انطلاقة جماعة “أذكرني في ملكوتك”،
كنيسة مار جرجس – القريات، عكار.
عِظة القدّاس الإلهيّ للخوري ايلي القدّيسي، خادم الرعيّة:
باسم الآب والابن والروح القدس، الإله الواحد، آمين
أحبّائي، إخوتي في المسيح،
في هذا الأحد الـمُبارَك، الّذي هو أحد بشارة زكريّا، يروي لنا القدِّيس لوقا، – وهو طبيب كما هو معلوم-، أدّق التَّفاصيل، -وهذه هي ميزة الأطبّاء-، المتعلِّقة بحدث ميلاد الربّ يسوع، ابتداءً من بشارة زكريّا.
إنّ الكاهن زكريّا، هو كاهنٌ من العهد القديم، ولكنّه يُطلّ على العهد الجديد الّذي يبدأ بزمن الميلاد، والّذي تتحضَّر له الكنيسة من خلال عدَّة آحاد وصولاً إلى تجسدّ الربِّ يسوع. إنّ بشارة زكريّا تخبرنا أنّ المستحيل عند البشر يُصبح ممكنًا عند الله، فيوحنّا هو مولود من عاقِرَين هما أليصابات وزكريّا. هذا هو إنجيل المسيح! إنّ هذه الأعجوبة تحدث كلّ يومٍ في حياتنا، حين نُدرِك أنّ المستحيل عند البشر يُصبح ممكنًا عند الله.
إنّ الربَّ قد ظَهر أوّلاً في اللِّيتورجيّا. إنّ كلمة “ليتورجِيّا” هي كلمةٌ يونانيّةٌ الأصل، تعني خِدمة النَّاس، خِدمة الشَّعب.كان زكريّا يخدم الشَّعب عندما كان يُقدِّم البخور لله. ولكن في أثناء إحراقه للبخور، خاف زكريّا أن يكون قد بَخَّر بِطريقةٍ خاطئةٍ. ماذا يعني أنّ يُبخِّر الكاهن بطريقةٍ خاطئة؟
إخوتي، في العهد القديم، كان مِن المعلوم عند اليَهود، أنّ مَن يرى الله يَمُت. والدَّليل هو أنّه حين كان موسى على الجبل سارع إلى تغطية عينيه كي لا يرى الربّ فيَموت. إنّ البخور هو علامةٌ على حضور الله. وفي العهد القديم، كان على الكاهن أن يحرق البخور بطريقةٍ تمنعه من رؤية الله، لئلّا يموت. عندما رأى زكريّا الملاك، خاف وارتعب إذ اعتقد أنّه لم يبخِّر بما فيه الكفاية وبالتّالي سيموت، لذا سارع الملاك إلى الإجابة على خوف زكريّا قائلاً له: “لا تَخف، فقد استُجيبَت صلاتُك”. وبعد ذلك، أصبح زكريّا أبَكم. إخوتي، قد يجد البعض في البُكم نوعًا من القصاص، غير أنّه ليس كذلك في الحقيقة. فالإنسان يصمت كي يتأمَّل في ما قيل له. وهذا ما حدث مع زكريّا الكاهن. وقد أطلق القدِّيس يوحنا الصّليب على هذا الصَّمت اسم “اللِّيل الـمُظلِم”، وقد اختبره شخصيًّا.
إخوتي، عندما نفقد شخصًا عزيزًا على قلبنا، نمرّ في هذا “اللّيل الـمُظلِم”، من دون أن نفهم ماذا حدث معنا. في الفيديو الصّغير الّذي سنشاهده فيما بعد، مع جماعة “أذكرني في ملكوتك”، ستسمعون معي إخوتي، اختبار أُمٍ تُخبرنا عن خبرتها مع الموت فتقول لنا إنّها كانت تعتقد أنّ الموت يطال كِبار السِّن فقط، إلّا أن مات ابنها شابًا، فلم تتمكَّن من فَهمِ ما حدث معها. وتتابع هذه الأُم فتخبرنا أنّها تمكَّنت بفعل هذه الجماعة من الانتقال من يوم “الجمعة العظيمة” إلى القيامة، وهذا ما سمِعناه أيضًا في الرِّسالة الّتي تُليَت على مسامعنا، إذ قال لنا الرَّسول، كاتب الرِّسالة، إنّنا نُبشِّر بالمسيح القائم من بين الأموات. وفي الأيقونة الّتي قدَّمتها لنا جماعة “أذكرني في ملكوتك”، نرى موت المسيح وقيامته من بين الأموات.
إخوتي، إنّ ظهور الربّ لنا تمَّ في اللِّيتورجيّا. في اللِّيتورجيّا الّتي نقدِّمها اليوم، هناك ظهورٌ للربّ: إذ فيها نختصر أربعة أيّام من حياة يسوع في ساعة واحدة: خميس الأسرار، الجمعة العظيمة، سبت النُّور، وأحد القيامة. ولكن عندما نختصر هذه الأيّام الأربعة في ساعة واحدة هذا لا يعني أن نكون بعيدين عن الحدث، بل على العكس من ذلك، إذ خلال هذه السّاعة الواحدة، نعيش بأعجوبة، مع العذراء مريم حدث الصّلب، فنسمع يسوع المتروك على الصّليب ينادي أباه: “إلهي، إلهي، لماذا تركتني”، ثمّ ننتقل إلى سبت النُّور وصولاً إلى القيامة. ولهذا السّبب، في اللِّيتورجيّا، نلاحظ أنّ كلّ واحدٍ يقوم بعملٍ ما: واحدٌ يُضيء شمعةً، وآخر يقرأ الرِّسالة، وآخر يتلو النّوايا.
إخوتي، إنّ كلّ حركة تحصل على المذبح لها معنى وبالتّالي، فإنّ كلّ حركة لا تتصّل باللِّيتورجيا من شأنها أن تشوِّش رؤيتنا لهذا الحدث المقدَّس. وفي هذا الإطار، يتكلّم الآباءُ القدِّيسون، عمّا هو أبعد من التأمّل، ألا وهو “المشاهدة الروحيّة”.
إخوتي، قد يتأمَّل أحدكم في وقت اللِّيتورجيّا الصّليب الموضوع على المذبح، وفجأة يمرُّ امامه طِفلٌ أمام المذبح، فيشوِّش له تأمّله ويعيقه عن متابعة تأمِّله. لذلك، على المذبح يجب أن تكون كلّ الحركات مضبوطةً، لا لأنَّ الله يريد منّا أن ننظِّم الأمور، بل لأنّ ما يحدث على المذبح هو عمل مقدَّس وينبغي التأمّل به، من دون أي تشويش.
إخوتي، إنّ تنظيم الحركات على المذبح هو عملُ مَحبَّة. في العمل الّذي يحدث على المذبح، تَظهر عظمة إيماننا، وفيه نجد تعزيّـتنا.
إخوتي، في كلِّ ليتورجيّا، نذكر أمواتنا، الّذين انتقلوا إلى الحياة الثانية، ونحن أيضًا نسير على هذه الدّرب. وهنا أريد أن أشجِّع كلّ محزون من بينكم، الّذي يزال في “يوم الجمعة العظيمة”، على التحلِّي بالرَّجاء والانتقال إلى يوم القيامة. إخوتي، أنا أعلمُ أنّ الجمرة لا تحرق إلّا مكانها، كما أعلَمُ أنّ فقدانَ الأحبّة هو جرحٌ عميق لا يمكننا الشَّفاء منه بسهولة. ولكن ما أريد أن اقوله لكم، أيّها الحزانى، إنّ هذا الجرح الّذي تعانون منه لا يستطيع أحدٌ أن يُطيِّبه ويُبلسِمه إلّا الرَّجاء الّذي يُعطيه يسوع من خلال القيامة.
إخوتي، في اللِّيتورجيا الّذي نقوم بها اليوم، نحن لا نُصلِّي ونقدِّس بالنِّيابة عن أمواتنا، بل نحن نُصلِّي ونقدِّس مع أمواتنا، الّذين أصبحوا ينتمون إلى “أورشليم السَّماويّة”. إنّ المذبح هو مكانٌ مقدَّس، وهو يرمز ليتورجيًّا إلى “أورشليم السّماويّة”. ليسوع المجد إلى الأبد. آمين.
ملاحظة: دُوِّنت العِظة ِبأمانةٍ مِن قِبَلِنا.