انطلاقة “أذكرني في ملكوتك”،
كنيسة سيّدة المعونات – بولونيا، المتن.
عِظة القدّاس الإلهيّ للأب مخايل عوض، خادم الرعيّة:
باسم الآب والابن والرّوح القدس، الإله الواحد، آمين.
،انطلاقة مباركة، إخوتي الأحبّة، في حياتنا المسيحيّة، تنقسم الكنيسة إلى ثلاثة أقسام: القسم الأوّل هو الكنيسة المجاهدة، الّتي تضمّ كلّ المؤمنين الأحياء في هذه الأرض. وهنا نودّ الترحيب بجماعة “اذكرني في ملكوتك”، تلك الكنيسة المجاهدة على هذه الأرض، طالبين من الله أن يباركها. تأسَّست هذه الجماعة نتيجة إلهام الرّوح القدس إلى مسؤوليها، فنَظَّمَت نفسها، وسارت في مسيرة روحيّة غايتها الأولى الصّلاة من أجل أمواتنا الراقدين على رجاء القيامة.
لا تقتصر الصّلاة من أجل أمواتنا على صلاة المسبحة إنّما تشمل أيضًا تقديم الذبيحة الإلهيّة من أجل راحة أنفسهم والقيام بأعمال رحمة على نيّتهم. إنّ كلّ هذه الأعمال الّتي نقوم بها من أجل موتانا صالحةٌ، ولكنّها تتطلّب الثبات في هذه المسيرة لأجل راحة نفوسهم. إنّ القدِّيسة تريزيا كانت تقدِّم ليسوع حبًّا به كلّ الأعمال الّتي تقوم بها في نهارها مهما كانت صغيرة على نوايا متعدِّدة منها خلاص الـمُرسَلين، وخلاص الفقراء والمساكين. هذا ما علينا فِعلُه نحن أيضًا إذ على المؤمِن أن يقدِّم كلّ الأعمال الّتي يقوم بها في نهاره حبًّا بيسوع، من أجل راحة نفوس أمواته، وهذا ما نقصده بكلمة “مسيرة”، الاستمرار في القيام بأمور من أجل راحة نفوس الموتى المؤمنين.
إنّنا نشكر الله عليكم، جماعة “أذكرني في ملكوتك”، الآتية من القرى المجاورة لقريتنا، كما نشكره على ثباتكم في مسيرة الصّلاة من أجل الموتى المؤمنين، فأنتم رُكنٌ أساسيّ ومثالٌ للآخرين في ثباتكم في مسيرتكم. إنّ السؤال الّذي نطرحه على ذواتنا: هل سنجد بعد انتقالنا من هذه الدُّنيا مَن سيُصلّي لنا؟ إنّ الجواب بسيط، وهو: إنّ الأمر متعلِّقٌ بتربيتنا لأبنائنا ولأحفادنا على الصّلاة من أجل الموتى، فإنّه إن اكتسب أبناؤنا تلك العادة، فإنّهم حتمًا سيتناقلونها عبر الأجيال وسنجد حين انتقالنا من هذه الفانية مَن يُصلّي لنا. أمّا إذا لم نُربِّ أولادنا على الصّلاة للموتى، فحتمًا لن نجد من سيُصلّي لنا بعد موتنا الجسديّ في هذه الأرض.
أمّا القسم الثاني من الكنيسة، فهو الكنيسة المتألِّمة (المطهر)، الّتي تضمّ جميع الَّذين انتقلوا من بيننا في الجسد، وهم يتشوّقون لرؤية وجه الله. نحن نُصلّي لهم كي يتطهّروا بسرعة من خطاياهم، ويستحقّوا الدّخول إلى ملكوت السّماوات، إذ لا يستطيع الخاطئ أن يُعاين وجه القدّوس. إنَّ الكنيسة الـمُتألِّمة تنتظر صلاة الكنيسة المجاهدة على الأرض. إنّ صلاة المؤمِن لأجل أمواته لا تكون مقبولةً عند الربّ إلّا إذا كان هذا الإنسان في حالة النِّعمة، وبالتّالي على المؤمِن أن يهرع إلى كُرسيّ الاعتراف فيتوب عن خطاياه قبل أن يُقدِّم ذبيحةً من أجل راحة أنفس موتاه، فتكون صلاته عندئذٍ مقبولة عند الربّ ومفيدة لِمَن يُصلّي لأجلهم. فـ”صلاة الخاطِئ هي رِجْسٌ عند الله”، كما يقول لنا الكتاب المقدّس في سفر الحكمة.
إنّه أمرٌ بديهيّ ألّا يسمع الله صلاة الخاطئ، لأنّ الخاطئ هو مؤمن قد خضع للشرير “أبو الكذب”، وبالتّالي أصبح المؤمن كاذبًا، بل وأكثر من ذلك، فقد خان ثقة الله به، لذا على المؤمن أن يُعلن توبته للربّ، كي يتمكّن الربّ أن يملك على قلبه وجسده وفكره من جديد، فتصل كلمة الله من خلاله إلى الآخرين.
أمّا القسم الثالث والأخير من الكنيسة، فهو الكنيسة الممجَّدة، الّتي تضمّ كلّ الّذين أنهوا جهادهم على هذه الأرض، وقد أنهوا أيضًا مطهرهم بعد انتقالهم من هذه الفانية، وها هم اليوم يعيشون فرحة الانتصار على الموت، وفرح اللّقاء بالربّ القائم وجهًا لوجه. إنّ النّفوس في الكنيسة المتألمة تعيش اليوم مرحلة الانتصار ومرحلة الانتظار: الانتصار على الخطيئة إذ إنّها تحرّرت منها، والانتظار ليوم الدّينونة العامّة الّتي تشترك فيه البشريّة جمعاء بعرس الحمل، عرس يسوع المسيح في جوٍّ مِنَ الفرح الأبديّ الّذي لا يزول.
على المؤمِن أن يُصلّي لأمواته مِن دون شكّ، ولكن عليه ألّا ينسى أن يُصلّي أيضًا من أجل مرضاه، إذ إنّ أكبر جريمة يرتكبها المؤمِن هو تَرِك مرضاه يتألَّمون وحدهم مِن دُون أن يأتيهم بالكاهن. ليس على المؤمن الخوف مِن استدعاء الكاهن عند وجود مريض يعرفه، فإحضار الكاهن ليس علامة شؤمٍ بل علامة رجاء. إنَّ الكاهن يستطيع أن يُساعد المريض في تحمُّل آلامه، إذ يُزوِّده بالقربان المقدَّس ويمنحه مسحة المرضى، فمسحة المرضى تَمنح المريض الشِّفاء الروحيّ كما قد تمنحه في بعض الأحيان الشِّفاء الجسديّ.
إنّ أفضل عملٍ نقوم به من أجل مرضانا هو استدعاء الكاهن لتزويدهم بالقربان المقدّس ومسحهم بالزيت المقدّس، لأنّه في حال رحيلهم عن هذا العالم، يكونون في حالة النّعمة، وفي استعداد تامّ لملاقاة الربّ في الملكوت. إنّ الكاهن يُعطي المريض مسحة المرضى قائلاً:” يُمسَح عبد الله (فلان) بزيت الابتهاج لشفاء جسده ونفسه، وبالتّالي لا تُوجد أيّة إشارةٍ في هذه الصّلاة إلى الموت والانتقال للحياة الثانية، لذا فلا داعي للخوف من استدعاء الكاهن. إنّ الشيطان لا يرغب في خلاص النّفوس إنّما في عذابها لذا يزرع في قلوب المؤمنين الخوف من استدعاء الكاهن في حال وجود مريض في وسطهم، وقد نجح الشيطان في إيقاع الكثيرين في فخّه هذا.
إخوتي، إنّ الإنسان المشرف على الموت سيموت عاجلاً أم آجلاً بحضور الكاهن أو بعدمه، ولذا فالأفضل استدعاء الكاهن في كلّ الحالات، رغبةً منّا في التخفيف من آلام إخوتنا المرضى، ورفضًا منّا لتركِهم يتعذّبون في هذه الدّنيا نتيجة آلامهم الأرضيّة وفي الآخرة أيضًا، نتيجة خوفنا من استدعاء الكاهن، وبقاؤهم بالتّالي في حالة الخطيئة.
إنّ مؤمنين كُثُرًا يجهلون أهميّة هذا السِّر وانعكاساته الإيجابيّة على المرضى، لذا علينا التحلّي بالجرأة وعدم الخوف من الكلام فيه واستدعاء الكاهن عند الحاجة. إخوتي، إنّ مرضى كثيرين، مِن الّذين نالوا هذا السِّر قد نالوا إضافةً إلى الشِّفاء الجسديّ، الشِّفاء الروحيّ. إذًا إخوتي، هذا الشِّفاء يناله المرضى الّذين حصلوا على هذا السِّر بِغَضّ النَّظر عن عُمرِهم. إنّ مار يعقوب الرّسول في رسالته يدعونا إلى استدعاء الكهنة في حالة المرض: “مَن فيكم مريض، فليدعُ كهنة الكنيسة ليُصلّوا عليه، ويمسحوه بالزيت”.
إخوتي، اليوم تنطلق جماعة “أذكرني في ملكوتك”، في رعيّتنا الحبيبة، سيّدة المعونات – بولونيا، وقد أردتُ أن تنطلق هذه الجماعة مع بداية سنَتِنا اللّيتورجيّة الطقسيّة الّـتي بدأت مع بداية شهر أيلول، وقد اخترت هذا اليوم الّذي يُصادف بعد عيد مولد السيِّدة العذراء، وكذلك بعد عيد الصّليب. وابتداءً من اليوم، ستُتابع هذه الجماعة القدّاسات في هذه الرعيّة على نيّة أمواتنا الراقدين على رجاء القيامة، في يوم الجمعة الثّالث مِن كلّ شهر.
إخوتي، كثيرٌ هو عدد المؤمنين الّذي يطلبون إلينا أن نذكرهم في صلواتنا. وهذه الجماعة لا تَكُفُّ عن التضرّع للربّ قائلةً: “أُذكرنا متى أتيت في ملكوتك”. فهناك إذًا تركيز على أهميّة ذِكر الآخرين في الصّلوات، وبالتّالي فإنّ ذِكر الآخرين في صلواتنا وبخاصّة الموتى المؤمنين هو تعبيرٌ منّا على عمق محبّتنا لهم، وعلى عدم نِسيانهم على الرّغم من ابتعادهم عنّا بالجسد. وحين نطلب من الله أن يذكر إخوتنا الراقدين، فإنّنا بهذا الفعل أيضًا نسأل الربّ أن يُرسِل إلينا أيضًا مَن يَذكُرنا في صلاته يوم انتقالنا مِن هذه الفانية. إنّ هذه الذكرانيّة لا تبدأ بعد انتقالنا من هذه الفانية، إنّما هي تبدأ مِن اليوم، حين لا أنسى أن أذكر الربّ في حياتي كلّ يوم، فأصلّي له وأحبّه وأكرِّسُ له كلّ ذاتي وحياتي. لا يستطيع المؤمِن أن يطلب مِنَ الله أن يذكره حين يأتي في ملكوته، إن كان بعيدًا كلّ البُعد عن الله ولا يهتّم إلّا لموت الآخرين ودمارهم. في هذه الحالة، لن يتمكّن الله من أن يذكر هذا الإنسان في الملكوت، يوم انتقاله مِن هذه الفانية.
إنّ لصّ الشّمال الّذي كان مصلوبًا قرب يسوع المسيح، لم يَكُفَّ عن تعيير الربّ طالبًا منه أن يُظهر عظمته بنزوله عن الصّليب. أمّا لصّ اليمين، فكان يُحاول إقناع اللّص الآخر بعدم تعيير الربّ لأنّ الربّ لم يقم بأيّ عملٍ يستوجب الموت، أمّا هما فقد نالا عقابهما نتيجة أعمالهما السيئة في هذا العالم. إنّ في كلام لصّ اليمين إعلانًا أمام الربّ عن توبته، ولذا عندما سأل هذا اللّص الربّ طالبًا منه أن يذكره في ملكوتك، جاءه جواب الربّ سريعًا: “اليوم تكون معي في الفردوس”. إنّه لَمِنَ الضروريّ أن يعترف الإنسان بالخطايا الّتي ارتكبها أمام الله، طالبًا منه الرّحمة والغفران عنها قائلاً له: “أذكرني يا سيِّد متى أتيت في ملكوتك”.
إنّ ما قام به لصّ اليمين ليس بالأمر السَّهل، ولا هو مجرّد كلمات نردِّدها فقط قبل التقرُّب من سرّ المناولة الإلهيّة في كلّ قدّاس: فعندما نطلب من الربّ ما طلبه لصّ اليمين قائلين: “أذكرنا يا سيِّد متى أتيت في ملكوتك”، سنسمع الربّ يُعطينا الجواب نفسه الّذي حصل عليه لصّ اليمين، وهو: “اليوم تكون معي في الفردوس”. إذًا، قبل أن نطلب من الربّ أن يذكرنا في ملكوته، علينا أن نعلِن توبةً صادقة أمام الربّ وأن نُقِرَّ بخطايانا أمامه، فنتجرّأ على طلب الرّحمة والغفران. صحيحٌ إخوتي، أنّنا لا نستطيع بالعين المجرّدة البشريّة رؤية السّماء الآن، غير أنّ الربّ يسوع جاء وأخبرنا عنها، ومِن ثمّ طلب منّا أن نجتهد لنعيش منذ هذه اللّحظة الحياة معه، فنُحبّه ونخافه، ونحبّ العذراء مريم أمّه والقدِّيس يوسف وجميع القدِّيسين، لتَشُعَّ حياتنا قداسةً وطهارة.
إخوتي، لكلٍّ منّا أعزّاء انتقلوا من هذه الفانية، لذا فلنجعل من هذا القدّاس حافزًا لنا كي نحُثَّ الآخرين على المجيء والمشاركة فيه لنُصلّي معًا لأجل راحة أنفس أمواتنا الراقدين على رجاء القيامة. إنّ الصّلاة لأجل أمواتنا أمرٌ وفي غاية الأهميّة، فإنّه إن لم ننشر هذه الثقافة فيما بيننا، ومع أولادنا، فإنّنا لن نتمكّن من أن نجد مَن يُصلّي لنا يوم انتقالنا مِن هذه الفانية. إخوتي، علينا أن ندخل إلى الكنيسة ونُصلّي من أجل موتانا، وأن نتوب عن خطايانا، وأن نطلب الرّحمة والغفران من الله على آثامنا، لأنّه سيأتي ذلك اليوم وتلك السّاعة الّلذين ننتقل فيهما من هذا العالم، لذا لا نُضيِّعَن الوقت في ما لا فائدة منه.
أتمنّى إخوتي إذًا، أن يتجدّد لقاؤنا في الجمعة الثالث من كلّ شهر، بنعمة الثالوث القدس، الآب والابن والرّوح القدس، له المجد إلى الأبد. آمين.
ملاحظة: دُوِّنت العظة بأمانةٍ مِن قِبَلِنا.