في هذا النَّص، يُخبرنا الكاتب عن شاهِدَين، وقد أعطاهما صُوَرًا تدفع السّامِع إلى الاعتقاد بأنَّ هذين الشاهِدَين هما النَبيَّين موسى وإيليّا: فالنبيّ إيليّا هو الّذي صلّى إلى الله فانحبَست السَّماء، ثمّ صلَّى فَنَزِل المطر؛ والنبيّ موسى هو الّذي حوّل الماء إلى دَم، عندما ضَرب الصَّخرة. ولكن الغريب في كلام الكاتب عن هذين الشَّاهِدَين، هو أنّه قال عنهما إنّهما قُتِلا، والنبيّ موسى وكذلك النبيّ إيليّا لم يُقتَلا. هذا الأمر دَفعنا إلى البحث عن شاهِدَين آخَرين ماتا قتلاً، لذلك يرجِّح المفسِّرون أن يكون هذان الشّاهِدان اللّذان أخبرنا عنهما يوحنّا الرَّسول، كاتب سِفر الرُّؤيا، الرَّسولَين بطرس وبولس، 

فَهَذان الرَّسولان هما نبيِّان، بحسب مفهوم الكِتاب المقدَّس. إنّ النبيّ بحسب مفهوم الكِتاب المقدَّس، هو الّذي ينقل كلمة الله وإرادته إلى الآخَرين، الآن وهُنا. إنّ هَذَين الرَّسولَين ماتا قتلاً لأنَّهما بشَّرا بكلمة الله إذ أعلنا للشُّعوب مشيئة الله وإرادته، وقد استشهدا في عاصمة الامبراطوريّة الرُّومانيّة، روما، تلك “المدينة العظيمة الّتي تُدعى روحيًّا سَدوم ومِصر”. إنَّ سَدوم ومِصرَ هُما مدينتان عدوَّتان لله: فَفِي سَدوم لم يَجِد الله شَخصًا صالحًا، فيغفر الله بسببه لهذه المدينة الآثمة، أمّا مدينة “مِصر”، فَهِيَ صورةٌ عن فِرعون الّذي كان يَضطهِد شعب الله لأنّهم يريدون عبادة الله الحيّ.

ثُمّ تابع يوحنّا الرَّسول كلامه عن هذَين الشَاهِدَين النَبِيَّين، فقال فِيهما: “هَذَانِ هُما الزَّيتُونَتانِ والـمَنارَتَانِ القائمَتانِ أمامَ ربِّ الأرضِ. وإنْ كانَ أَحَدٌ يُريدُ أن يُؤذِيهُما، تَخرُجُ نارٌ مِن فَمِهما وتأكُلُ أعداءَهما. وإنْ كانَ أحدٌ يُريدُ أن يؤذِيَهما، فَهَكذا لا بُدَّ مِن أنّه يُقتَل.” إنّ اللّهيب الّذي يَخرُج مِن فَمِهما هو كلمة الله، وقد سمّاها بولس الرَّسول في رسائله:”سيف الرّوح”، لأنّ كلمة الله هي كالسَّيف تفصُل بين الحقّ والباطِل. 

وبالتّالي، فإنَّ السّاكِنِين على هذه الأرض الّذين لم يَقبلوا كلمة الله الّتي يبشِّر بها هذان الرَّسولان، سيكونون أعداءً لها. في الامبراطوريّة الرُّومانيّة، يَموت صَلبًا مَن يَخضَع للحُكم الرُّوماني، لأنّه يُعَدُّ بالنِّسبة إليها مِن العَبيد، أي مِن الخاضِعين للاستعمار، لذلك استُشهِد بطرس مصلوبًا، وقد رَفض أن يُصلَب كما صُلِب ربُّ الـمَجد، فطَلبَ أن يُصلب مقلوبًا رأسًا على عَقب، فكان له ما أراد؛ أمّا الصَّلب فهو ممنوعٌ على الّذين يَملِكون الجِنسيّة الرُّومانيّة، لذا استُشهد بولس الرَّسول بقَطع الرّأس. وقد مات هذان الرَّسولان في السَّنة نفسِها، ويُرجَّح أن تكون هذه السَّنة هي سنة 67 ميلاديّة. إنّ كلمة “شاهد” في اللُّغة اليونانيّة تعني أيضًا شَهيدًا.

ويتابع يوحنّا الرَّسول كلامه فَيُخبرنا أنَّ السَّماء قد فُتِحت لهذَين الشّهِيدَين عندما قُتلا، وقد صَعِدا إلى السّماء في سحابة. في هذا الإصحاح، نلاحظ أن الرَّسول يوحنّا قد لجأ إلى استخدام صُوَرٍ متعارَفٍ عليها في التّقليد الإنجيليّ؛ فالربُّ يسوع، كما يُخبرنا سِفر أعمال الرُّسل، قد صَعِد إلى السّماء في سحابةٍ. 

وبالتَّالي، أراد الكاتب أن يُشبِّه استشهاد الرَّسولَين باستشهاد الربِّ يسوع مُعلِّمهما، ليُخبرنا أنّهما نالا المصير نفسه: الموت على الأرض، والعرش في السّماء. ثمّ تابع يوحنّا الرَّسول كلامه، فسَعى إلى المشابهة بين موت هذَين الرَّسولَين بِمَوت الربِّ، فأخبرنا أنّه عند موت هذَين الشَّاهِدَين حَصَلَت زلزلةٌ عظيمةٌ، وقد مات عُشْرُ المدينة، في هذه الزَّلزلة، بِحسب يوحنّا الرَّسول في هذا الإصحاح، “وقُتِلَ بالزَّلزَلَةِ أسماءٌ مِنَ النَّاسِ: سَبَعَةُ آلافٍ. وصَارَ الباقُونَ في رَعبةٍ، وأَعْطَوا مَجْدًا لإلهِ السَّماءِ.” 

هذا المشهد، يُذكّرنا أيضًا بما حَدث على الصّليب، إذ بعد موت الربِّ، اعترف قائد المئة، هذا القائد الوثنيّ، بالربِّ يسوع إلهًا، في حين أنَّ أهلَ أورشليم قد رَفضوا الإيمان بالربّ، فَحَدَثتْ زلزلةٌ عَظيمةٌ في كلِّ أورشليم، ودُمِّرت. هذا هو الوَيلُ الّذي سيُصيب كلّ الّذين يرفضون الإيمان بكلمة الله.

“ثُمَّ أُعطِيتُ قَصَبَةً شِبهَ عَصًا، ووقَفَ الملاكُ قائلاً لي: قُمْ وقِسْ هيكلَ الله والـمَذبَحَ والسَّاجِدِينَ فيه”. حين يلجأ الإنسان إلى قِياسِ مساحةٍ معيّنة، فهذا يعني أنَّه يُحدِّد مجالَه، أي المساحة الّتي تخصُّه. من خلال كلام الملاك، يدعونا يوحنّا الرَّسول كي نكون من الموجودين في داخل الهيكل، أي مِن الثَّابتِين في إيماننا بالربّ، لأنّ مَن هو خارج الهيكل هو إنسانٌ قد خَرَجَ عن كنفِ الله، بمعنى آخَر قد رَفَضَ رَحمة الله وعنايته.

“وأَمَّا الدَّارُ الّتي هِيَ خارِجَ الهيكَلِ، فاطْرَحْها خَارجًا ولا تَقِسْها، لأنَّها قَدْ أُعطِيَتْ للاُمَمِ، وسَيَدوسُونَ الـمَدينةَ المقدَّسَةَ اثْنَينِ وأربَعينَ شَهرًا”. إنَّ الأشهر الاثنين والأربعين، تساوي ثلاث سِنين ونِصف السَّنة، والرَّقم ثلاث ونصف يعني نِصف الزَّمن لا الزَّمن بِكامِله. وبالتّالي، مِن خلال هذا الكلام، أراد الكاتب أن يُخبر المؤمنِين أنّ اليوم الأخير لم يأتِ بَعد، أي أنّه مَهما شاهَدوا مِن علامات تُشير إلى نهاية الأزمنة، لا تؤكِّد على حلول اليوم الأخير، إذ إنّ كلَّ الأرقام المستخدمة في هذا الإصحاح هي أصغر مِن الرَّقم سبعة الّذي يرمز إلى الكمال أو الـمِلء.

“وإنْ كانَ أحدٌ يُريدُ أن يؤذِيَهما، فَهَكذا لا بُدَّ مِن أنّه يُقتَل. هذانِ لَهُما السُّلطانُ أن يُغلِقا السَّماءَ حتّى لا تُمطِرَ مَطَرًا في أيّامِ نُبُوَّتِهِما، ولَهُما سُلطانٌ على الـمِياهِ أن يُحوِّلاها إلى دَمٍ، وأنْ يَضرِبا الأرضَ بِكُلِّ ضَربةٍ كُلَّما أرادا”. إنّ كاتب السِّفر يُسقِط صورةَ النبيّ موسى والنبيّ إيليّا على الرَّسولَين بطرس وبولس، إذ قال فِيهما:” هذانِ لَهُما السُّلطانُ أن يُغلِقا السَّماءَ حتّى لا تُمطِرَ مَطَرًا في أيّامِ نُبُوَّتِهِما”. إنّ هذا الكلام يُذكِّرنا بأنَّ الربَّ قد أعطى الرُّسل وبخاصَّة الرَّسول بُطرُس مفاتيح السّماء، قائلاً لهما: “مَا تحلانَه في السّماء يكون محلولاً في السّماء، وماتربطانه على الأرض، يكون مربوطًا في السّماء”(متى 18: 18). 

إنّ هذا السُّلطان الّذي أُعطِي للرُّسل لا يُشكِّل امتيازًا لهم إنّما مسؤوليّة أعطِيَت لهم وسَيُحاسَبون عليها في اليوم الأخير. ولكنّ بولس الرَّسول لم يكن مِن ضِمن الرُّسل الاثني عشَر، بل التَحق بهم بعد ظهور الربِّ له على طريق دِمشق، لذا كان أهل كورنثوس يعترضون على رسوليّته، أمّا هو فكان يُدافع عن رسوليّته، حتّى إنه تجرّأ على القول بأنّه في بعض الأحيان، فاق بعض الرُّسل رسوليّةً إذ أخبرَ أهل كورنثوس أنّه تعرَّض للضرب والخطر من أجل البشارة بكلمة المسيح مرّاتٍ عديدة (1 كور9). 

إنّ هذا السُّلطان الـمُعطى للرَّسول لا يمنحه الحقّ في التسلُّط على الآخَرين وإدانتهم، فالكلمة الّتي ينطق بها الرَّسول هي الّتي تُبكِّت الإنسان السَّامع لها وتَحثُّه على تصحيح مسارِه، ولكن هذا لا يعني أنّ الفَضلَ في ذَلِكَ يعود إلى الرّسول، فَهُو، أي الرَّسول، لا يشترِك في دينونة الآخَرين على أعمالِهم.

إنّ سِفر الرُّؤيا ليس سِفر التوقُّعات المستقبليّة، إنّما هو سِفر التَّنبؤات، بحسب مفهوم الكتاب المقدَّس لهذه الكلمة، فالنبيّ بحسب الكِتاب المقدَّس هو الّذي يَنقُل للآخَرين كلمة الله. إنّ سِفر الرؤيا قد كُتِب ووُجِّه إلى كلّ البشر: إلى المؤمنِين لحثِّهم على الثَّبات في إيمانهم بالربّ، هُم الّذين تعرَّضوا في أيّام كتابة هذا السِّفر إلى الاضطهادات؛ وإلى غير المؤمنِين لإخبارهم بمصيرهم إنْ لَم يتوبوا إلى الله. إنَّ الذي يؤمن بالربّ لا بُدَّ له مِن أن يدفَع ثمن إخلاصِه وأمانته للربّ، فيكونَ شاهدًا له في حياته، وقد تؤدِّي به شهادته إلى استشهاده، فيَجلس مع الله على العرش السّماويّ، لأنّه غلبَ الشَر كما غَلب الله.

إنَّ هذين النَبِيَّين قد تممَّا شَهادَتِهما لله، بموتهما؛ وفي هذا الإطار، نتذكَّر قول الربِّ على لسان القدِّيس لوقا في سِفر أعمال الرُّسل: “تكونون لي شُهودًا في أُورشليم، وكلّ اليهوديّة، والسّامرة حتّى أقاصي الأرض”(أعمال 1: 8). إنَّ “أقاصي الأرض” في أيّام الرُّسل، كانت روما. في التَّقليد الشَرقيّ، يُحتَفل بِعِيد الرَّسولَين بطرس وبولس في التّاسع والعِشرين مِن شهر حزيران. وفي هذه الفترة من السَّنة، تعيش الكنيسة الشَّرقيّة صَومًا، تُطلِق عليه اسم “صَوم الرُّسل”، ويبدأ يوم الاثنين الّذي يلي أحد العنصرة، وينتهي يوم عيد الرَّسولَين بطرس وبولس. مِن خلال هذا الصَّوم، أرادَتْ الكنيسة أن ترافق مسيرة هذَين الرَّسولَين التبشيريّة بعد حلول الرُّوح القدس عليهما: 

فالرّسول بطرس حلَّ عليه الرُّوح القدس في العليّة مع بقيّة الرُّسل، أمّا بولس الرَّسول فقد حلَّ عليه الرُّوح على طريق دِمشَق؛ وقد تكلَّلت مسيرة هذَين الرَّسولَين التبشيريّة بكلمة الله بالاستشهاد في سبيلها. إنّ عبارة “تمّما الشَّهادة”، لا تعني أبدًا أنَّ هذَين الرَّسولَين قد أنهيا البشارة بكلمة الربّ، بل تعني أنّهما استشهدا بسبب إخلاصِهما لهذه الكلمة الإلهيّة.

“مَتَى تَمَّما شَهادَتَهُما، فالوَحشُ الصَّاعِدُ من الهاويةِ سَيَصنَعُ مَعَهما حربًا ويَغلِبُهما ويَقتُلُهما”. بحسبِ الدِّراسات الكتابيّة، المقصود بالوحَشِ هنا، ليس الشَّيطان كما يعتقد الكثيرون، بل الامبراطور نَيرون الّذي كان حاكمًا لروما سنة 67م.، أي حين استشهد الرَّسولان بطرس وبولس. والرَّمز “666” الذي تكلَّمنا عليه في السّابق، هو رَمزٌ لاسم “نَيرون”. إذًا، ليس المقصود هنا بعبارة “الوَحش” الشَّيطان، لأنّ الشَّيطان يأتي متخفيًا لِيَغشَّ المؤمن، فيأتيه بصورة مسيحٍ، ولن يتمكَّن من اكتشاف حقيقته بأنّه مسيح دجّال إلّا المؤمِن الّذي انكَبَّ على معاشرة كلمة الله. 

في هذا الإطار، يقول لنا الربُّ يسوع على لسان يوحنّا الإنجيليّ إنّ الشَّيطان هو “كذّابٌ وأبو كلّ كَذّاب” (يو8: 44)، إذ يأتي الشَّيطان إلى المؤمِن بشكلٍ مسيحٍ دجّال، فيوقعُ المؤمنَ في الخطيئة من خلال اعتماده أساليب الإغراء والترهيب. يَعمد الشيطان إلى خَلقِ شعورٍ عند الإنسان بأنّه كان على حقّ عند ارتكابه الخطيئة، لذا يلجأ الإنسان إلى تبرير خطاياه، بدلاً من الاعتراف بها والتوبة عنها، وهنا تكمن خطورة الشَّيطان. 

إنّ عبارة “الشَّيطان” في اللُّغة العبريّة تعني الـمُدَّعي العام، وهذا هو دَور الشَّيطان، إذ يسعى إلى توجيه التُّهَم إلى المؤمن حين يقف هذا الأخير أمام العرش السّماويّ، في اليوم الأخير، محاولاً حثَّ القاضي، أي الله، على إصدار أقصى العقوبات بِحَقّ المتَّهم أي المؤمن. يُقدِّم لنا سِفر أيُّوب صورةً واضحةً عن دور الشَّيطان، إذ يُخبرنا الكاتِب عن تحدّي الشيطان لله في صَفيِّه أيّوب، إذ طَلبَ الشيطان إلى الله أن يسمح له بأن يُنزِل البلايا بأيُّوب، فيتراجع هذا الأخير عن إيمانه بالله، إذ بحسب الشَّيطان، أيُّوب يتقِّي الله لأنّه نال العطايا منه. فقَبِل الله هذا التحدِّي، وكان الشَّيطان هو الخاسِر الأكبر لأنّ أيُّوب بَقيَ متمسِّكًا بإيمانه رُغم كلِّ المصائب الّتي حلَّت به. 

إنّ الهدف مِن هذه القصَّة في سِفر أيّوب، هو الثَّبات في الإيمان بالله، رُغم كلّ الصُّعوبات. يدعونا سِفر الرُّؤيا إلى العودة إلى العهد القديم المذَّخَّر بأمثلةٍ حيّةٍ، تُشجِّعنا على الثَّبات في الإيمان بالله، وأيُّوب هو أحد هذه الأمثلة الحيّة؛ كما يُقدِّم لنا سِفر الرُّؤيا أمثلةً حيّة من العهد الجديد، عن الثَّبات في الإيمان، وأهمَّهما الرَّسولين بطرس وبولس اللّذان تمسَّكا بالشَّهادة لكلمة الله، إلى أنْ قادهما إخلاصهما لها إلى الاستشهاد. 

في هذا السِفر، يُخبرنا يوحنّا الرَّسول عن مَعرَكتَين يخوضُهما الله ضدَ الشَّيطان: المعركة الأولى يقودها الله من خلال المؤمن، فحين يثبت هذا الأخير في إيمانه، يكون الله قد انتصَر في هذه المعركة؛ أمّا المعركة الثّانية فيقودها الله شخصيًّا ضدَّ الشيطان، في اليوم الأخير ويربحها، إذ يقول لنا الكِتاب المقدَّس، بما معناه إنّ الله قد انتصَر على الشَّيطان وأباده، راميًا به في الأتُّون.

في هذا الإصحاح، يُقدِّم لنا الكاتب مشهدًا مُسبقًا لمعركة الله مع الشِّرير في اليوم الأخير، ويدعونا إلى الثَّبات في إيماننا بالله على الرُّغم من كلِّ الصُّعوبات، مُتَمثِّلِين بالرَّسولَين بطرس وبولس، “الشّاهِدَين النَبِيّين، والزيتونتين، والمنارتين”، بحسب تعبير يوحنّا الرّسول، في هذا الإصحاح، فيكونان لنا نماذِج حيّة نقتدي بها للوصول إلى الملكوت. بعد موت الرَّسولَين بطرس وبولس سنة 67م.، واجه الرُّسل في الكنيسة الأولى مشكلةً كبيرة تكمن في حثٍّ المؤمنِين على الثبات في البشارة الّتي قَبلاها مِن الرَّسولَين، خصوصًا بعد التأخُّر في تحقيق مجيئه الثَّاني، وازدياد الاضطهاد على المؤمنِين، 

لذا حاول الرُّسل تثبيت المؤمِنِين قائلِين لهم الحقيقة، وهي أنّ الربَّ سيأتي حتمًا ولكنْ في الوقت والزَّمان اللّذين يختارهما هو. ولضمان استمرار البشارة، خصوصًا بعد موت الرَّسولَين بطرس وبولس، اللّذين كانا مَصدَر قوّة ودَعمٍ للمؤمنِين للثّبات في إيمانهم، وَجد الرُّسل ضرورةً لكتابة الإنجيل، فكان إنجيل مرقس أوّل الأناجيل الّتي كُتِبَت وكان ذلك سنة 67م. إنّ سِفر الرؤيا قد كُتِب لا في أيّام الامبراطور نيرون، حين كان الاضطهاد للمسيحيِّين عشوائيًّا إنّما في أيّام الامبراطور دوميتيانوس، الّذي اعتمد اضطهادًا ممنهجًا عقائديًّا لِدَفع المؤمنِين إلى تركِ إيمانهم بالربّ، وكان هذا الاضطهاد أخطر من اضطهاد نيرون المزاجيّ.
في هذا السِّفر، أخبرنا يوحنّا الرّسول عن موت النَبيّين الشَّاهِدَين لكلمة الله، كما أخبرنا أنّ جثَّتيهما قد عُرِضت مدّة ثلاثة أيّام ونِصف، أي مدَّةً زمنيّة قصيرة، لا الزَّمن كلِّه، وهذا يعني أنّ الشِّدة مَهما طالَت لا بُدَّ لها مِن أن تنتهي، ولذلك “مَن يَصبُر إلى المنتهى يَخلُص”.

“ويَشْمَتُ بِهما السَّاكِنونَ على الأرضِ ويَتَهلَّلونَ، ويُرسِلونَ هدايا بَعضُهم لِبَعضٍ لأنَّ هَذَينِ النَّبِيَّين كانا قد عذَّبا السَّاكِنِينَ على الأرضِ. ثُمَّ بَعدَ الثَّلاثَةِ الأيّامِ والنِّصفِ، دَخَلَ فِيهِما رُوحُ حياةٍ مِنَ اللهِ، فَوَقَفا على أَرجُلِهما.” هذا ما قالته الأرواح الشِّريرة للربّ يسوع، عندما طَردها من الممسوس وشفاه منها: “أَجِئْتَ إلى هنا قَبْل الزَّمان لِتُعذِّبنا؟”(متى 8: 28) إنّ كلمة الله تُعذِّب كلَّ مَن كان تحت حُكم الشَّر، وكلَّ مَن اتَّخذ الشَّر نَهجًا له، فالشيطان هو رمزُ كُلِّ الشّرور. وبعد ثلاثة أيّام ونِصف اليوم، “دَخل فيهما رُوحَ حياةٍ من الله”، أي أنّهما أُقيما من الموت، فالاضطهاد يُعلِن انتهاء مرحلةٍ أرضيّة يعيشها المؤمِنون وبداية مرحلةٍ جديدة، هي حياة للمؤمنِين مع الله في السّماء.

“ووَقَعَ خَوفٌ عَظيمٌ على الّذينَ كانوا يَنظُرُونَهما. وسَمِعوا صَوتًا عَظيمًا مِن السَّماءِ قائلاً لَهُما: اصْعَدا إلى هَهُنا. فَصَعِدا إلى السَّماءِ في السَّحابَةِ، ونَظَرَهُما أعْدَاؤهُما.” إنّ الكاتب يستخدم العبارات نفسها الموجودة في التَّقليد الإنجيليّ عن يسوع، مِن وقت الصَّلب. إنّ الجائزة أو المكافأة الّتي أُعطيَت للشَّهيدَين هي الجلوس على العرش. ونحن اليوم، نستطيع أن نفَهَم هذا النَّص أكثر من ذِي قَبْل، لأنّنا نعاني من الشِّدة، ومِن مواجهتنا لمرضٍ فتّاك، ومِن تحدٍ كبيرٍ لإيماننا في ظلّ هذه الصُّعوبات الّتي نعيشها. ففي ظلّ هذه الظروف الصَّعبة، نجد ذواتنا أمام هذا التحدِّي: هل نَثبتُ في إيماننا بالربِّ ونبقى معه، أم نتركُه، ونحافظ على حياتنا الأرضيّة؟ 

وهنا يَطرَح مؤمِنون كثيرون السُّؤالَ على ذواتِهم: ما فائدة إيماننا إنْ لم يتدخَّل الله ليُخلِّصنا؟ بمعنى آخر: لماذا الربُّ يسوع، المخلِّص، لا يُخلِّص؟ هذا السُّؤال يعكِس عتَبَ الكثير من المؤمنِين على الله، ويُلخِّص الصِّراعَ الّذي يختبره المؤمنون الأبرار. في هذا الإطار، يدعونا كاتب هذا السِّفر إلى التحلِّي بِصَبر القدِّيسين في انتظار مجيء الربِّ الثّاني، لأنّه مهما تعاظمت الشِّدة فإنّه لا بُدَّ لها مِن أن تنتهي.

نحن اليوم، نواجه الصّعوبات في حياتنا اليوميّة، كما نستعدّ لمواجهة الطِّفل المولود، الإله الـمَلِك. نحن نواجِه حَدَثين متناقِضَين: الأوّل حدثٌ أرضيٍّ موجِعٌ، والثّاني حَدَثٌ سماويّ، إذ نستعدُّ لاستقبال الله الّذي نَزَل منِ عليائِه ليُفرِّحنا بخلاصِه لنا. وهنا يُطرَح السُّؤال علينا: نحن إلى أيِّةِ دَفَّةٍ نَميل: هل تساعدنا هذه الولادة الإلهيّة على امتلاك القوّة لمواجهة الشِّدة الأرضيّة الّتي تعترِض حياتنا، أم أنَّ الشِّدة الأرضيّة الّتي نواجهنا تمنعنا من الشُّعور بالفرح لولادة الله في أرضِنا؟

ملاحظة: دُوِّن الشرح بأمانةٍ من قِبَلنا.