في هذا الإصحاح، يُقدِّم لنا كاتب هذا السِّفر صورةً عن الآخِرة، أي عن اليوم الأخير، تُعطي تعزية لجميع المؤمنِين الّذين هُم تَحت الشِّدة.
“ثُمَّ نَظَرْتُ وَإِذَا خَرُوفٌ وَاقِفٌ عَلَى جَبَلِ صِهْيَوْنَ، وَمَعَهُ مِئَةٌ وَأَرْبَعَةٌ وَأَرْبَعُونَ أَلْفًا، لَهُمُ اسْمُ أَبِيهِ مَكْتُوبًا عَلَى جِبَاهِهِمْ”: 

إنّ الخروف الواقف على جبل صهيون هو المسيح يسوع. إنَّ الرَّقم “مِئةٌ وأربعةٌ واربعون ألفًا” قد خَضَع لِتَفسيراتٍ كثيرة، فَعَمدت على سبيل الـمِثال جماعة “شهود يهوه”، إلى إيهام المؤمنِين بأنَّ عدد الـمُخلَّصين هو محدودٌ بهذا الرَّقم فقط وأنَّ المخلَّصين سَيَكونون مِن أتباع هذه الجماعة. إخوتي، إنَّ الأرقام في الكِتاب المقدَّس لها رموز: فالرَّقم اثني عشر يرمز إلى الشموليّة، والرَّقم عشرة يرمز إلى عددٍ لا مَحدود، وبالتّالي الرَّقم مئة وأربعةٍ وأربعون ألفًا، يساوي 12x12x10x1010x وهذا يعني عددٌ لا مَحدود. 

إنَّ كاتب هذا السَّفر يُشير إلى أنَّ هؤلاء “لَهم اسمَ أبيه مكتوبًا على جباههم”، أي أنّهم ينتمون إلى البيئة اليهوديّة، الّتي يُخبرنا الكِتاب المقدَّس أنَّها تتألَّف من اثني عَشَر سِبطًا. إنَّ الـمُخلَّصين هُم المؤمِنون الّذين تحلَّوا بالصَّبر على الشَّدائد فثَبَتوا في إخلاصِهم للربّ، ولم يرتَّدوا ولَم يَخضعوا لعبادة الوَحش ولا للتِّنين ولا لآلِهته، أي العبادات الوثنيّة. إنّ عبارة “الخروف الـمَذبوح” تشير إلى الربِّ يسوع الذي ذُبِح على الصَّليب، وما استعمال الكاتب لهذه العِبارة إلّا لِتذكير المؤمنِين بِعمل الله الفِدائي للبَشر بموته على الصَّليب. 

إذًا، حين يبقى المؤمن أمينًا لشهادته للربّ، حتّى لو قاده ذلك إلى الموت قَتلاً، فإنّ نَصيبه من دون شكٍّ سيكون الوقوف إلى جانب الخروف المَذبوح في الملكوت، وهذا ما يَبعث في قلبه التَّعزية والرَّجاء والفرح إذ إنَّ الربَّ سيحقِّق وَعده. في هذا الإصحاح، يقوم كاتب السِّفر بمقارنةٍ بين الّذين تَبعوا الوَحش وعلى جباههم سِمة الوَحش، بالّذين أَخلَصوا لإيمانهم بالربِّ يسوع وعلى جباههم مكتوبٌ اسم أبيه “يهوه”.

“وَسَمِعْتُ صَوْتًا مِنَ السَّمَاءِ كَصَوْتِ مِيَاهٍ كَثِيرَةٍ وَكَصَوْتِ رَعْدٍ عَظِيمٍ. وَسَمِعْتُ صَوْتًا كَصَوْتِ ضَارِبِينَ بِالْقِيثَارَةِ يَضْرِبُونَ بِقِيثَارَاتِهِمْ، وَهُمْ يَتَرَنَّمُونَ كَتَرْنِيمَةٍ جَدِيدَةٍ أَمَامَ الْعَرْشِ وَأَمَامَ الأَرْبَعَةِ الْحَيَوَانَاتِ وَالشُّيُوخِ”: 

عندما يَضرُب الإنسان على آلةٍ موسيقيّة، فهذا يشير إلى إنشاده ترنيمةَ فرحٍ، ترنيمة تسبيحٍ وتَمجيدٍ للإله الحقّ؛ وهذه التَّرنيمة الجديدة هي ترنيمة الانتصار على الـمُضطَهِدين، أي على الامبراطور الّذي يشير إلى العبادات الوَثنيّة. إنّ الحيوانات الأربع والشّيوخ قد تكلَّمنا عليهم سابقًا في الإصحاحات الماضية.

“وَلَمْ يَسْتَطِعْ أَحَدٌ أَنْ يَتَعَلَّمَ التَّرْنِيمَةَ إِلّا المِئَةُ وَالأَرْبَعَةُ وَالأَرْبَعُونَ أَلْفًا الَّذِينَ اشْتُرُوا مِنَ الأَرْضِ. هؤُلاَءِ هُمُ الَّذِينَ لَمْ يَتَنَجَّسُوا مَعَ النِّسَاءِ لأَنَّهُمْ أَطْهَارٌ. هؤُلاَءِ هُمُ الَّذِينَ يَتْبَعُونَ الْخَرُوفَ حَيْثُمَا ذَهَبَ. هؤُلاَءِ اشْتُرُوا مِنْ بَيْنِ النَّاسِ بَاكُورَةً للهِ وَلِلْخَرُوفِ. وَفِي أَفْوَاهِهِمْ لَمْ يُوجَدْ غِشٌّ، لأَنَّهُمْ بِلاَ عَيْبٍ قُدَّامَ عَرْشِ اللهِ”: 

لقد استَعمل كاتب هذا السِّفر الفِعل “اشتُروا” في صيغة المَجهول، للدّلالة على أنَّ الفاعل هو الله. في رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس، يستخدم بولس الرَّسول الفِعل نَفسه وفي الصِّيغة نفسها، فَيقول:”لقد اشتُريتم بِثَمنٍ فَمجدُّوا الله في أجسادكم وأرواحكم” (1 كور 6: 20). إنّ الفِعل “اشترى” في اليونانيّة هو “أغورازو”، وهو مُشتَّقٌ مِن كلمة يونانيّة هي “أغورا”، وهي تعني ساحة المدينة الّتي فيها تتمّ أعمال البيع والشِّراء، ومِن ضمن هذه الأعمال بَيع العبيد وشِرائهم، فَينتقل العَبدُ من خِدمة سيِّد إلى خِدمةِ سيِّدٍ آخَر، من دون أن يَحصل على حريّته. وبالتّالي، 

ما أراد بولس الرَّسول قوله لأهل كورنثوس هو أنَّ الله قد اشترانا نحن الخاضِعين للعبوديّة بسبب خطايانا، بِدَمِه الذي سُفِك على الصَّليب، فأصبَحنا مُلكَه؛ غير أنّ الربَّ لم يُردِ استِعبادِنا من جديد، لذا أعطانا الحريّة الكامِلة، ولم يَعُد باستِطاعة أحدٍ استِعبادِنا من جديد. من خلال هذا الكلام، أراد كاتب سِفر الرُّؤيا تَعزية المؤمنِين وحثِّهم على الصَّبر على شدائدهم. إنَّ الباكورة هي طليعة الموسم في كلّ ثمرٍ مِن الثّمار. إنّ الله قد اشترانا بِدَم ابنه على الصَّليب، فأصبحنا باكورة المُخلَّصين، إذ ثَبتَنا في إيماننا بالربّ وإخلاصِنا له حتّى الشَّهادة والاستشهاد. منذ بداية سِفر الرُّؤيا، نلاحظ الوَحدة الموجودة بين الله الآب والابن. 

إنَّ الغِشّ هنا يعني نُكران المؤمن لإيمانه باللّه الحيّ عند مواجهته للاضطهاد، ثمّ عودته إلى الله بعد انتهاء الاضطهاد؛ أي بمعَنى آخَر، نُكران المؤمن للحقيقة في وقت الشِّدَّة والقبول بها في وقت الرَّاحة: هذه هي إحدى أكبر التَّجارب الشَّيطانيّة الّتي قد يتعرَّض لها المؤمن. في صلاة الأبانا، نتضرَّع إلى الله قائِلِين: “لا تُدخِلنا في تجربة”، أي أنّنا نطلب مِن الله عدم السَّماح للشَّيطان بإيقاعِنا في تجاربه، لأنَّ ذلك سَيَدفَعنا إلى الوقوف أمام الله في اليوم الأخير كَمُتَّهَمين لا كأبناءٍ له، إذ قد تَرَكْنا الله. إنَّ المؤمِنِين الـمُخلِصين للربّ سَيَقفون أمامه من دون عيب، أي بلا غِشّ لأنّهم لم يتركوا الله في وقت الاضطهاد. 

في الكنيسة الأرثوذكسيّة، تَتمّ تلاوة صلاة السَّجدة في أحد العنصرة، الّتي فيها يتضرَّع المؤمن إلى الله قائلاً:”يا ربّ لا تَرُدَّني إلى الأرض، قَبْل أن تَرُدَّني إليك”، أي أنّه على المؤمن الثَّبات في إيمانه، كي لا يُفاجِئه الموت على غفلةٍ، فيَخجل حينها من الوقوف أمام الربّ. من خلال هذا الكلام، يركِّزُ كاتب هذا السِّفر على موضوع إنكار المؤمن لإيمانه، بسبب الخوف أو الرَّشوة، أي بسبب التَّرهيب والتَّرغيب. إنّ وجود سمِة الوَحش على جباه المؤمِنِين تُشير إلى خُضوع هؤلاء للامبراطور ولإله الوثني، وبالتّالي قبولهم بحماية الامبراطور. إنّ السُّؤال الّذي يحاول سِفر الرُّؤيا الإجابة عنه، هو: كيف يستطيع المؤمن المحافظة على إيمانه بالمسيح حين يكون تحت سلطة الامبراطور؟ والجواب هو، من خلال تَحلِّيه بِصَبر القدِّيسِين، وقد يقوده هذا إلى دَفع حياته ثمنًا لإخلاصِه للربّ.

“ثُمَّ رَأَيْتُ مَلاَكًا آخَرَ طَائِرًا فِي وَسَطِ السَّمَاءِ مَعَهُ بِشَارَةٌ أَبَدِيَّةٌ، لِيُبَشِّرَ السَّاكِنِينَ عَلَى الأَرْضِ وَكُلَّ أُمَّةٍ وَقَبِيلَةٍ وَلِسَانٍ وَشَعْبٍ، قَائِلًا بِصَوْتٍ عَظِيمٍ: «خَافُوا اللهَ وَأَعْطُوهُ مَجْدًا، لأَنَّهُ قَدْ جَاءَتْ سَاعَةُ دَيْنُونَتِهِ، وَاسْجُدُوا لِصَانِعِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَالْبَحْرِ وَيَنَابِيعِ الْمِيَاهِ».

إنّ البشارة الأبديّة الّتي يَحمِلها هذا الملاك الطائر في السّماء هي الإنجيل، فكلمة “إنجيل” في اليونانيّة تعني البشرى السّارة. إذًا، هذا الملاك قد أتى بالبشارة السّارة الأبديّة لكلِّ البشريّة، وليس فقط للمئة والأربعةِ والأربعين ألفًا، ممّا يعني أنّ الخلاص ليس محصورًا باليهود بل هو متاحٌ لجميع البشر مِن دون استثناء. إنّ عبارة “خافوا الله”، تعني لا ترتَعبوا من الشَّيطان، أي لا تخافوا ممّا سَيَحلُّ بكم إنْ لَم تخضعوا للامبراطور وعبادته. 

إذًا الخوف هنا، لا يعني الخوف مِن الله، بل إنّ الخوف هنا يعني مخافة الله، أي وَضعُ المؤمنِين ذواتهم تحت رَحمة الله وحمايته. إنّ الخوف، وبخاصّةٍ الخوف من الموت، هو الّذي يجعل النَّاس يسقطون في تجارب الشّيطان. إنَّ كلَّ عبوديّة سببها الخوف من الموت، وهذا ما يقوله أيضًا بولس الرَّسول في رسالته إلى العبرانيِّين (عب 8: 14). إنّ الملاك يدعونا إلى التحرُّر من الخوف، وإلى السُّجود لله. إنّ عبارة “جاءت ساعةُ دينونته”، تعني أنّنا نقترب مِن الآخِرة، من الملكوت، من الـمَجيء الأخير.

“ثُمَّ تَبِعَهُ مَلاَكٌ آخَرُ قَائِلًا: «سَقَطَتْ! سَقَطَتْ بَابِلُ الْمَدِينَةُ الْعَظِيمَةُ، لأَنَّهَا سَقَتْ جَمِيعَ الأُمَمِ مِنْ خَمْرِ غَضَبِ زِنَاهَا!»: إنّ بابل هي مدينةٌ أراد أهلُها، بحسب العَهد القديم، إنشاء بُرجٍ يَصل إلى السَّماء، تحدِّيًا لله، فما كان مِن الله إلّا أن بلبَل ألسنِة أهلِها فَعجِزوا عن متابعة بناء هذا البُرج. إنّ “بابل المدينة العظيمة” ترمز إلى رُوما، عاصمة الوثنيّة، إذ يسكن فيها الامبراطور. إنّ بابل تُشير إلى روما، ولكنّها قد تُشير إلى الكنيسة، حين تُكرِّر “خطيئة آدم”، الّتي تقوم على الأكل مِن “شجرة معرفة الخير والشَّر”، وهذا يعني أنّه حين تُقيم الكنيسة علاقة بين الخير والشَّر من خلال قبولها بالمساومة على كلمة الحقّ، ستَنال مَصير “بابل المدينة العَظيمة”. 

ما مِن أحدٍ مَعصومٍ عن الوقوع في هذه التَّجربة، وبالتّالي جميعنا سنَخضع لدينونة الله في اليوم الأخير ولن ننجو منها إلّا إذا ثَبتَنا في إخلاصِنا للربّ يسوع والشَّهادة له حتّى الموت، أي حتّى اليوم الأخير. إنَّ الزِّنى هنا يَعني تَرك الإله الحيّ واتِّباع العبادات الوثنيّة، وقد كلَّمنا النبيّ حزقيال في سِفره، (في الإصحاحات 16 حتّى 23) على هذا النَّوع من الزِّنى بِوَصفه الشَّعب الّذي ترك الله بالمرأة الزانية الّتي تعرِض جسدها لِكُلِّ عابرِ سبيبل. في هذا الإطار، نتذكَّر الكنيسة الرُّوسيّة في زمن الثَّورة الشيوعيّة، الّتي قد خَسِرت فيها كلّ ممتلكاتها الأرضيّة، ولَم يَعُد بإمكانها الاعتماد إلّا على إيمانها بالربّ يسوع، فأثمرت هذه الثَّورة عددًا لا يُستهان به مِن القدِّيسِين والشَّهداء في هذه الكنيسة. 

إخوتي، نحن اليوم مدعوون إلى التشبُّه بالكنيسة الرُّوسيّة، فنتخلَّى عن كلِّ ضماناتنا الأرضيّة ساعِين إلى التمسُّك فقط بيسوع المسيح ضمانتنا الوحيدة، فنَكون شهودًا وشهداء له، وتقود شهادتنا تلك إلى إقامة “أمواتٍ في هذه الحياة”، وإحيائهم بِيَسوع المسيح، فيَرتَّدون إلى الإيمان الصَّحيح، وما استشهاد القدِّيسَين بطرس وبولس إلّا خيرُ مِثالٍ عن انتشار البشارة وازدياد عدد المؤمنِين بالربّ؛ فلولا استشهاد الكثيرين في سبيل إيمانهم لَما وَصلت إلينا البُشرى السّارة. 

وهذا ما أكَّده لنا أيضًا سِفر أعمال الرُّسل إذ قال:”وكانت الكلمة تنمو وتزيد” (أع 12: 24)، فكلمة لا تنمو وتزيد من دون مبشِّرين بها، فَهدف الرُّسل الأوّل كان إيصال البشارة إلى المسكونة كُلِّها بِفَضل شهادتهم لإيمانهم بالربّ. إنَّ دورنا كمسيحيِّين في هذا الشَّرق لا يقوم على وجودنا السِياسيّ، إنّما على إعلاننا كلمة الله من دون خوف، حتّى لو قادنا ذلك إلى الاستشهاد. في حياتنا اليوميّة، نحن معرَّضون للاضطهاد في كلّ حين، لذا على سِفر الرُّؤيا أن يكون مُصوَّرًا في أذهاننا، فنتذكَّر كلام الرَّسول، كاتب سِفر الرُّؤيا في كلِّ حين لنتمكَّن من اتِّخاذ القرار الأفضل من أجل ثباتِنا في إيماننا بالربّ.

“ثُمَّ تَبِعَهُمَا مَلاَكٌ ثَالِثٌ قَائِلًا بِصَوْتٍ عَظِيمٍ: «إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَسْجُدُ لِلْوَحْشِ وَلِصُورَتِهِ، وَيَقْبَلُ سِمَتَهُ عَلَى جَبْهَتِهِ أَوْ عَلَى يَدِهِ، فَهُوَ أَيْضًا سَيَشْرَبُ مِنْ خَمْرِ غَضَبِ اللهِ، الْمَصْبُوبِ صِرْفًا فِي كَأْسِ غَضَبِهِ، وَيُعَذَّبُ بِنَارٍ وَكِبْرِيتٍ أَمَامَ الْمَلاَئِكَةِ الْقِدِّيسِينَ وَأَمَامَ الْخَرُوفِ. وَيَصْعَدُ دُخَانُ عَذَابِهِمْ إِلَى أَبَدِ الآبِدِينَ. وَلاَ تَكُونُ رَاحَةٌ نَهَارًا وَلَيْلًا لِلَّذِينَ يَسْجُدُونَ لِلْوَحْشِ وَلِصُورَتِهِ وَلِكُلِّ مَنْ يَقْبَلُ سِمَةَ اسْمِهِ». هُنَا صَبْرُ الْقِدِّيسِينَ. هُنَا الَّذِينَ يَحْفَظُونَ وَصَايَا اللهِ وَإِيمَانَ يَسُوعَ”. إنَّ غَضب الله في اليوم الأخير سَيَكون لا على المؤمنِين الخَطأة، بل على كلّ الّذين وَظّفوا طاقاتهم لإبعاد المؤمنِين عن السُّجود للربّ. 

إنّ الشَّيطان قد أصبَح رئيس هذا العالم لأنّه تمكَّن من إخضاع البَعض له، فَسَجدوا له، وعَمِلوا على تنفيذ تعاليمه ونَشرِها في العالم. إذاً، إنَّ الحرب هي حربٌ بين الله والشَّيطان وكلّ مَن خَضع له، وهذه الحرب هي حربٌ إسكاتولوجيّة، أُخرَويّة، أي أنّها لا تنتهي سريعًا. إنّ المسألة الّتي يطرَحها هنا كاتب هذا السِّفر، هي كيف يستطيع المؤمن أن يبقى مُخلِصًا لإيمانه، على الرُّغم من الألم والشِّدة في زمن الاضطهاد، كما في زمن اللاضطهاد. في هذا الزَّمن الّذي ينتشر فيه وباء كورونا، يعاني المؤمنون من وَضع اقتصاديّ صَعب، ممّا يدفع مؤمنِين كُثرًا إلى لوم الله على ما يَحدث في عالَمِنا، وعَدم تدخُّله من خلال طَرح الأسئلة عليه لمحاكمته، وهذا ما يؤدِّي إلى زعزعة إيمان الإنسان. 

عندما ينتَبِه الشَّيطان إلى هذه الحالة الّتي وَصل إليها المؤمن في ملامَة الله، يتدخَّل سريعًا ليُقدِّم للمؤمن حُجَجًا وبراهين تثبِّت كلام المؤمن، فيقوم هذا الأخير بالابتعاد عن الله، لأنَّه لم يَجد أجوبةً عن أسئلته.
“وَسَمِعْتُ صَوْتًا مِنَ السَّمَاءِ قَائِلًا لِي: «اكْتُبْ: طُوبَى لِلأَمْوَاتِ الَّذِينَ يَمُوتُونَ فِي الرَّبِّ مُنْذُ الآنَ». «نَعَمْ» يَقُولُ الرُّوحُ: «لِكَيْ يَسْتَرِيحُوا مِنْ أَتْعَابِهِمْ، وَأَعْمَالُهُمْ تَتْبَعُهُمْ». ثُمَّ نَظَرْتُ وَإِذَا سَحَابَةٌ بَيْضَاءُ، وَعَلَى السَّحَابَةِ جَالِسٌ شِبْهُ ابْنِ إِنْسَانٍ، لَهُ عَلَى رَأْسِهِ إِكْلِيلٌ مِنْ ذَهَبٍ، وَفِي يَدِهِ مِنْجَلٌ حَادٌّ”. إنّ كلمة “طوبى” في العِبريّة تَعني “هَنيئًا”، أمّا في اليونانيّة فتَعني “الغِبطة الكبيرة”. من خلال هذا الكلام، أراد كاتب سِفر الرُّؤيا أن يقول للمؤمنِين إنّهم سينالون الطوبى في الملكوت،

إذا ماتوا على هذه الأرض، وَهُم ثابتون في إيمانهم. إنّ الموقف الّذي اتَّخذه المؤمن عند تعرُّضه للاضطهاد، يُشكِّل “تَذكرةَ دخولٍ” له إلى الملكوت، أكان شهيدًا أو مُخلِصًا لإيمانه بالربّ، لأنّه عند وصوله إلى الملكوت سيَسمع الربُّ يقول له:”كُنتَ أمينًا على القَليل فسأجعلك أمينًا على الكثير. أُدخُل إلى فرح سيِّدك” (متى 25: 23). إنَّ سِفر الرُّؤيا يبدو لأوَّل وَهلةٍ مخيفًا جدًّا، إلّا أنّه في الحقيقة أكبرُ كِتابِ تعزيةٍ للمسيحيّين. في سِفر أعمال الرُّسل، 

عند صعود الربّ إلى السّماء، قال الملاك للرّسل إنّهم سَيُشاهِدونه آتيًا على السَّحاب في مجيئه الثّاني، كما رأوه صاعدًا إلى السّماء على سحابةٍ؛ وفي الأناجيل، نقرأ أنّ الربَّ الجالس على سَحابٍ سيأتي في مجيئه الثّاني بِمَجدٍ عظيم. إنّ عبارة “شبه إنسان”، تُشير إلى المسيح الّذي مات وعلى رأسه إكليلٌ مِن شوك، وهو سيأتي وعلى رأسه إكليلٌ من ذهب، وفي يَدِه مِنجَلٌ حادّ. إنَّ المِنجل هي آلةٌ حديديّة لا تُستَعمل إلّا في وَقت حصاد القَمح، أي في نهاية الموسم، كذلك سيأتي الربُّ حاملاً في يده مِنجلاً، وذلك يشير إلى الدَّينونة، وبالتّالي إلى اليوم الأخير.


“وَخَرَجَ مَلاَكٌ آخَرُ مِنَ الْهَيْكَلِ، يَصْرُخُ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ إِلَى الْجَالِسِ عَلَى السَّحَابَةِ: «أَرْسِلْ مِنْجَلَكَ وَاحْصُدْ، لأَنَّهُ قَدْ جَاءَتِ السَّاعَةُ لِلْحَصَادِ، إِذْ قَدْ يَبِسَ حَصِيدُ الأَرْضِ». فَأَلْقَى الْجَالِسُ عَلَى السَّحَابَةِ مِنْجَلَهُ عَلَى الأَرْضِ، فَحُصِدَتِ الأَرْضُ. ثُمَّ خَرَجَ مَلاَكٌ آخَرُ مِنَ الْهَيْكَلِ الَّذِي فِي السَّمَاءِ، مَعَهُ أَيْضًا مِنْجَلٌ حَادٌّ. وَخَرَجَ مَلاَكٌ آخَرُ مِنَ الْمَذْبَحِ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى النَّارِ، وَصَرَخَ صُرَاخًا عَظِيمًا إِلَى الَّذِي مَعَهُ الْمِنْجَلُ الْحَادُّ، قَائِلًا: «أَرْسِلْ مِنْجَلَكَ الْحَادَّ وَاقْطِفْ عَنَاقِيدَ كَرْمِ الأَرْضِ، لأَنَّ عِنَبَهَا قَدْ نَضِجَ». فَأَلْقَى الْمَلاَكُ مِنْجَلَهُ إِلَى الأَرْضِ وَقَطَفَ كَرْمَ الأَرْضِ، فَأَلْقَاهُ إِلَى مَعْصَرَةِ غَضَبِ اللهِ الْعَظِيمَةِ. وَدِيسَتِ الْمَعْصَرَةُ خَارِجَ الْمَدِينَةِ، فَخَرَجَ دَمٌ مِنَ الْمَعْصَرَةِ حَتَّى إِلَى لُجُمِ الْخَيْلِ، مَسَافَةَ أَلْفٍ وَسِتِّمِئَةِ غَلْوَةٍ». 

إنَّ عبارة “الجالس على سحابة” في العِبريّة تشير إلى الجالس على العَرش أي إلى الـمَلك الحامل الصَّولجان. إنَّ الكلام عن الـمِنجل والحَصاد يذكِّرنا بِمَثل الزُّؤان والقَمح الّذي أعطاه الربّ في الإنجيل، وفيه طَلب العبيد إلى السَّيد السّماح لهم بِنَزع الزُّؤان من القَمح، فرَفض مخافةَ أن يتمّ اقتلاع القمح مع الزؤان، طالبًا إليهم انتظار وقت الحِصاد للقيام بذلك. إنّ عبارة “يَبِسَ حَصادُ الأرض” تُشير إلى أنَّ الوَقت قد حان للحِصاد. في هذا الإصحاح، الّذي يُكلِّمنا على اليوم الأخير، نلاحِظ أنّ دَور الملائكة قد تعاظَم، إذ أصبَحوا يقومون بِكُلِّ شيءٍ. في سِفر إشعيا (5: 1)، 

يقول لنا النبيّ: “لأُنشِدَّن لحبيبي نَشيد مُحبِّي لكرمه”، فيُخبرنا أنّ حبيبه يملِك كَرم عِنَبٍ، وقد أوكلَه لأناسٍ ليهتّموا به، فكان الحِصاد عِنبًا رديئًا، ممّا بَرهَن عن سوء اهتمام هؤلاء الوُكلاء بالكَرم، فَلم تُعطِ الأرض أجوَد ما عِندها. إنَّ عبارة “جَتسِمانية” في العِبريّة تعني “الأرض الّتي تُعطي ثمرًا جيِّدًا”. إنّ اليَهود قد أعطوا ثِمارًا رديئةً إذ إنَّهم تركوا الإله الحقّ وتَبعوا آلهةٍ وثنيّة، أمّا الربُّ فقَدْ أعطى عِنبًا جيِّدًا، الّذي تحوّل إلى خمرٍ سيشربُ منه الربُّ في اليوم الأخير في العرس المسيحاني في الملكوت.

إنّ الربَّ أعطى تلاميذه كأس الخَمر ليشربوها معه في العشاء السِّري، قائلاً لهم إنّه سيعود ويشرب معهم هذه الكأس في ملكوت أبيه، أي في اليوم الأخير. إنّ مَعصرَة غَضب الله هي الـمَعصرة الّتي أعطت ثمارًا رديئةً، والثَّمر الرَّديء هو جميع الّذين تركوا الله الحيّ من أجل عبادة آلهةٍ وثنيّة، ولذا يقول لنا كاتب هذا السِّفر إنَّ هذه الـمَعصرة قد دِيسَت خارج المدينة، في مقارنةٍ لِما فَعلوه عُظماء اليهود بالربّ، الّذي أعطى ثمرًا جيِّدًا، فصَلبوه أيضًا خارج أورشليم، المدينة المقدَّسة. إنّ يسوع المسيح هو الـمَعصرة الّتي دِيسَت خارج المدينة. من خلال هذا الكلام، أراد كاتب هذا السِّفر تعزيةَ المؤمنِين، بالقول لهم إنّ جميع الّذين تركوا الله سَيُداسون في اليوم الأخير، خارج المدينة الإلهيّة، أورشليم السّماويّة، الّتي سَيَستَفيض كاتب هذا السِّفر في إخبارنا عنها في الإصحاحَين 20 و21. إنّ مسافة “ألف وستمئة غلوة”، تُشير إلى مسافة بعيدة.

إذًا، في هذا الإصحاح، أقام كاتب هذا السِّفر مقارنةً بين المسيح وشَعب اسرائيل القديم: إنَّ شعب اسرائيل قد سَقط في الخطيئة، فأعطى عِنبًا رَديئًا؛ أمّا يسوع فقد أعطى الخمرة الجديدة. في عرس قانا الجليل، حوَّل الربُّ الماءَ إلى خَمرٍ، فقدِّمت الخمرة الجيِّدة في نهاية العرس على عكس العادة الّتي كان يُعمَل بها في ذلك الزّمان في الأعراس. 

إنّ الخمرة الصّالحة الّتي بقيَت حتّى نهاية عرس قانا الجليل هي عمل المسيح على الصّليب من أجل البشريّة جمعاء. على الصَّليب خَرجَتْ من جنب المسيح الخمرة الجيّدة، وهي دَم المسيح الـمُحيي. في عرس قانا الجليل، كانت العذراء حاضرة وكذلك عند أقدام الصَّليب. في عرس قانا الجليل، قال يسوع للعذراء مريم:”يا امرأة”، وكذلك عند أقدام الصَّليب قال الربُّ لأمِّه العذراء: يا “امرأة”. في عرس قانا الجليل، تمّ إعلان مَجد الله، وعلى الصَّليب أعلن قائد المئة مَجد الله. إنَّ آية عرس قانا الجليل تمَّت في اليوم السّابع، وقيامة الربّ حَصَلت في النِّهاية، في اليوم الأخير. إذًا، في هذا الإصحاح، يَضعنا الكاتب على مَقرُبَة من رؤية عمل الله الأخير في نفوس مُحبِّيه. هذه هي الصّورة الّتي يريد إعطاءنا إيّاها الرَّسول في هذا الإصحاح، على الرُّغم مِن كلّ الصُوَر المخيفة الّتي قدَّمها لنا في هذا النَّص.

ملاحظة: دُوِّن الشرح بأمانةٍ من قِبَلنا.