة، كي يتمكَّن الشَّعب مِن معرفة قيمة الله في حياته ويَفهم أنّ لا خلاص له إلّا بالله وَحده، فالآلهة الوثنيّة لها آذانٌ ولا تسمع، لها عيونٌ ولا تنظر، لها أفواه ولا تتكلَّم. 

بذلك، أراد الله دَفع الشَعب إلى التوقُّف عن القيام بمساوامات بينه وبين الآلهة الأخرى، لأنّ مِثل تلك المساوامات لا نَفعَ منها. وهذا الأمر قد شدَّد عليه أيضًا بولس الرَّسول في رسائله إلى المؤمنِين إذ قال لهم إنّه لا يَجوز لهم تقديم الذبيحة لله ثمّ الانصراف بعد ذلك إلى مشاركة الوثنيِّين ذبائحهم. وهنا نتذكَّر مشكلة آدم وحوّاء مع الحيّة، فهذه الأخيرة أقنعتهما بعُصيان كلام الله الّذي مَنعهما مِن تناول ثمرة شجرة معرفة الخير والشَرّ. إنَّ عبارة “معرفة الخير والشَّر” تعني إقامة علاقة في آنٍ معًا بين الخير والشَّر، وهذا يُسَّمى شِركًا، لأنَّ الإنسان في هذه الحالة يمزج بين العبادة الحقَّة للّه والعبادة الوثنيّة، خالقًا بِذلك عبادة جديدة، لن تَمنح الإنسان إلّا الموت. 

إذًا، السُّؤال المطروح علينا اليوم هو: ماذا سَيكون قرارنا عندما نتعرَّض للضِّيقات والشَّدائد؟ هل سنَخضع لعبادة إله الامبراطور ونترك الله، أم سنفضِّل الموت على كلِّ عبادة وثنيّة؟ هذا هو التحدِّي الّذي نواجهه في كلِّ يومٍ من حياتنا. فعلى سبيل المِثال: أمام هذا الوباء الّذي يجتاح العالَم، هل سنَخضَع للسُّلطات والحكومات والدُّول العالَميّة الّتي تَسعى إلى زرع الخوف فينا قَصدًا، من أجل حثِّنا على القبول بشروطها للتَّخلُّص من هذا الوباء، أم سنضَع ثِقتنا باللّه، مَرجعيّتنا الوحيدة، لأنّه الوحيد القادر على حمايتنا من كلِّ شرٍّ يُصِيبنا؟ هذا ما يُخبرنا به سِفر الرُّؤيا.

قد يتساءل البعض: هل ما نمرُّ به هو علامة على أنّنا أصبَحنا في زمن سِفر الرُّؤيا؟ إنّ ما يُخبرنا به سِفر الرُّؤيا نعيشه بِشَكل يوميّ في حياتنا. فَبِغضِّ النَظر عن الصُّعوبات الّتي نمرُّ بها في هذه الآونة الأخيرة، فإنّه حين نكون أيضًا في أفضل أحوالِنا، نتعرَّض للإضطهاد إذ قد يُطلَب إلينا في العَمل تقديم استقالِتنا من العَمل أو القبول بالسَّير في طُرقٍ معوَّجة كالغِشّ. وهنا تجد نفسَك من جديد أمام هذا التحدِّي: هل تقبَل بالبقاء دون عَملٍ عُرضَةً للجوع، أو تَقبل بالعمل بِطُرقٍ غير مستقيمة؟ إنّ سِفر الرُّؤيا هو حالةٌ يوميّة تعترض حياة الإنسان، لا حالة موسميّة. 

في هذه الآونة الأخيرة، سَمِعتُ البعض يقول: إنّ هذه الأيّام هي آخر الأزمنة، أي أنّ نهاية العالم قد أصبَحت وَشِيكة. إخوتي، لن يكون هناك مِن علامات تُنبِّئُنا بِنِهاية العالَم. لن يَكون هناك مِن علاماتٍ زمنيّة تُحضِّر لـمَجيئه: فَحِين يأتي الربّ، تَظهرُ في الوقت نفسه علاماتُ مَجيئه. فإذا رأينا علامات مجيء الرّبّ، مِن دون أن نراه آتيًا، تكون هذه العلامات مجرَّد علاماتٍ موسميّة، صغيرةً كانت أم كبيرة. إنّ تعرُّض المؤمِن للجوع أو الحرب بسبب فساد مسؤوليه، هي أمورٌ تَزرع فيه اليأس والإحباط، وتنزع منه كلّ أملٍ، فلا يجد له ملجأً إلّا الصُّراخ إلى الله قائلاً له:”إلهي، إلهي، لماذا ترَكتَني؟”. 

إنّ صَرختَك هذه تُعبِّر عن دُخولِك في زَمن سِفر الرُّؤيا، إذ تَجد نفسَك مُجبرًا على الاختيار ما بين تَرْك الله للحصول على احتياجاتك، وما بين الثبات في إيمانك ورَفض كلّ الاغراءات، متسلِّحًا بِصبر القدِّيسين، فَتَجتاز هذه المرحلة وأنت ثابتٌ في إخلاصِك للربّ. إنّ عبارة “زمنًا وزَمنَين ونصف الزَّمن” هو وقت الاضطهاد. في وقت الاضطهاد، يستمرُّ الربُّ في رعاية كنيسته. 

إنّ الحيّة تسعى إلى إغراق هذه المرأة، أي الكنيسة؛ بِمعنى آخَر، تريد هذه الحيّة إنهاء وجود المؤمِنِين، لأنَّ وجود المؤمِن هو مُعْدٍ. إنْ كان إيمان الإنسان بالربّ، إيمانًا واضحًا بالنِّسبة إليه، ومؤسَّسًا على الفَهم وعلى القداسة، فإنَّ وجود هذا المؤمن في مدينة غير مؤمنة قادرٌ أن يدفع كلّ المدينة إلى أن ترتدُّ إلى الإيمان الصَّحيح. وهذا هو خَطرُ المؤمِن على مملكة الشِّرير، لأنّ وجود إنسانٍ شرير في مدينةٍ غير قادرٍ أن يجعل مدينةً تبتعد عن الإيمان. 

إنَّ مؤمنًا واحدًا يستطيع أن يَخرُب مملكة الشَيطان، ولكنّ وُجودَ شريرٍ واحد لا يستطيع أن يَخرُب مملكة الله. في هذا الإصحاح، نجد أنّ الامبراطور المتمثِّل في التِّنين أعلن الحربَ على كلِّ “نسل المرأة”، أي على المؤمنِين بالربّ، أبناء الكنيسة، وهذه الحرب هي على المؤمِنِين في كلِّ زمانٍ وكلِّ مكانٍ. ونحن اليوم، من أبناء الكنيسة، يرعانا الله أينما حَلَلنا: هو يرعانا في بريّة هذا العالَم، وما علينا إلّا الصَّبر وَقت الشِّدة، كي نستحقَّ أن تكون أسماؤنا مكتوبة في سِفر الحياة، إنْ بَقينا ثابِتين على الإخلاص لشهادة الربّ، أي للإنجيل، والاستعداد للموت في سبيل كلمة الله. 

ملاحظة: دُوِّن الشرح بأمانةٍ من قبلنا.