تفسير الكتاب المقدّس،
الأب ابراهيم سعد،
“سِفر رؤيا القدّيس يوحنّا – المقدّمة”
بداية، أتمنّى لكم أن يكون هذا الموسم موسمًا مباركًا عليكم، كما أتمنّى لكم أن تكون العطلة الصِّيفيّة الّتي مرَّت عليكم، خاليةً من الأذيّة لكم، لأنَّ الأيّام الّتي تمرُّ على الإنسان تُعلِّم فيه فتُعلِّمه، أي أنّها تترك آثارًا وجروحًا في الإنسان فتُعلِّمه دروسًا في الحياة.
في سِفر الرُّؤيا، سنكتشف أنّ الرَّحمة والحبّ والسَّند لا تأتي إلّا من الله، أو مِن الإنسان الّذي يَضَعه الله في طريق المؤمِن ليَسنُدَه ويُحبُّه ويرحمه. ولكنّ هذه الصِّفات هي صِفات إلهيّة، لذا نادرًا ما نجد رحمةً ومحبّة عند البشر. إنَّ قاموس الحبّ عند الله مختلفٌ عن قاموس الحبّ عند الإنسان: فالحبُّ عند البشر ينطلق من مفهوم “أُحبُّك إذا أنتَ أَحبَبْتَني”؛ أمّا قاموس الحبّ عند الله فهو ينطلق من مفهوم “أُحبُّك وإنْ لَم تُحبَّني”. والرَّحمة في قاموس البشر، هي “رحمةٌ مجانيّة”، أي أنَّ الإنسان لا يرحم أخاه إلّا إذا كانت تلك الرَّحمة لا تتطّلب من الإنسان الّذي يرحم تضحيةً تجاه أخيه. بمعنى آخر، إنَّ الإنسان يرحم أخاه إنْ لَم يكن طالبُ الرَّحمة مُخطئًا تجاه الآخر، أمّا إنْ كان طالبُ الرَّحمة مُخطئًا فإنّ الطّرف الآخر لا يمنحه الرَّحمة، مع العِلم أنّ الّذي يحتاج إلى الرَّحمة هو الإنسان الخاطئ لا الإنسان الصّالح. أمَّا في قاموس الله، فالله يرحم الإنسان لأنَّه خاطئ، ولأنَّ الله لا يعرف إلّا الرَّحمة. في قاموس البشر، إنّ الإنسان يُحبُّ أخاه الإنسان أو يكرهه، انطلاقًا مِن تصرّفات هذا الأخير تجاهه وتجاه الآخر.
أمّا في قاموس الله، فالله يُحبُّ البشر لأنّ الله هو محبّة ولا يعرف إلّا محبّة البشر، وحبُّه لهم غير مرتبط بتصرُّفات البشر تجاه الله، فالله يُحبُّ حتى الّذين لا يُحبُّونه.
إنَّ سِفر الرُّؤيا، الّذي يخاف منه الكثير من المؤمِنِين، لا يتكلّم على نهاية العالم وعلى الشِّرير واضطهاداته للمؤمِنِين بالربَّ، كما يعتقد البعض، وكأنَّ ما سيَحدث في نهاية العالم لم يَحدُث قبلاً على مدى العصور. إنّ سِفر الرُّؤيا ليس كتاب توقُّعات حول المستقبل، كما يفعل المنجِّمون في أيّامنا، وبالتّالي على المؤمِن عدم قراءة هذا الكتاب على أنّه كذلك، فيُصاب بالإحباط عند سماعه أخبارًا سيِّئة، ويُصاب بالفَرح عند سماعه أخبارًا سارَّةً.
إذًا، إنَّ مشكلة الإنسان تكمن في أنّه يجعل كلَّ وَهمٍ يسمعه حول المستقبل يتحوَّل إلى حقيقة في ذِهنه. في الآونة الأخيرة، كَثُر الكلام على انتظار الشَّعب لأعاجيب من الله، تُخلِّصهم مِن الضِّيقات الحياتيّة الّتي يُعانون منها. إنّ الله قد قام بأعجوبة لا مثيلَ لها منذ ألفيَ سنة، عندما حوَّل الخبز والخمر إلى جسد المسيح ودَمه.
وهنا نطرح السُّؤال: هل للأعجوبة مدّة صلاحيّة؟ للأسف، إنّ المؤمِنِين لا يعترفون بأعاجيب الله في هذه الأرض إلّا إذا تمَّت معهم، من دون سواهم مِن البشر. وعند حصولهم على أعجوبةٍ من الله، يسعون إلى إعطاء أسبابٍ لعدم قيام الله بأعجوبةٍ مع الآخَرين، كأنْ ينسِبوا ذلك إلى قلِّة إيمان الآخَرين أو إلى خطاياهم الكثيرة. غريبٌ هو الإنسان: إذ إنّه حين لا يحصل على أعجوبة خاصّة من الله، يَضع السَّبب على الله؛ وإنْ لَم يَقم الله بأعجوبة مع الآخَرين، يكون السّبب في مسيرة الآخَرين الرُّوحيّة.
إذًا، للأسف، إنّ علاقة الإنسان بالله في أغلب الأحيان مبنيّة على مصلحة الإنسان في تلك العلاقة. حين يتعرَّض أحد المؤمِنِين للاضطهاد وبالتّالي للموت في سبيل إيمانه، فإنّنا نجد أنَّ المؤمِنِين الآخَرين يبدأون بالتذمُّر من الله لأنَّه رَضِيَ بموت البّار، في حين أنَّه على المؤمِنِين التعلُّم من ثبات هذا القدِّيس في إيمانه على الرُّغم من الاضطهادات.
إنّ سِفر الرّؤيا يدعو كلّ مؤمِن يتعرَّض للاضطهاد إلى استرجاع كلّ سِفر الرُّؤيا في ذاكرته، مِنَ اللَّحظة الّتي يتمّ فيها اعتقاله إلى لحظة محاكمته، ليتمكَّن من إتِّخاذ قراره: إمّا بإعلان إيمانه بالربِّ يسوع، وإمّا بإعلان إيمانه بالامبراطور وبالتَّالي نُكران إيمانه بالمسيح يسوع. في زمن الاضطهاد، يجد المؤمِن نفسه أمام تحدٍّ كبير، يقوم على الاختيار بين مَن يؤمِّن له معيشته الأرضيّة وهو الامبراطور،؛ وبين مَن يؤمِّن له حياته الأبديّة وهو الربُّ يسوع. أمام هذا التحدِّي، يختار الإنسان المؤمِن الطَّريق الّتي يعتقِد أنّها تَدرُّ عليه رِبحًا أوفَر. إنّه من السَّهل على المؤمن اختيار الربِّ في وقت الرَّاحة، ولكنّه من الصَّعب عليه الثّبات في إيمانه في وقت الصَّعوبة، فاختيار الإنسان يظهر جَلِيًّا عند تعرُّضه للصُّعوبات. وإليكم مِثالاً على ذلك: عندما يُصاب الإنسان بمرضٍ يقود إلى الموت، ويبقى مبتسمًا،
فهذا إشارةٌ إلى اختياره اتّباع الربّ. إنَّ سِفر الرُّؤيا لا يستطيع فَهمه إلّا المؤمِن الّذي يعيش تحت الضَّغط أو تحت الإغراء، فيَجد نفسه نتيجة هذه الصُّعوبة مُجبرًا على الاختيار ما بين اتِّباع المسيح أو إنكار إيمانه به. إنَّ سِفر الرّؤيا هو السِّفر الّذي على مسيحيِّي لبنان قراءته ليتمكَّنوا من التّفكير في طريقة سليمة في هذه الظّروف الصَّعبة، الّتي يُعانون منها. أصبح المسيحيّون في عالمنا اليوم أعداء للمسيح، بسبب عدم اعتمادهم نهج تفكيرٍ صحيح. إنَّ سِفر الرُّؤيا هو معموديّة الفكر الجديدة للمؤمِنِين بالربّ، إنَّه يساعد المؤمِنِين على إدراك قيمة جسد الربِّ ودَمِه اللَّذين يتناولونهما.
إنَّ يوحنّا الإنجيليّ قد رأى الرُّؤيا الّتي أخبرنا عنها في هذا السِّفر، في يوم الربِّ، أي في يوم الأحد، في اليوم الّذي يحتفل به المسيحيّون بالقدَّاس الإلهيّ. إنَّ سِفر الرُّؤيا هو الكَشف عمّا هو مستور، لذا يبدأ الإنجيليّ يوحنّا هذا السِّفر بعبارة: “إعلان يسوع المسيح”، وبالتّالي فإنّ عظمة عمل الله الخلاصيّ من أجلِنا يُكشَف لنا في يوم الاضطهاد أي في يوم الصُّعوبات لا في يوم الرَّاحة وفي يوم الفرح. في يوم الفرح، غالبًا ما ينسى الإنسان وجود الله في حياته، ولكنّه يتذكَّره في يوم الشِّدة، لذا يدعونا سِفر الجامعة، قائلاً: “أُذكر خالقَك في أيّام شبابك، قبل أن تأتي أيّام السُّوء”(جا 12: 1).
إنّ كتاب سِفر الرُّؤيا هو كتاب تعزية إذ يقوِّينا على الثّبات في إيماننا على الرُّغم من الصُّعوبات الّتي نواجهها. إنَّ الربَّ لا يشجِّعنا على محبّة الألم وتقديسه، لأنّه لو كان يُحبُّ الالم، لما كان الربُّ قد شفى المرضى. إنَّ الربَّ يسوع لا يُقدِّس الألم، بل يُقدِّس المتألِّم، كذلك بالنِّسبة إلى الفقر، فالربُّ يسوع لا يُحبُّ الفَقر بل يُحبُّ الفقراء. في إنجيله، لا يدعونا الربُّ يسوع إلى محبَّة الفقر، بل إلى مساندة إخوتنا الفقراء في سدِّ احتياجاتهم، فلا يكونون بعد ذلك فقراء. ولكنَّ السُّؤال الّذي يُطرَح: هل ممتلكات الإنسان الماديّة قادرة على دَفعِه إلى ترك الربِّ ونكرانه؟ أو، هل وقوع الإنسان في ضيقٍ أو في حزنٍ، يَقوده إلى تَركِ الربِّ من أجل الحفاظ على حياته الأرضيّة؟
إنَّ سفر الرُّؤيا لا يُكلِّمنا على نهاية العالم، إنّما يُكلِّمنا على نهاية كلِّ إنسان، وهنا يُطرَح السُّؤال: ما فائدة المؤمِن من معرفته للأحداث الّتي ستحصل في نهاية العالم، إن كانت نهايته قبل نهاية العالم؟ إنَّ نهاية الإنسان هي نهاية العالم. هناك ثلاثة أنواع من النِّهايات: نهاية الإنسان، ونهاية المجموعة الّتي ينتمي إليها الإنسان، ونهاية العالم؛ وهذه الثلاثة تقود إلى النَّتيجة نفسها. إنَّ سفر الرُّؤيا يتكلَّم على نهاية الإنسان وعلى نهاية العالم، قائلاً لنا، إنّ المؤمنَ الّذي لا يترك الربّ في نهايته الخاصّة، سيكون مع الربِّ في نهاية العالم، أي في الملكوت؛ وإنّ المؤمن الّذي يترك الربَّ في حياته الأرضيّة سيكون بعيدًا عنه في نهاية العالم. على المؤمِن التَّفكير في نهايته الخاصّة إذ إنّها قوَّته للحصول على الملكوت.
على الموت ألّا يُخيف الإنسان: لأنّه حين يكون الموت موجودًا، لا وجود للإنسان لأنّه يكون قد مات وطالما أنّ الإنسان هو في الحياة لا وجود للموت، لأنَّه حيّ، وبالتَّالي الموت والحياة لا يلتقيان وجهًا لوجه. وبالتّالي، لماذا أخاف من الموت الّذي لا يستطيع أن يكون موجودًا طالما أنا موجودٌ في هذه الحياة؟
إذًا، إنَّ الموت هو فرصةٌ لإعلان يسوع المسيح فيّ وفي الكون بأسره، غير أنَّه موجعٌ لأنَّه يسبِّب فراقًا بين الأحبَّة، وشوقًا عند الأحبّة إلى رؤية أحبّائهم الّذين غادروا هذه الحياة. إذًا، إنّ الفراق في الموت هو الّذي يسبِّب ألـمًا ووَجَعًا عند المؤمِنِين. إنّ المرض هو الّذي يُسبِّب مشكلة، لأنّه على المؤمِن أن يواجهه يوميًّا. إنّ سِفر الرّؤيا لا يُكلِّمنا على الموت، إنّما يحدِّثنا عن كيفية مواجهة المؤمِنِين للصُّعوبات اليوميّة، قبل مواجهتهم للموت، محافظين على إيمانهم بالربّ.
لذا، كان المؤمِنون الـمُضطهَدون يتذكَّرون سِفر الرُّؤيا منذ اعتقالهم من بيوتهم إلى لحظة وصولهم إلى المحاكمة، ليتمكّنوا من الاختيار ما بين الحفاظ على حياتهم الأرضيّة ونكران المسيح، وما بين ثباتهم في إيمانهم حتّى لو كلَّفهم ذلك خسارة حياتهم، لأنّه عند حلول الموت يكون الإنسان قد أصبح في الملكوت مع الربّ. إنَّ يوحنّا الإنجيليّ يُخبرنا عن الشُّهداء ووصولهم إلى الملكوت، لذا هو يحسدهم على المصير الّذي نالوه نتيجة استشهادهم.
إنَّ يوحنّا الإنجيليّ يَصف لنا سِفر الرّؤيا، فيقول لنا إنّه كتاب مقفول بسبعة أختام، ولا يمكن للمؤمن قراءة مضمونه إلّا إذا تمكّن من فكّ كلّ الأختام. ولكن حين يتمكّن المؤمِن من ذلك، يكون قد وصل إلى الملكوت. يُخبرون عن راهبٍ قد سُئِل يومًا: ماذا يفعل إذا عَلِم أنّ الرّب سيأتي الآن؟ فأجاب بأنّه يتابع ما كان يقوم به، لأنّه لا يستطيع تصحيح شيء بعد ذلك، وهو يعيش على الدَّوام في حضرة الله. إنَّ سِفر الرّؤيا يُخبرنا عن مصيرنا الأخير إن لم نتَّبع المسيح، لذا علينا الاختيار منذ الآن، لا انتظار نهاية العالم، لأنّه حينها لا ينفع الاختيار. إذًا، إنَّ سِفر الرّؤيا، هو كتاب الحبّ، كتاب التعزية، سِفر الرَّجاء، لا سِفر الخوف والرُّعب. إنَّ ما سيحصل في نهاية العالم هو تحقيق لِما وَعَدنا به الربّ. وهنا يُطرَح السّؤال: هل وعود الربّ لنا بحاجة إلى براهين كي نُصدِّقها، أم أنّنا نُصدِّق كلام الربّ لمجرّد أنّه تلفَّظ به؟ على المؤمِن أن يعيش كما لو أنّ وعود الربِّ قد تحقَّقت حتّى ولو لم تتحقَّق بعد.
إنَّ ابراهيم هو الوحيد الّذي آمَن بالربّ وعاش حسب وعود الربِّ من دون برهان، فَحُسِب له ذلك برًّا. منذ ألفَي سنة، جاء الربّ وعاش كما عاش ابراهيم، مُصدِّقًا وعود الله. إنّ الربّ يدعونا إلى ترك الماديّات، وهذا يعني عدم التعلُّق بالماديّات وفسادها. على المؤمن أن يُشارك الآخَرين في الخيرات الّتي معه لا الاحتفاظ بها لنَفسه، وعدم الشُعور بالحزن لخسرانها لأنّ الربَّ يَعِدُنا بما هو أفضل منها، فلا نكون على مثال اليهود الّذين يطلبون آياتٍ ملموسة للإيمان بالربّ. على المؤمِن أن يعرف كيفيّة طلب الشِّفاءات من القدِّيسين، إذ لا يجوز للمؤمِن أن يشحذ الحبّ من القدِّيسين حين يملك حُبَّ الله بين يديه. على المؤمِن أن يُصدِّق أنَّ الربَّ قادرٌ على كلِّ شيء، لأنَّ الّذي استطاع إقامة الموتى من الموت وشفاء المرضى منذ أَلفَي سنة، يستطيع القيام بذلك في كلِّ حين.
إنَّ سؤالنا عن عدم شفاء الربِّ لهذا الإنسان أو ذاك، هو دليلٌ على تغلغل الفكر اليهوديّ في أذهان المؤمِنِين. إنَّ المسيح لا يستطيع أن يسكن إلّا في قلوب القدِّيسين، لا بسبب قلوبهم الطّاهرة إنّما بسبب تصديقهم لكلمة الله وعيشهم لها من دون طَلبهم البراهين على مصداقيتها. إنَّ القدِّيس هو ذلك الّذي يُطبِّق مشيئة الله في حياته من دون طرحه الكثير من الأسئلة وخصوصًا أسئلةً مُشكِّكة بالإيمان به.
إنَّ سِفر الرُّؤيا مليءٌ بالتَّعزيات للمؤمِنِين الّذين يعانون من الاضطهادات والضِّيقات. كتب الإنجيليّ يوحنّا هذا السِّفر حين كان في المنفى، وهو في عُمرٍ يناهز المئة سنة. لقد نُفيَ يوحنّا الإنجيليّ بسبب إعلانه كلمة الله. وقد وجَّه كتابه هذا إلى إخوته وشركائه في الـمِحنة، أي في الاضطهاد، قائلاً لهم: “أنا شريككم في النِّعمة”. ثمّ يضيف قائلاً: “أنا يوحنّا أخوكم وشريككم في الضِّيقة وفي ملكوت يسوع المسيح وصبره”، وبذلك أراد الإشارة إلى أنّ الضِّيق والصَّبر يقودان المؤمِن مَتَى ثَبُت في إيمانه بالربِّ إلى الملكوت. ونحن اليوم، جميعنا شركاء في الضِّيق وعلينا احتماله بصبر للوصول إلى الملكوت.
ملاحظة: دوِّن الشرح بأمانةٍ مِن قِبَلِنا.