في هذا الإصحاح، يِصفُ لنا يوحنّا الرَّسول، كاتب هذا السِّفر، مَشهدًا عَظيمًا يُجَسِّد ما سينتظرِنا نحن المؤمِنِين في الحياة الثانية، إذ ثَبُتْنا على إيماننا بالربِّ، وأخلَصْنا له. في الملكوت، جوقةٌ لا مثيلَ لها، وترانيم لا تُرتَّل إلّا لِشخصٍ قد سبَقنا إلى العرش السَّماويّ، وهو الحَمَل الـمَذبوح، ربُّنا يسوع المسيح. وبالتّالي، يُخبرنا هذا السِّفر أنّه لا بُدّ لِكُلِّ مؤمنٍ مَذبوحٍ من أجل الحَمَل المذبوح، مِن أن يكون معه على العرش في الملكوت.

يُقدِّم لنا هذا النَّص الكِتابيّ، تفاسير عن الصَّلوات والتَّرانيم الّتي سنَسمَعُها في الملكوت السَّماويّ. إنَّ البَخور يُعبِّر عن صلوات القدِّيسِين، لذلك نستخدمه في الذبيحة الإلهيّة وفي الصَّلوات الطَّقسيّة، فالدُّخان المتصاعِد من البخور يتَّجه عاموديًّا نحو العَلاء، أي نحو السَّاكن في السَّماوات. إنَّ استخدام البخور في الكنيسة، يترافق مع صلواتٍ، على سبيل الـمِثال: “لتُقم صلاتي كالبَخور أمامك”؛ ففي هذا المزمور، يسأل المؤمِنُ اللهَ أن يَقبَل صلاته وأن تكون صلاته مستقيمةً أمامه، كدُخان البخور المتصَاعد إليه. 

كذلك أيضًا، في الذبيحة الإلهيّة، يُبخِّر الكاهن المؤمِنِين كما يُبخِّر الأيقونات أو التماثيل المقدَّسة في الكنيسة: فالبَخور لا يُعبِّر فقط عن تكريمِنا وتمجيدنا للأيقونات، بل يُعبِّر عن كونِنا، نحن المؤمِنِين، قدِّيسِين في نَظَر الله أبينا، ولذلك، نرسم إشارة الصَّليب على جِباهِنا حانِين رؤوسِنا في أثناء التَّبخير. إنّنا نحني رؤوسَنا عندما يبخِّرنا الكاهن، تعبيرًا عن عدم استحقاقِنا لهذا التَّمجيد الـمُعطى لنا، لأنَّ المجد هو فقط لله، الآب والابن والرُّوح القدس. 

إذًا، البَخور هو عبارةٌ عن حِوارٍ بين المؤمن والله، لذلك نُردِّد بعد كلِّ صلاة عبارة “آمِين”، أو “يا ربُّ ارحَم”. إنَّ الحوار بين المؤمن والله في الكنيسة يُعبِّر عن مجالسة المؤمن لإخوتِه المؤمِنِين من جهةٍ، وعن مجالسته للجالِس على العَرش من جهةٍ أخرى. في القدَّاس الإلهيّ، يعيش المؤمن سِفر الرُّؤيا ويُجَسِّده: إذ يرى المؤمن في الذبيحة الإلهيّة وَعْد الله الّذي سيُعطى له في الملكوت السَّماويّ، لأنّه كان مُخلِصًا لله، لذا يتناول جسد المسيح ودَمِه، كعربون لهذا الوعد الإلهيّ. إذًا، في كلِّ ذبيحة إلهيّة نتذوَّق في المناولة شيئًا من الملكوت.

إنَّ سِفر الرُّؤيا ليس كتاب تنبوءات حول المستقبل بل هو كِتاب تعزيةٍ من الله لنا، إذ يساعدنا على الثّبات في إيماننا بالربّ في وَقت الـمِحَن، كي نتمكَّن من الوصول إلى الملكوت السَّماويّ في الآخِرة. من دون الربِّ، لا يستطيع المؤمن احتمال الشَّدائد الّتي سيتعرَّض لها في هذه الحياة، من عُزلة ومرض وموت، إذ ستقوده إلى حالةٍ من الإحباط واليأس. إنَّ الربَّ سيكون بانتظار وصول الـمُخلِصين له في هذه الحياة، إلى الملكوت، لأنّه قد أعدَّ لهم المائدة السماويّة. إنّ كلمة “سِفر” لا تعني كِتاب، بل هو دُرجٌ مكتوبٌ عليه من كلّ جهةٍ، من قدَّام ومن وراء، وبالتّالي لا مجال لزيادة أي حرفٍ عليه، لأنّه كامل. 

إنّ هذا السِّفر، بِحَسب القدِّيس يوحنّا، كاتبه، مختوم بسبعةِ أقفالٍ، وبالتّالي لا يستطيع الإنسان معرفة ما في داخله إلّا إذا فَكَّ هذه الختوم. إنّ يوحنّا الرَّسول قد سَمِع ملاكًا يطرح السُّؤال حول الشَّخص المستحِّق أن يفتَح هذا السِّفر، وقد استخدم لغة المفرد لا الجَمع، وبالتّالي لم يكن المقصود بصيغة المفرد جماعة المؤمِنِين بالربّ، بل المقصود هو الربُّ نفسه. لم يتجّرأ أحدٌ من المخلوقات لا الموجودة في السَّماء أو على الأرض، وحتّى تحت الأرض، على فَتحِ هذا السِّفر، لأنَّ المستحقَّ أن يفتَح هذا السِّفر يجب، كما يبدو، أن يتحلَّى ببعض الصِّفات الّتي لا يملكها إلّا الحَمل الـمَذبوح. 

إنّ يوحنّا الرَّسول قد شَعر بالإحباط لعدم وجود شخصٍ “مستَّحقٍّ” قادرٍ على فَتح هذا السِّفر، لذا بدأ يبكي. عندها، قَدِمَ إليه أحد الشَّيوخ وطَمّأنه إلى أنّ “الأسد الّذي من سِبط يهوذا، أصل داود” سيتمكَّن من فَتحِ السِّفر وفَكِّ ختومه، لأنّه قد غَلبَ. ويكلِّمنا الرَّسول يوحنّا في هذا الإصحاح، على وجود أربعة حيواناتٍ في الملكوت، هي رمزٌ للإنجيليِّين الأربَعة. كما يُكلِّمنا على وجود أربعة وعِشرين شَيخًا، والرَّقم أربعة وعِشرين هي ضُعف الرَّقم اثني عشر، الّذي يرمز إلى الشُّموليّة، وبالتّالي فالمقصود من الرَّقم أربعة وِعشرين هو كلّ الأُمَم الّتي أخلَصَتْ للمسيح، على الرُّغم من كلِّ الضِّيقات الّتي تعرَّضَتْ لها في هذه الحياة، فاستَّحقت أن تجلِس تحت العَرش في الملكوت السَّماويّ. 

ثمّ يُكلِّمنا يوحنّا الرَّسول على حملٍ مذبوح قائمٍ في وسَط الحيوانات الأربعة والشُّيوخ الأربعة والعِشرين، وهذا الحمل المذبوح القائم هو الربُّ يسوع، الّذي على الرُّغم من موته على الصَّليب، وبقاء علامات الصّلب ظاهرة على جسده، انتصر على الموت وقام من بين الأموات. 

في كلِّ ظهورٍ له لتلاميذه، كان الربُّ يسوع يُظهر علامات صَلبه لَهم، ليؤكِّد لهم أنّه ليس رُوحًا، وقد قال لهم في إحدى ظهوراته لهم: “إلمِسوني وانظُروا، فإنَّ الرُّوحَ ليسَ لَهُ لَحمٌ ولا عَظمَ كما تَرون لي”(لو 24: 39). قَبْل قيامته، كانت علامات الموت باديةٌ على الربِّ يسوع على الصَّليب وقد دَفعت بالنّاس إلى البكاء على حاله؛ أمَّا بعد القيامة، فعلامات الموت أصبحت بُرهانًا على قيامته من الموت، وبالتّالي، تحوَّلت علامات الصَّلب من علامات عار إلى علاماتِ انتصارٍ على الموت. إنّ العلامات الّتي تَظهر على جسد الإنسان في وقت الشِّدة كالمرض مثلاً، والّتي تدعوه إلى الخجل، تتحوَّل إلى علاماتِ فخرٍ واعتزارٍ له، بعد انتصاره على الشِّدة.

إنَّ الرَّوح القدس حاضرٌ مع الحَمل المذبوح، ممّا يشير إلى أنَّ هذا الحَمَل يتمتّع بروح الألوهة. إنّ الحَمَل المذبوح قد جَلَسَ على العرش، بعد أن نال العذاب في هذه الحياة، إذ عُرِّيَ من ثيابه وضُرب بالحَربة، وتعرَّض للسُّخرية، وهو الآن سَيَدِين العالم. عندما أخذ هذا الحَمَل المذبوح، السِّفر عن يَمين الله الآب، جثَت له كلّ الأُمم، وبدأت تُنشِد له ترانيم التَّعظيم، مُعترِفةً به أنّه هو “المستَحقّ” أن يفتَح هذا السِّفر. في الكنيسة الشَّرقيّة، عند رسامة كاهن أو أسقف أو شمّاس، يقول الأسقف عن طالب الدَّرجة الكَهنوتيّة إنَّه مستحقٌّ لهذه الخِدمة، فَيُردِّد الشَّعب خَلف الأُسقف إنّ طالب الدرجة الكهنوتيّة، هو مستحقٌّ لها. 

ولكن، في الحقيقة، ما مِن أحدٍ مستحقٌّ أن يخدم الله، غير أنَّه باستطاعَتـنا أن نكون مستَعدِّين لتلك الخِدمة. وبالتّالي، حين يقول الأسقف عن طالب الدَّرجة الكهنوتيّة إنّه مستحقٌّ، فهو يقصِد بذلك أنَّ هذا الإنسان أصبحَ على استعداد لِمقابلة وجه الله في اليوم الأخير، والدَّليل هو أنّه عند موت الكاهن، يتمّ إلباسه ثيابه الكهنوتيّة وسَترُ وَجهه بالسِّتر الّذي كان يضَعه الكاهن على القربان، وذلك تعبيرًا عن اعتراف الجماعة بأنّ هذا الكاهن قد أصبح القربان الـمُقدَّم لله، إذ أصبح على استعداد لِلُقيا وجه الله في الملكوت. إنّ الإنسان يُصبح مستَّحقًا لِخدمة الله، في نهاية حياته الأرضيّة أي بعد موته. 

إنَّ المستَّحقّ الوحيد أن يُعايِنَ وجه الله، هو الحَمَل المذبوح، ولذا هو مستحقٌّ أن يَفتح كلّ الأختام عن سِفر الحياة؛ وبالتّالي، الحَمَل المذبوح، أي الربُّ يسوع المسيح، هو الباب الّذي منه ندخل إلى الملكوت، فَمِن خلاله وحده نستطيع رؤية الله الآب الجالس على العَرش، على الرُّغم من ضُعفِنا البشريّ. إنَّ الربَّ لا يطلب إلى المؤمن إلّا عيش الأمانة له، على الرُّغم من الصُّعوبات الّتي يتعرَّض لها في هذه الحياة، فيتمكَّن الربُّ من الاستراحة في قلب هذا المؤمنِ، إذ لا يملك الله مكانًا يستريح فيه إلّا في القلوب الطّاهرة، أي في قلوب القدِّيسِين. لذا، فالمطلوب من المؤمنِين العمل على تنقية قلوبهم كي تُصبح أهلاً لسُكنى الله فيها.

إنَّ الربَّ يسوع قد اشترانا لله الآب، بِدَمِه. إنَّ فِعل “اشترى” في اللُّغة اليونانيّة هو “أَغورازومِه”، وهو مشتَّقٌ من عبارة “أَغورا” الّتي تعني ساحة المدينة أو القرية الّتي يتمّ فيها بَيْعَ العبيد، إضافةً إلى ممارسة الأعمال التِّجاريّة فيها. في هذه السَّاحة، كان ينتقل العبد من عبوديّة إلى عبوديّة أخرى، نتيجة أعمال البَيْع والشَّراء، فيتغيَّر سيِّده. إنّ العبد يتحرَّر من عبادته للسَّيِّد الأوّل الّذي كان يعمل عنده، ليُصبِح عبدًا للسَّيد الجديد الّذي اشتراه، وبالتّالي لا يستطيع العَبدُ في هذه الحالة معرِفة طَعم الحريّة. 

إنَّ الإنسان الحُرّ هو الّذي وُلِد حُرًّا، لا يخضع لسَّيِّدٍ؛ أمّا الإنسان الـمُحرَّر فهو إنسانٌ وُلِدَ عبدًا ولكن سيِّده أعطاه الحُريّة. إنّ الربَّ يسوع قد حرَّرنا من العبوديّة للخطيئة عبر خضوعنا للأُمَم، فاشترانا بِدَمه؛ ولكنّ عِوضَ أن يجعلنا عبيدًا له، حرَّرنا حتّى من ذاته، فأعطانا الـحُريّة في محبّته والعيش معه، أو رِفضه والعيش بَعيدًا عنه. إنّ الربَّ يسوع قد اشترانا بِدَمه، بسبب حبِّه، وحرَّرنا من كلّ سيادة، حتّى من سيادته علينا. والدَّليل، أنَّ الربَّ يسوع في كلامه مع تلاميذه، قال لهم: “لا أدعوكم خَدَمًا بعد اليوم، لأنّ الخادم لا يعلم ما يعمل سيِّده. فقد دَعوتكم أحبّائي لأنّي أطلَعتُكم على كلِّ ما سمعْتُه من أبي”(يو15: 15). 

إذًا، لقد جعلنا الربُّ يسوع مُساوين له، أبناءً لله الآب، على مِثاله. وفي الإطار نفسه، يقول لنا بولس الرَّسول:”لقد اشتُريتُم بثمن، فمجِّدوا الله بأجسادكم وأرواحِكم”(1كور6: 20). إذًا، الـمُحرَّر يحفظ على الدَّوام جَمِيل الّذي حرَّره من العبوديّة، فيجعل منه مَرجعًا له. عندما يشتري الإنسان العَبدَ، فهو لا يُعامله كسيَّد بل كعَبدٍ، مهما كان السَّيِّدُ صالِحًا. بعد أن اشترانا بِدَمه، حرَّرنا الربُّ من كلِّ عبوديّة، وجعلنا أبناءً لله، الذّي تبنّانا، وجعلنا شرُكاء الربِّ يسوع، ابنه الوحيد، في الميراث، ألا وهو الملكوت السَّماويّ. 

إنَّ الله قد جعلنا وَرَثةً له، أي شُركاءَ له في الألوهة. إنّ كلمة “وريث”، تشير إلى هذا الإنسان الّذي يملك كامل الحقَّ في التصرُّف بالممتلكات الموروثة؛ وفي هذا الإطار، ينتظر الله منّا أن نُحسِن التصرُّف بممتلكاته، لا أن نتصرَّف بها كما تصرَّف الابن الشَّاطر بممتلكات أبيه. إنَّ الابن الشَّاطر قد طالب أباه بحصَّته من الميراث، فأخذها وذهَب للعيش بعيدًا عن أبيه. لقد أخطأ الابن الشَّاطر في التصرُّف بِحِصَّته من الميراث، إذ بدَّدها كلَّها، ممّا أدَّى إلى شعوره بالجوع. 

وبعد أن فَقَد حصَّته من الميراث، وشعر بالجوع، قرَّر الابن الشَّاطر العودة إلى أبيه طالبًا إليه أن يُعامله كأحد أُجرائه. ولكن عند رؤيته ابنه عائدًا، شعر الأب بالفرح، فأسرَع إليه وقبَّله على عُنقه، قُبلَة الأب لابنه؛ وألبَسَه الـحُلَّة الأولى، أي حُلَّة الوريث؛ وألبَسَه الخاتم، فأصبح قادرًا على الخَتمِ باسم أبيه؛ وألبَسَه الحذاء علامةً على عودته سيِّدًا إلى هذا المنزل لا عبدًا فيه؛ وأقام له وليمةً، ذابحًا له العِجل المسمَّن. غريبٌ هو هذا الأب الّذي فرِح بعودة ابنه، الّذي كان يعيش حياة طيشٍ لا تُرضي أباه، عِوَض مُعاقبته. مِن هنا، نتعلَّم أنّه علينا تغيير نظرتنا إلى الله، فلا ننظر إليه بعد الآن على أنَّه قاضٍ وديّانٌ عادلٌ، فنخاف من حُكمِه؛ بل ننظر إليه على أنَّه أبٌ حنونٌ، مُحبٌّ لأبنائه.

غريبٌ هو الإنسان الّذي يسأل الله، عند كلّ مُصيبةٍ تَحلُّ به، عن سبب وقوعه فيها، مُعَدِّدًا لله أعماله التَّقويّة الصَّالحة. إنَّ التعزيات الإلهيّة هي ثمرة وعي الإنسان لحُبِّ الله، والقداسة هي ثمرةُ فَهْمِ الإنسان لِـحُبِّ الله. إنّ فَهمَنا لِـحُبّ الله لا يجعلنا معصومِين عن الخَطيئة، فطبيعتنا البشريّة تبقى ضعيفة، ولكنَّ فَهْمَنا لـحُبِّ الله يجعلنا نسارِع إلى الوقوف من جديد بعد وقوعنا في الخطيئة، متَّخِذين القرار بالعودة إلى الله مُجدَّدًا والعيش بالقُرب منه. 

إنَّ الشُّهداء الّذين يتكلَّم عليهم سِفر الرُّؤيا، هم مؤمِنِون فضَّلوا الثَّبات على إيمانهم بالربِّ تعبيرًا عن إخلاصِهم له، إذ اكتشفوا عظمة حبِّه لهم، وأدرَكوا أنَّ الله إلى جانبهم وهو لن يَتركَهم وَحدهم. إنَّ مصائب الإنسان سببها تَرك الإنسان لأخيه الإنسان، لا تَرك الله للإنسان: فالله لا يترك أبناءه يُصارعون وَحدهم في الشِّدة، أمّا البشر فَيتركون إخوتهم في الصُّعوبات حين يَعزلونهم عنهم ويكرهونهم، ويتعرَّضون لهم بالأذيّة ويحسدونهم، وبخاصَّة يَحسِدون أولئك الّذين يقومون بأعمال صالحة تجاه الآخَرين. 

غالبًا ما ينال الإنسان الأذيّة لا من عَدُّوه، بل من أقربائه. إنَّ المؤمن المتروك من البشر يُسارع إلى الارتماء بين أحضان الله، حين يُدرِك أنَّ الله يُحبُّه، وخصوصًا حين يتعرَّض هذا الإنسان للمَرض أو الموت. إنّ الله لا يستسلم، على عكس الإنسان الّذي يستسلم عند أوّل صعوبة تواجهه: فالله يحاول جاهدًا ومرّاتٍ كَثيرةٍ، إقناع الإنسان بأنَّه يُحبُّه، أمّا الإنسان، فعند أوَّل مُصيبة تعترِضه ينسى حُبَّ الله له. إنَّ الإنسان توَّاقٌ إلى التصرُّف كعبدٍ في علاقته مع الله، على الرُّغم من إعلان الله له أنَّه تَبنّاه وجعله ابنًا له. وعندما يقرِّر الإنسان العودة إلى الله بعد وقوعه في الخطيئة، يُسارِع الله إلى التَّعامل معه كابنٍ لا كَعبدٍ. إنَّ حُبَّ الله للبشر، جعله يتصرَّف بِسَذاجةٍ معهم، إذ يُصدِّق توبتهم، على الرُّغم من عِلمه أنَّهم سيقعون في الخطيئة من جديد، 

عند أوّل فرصةٍ. إنَّ محبَّة الله لنا “تَستُر جَمًّا مِنَ الخطايا”. إنَّ الله يعرف رغبة الإنسان في العودة إليه، عند تلاوته بعض الصَّلوات، ولكنّ في الوقت نفسه يُدرِك خفايا قلبه وأهوائه، لذا لا يتردَّد الله عن مسامَحته داعيًا إيّاه للدُّخول من جديد إلى “فرحِ سيِّده”.
إنَّ البشر لا يغفرون لبعضهم البعض كما يغفر الله لنا زلّاتنا، إذ إنَّ الغفران عند البشر لمرَّات عديدة متكرِّرة تُسمَّى غباوة. إنَّ الربَّ طلب إلى بطرس، عند سؤاله له عن عدد المرّات الّتي عليه مسامحة أخيه المخطئ إليه، أن يسامح أخاه سَبعِين مرَّة سبع مرّات في اليوم، أي أربعمئة وتسعين مرّة في اليوم الواحد. وبما أنَّ الربَّ طلب إلينا مسامحة الآخَرين، فإنَّه يُعطينا الـمَثل في تصرّفه معنا، إذ لا يتردَّد عن مسامحته لنا، غير المحدودة.
إنَّ الربَّ يسوع قد اشترانا بِدَمِه لله، وجعلنا ملوكًا، لذلك هو يستحقُّ أن نهلِّل له ويستحقَّ أن يكون الوحيد الّذي يستطيع فَكَّ الـخُتوم. إنَّ عبارة “رَبَوات رَبَوات وأُلوفَ ألوفٍ”، تشير إلى العدد الكبير للمخلوقات الموجودة في الملكوت. إنَّ الرَّسول يوحنَّا، يستخدم في هذا السِّفر عبارة “الخروف المذبوح”، لأنّه يتوجَّه في كلامه إلى أشخاصٍ عُرضةً للاستشهاد في كلّ يومٍ، فيُذكِّرهم أنَّ الربَّ قد سبَق واستشهد قَبْلَهم، وبالتّالي لا داعي لخوفهم من الاستشهاد على مِثاله. ثمّ يتابع يوحنّا الرَّسول حديثه، فيقول لنا إنَّ الحَمَل المذبوح مستَّحقٌّ “أن يأخذ القُدرة والغنى والحكمة والقُوَّة والكرامة والمجد والبَرَكة!”، وهذه عَدَدُها سبعة، وهو رقم يرمز إلى كمال الكمال. 

إنَّ كلَّ خليقةٍ ترتِّل للابن، التَّرنيمة الّتي رتَّلتها سابقًا لله الآب: “للخروف البَرَكة والكرامةُ والمجد والسُلطان إلى أبدِ الآبِدين”. إنَّ الحيوانات الأربعة ترمز إلى الإنجيليِّين الأربعة، وهي تَختُم وتُصدِّق على ما تُرتِّله خلائق السَّماء قائلةً: “آمين”، أي “حقًّا حقًّا”. إنَّ الحيّ قد يكون الآب أو الابن، ولكنْ بما أنّهما كِليهما على العرش، فالحيّ يشير إلى الآب والابن. إنّ الإنسان المؤمن الّذي تمَّ اعتقاله لمحاكمته أمام الامبراطور تمهيدًا لاستشهاده، لا يخاف من الموت، متى أدرَك حُبّ الله له، ووَعْد الله له بالملكوت. آمين.

ملاحظة: دوِّن الشرح بأمانةٍ من قِبَلِنا.