في هذا الإصحاح من سِفر الرّؤيا، رموزٌ وإشاراتٌ غالبًا ما يقرأها بعض المؤمنِين على أنّها تنبوءات حول نهاية العالم. إنَّ بعض المؤمنِين ينظرون إلى كِتاب سِفر الرُّؤيا على أنّه كِتاب تنبوءات وهذه النبوءات تتحقَّق في عَصرِهم؛ ولكنَّ الحالَ أنَّ لِكلِّ عصرٍ مشاكله وتَعَبه واضطهاداته وتعزياته. غالبًا ما يقرأ المؤمن الكتاب المقدَّس انطلاقًا من وَضعه الخاصّ، غير أنَّ تلك القراءة لَيْسَت بالقراءة العِلميّة، إذ على المؤمن قراءة الكتاب المقدَّس انطلاقًا من وَضعِ الكتاب المقدَّس التَّاريخيّ، فيسعى إلى اكتشاف فائدة هذا الكِتاب لِوَضعِه الخاصّ. 

عندما يتكلَّم الربُّ على وَضعٍ خاصٍّ في الإنجيل، ويجد المؤمن نَفْسَه مَعْنِيًّا بِه، يتحوَّل كلام الربِّ إلى كلام تعزية له يشدِّده على مواجهة وَضعِه بإيمان. تَتغيَّر وجوه البشر عبر العصور، إلّا أنَّ الحالات الّتي يمرُّ بها الإنسان تبقى متشابهة، ولذا فإنّ كلمة الله الّتي كانت صالحة للأقدَمِين لا تزال صالحةً لعالَمِنا اليوم، وستبقى صالحة للأجيال القادمة.

في كلِّ عصرٍ، خيرٌ وشَرٌّ واضطهاد، إذ إنَّ كلمة الحقِّ لا جماهير لها. إنَّ جماهير أصحاب الحقّ قلائل، وبالتّالي حين يبدأ عدد جماهير كلمة الحقّ بالتَّعاظم، فهذا يدلّ على أنَّ الإنسان الّذي يُعلِن كلمة الحقِّ بدأ بالمساومة على كلمة الحقّ؛ إذ إنَّ صاحبَ الحقِّ يبقى وحيدًا حتّى وإنْ كانت قد رافقته بعض الجماهير الضَّئيلة. إنَّ الربَّ يسوع وكذلك الرُسل هم خيرُ مِثالٍ لنا على ذلك: فالربُّ يسوع كان وحيدًا على الصَّليب إذ لم يبقَ معه من تلاميذه إلّا يوحنّا الحبيب؛ والرُّسل أيضًا في مسيرتهم التَّبشيريّة، عانوا من تلك الوِحدة، بدليل أنَّ بولس الرَّسول- الّذي كان من أعظم الرُّسل، إذ لُقِّب بـ”رسول الأمم”، وبِفَضله وَصَلَتْ البشارة إلينا- لم يبقَ معه إلى النِّهاية في مسيرته التَّبشيريّة سوى تِلميذَين من تلاميذه، هما تيموتاوس وبرنابا. 

في الكنيسة، إنَّ أعداء صاحب الحقّ، هُم للأسف، أبناءُ الكنيسة أنفسهم. وإليكم مِثالٌ على ذلك هو القدِّيس يوحنّا الذّهبيّ الفَم، الّذي كان بطريرك القسطنطينيّة. إنَّ هذا القدِّيس الّذي كَتَب القُدَّاس الإلهيّ، والّذي شكَّلت عِظاته تفسيرًا كاملاً للكِتاب المقدَّس، قد شُوِّهت سُمعته من قِبَل أبناء الكنيسة أنفسهم، إذ اتَّهموه بأنَّه ينقاد إلى شهوة الجسد، لأنّه يستحمُّ يوميًّا ويتناول العسل، غير أنَّ الحقيقة تكمن في أنّه كان يتناول العسل لأسبابٍ صِحيَّة، فنُفِيَ على إثر هذا التَّشويه للسُّمعة مِن قِبَل السُّلطة المدنيّة المدعومة من أبناء الكنيسة. 

إنَّ القدِّيس يوحنّا الذّهبيّ الفَم قد لُقِّب بـ”بولس الرَّسول الثّاني”، لأنَّ أفكاره كانت منسجمة مع نهج بولس الفِكريّ، فكانت كلمته كالسَّيف القاطع، فاستحقَّ أن يكون من أعظم آباء الكنيسة وهو أحد الأقمار الثَّلاثة في الكنيسة. إنَّ التَّاريخ يشهد على نَفِي العديد من أبناء الكنيسة بسبب حَملِهم لواء الحقّ، ولذلك يمكننا القول إنّ “الواحد الوحيد هو عاشق الحقّ”.

إنَّ سِفر الرُّؤيا ينطبق على كلّ مؤمنٍ مُخلِصٍ وشاهِدٍ أمينٍ لِكَلمة الحقّ. ليسَ كلُّ مَن ينال الاضطهاد، هو حاملٌ للواء الحقّ، فبعض المؤمنِين يُضطَهَدون بسبب أعمالهم المسيئة إلى الآخَرين. في هذا السِّفر، يُخبرنا الإنجيليّ يوحنّا عن حالة الوَحدة والغُربة الّتي يشعر بها المؤمن عند دفاعه عن الحقّ. في كلّ الطوائف المسيحيّة، تقوم الحالة الرُّهبانيّة لا على تَركِ الرّاهب للعالم من أجل اتِّباع المسيح والاتِّحاد به من خلال الصّلاة مع كافّة المؤمنِين، بل تقوم على تخلِّي العالم عن الرَّاهب لِدفاعه عن كلمة الله الحقَّة، فلا يَجِد له مَلجأً إلّا يسوع المسيح، فيَرتمي بين يَديه، لِعِلمه أنّه المخلِّص الوَحيد له. 

إنَّ الإنسان يشعر بالحَسرة والحزن حين يتخلَّى عن العالم، ولكنَّه يشعر بالمرارة حين يشعر بأنّه متروك من العالم. في العهد القديم، أدرَك الله أنّ الشَّعب اليهوديّ لن يتمكَّن من معرفة قيمته في حياته إلّا عندما يكتشف أنَّ الآلهة الأخرى هي آلهةٌ مزيَّفة، لذا ترَك هؤلاء يذهبون إلى آبارٍ مشقَّقة فَعَطِشوا لأنَّها آبارٌ فارغة، فتابوا وعادوا إلى الله حين أدرَكوا أنَّ إلههم هو ينبوع الماء الحيّ، وهو الوحيد القادر على إرواء ظَمَئِهم. في العهد القديم، سَمَحَ الله لِشَعبِه بالذَّهاب إلى الصّحراء، الّتي ترمز إلى اللّاحياة إذ لا طعام فيها ولا ماء، وفيها يكون الإنسانُ معرَّضًا للموت في كلّ آنٍ. في مكان الموت هذا، أي في الصَّحراء، يُدرِك المؤمن أنّ لا حياة له من دون الله، فيُدرِك قيمة الله في حياته، ويعود إليه تائبًا، ساعيًا إلى عدم الابتعاد عنه مجددًّا. إنَّ “الزِّنى المقدَّس” هو تَركُ المؤمن للهِ من أجل اتِّباع آلهةٍ أخرى مزيَّفة.

إنَّ سِفر الرُّؤيا مُوَجَّهٌ إلى كلِّ مؤمنٍ يتعرَّض للاضطهاد، إذ يقف هذا الأخير أمام الامبراطور، للاختيار ما بين نُكران إيمانه بالربِّ يسوع واعترافه بالامبراطور إلهًا له، وما بين الثَّبات في إيمانه بالربِّ. أمام هذا التحدِّي الكبير، يدعونا سِفر الرُّؤيا إلى الثَّبات في إيماننا بالربَّ حتّى ولو كلَّفنا ذلك خسارة حياتنا الأرضيّة، ورَفضِ الخضوع لآلهةٍ أخرى حتّى وإنْ وُهِبنا كُلِّ الخيرات الأرضيّة مِن مَلبسٍ ومأكلٍ ومَورِد رِزقٍ. إنّ المأكل والمشرب الأرضِيَّين يؤمِنِّان لنا الحياة على هذه الأرض، أمّا ما يعرِضه علينا يوحنّا الرَّسول في سِفر الرُّؤيا فيؤمِّن لنا الحياة الأخرى، أي الحياة الأبديّة، ولكنّه لا يملك بُرهانًا على ذلك إلّا كلام “الشَّاهد الأمين”، أي كلام “الربِّ يسوع” معه، الّذي أكَّد للرَّسول وجود تلك الحياة الأخرى. 

إنَّ الإنسان الّذي يُصدِّق كلام الربِّ، هو إنسانٌ مؤمنٌ بالربّ، وبالتَّالي لا يجوز له المساومة على إيمانه، عبر الخضوع للإمبراطور في النَّهار للمحافظة على حياته الأرضيّة؛ والعودة إلى الله في المساء، رافِعًا الصَّلوات إليه طالبًا إليه مسامَحته على مَزجِه بين العِبادات. وهنا يُطرَح السُّؤال: ماذا لو مات الإنسان قَبْل تقدُّمِه مِن سرّ التَّوبة؟ في هذه الحالة، يكون الإنسان قد خَسِر نفسه من جهةٍ، والحياة الأبديّة من جهةٍ أخرى. 

إنَّ ربَّنا قاضٍ عادلٌ ورَحومٌ وحَنونٌ، بدليل أنّه يسعى إلى إيجاد أسباب تخفيفيّة لِما ارتَكبناه من أخطاء، ليتمكّن من مسامَحتِنا، وغفران زلّاتنا. إنَّ الربَّ لا يفرضِ مسامحته على البشر، فهو يسامِح مَن يطلب إليه المسامحة؛ ولكنَّه لا يُسامِح مَن رَفض وجود الله في حياته، واختار العيش بعيدًا عنه. إنَّ الإنسان الّذي يرفض وجود الله في حياته ويختار العيش بعيدًا عنه على الرُّغم من عِلمِه أنّه المخلِّص، يُجدِّف على الرُّوح القدس.

إنَّ سِفر الرُّؤيا لا يدعو المؤمِنِين إلى الخوف من الله القاضي العادل، بل يدعوهم إلى الثَّبات في إيمانهم وقت الشِّدة، إذ يُقدِّم لهم تَعزيةً عندما يُذكِّرهم بعمل الله الخلاصيّ ووعوده لِشعبه. إنَّ سِفر الرُّؤيا يَعرِض على المؤمِنِين صورةً عن الملكوت السَّماويّ الّذي سيناله كلُّ شهيدٍ في سبيل إيمانه، وكلُّ شاهدٍ للحقِّ أي لإيمانه بالربِّ يسوع؛ فاضطهاد المؤمِنِين لا يكون فقط بالقتل الجسديّ، إنّما قد يكون بالقتل المعنويّ والنفسيّ كعَزلِه مِن قِبَل الآخَرين أو طردِه من عَملِه، أو غيرها مِنَ الطُرُق. 

في سِفر الرُّؤيا، إنَّ الرَّقم “ستُّ مئةٍ وسِتُّ وستِّون” الموضوع على خَتمِ الامبراطور، يشير إلى “نَيرون” الامبراطور، أوَّل الـمُضطَهِدين للمسيحيِّين، في القرون الأولى لوجودهم، كما كان يُرمز إلى هذا الإمبراظور باستخدام صُوَرٍ أخرى، كالتِّنين والوَحش. في عهد الامبراطور “نَيرون”، تعرَّض المسيحيّون للاضطهاد، غير أنَّ ذلك الاضطهاد لم يكن مُمَنهجًا، على عكس اضطهاد الامبراطور دوميتيانوس، الّذي عَمَد إلى نَفي مُعلِّمي الكنيسة ليتمكَّن من حثِّ الشَّعب على نُكرانِ إيمانهم بالربِّ يسوع، وعلى سبيل الـمِثال لا الحَصر: فقد نُفِيَ في عَهده يُوحنّا الرَّسول إلى جزيرة بَطمس، حيث كَتَب هذا الأخير سِفر الرُّؤيا. 

في حضور الرُّسل، لم تكن هناك حاجةٌ إلى كتابة الإنجيل، لأنّهم كانوا الإنجيل الحيّ المتنقِّل؛ أمَّا بعد استشهادهم، فكان من الضرُّوريّ كتابة الإنجيل للمحافظة على كلمة الله، من كلِّ تشويه، فلا يؤدِّي موت الرُّسل الّذين كانوا يبشِّرون المؤمِنِين بالخلاص، إلى زعزعة إيمان هؤلاء، بل تبقى كلمة الله سببًا لتَعزيَتهم ولِحثِّهم على المثابرة في الثَّبات في إيمانهم على الرُّغم من كلّ الضِّيقات الّتي يتعرَّضون لها. 

إنَّ أمانة الكثيرين لكلمة الله واستشهادهم في سبيل المحافظة عليها، ساهم في وصول البشارة إلينا. في القديم، لم يكن من السَّهل تَناقُل كلمة الله المكتوبة، إذ لم يكن هناك وَفرةٌ في النُّسخ المكتوبة، أي الإنجيل، لذا تمَّ الاعتماد أكثر على اللِّقاءات الكنسيّة بين المؤمِنِين لسماع كلمة الله، وللحصول على كلمةِ تعزيةٍ من الآخَرين، للثَّبات في الإيمان، على الرُّغم من الصُّعوبات والـمِحَن الّتي كانت تواجه المؤمِنِين. أمّا اليوم، فعلى الرُّغم مِن توافر الكُتُب، إلّا أنّنا نلاحظ عَطَشًا عند المؤمِنِين لأنّهم لا يقرأون كلمة الله، الوحيدة القادرة على مَنحِهم التعزية في وقت الضِّيق؛ فَمَن يعيش في النُّور لا تستطيع الظُّلمة أن تُدرِكه.

إنَّ ما نعيشه في لبنان هو عبارةٌ عن أزمةٍ أُخرَوِيّة، نابعةٍ من رغبة بعض البشر في السَّيطرة على إخوتهم ومُعاملَتِهم كعبيدٍ لهم، وبذلك يُشابِهون الامبراطور “نَيرون”. إنّ المؤمن لا يستطيع أن يتغلَّب على هذه الأزمة إلّا بالصَّبر، والصَّلاة، أي بالتعلُّق بكلمة الله. إنَّ الاضطهاد، مهما طال لا بُدَّ له من أن ينتهي، إذ إنَّه ليس أبديًّا، والاضطهاد هو جزءٌ من الزَّمن، لا الزَّمن بأكمَلِه. إنَّ سِفر الرُّؤيا يُكلِّمنا على الزَّمن الأخير الّذي لا نهاية له، والّذي سنعيشه مع الربِّ إنْ كُنَّا ثابتِين في كلمة الله. بَعدَ أنْ أرسل يوحنّا الرَّسول رسائله إلى الكنائس السَّبع في آسيا، ها هو ينطلق في هذا الإصحاح ليُخبرنا عن الملكوت السَّماويّ الّذي فيه سنُعاين الله الجالِس على العرش.

في سِفر الرُّؤيا، ينقل إلينا يوحنّا الرَّسول ما أراه إيّاه الله عن نهاية زمن الاضطهاد، ومصير الّذين يثبتون في إيمانهم بالربّ. إنّ السِّفر هو عبارة لا عن دُرجٍ ملفوفٍ ومختوم بسبعة أختام، وبالتّالي لا يستطيع المؤمن معرفة ما هو موجود داخل السِّفر إلّا بعد فَتحِه. وحين يُفتَح السِّفر، تكون النِّهاية قد حلَّت وأصبح المؤمن في الملكوت السَّماويّ حيث سيُعاين الله الجالِس على العرش. بكلامٍ أوضَح، لا يمكن للمؤمن معرفة حقيقة الآخَرة إلّا بعد حلولها. 

إنّ علامات الآخرة لا تأتي على مراحل، بل تأتي مُجتَمِعةً، للدَّلالة على مجيء المسيح. إنّ الآخِرة تأتي في أَوجُهٍ ثلاثِ: أوّلاً، حين يموت الإنسان، وبما أنَّه لا يعرف ساعة موته، فإنّه لا يستطيع معرفة ساعة حلول الآخِرة؛ وثانيًا، حين تَفنى المدينة الّتي يعيش فيها الإنسان، وهذه أيضًا لا يستطيع معرفة ساعة حلولها، لأنّه حين تفنى مدينتُك فإنَّ الآخِرة قد أتت بالنِّسبة إليك، حتّى لو بَقيِ العالم بأسْرِه موجودًا؛ ثالثًا وأخيرًا، حين يَدخُل العالم كُلُّه في الآخرة. سُئِل مَرّةً أحدُ الرُّهبان: ماذا تفعل إذا عَلِمْتَ أنَّ الآخِرة آتية؟ أجاب الرَّاهِب: أُتابِعُ عَمَلي لأنَّه لا يُمكنني أنْ أغيِّر شيئًا في حياتي بما أنَّ الآخِرة قد حلَّت.

إنَّ سِفر الرُّؤيا هو كِتابٌ لِتَربية المؤمنِين وحثِّهم على التَّوبة والثّبات في إيمانهم بالربِّ يسوع. إنَّ الوقت الأخير لا يُشير إلى وقتٍ زمنيّ، إنّما إلى وقتٍ إيقونوغرافيٍّ. فإذا نظَرتَ إلى أيقونة معيّنة، فإنَّك تراها دُفعةً واحدة، لا بحسب توقيت أحداثها الزَّمنيّة. إنَّ التَّوقيت الزَّمني، يُستَخدم لِشرح الأيقونة أي للحديث عن شخصيّاتها وعن الأحداث الّتي تُشير إليها. إنَّ سِفر الرُّؤيا هو أيقونة، نراها كاملةً لا على دُفعاتٍ؛ ولذا حين أراد الرَّسول نَقلَها إلينا، فكان لا بُدَّ له من استخدام التوقيت الزَّمنيّ، لإيصال الرِّسالة إلينا. 

إذًا، حين يُكلِّمنا الرَّسول على أخبار حروب وأوبئة ومجاعات فهذا لا يعني أنّها ستَحدُث بحسب التَّسلسُل الزَّمني، قَبْلَ وصولِنا إلى الآخِرة، بل تعني أنَّ ظهور تلك العلامات، تؤشِّر عن وصول المسيح. وإليكم مثالاً توضيحيًّا، حين نرى مرافِقي الأسقف مُسرِعين إلى السكرستِّيا وبأيديهم ثياب الأسقف الكهنوتيّة، فهذا يؤشِّر إلى وصول الأسقف، وما هي إلّا لحظات، حتّى تبدأ الذبيحة الإلهيّة برئاسة الأسقف. إنّ حدوث العلامات لا تشير إلى اقتراب مجيء المسيح، وبالتّالي عدم مجيئه ليس دليلاً على تأخّرُه، فالمسيح هو سيِّد الوقت. 

إنّ الزَّمن لا يدلّ على حضور يسوع المسيح، بل إنَّ حضور المسيح هو الّذي يدلّ على انتهاء الزَّمن. إذًا، لا فرق زمنيًّا بين حدوث علامات المجيء ومجيء الربّ، وبالتّالي لا فرق زمنيًّا بَينَهما ليتمكَّن المؤمن من تهيئة نفسه بالتَّوبة لاستقبال المسيح. إنَّ الربَّ آتٍ ليَمسَح كلّ دَمعةٍ من عيونِ أبنائه الثَّابتِين على كلمته. للأسف، نلاحظ أنّ شَعبنا اليوم يترَّقب بدِّقة، إشاراتٍ أرضيّة تبشِّر بانتهاء زمن الصِّعوبات الّتي يُعاني منها، لذا نراه يُصغي إلى أقوال المنَجِّمين والعرَّافين، علَّها تبعثُ في قلبه التَّفاؤل بِغَدٍ أفضل. إنَّ كلمة الله صادقةٌ وجِدِّية، لذا لا تقبل بأن يساوم المؤمن عليها بكلام المنجِّمِين والعرَّافين. إنَّ كلمة الله لا تقبل بِخلطِ المؤمن عبادته لله بعبادته لآلهةٍ أُخرى غريبة، إذ إنَّ ذلك المزيج في العبادات سيُضعِف من قوَّة المؤمن على مواجهة الاضطهاد، إذ سيُسارِع إلى تَركِ الإله الحقيقيّ ليَتبَع آلهةً وثنيّة.

إنَّ سِفر الرُّؤيا يُعالج مسألة إخلاص المؤمن وثباته في الإيمان في وقت الشِّدة، أو عدم ثباته وعدم إخلاصه لله في هذا الوقت عينِه. إنَّ مشكلة المؤمن تكمن في قراءته للكتاب المقدَّس على أنَّه سِلسِلَةُ طَلباتٍ يريدها الله منه، وهو، أي المؤمن عاجزٌ عن تحقيقها، لذا يعيش في حالةٍ من الكآبة والإحباط بسبب تقصيره وارتكابِه للخطايا في عيش مشيئة الله. إخوتي، إنَّ الإنجيل يدعونا إلى عدم الاجتهاد الشَّخصيّ للحصول على الخلاص، بل يدعونا إلى القبول بالمجهود الّذي قام به الربُّ على الصَّليب من أجل خلاصِنا. 

إنَّ قبولنا لهذا الخلاص يفترِض جِدِّية في عيش إيماننا المسيحيّ. إنَّ العلاقات البشريّة لا يُمكنها أن تستمرّ عند غياب الجِدِّية، أكان في العمل أو في علاقات الصَّداقة مع الآخَرين، أو في العلاقة بين الأحبّة أو بين الأهل وبَنِيهم، أو بين الكاهن ورعيّته. إنّ غياب الجِدّية في العلاقات البشريّة تقود إلى قلَّة الاحترام. إنَّ قلّة الاحترام هي قَتلٌ بالفِكر عن سابقِ تَصوُّر وتصميم للآخَر، إذ إنَّ الاستهتار بالآخَر هو نوعٌ من أنواع القَتل الفِكريّ له. 

وفي هذا الإطار، يقول لنا الربُّ يسوع: “سَمعتم أنَّه قيل للأوَّلِين: “لا تَقتُل، فإنَّ مَن يقتل يستوجب حُكم القَضاء.” أمّا أنا فأقول لكم: مَن غَضِبَ على أخيه استوجَب حُكمَ القضاء، ومَن قال لَأخيه: “يا أحمَق”، استَوجَب حُكمَ الـمَجلِس، ومن قال له: “يا جاهِل” استوجَب حُكمَ جَهَنَّم”(متّى 5: 21-22). إنّ مناداة الآخَر بكلمة “يا” من دون إلحاقها باسمِه، يُسبِّب له ألـمًا وجرحًا عميقًا، كما أنَّه يعبِّر عن رغبة الإنسان في إلغاء الآخر وعدم الاعتراف بوجوده. كذلك، قد نستخدم عبارةً تدلُّ على الاحترام في الظّاهر، للتَّعبير عن عدم احترامِنا للآخَر، والاستهزاء به واحتقاره. 

إنَّ المشكلة عند المسيحيِّين تكمن في عدم اعتمادهم الجِدِّية في عيشهم لتعاليم الربّ. قال الربُّ يسوع لبطرس:”أتُحبُّني؟”، فأجابه بطرس:”أنت تعلم أنِّي أُحبُّكَ”، فسَّلمه الربُّ رعاية الخِراف بالقول:”إرعَ خرافي”، وهذا لا يعني أنَّ الربَّ ألقى مَهمَّة التَّبشير على بطرس، بل تعني أنَّ الربَّ سلَّم ممتلكاته لبطرس طالبًا إليه حمايتها. 

إنَّ الربَّ قد سأل هذا السُّؤال ثلاث مرّات:”أتحبَّني؟”، للّذي أنَكره ثلاث مرّات، فكان الربُّ يمحو في كلِّ مرَّة خطيئة بطرس القائمة على نكرانه ثلاث مرّات. هذا هو سِفر الرُّؤيا: كان بُطرس مؤمِنًا بالربِّ حين أنكره، ولكنَّه فَعل ذلك بسبب خوفه من خسارة حياته الأرضيّة. في وقت الشِّدة، يستطيع الإنسان الهرب من عقاب النَّاس له بإنكاره المسيح، ولكنَّه أي الإنسان لا يستطيع الهرب مِنَ الوقوف أمام الربِّ في اليوم الأخير. إنّ عقابَ الربِّ يسوع لبطرس على نكرانه له، كانْ غريبًا إذ عاقبه بتسليمه رعاية القطيع؛ وبهذا العقاب خالفَ الله المنطق البشريّ القائم على معاقبة المخطئ تجاهنا، باسترجاع كلّ ما كان قد قُمنا بِتَسليمه له.

لا نستطيع أن نفهم سِفر الرُّؤيا إلّا إذا كُنّا مطَّلِعِين على العهد القديم: فعلى سبيل الـمِثال، إنَّ عبارة “صِرتُ في الرُّوح” هي عبارة استُعمِلت في سِفر حزقيال عندما طَلب الربُّ إلى النبيّ التنبُّوء لجماعةٍ موجودةٍ في مكانٍ بعيد عن مكان وجوده. إنَّ كلمة “رِيح” أو “رُوح” تُشير إلى سُرعةٍ في نَقل البشارة، ولا شيءَ أسرَع من الكلمة لِنَقل الرِّسالة. 

إنّ كلمةَ الحقّ سريعةٌ في الانتقال، ولكنّها تبقى أقلّ سُرعةً من انتشار كلمة الباطل، بدليل انتشار خبرٍ يؤدِّي إلى تشويه سُمعةٍ أحدهم بطريقةٍ أسرع من انتشار خَبرٍ مفرحٍ يتعلَّق بالشَّخص نفسه. إنّ كلمة الحقّ لا جمهور لها، فَمن اتَّبعَ الحقّ عانقَ الصَّليب. إنَّ عبارة “جالس” تشير إلى الـمَلِك فهو مَن يجلس على العرش. إنّ “حجر اليَشْب والعقيق”، هو مِن أفخر الجواهر. إنّ عبارة “قوس قُزح” تُشير إلى الهالة التّي توضع حول رأس القدِّيس. إنّ الثِّيابَ البِيض والأكاليل الذَّهبيّة تُشير إلى أنّ هؤلاء الشُّيوخ أصبحوا ملوكاً في الملكوت. إنَّ الثِّياب البِيض تُذكِّرنا بالملاك الّذي كان يرتدي ثيابًا بِيضًا عند القبر مُبشِّرًا بقيامة المسيح. 

إنَّ الثِّياب البِيض ترمز إلى القداسة والطَّهارة والنّور، إذ إنَّ المعمَّدين أيضًا كانوا يرتدون ثيابًا بِيضًا بعد حصولهم على سرّ المعموديّة. إنَّ الشَّيوخ الأربعة والعشرين يُقسَمون إلى قِسمين: اثني عشر شيخًا يرمزون إلى أسباط العهد القديم، ألا وهُم أسباط اسرائيل؛ واثني عشر شيخًا يرمزون إلى أسباط العهد الجديد ألا وَهُم الرُّسل. إنّ الرَّقم “اثني عشر” يرمز إلى الشُّموليّة، وبالتّالي الأربعة والعشرين شيخًا يُشيرون إلى أنَّ كلّ الّذين اتَّبعوا الكلمة الإلهيّة، في العهد القديم وفي العهد الجديد، قد سَبَقونا إلى الملكوت، وهُم الآن يجلسون بالقرب من الربَّ الملك، في عُرسِ الملكوت. 

تُشكِّل هذه الصَّورة تشجيعًا للمؤمِنِين على الثَّبات في إيمانهم وعلى المثابرة في اتِّباعهم للكلمة الإلهيّة كي ينالوا نصيب هؤلاء الشُّيوخ الأربعة والعشرين، ويكونوا مِن أبناء الملكوت. إنَّ عبارة “بروق ورعودٌ وأصوات”، تُشير إلى الحضور الإلهيّ، وقد كانت هذه العبارات تُشير إلى حضور الله في العهد القديم. إنّ عبارة “سبعة مصابيح متوقِّدة”، وفي ترجمات أخرى “سبعة أرواح الله”، تُشير إلى الرُّوح القدس. إنّ الرَّقم “سبعة” يُشير إلى الكمال، وسبعة أرواح الله، تُشير إلى كمال أرواح الله، أي الرُّوح القدس، أي الرُّوح الإلهيّ. 

إنَّ عبارة “شِبه البَلُّور” تشير إلى الصَّفاء وعدم وجود زغلٍ. إنّ عبارة “حيواناتٍ مملوءة عيونًا من قدَّام ومن وراء”، تُشير إلى أنَّ هؤلاء يستطيعون رؤية كلَّ شيء. وهذه العبارة مأخوذة من سِفر حزقيال النبيّ، حين يُكلِّمنا النبيّ على رؤيته لِعَربةٍ تقودها أربعة حيواناتٍ، كلُّ حيوانٍ من جهةٍ، ويسير كلّ واحدٍ منها في جهةٍ مختلفة عن الآخر. إنّ الجِهات الأربع، تشير إلى جِهَّات الكون الأربع، فكلمة الله صالحة لكلِّ البشر في كلِّ الكون، وهي ستَصِل إلى الكون كلِّه. إذًا، إنَّ المقصود بعبارة” أربعة حيواناتٍ مملوءة عيونًا من قدَّام ومن وراء”، هو أنَّ الربَّ الإله يستطيع رؤيةكلَّ إنسانٍ في هذا الكون، فيُدرِك ما إذا كان مُخلِصًا له أو لا في حياته الأرضيّة، فإذا كان مُخلِصًا دعاه للسَّكن معه في العرش السَّماويّ عند انتقاله من هذا العالم.

إنَّ سِفر الرُّؤيا هو سِفرٌ يعتمد على الفِكر الاستعاريّ، إذ تكثُر فيه الرُّموز. إنَّ هذه الحيوانات الأربع، ترمز في الكنيسة الأولى إلى الإنجيليِّين الأربعة. إنّ الإنجيليّ مرقس، يبدأ إنجيله بالكلام عن يوحنّا المعمدان الّذي كان صوتًا صارخًا في البريّة، ولذا يُرمز إلى القدِّيس مرقس بالحيوان شِبه الأسد. إنّ لوقا الإنجيليّ يتكلّم في إنجيله على يسوع المسيح الّذي هو الحمل المذبوح فداءً عن البشر، وهو الذبيحة المقدَّمة عن البشر، لذا يُرمز إلى الإنجيليّ لوقا بالحيوان شِبه عِجل. 

أمّا الحيوان الّذي له وَجهُ شِبه إنسان، فهو متّى إذ تكلَّم على يسوع المسيح ابن الإنسان. وأخيرًا يوحنّا الإنجيليّ الّذي يرمز إلى الحيوان شِبه نَسرٍ طائرٍ، إذ يبدأ إنجيله بالكلام على يسوع الإله: “في البدء كان الكلمة، والكلمة كانت عند الله”، فيوحنّا كان مُحلِّقًا في اللّاهوت. إنّ “الأجنحة السِّتة” تُذكِّرنا بسِفر إشعيا النبيّ (الإصحاح السَّادس) الّذي فيه أخبرنا النبيّ عن الشاروبيم والكاروبيم، السُّداسيِّ الأجنحة الّذين كانوا بِإثنين منها يطيرون، وبِإثنَين منها يحجبون عيونهم، وبِإثنين يحجبون أرجلهم، احترامًا للإله الحيّ الحاضر، وكان هؤلاء يَصرخون قائلِين: “قدّوس، قدَّوس، قدَّوس”. إنّ الامتلاء من العيون ترمز إلى الرُّؤية الكاملة. 

إنّ عبارة “الّذي كان في البدء” تعني الله الآب الجالس على العرش كما تعني أيضًا الربَّ يسوع الموجود أيضًا منذ الأزل؛ وعبارة “الكائن” تعني يَهوَه، أي الربَّ، و”الذي سيأتي”، تشير إلى المسيح ومجيئه الثّاني. إنّ كلّ هذه الصِّفات الإلهيّة تُشير إلى المسيح، وفيها تعزيَتنا. إنّ المسيح الّذي تجسَّد ومات وصُلب، وقام هو المسيح الآتي. وبالتّالي، لا داعي أن يخاف المؤمن مِنَ الّذين سيعتقلونه ويضطهدونه ويقتلونه. إنَّ الأكاليل الّتي ينالها المؤمنِون نتيجة شهادتهم للمسيح لا قيمة لها أمام إكليل الربّ. 

إنَّ الله الآب والابن جالِسَين على العرش وبجوارهما الأرواح السّبعة أي الرُّوح القدس. في الملكوت سنكون في حضرة الثّالوث، وسنجثو له، متى ثَبُتنا على إخلاصِنا للربّ في وقت التَّرهيب والتَّرغيب. إنَّ سِفر الرُّؤيا لا يُشير إلى نهاية الزَّمان، إذ لا أحدَ يعرف متى تكون النِّهاية إلّا الله وَحده. إنَّ النِّهاية لن تأتي ما دام الخَتم السَّابع موجودًا على هذا السِّفر.

إنّ الرِّسالة من هذا الإصحاح وهذا السِّفر، الّتي يريد الرَّسول إخبارنا بها، هي إنّه عندما نتعرَّض لصعوباتٍ أو تحدٍّ يدفعنا إلى الاختيار ما بين الثّبات في إيماننا بالربِّ أو نُكرانه، للمحافظة على حياتنا، علينا الثَّبات في إيماننا، حتّى لو كلَّفنا ذلك خسارة حياتنا. إنَّ سِفر الرُّؤيا هو حالة رؤيويّة يعيشها المؤمن. لذلك، لا تخافوا مهما كَبُرت المصيبة.

ملاحظة: دوِّن الشرح بأمانةٍ مِن قِبَلِنا.