انطلاقة جماعة “أذكرني في ملكوتك”،

كنيسة مار مخايل – بيت الشعار، المتن.

 عِظة القدّاس الإلهيّ للخوري روني يونس، خادم الرعيّة:

باسم الآب والابن والروح القدس، الإله الواحد، آمين.

إخوتي الأحبّاء، سلام الربّ معنا جميعًا.
إنّنا نحتفل اليوم بالقدّاس الأوّل لجماعة “أذكرني في ملكوتك” في رعيّتنا، ونصلّي معها من أجل جميع أمواتنا الراقدين على رجاء القيامة. إنّ الكنيسة تتألّف من الكنيسة المجاهدة الّتي تضمّ جميع المؤمنين الأحياء على هذه الأرض الفانية، ومن الكنيسة الممجّدة الّتي تضمّ القدّيسين شفعاءنا، ومن الكنيسة المتألـمّة الّتـي تضمّ جميع أمواتنا. وعلى الكنيسة الـمُجاهدة أنْ تَنْضَمّ إلى الكنيسة الـمُمجدّة في صلاتها من أجل الكنيسة الـمتألّمة، الّـتي هي في حاجة ماسّة لصلاتِنا.

إنّ المواهبَ في الكنيسة متعدّدة وكثيرة، وهي تَهْدُف إلى تسليط الضوء على حقائق إيمانيّة، تَجاهَلها المؤمِن نتيجة انشغالاته الحياتيّة الكثيرة. وتتمتّع جماعة “أذكرني في ملكوتك” بموهبة خاصّة في الكنيسة، إذ تُسَلِّطُ الضوء على أهميّة الصّلاة من أجل أمواتنا، وتسعى إلى تذكير المؤمِن بضرورة العمل من أجل الحياة الأبديّة، لأنّها الوحيدة الباقيَة، فهذا العالم زائلٌ. فَمِنَ الضروريّ أن يتذكّر المؤمِن أمواته، لأنّه مِن خلالهم يستطيع أن يتذكّر أنّه يعيش في عالمٍ زائل، وأنّه سيعبُر في يومٍ من الأيّام إلى الحياة الأبديّة، وأنّ عليه الاستعداد لها.

إنّ حَدَث الموت، لا يجب أن يُرعِب المؤمِن، لا بل عليه أن يكون سببًا لشعوره بالأمان، إذ إنّه يعبُر مِن خلاله إلى الله. على الموت، أن يكون سببًا يَدفَعُ المؤمِن ليُعبِّر عن إيمانه ورجائه بالربّ الّذي انتصر على الموت بقيامته، وليستعدّ للقاء الربّ وجهًا لوجه في الملكوت، بدءًا من مسيرة حياته على هذه الأرض.

أمام الموت، يَنقسِمُ النّاس إلى فريقين: فالفريق الأوّل يتّخذ موقفًا لا إيمانيَّا، وهو موقف الإنسان الّذي يعيش في قلب هذا العالم الّذي يعمّه الضجيج؛ أمام مشهد الموت، نراهم يصرخون ويبكون، لأنّ نظرتهم إلى الحياة تتحوّل إلى نظرة سوداويّة، فَنَظَرُهُم مُوَجَّه باستمرارٍ نحو القبر، لذا يغلبهم اليأس والحزن. كُثُرٌ هم الأشخاص الّذين يَتَبّنون هذا الموقف أمام الموت، وبخاصّةٍ عندما يكون الفقيد بعمر الشباب، ومقرَّبًا جدًّا، أن يكون أخًا أو ابنًا أو زوجًا.

إنّ موت هذا الإنسان العزيز في عُمْرِ الشباب يَدفع، في الكثير من الأحيان، أفراد العائلة إلى الموت وهم ما زالوا في الحياة، فنراهم يَتفوَّهُون بكلماتٍ لا تُعبِّر عن إيمانهم، بل عن يأسِهم من الحياة، إذ يستخدمون عبارات مِثلَ: “ما نَفعُ حياتي بعد موته؟ وها قد رحل جسر البيت، فماذا تنفعني الحياة بعده؟”. إنّ هذه الألفاظ تترافق مع تصرّفاتٍ تَنُمُّ عن يأسٍ وعن رغبةٍ في الموت، فَنَجِدُ أنّ أكثر الـمَعنييّن بهذا الموت، لا يكفّون عن زيارة القبر، مُتَناسِين ذواتهم وباقي أفراد العائلة الّذين لا يزالون على قَيدِ الحياة، وبحاجةٍ إلى وجودهم قُربَهم. إنّ الحياة تتوقّف عند هؤلاء، بموت هذا الإنسان العزيز، ويُقرِّرون إنهاء مِشوار حياتهم بقرارٍ منهم، فلا يَعُودون يتفاعلون مع نِعَمِ الله الّتي يُفيضُها عليهم.

إنّ مِثَل هذا القرار بإنهاء مِشوار حياتنا، ونحن لا نزال فيها، هو قرارٌ سيُحاسِبُنا عليه الربّ عندما سَنَمثُل أمامه يوم الدينونة. إنّ هذا القرار هو انتحارٌ بطيءٌ وملموسٌ، ونحن لا يحقّ لنا اتّخاذ مِثْلَ هذا القرار. إنّ الإنسان الّذي يتّخذ مِثْلَ هذا القرار، يَرغب بالموت من أجل الموت، فَفُقدَانه لهذا الإنسان العزيز جَعَلَهُ يفقِدُ رجاءه بالربّ يسوع المسيح، مُخلِّصه وإلهه. إخوتي، علينا أن نصلّيَ من أجل هؤلاء ومن أجل ذواتِنا، ونطلبَ من الله أن يَمُدّنا بفضيلة الرجاء الّـتي تُساعدنا على مواجهة مِثِل تلك الصعوبات في الحياة. إخوتي، إنّ الإنسان الّذي لا رجاء له يَعبُر بالموت، مِن هذه الحياة إلى الموت في الحياة الثانية، غير أنّ الربّ يدعونا إلى العبور معه إلى الملكوت، أي إلى الحياة الأبديّة، فَلْنطلب منه اليوم، أن يَذْكُرَنا في ملكوته حين تَحين ساعة انتقالنا من هذا العالم.

إنّ جماعة “أذكرني في ملكوتك”، تَحُثُّنا على الطلب باستمرار من الرّبّ أنْ يَذْكُرَنا في ملكوته. إنّ هذه الحياة هي مسيرة جهادٍ روحيٍّ طويلٍ على كافة الأصعدة، فعلى كلّ مؤمِنٍ أن يؤدّي الرسالة المطلوبة منه في هذه الحياة بكلّ أمانةٍ ليتمكّن من العبور- حين تأتي السّاعة – إلى الملكوت، حيث يُعِدُّ لنا الرّبّ المنازِل السماويّة.

إنّ الموت هو حقّ على كلّ إنسان، ولذا علينا أن نُحاوِل التعايُش معه، كما نتعايش مع بقيّة الأحداث في حياتنا. إنّ كلام بولس يَبعثُ في قلوب المؤمنين العزاء والرّجاء اللّذين يَهبُهما الربّ لكلّ مَن يُؤمِن به. إنّ بولس الرسول يدعونا إلى عدم الحُزن كَمَن لا رجاء لهم، بل إلى الحُزن كمَن لهم رجاء بالربّ يسوع. إنّ بولس الرسول يُشدِّدنا في كلامه حين يقول لنا إنّه ليس هو الحَيّ، بل إنّ المسيح هو الّذي يحيا فيه، وإنّه يَحسِب الموت رِبْحًا له.

إنّ بولس الرسول قد تناول موضوع الانتقال من هذا العالم في أحاديث كثيرة، وما كان كلامه إلاّ ليُعطي المؤمنين نفحةَ رجاءٍ وعزاء بالربّ يسوع المسيح. إنّ هذه النفحة البولسيّة يجب أن تَطبَع المسيرة الإيمانيّة لكلّ كاهنٍ، ليتمكّن مِن أن يكون قدوةً ومِثالاً للمؤمنين من خلال طريقة عيشه.

إنّ القبر، بالنسبة للمؤمنين بالمسيح، هو قبرٌ فارغٌ لأنّ المسيح قد قام حقًّا، فَهُوَ لم يَعُد موجودًا في القبر. إنّ المسيح قد قام من القبر وصَعِد إلى السّماء. إنّ المسيح قد أعطى المؤمنين به نفحة رجاءٍ، إذ كلّم النِّسوة والتّلاميذ قبل صعوده إلى السّماء مُعلِنًا لهم حقيقةَ القيامة وأهميّتها، فَلَوْلا قيامة الربّ يسوع من القبر، وانتصاره على الموت، لَكَان إيمانُنا باطِلاً. إنّنا أبناء القيامة، لذا علينا عدم النظر مِن جديد إلى القبر الفارغ، إنّما علينا أن ننظر إلى نور القيامة، فالقيامة هي أساس إيماننا وعَيشِنا المسيحيّ.

إنّ مَن يتسَلَّحْ بهذا الإيمان، يستطِعْ أن يتخطّى جرح الموت، مع الموت، من دون نِسيان الأحبّاء الّذين غادروا هذا العالم. إنّ فُقدان الأحبّة يترك أثرًا لا يُـمَّحى في نفوسنا، ولذا لا نستطيع تجاهُلَهم أو نِسيانَهم. فمَن فَقدناهُم يَبقَون أفرادًا مِن عائلتنا على الرّغم من أنّهم غادرونا إلى بيت الآب، لذا علينا التكلّم عنهم بطريقة تُعبِّر عن رجائنا بالربّ، ولا تُعبِّر عن حُزننا ويأسِنا، وذلك لأنّنا أبناء الرّجاء.

إنّ الكتاب المقدّس، وبخاصّة العهد الجديد، يزرع فينا نفحة رجاءٍ إذ يُخبرنا أنّ يسوع المسيح، وسيط العهد الجديد بين الإنسان والله، قد فَتَح طريق السّماء أمامنا. إنّ الطريق بين الأرض والسّماء قد أصبحت سالكةً، فالموت أصبح طريق العبور للمؤمِن مِن هذه الحياة المليئة بالمشّقات والصِّعاب إلى حياة يملأها فرحُ اللّقاء بالربّ يسوع. إنّ أهميّة الحياة بعد الموت، تظهر من خلال أمواتنا القدِّيسين الّذين يَبُثّون فينا روح الرّجاء، وهذا ما نراه في المسيرات الإيمانيّة الّتي يُشارك فيها المؤمنون، كالمسيرات الّتي تُقام إلى أماكن الحجّ الخاصّة بالقدِّيس شربل في الثاني والعشرين مِن كلّ شهر، والّـتي تبعث الرّجاء والإيمان في نفوس المؤمنين. صحيح أنّ القدِّيس قد مات بالجسد، غير أنّ الموت بالنسبة له، لم يكن نهاية لكلّ شيءٍ، إنّما بدايةً لحياةٍ جديدةٍ مع الربّ، لـمُعاينة الربّ وجهًا لِوَجه. إنّ القداسة هي ثمرة موت هؤلاء القدِّيسين الّذين عاشوا حياتهم على الأرض وِفق إلهامات الرّوح القدس.

لا يستطيع إنسان، أمام الموت، أن يكون لا مُباليًّا: فإمّا أن يتّخذ موقفًا لا إيمانيًّا أمام هذا الحَدَث الجليل، فيتمنّى الموت في حين أنّه لا يزال في هذه الحياة، وإمّا أن ينظر إليه نظرة رجاءٍ نابعةٍ من إيمانه بالربّ يسوع، فيرى في الموت عبورًا إلى الحياة الأبديّة.

إنّنا، أبناء الكنيسة، نشكر الربّ على إرساله جماعة “أذكرني في ملكوتك” لنا، لتُذَكِّرنا بأهميّة الصّلاة من أجل أمواتنا الراقدين، وتذكِّرنا بضرورة التحلّي بالرّجاء والإيمان عندما يدقّ الموت أبوابنا، ليختار أحد أحبّائنا. لذا علينا أن نُجاهِد الجِهاد الحَسَن في هذا الحياة كي نتمكّن حين ننتقل منها، من بلوغ الحياة الأبديّة مع الربّ يسوع، فَنَنعم بمشاهدته وَجهًا لوَجهٍ إلى أبد الأبدين. آمين.

ملاحظة: دُوِّنت العظة بأمانةٍ من قِبلنا.

Instagram
Copy link
URL has been copied successfully!
WhatsApp