انطلاقة “أذكرني في ملكوتك”،
كنيسة دير مار يوسف – المتين، المتن.
عِظة القدّاس الإلهيّ للأب أنطوان خليل ، خادم الرعيّة:
باسم الآبِ والابنِ والرُّوحِ القدسِ، الإله الواحد آمين.
في هذا الزَّمنِ، زمنُ الصَّليبِ، وخلال انتظارِنا الشهرَ القادمَ حينَ سنُصلِّي لأمواتِنا، نجتمعُ في يومِ الجمعةِ الأوَّلِ من هذا الشَّهرِ مع جماعةِ “اذكُرني في ملكوتِكَ”، الذين نشكُرُ لهم قدومَهم من مناطقَ بعيدةٍ، ومن منطقةِ المروج، ليشاركونا الصَّلاةَ لأجلِ من رقَدُوا.
إخوتي، سنجتمع بإذن الله في يوم الجمعة الأول من كل شهرٍ – وسنعملُ على تغييرِ الموعدِ ليتناسَبَ مع التَّوقيتِ الشَّتَوي- لنقيمَ تذكارَ موتانا ونصلِّيَ من أجلهم، ضمنَ جماعةِ “اذكُرني في ملكوتِكَ” وفي هذه الكنيسةِ الصَّغيرةِ، كنيسةِ مار يوسُف – المتين.
نحنُ دائماً نذكرُ أمواتَنا، ونحن أصلاً نحملُ إرثَهم وتراثَهم، سواءَ أكانوا أصدقاءَ أم أهل أم أقرباءَ أم أحبَّاءَ، نحن نحملُهم معنا في ذِكرَاهُم وبطريقةِ تعامُلِنا معَهم وبكلماتِهم وأفكارِهم، فكيفَ إذاً إن ذكرناهم في صلاتِنا؟
الجماعةُ التي ستعرِّفُنا عن نفسِها في نهايةِ القدَّاسِ، جماعةٌ مؤمنةٌ مصليةٌ، ركَّزَت صلاتَها لأجلِ المرضى والموتى، وهذا أمرٌ مهمٌّ بالنِّسبةِ لنا، إذ أنَّنا نؤمنُ أنَّنا نكافحُ على الأرض، ولكن هناك أناس يغادرونَنا. منهم من يصعدونَ إلى السَّماءِ ويصبحونَ قدِّيسينَ فنطلُبَ شفاعاتِهمِ، وهناكَ من هُم مثلنا يسيرونَ على الطَّريقِ باتِّجاهِ الموتِ، والبقيَّةُ لا تزالُ تجاهدُ. وهناكَ رباطٌ ثالوثيٌّ كنسيٌّ يربطُ هؤلاء بعضَهم ببعضٍ دون تفكُّكٍ. فالكنيسةُ هي النَّاسُ المجاهدونَ الأحياءَ، والموتى الذين سبقونا فأغمضوا أعينهم عن هذه الدُّنيا ليفتحوها على الدُّنيا الأخرى التي وعدنا الله بها، والقدِّيسونَ الذين ذهبوا مباشرةً إلى السَّماءِ ووصلوها سريعاً نتيجةً للتَّضحياتِ وبذلِ الذَّاتِ وأعمال الرَّحمةِ والصَّلواتِ والمحبَّةِ التي مارسوها، فبِتنا نطلبُ شفاعَتَهُم ليساعدونا نحنُ الأحياءَ لنفهم يسوعَ المسيح أكثر.
هذه الجماعةُ التي ستعرِّفُ عن نفسِها، وكيفَ نشأت وما الأعمال التي تقومُ بها في لبنانَ وخارجِه، تسعى للانتشارِ الأوسع دوماً، من قريةٍ إلى أخرى ومن بلدٍ إلى بلد، وهذا أمرٌ جميلٌ، أن نجتمع مصلِّينَ لراحةِ نفوسِ أمواتنا.
في شمالِ لبنانَ يستخدمُ النَّاسُ مصطلحَ “يرحم موتاكم”، فهم دائماً يذكرونَ موتاهُم عندَ رضاهُم عن عملٍ ما يحدثُ، عمل محبَّةٍ أو تضحيةٍ. واجتماعُنا نحنُ اليومَ لأجلِ موتانا، وانتشارُ هذهِ الجماعاتِ في المدنِ والقرى وفي كلِّ مكانٍ، أمرٌ مستحبٌّ وعملٌ مفيدٌ إيمانيٌّ نشجِّعُه.
إذاً، سنتعرَّفُ إلى هذهِ الجماعة بعدَ المناولة، ونتمنَّى أن نلتقيَ دوماً في الجمعةِ الأوَّلِ من كلِّ شهرٍ لنصلِّيَ.
هناكَ أمرٌ آخرَ أودُّ أن أقولَهُ بعيداً عن الشُّكرِ والتَّرحيبِ. يا أخوتي، بتأمُّلِنا وصلاتِنا لمن غادرونا، نحنُ نقومُ بفعلِ إيمانٍ. فنحن نؤمنُ بأنَّ موتانا لايموتونَ إذ لدينا القيامةُ. فيسوعُ المسيحُ كانَ باكورةَ الرَّاقدين، وأقامَ معهُ جميعَ المدفونين منَ الموتِ. ونحنُ نؤمنُ أنَّ قيامتَهُ تُحيينا وتُقوِّينا نحنُ الأحياءَ، وتكملُ معنا نعمتَهُ وبركَتَهُ، لتساعدَنا بعد موتنا وتوصِلَنا لرؤيةِ وجههِ الإلهيِّ مباشرةً. لذلك نقولُ لبعضِنا عندَ دفنِ موتانا: “المسيحُ قامَ، حقَّاً قامَ”، لنُذكِّرَ بعضَنا بهذهِ الحقيقةِ، إيماناً عميقاً بالكنيسةِ وبيسوعَ القائم من القبرِ، وبحقيقةِ القيامةِ في حياتنا المسيحيَّةِ اليوميَّةِ. فكلَّما وقعْنا، وكلَّما أخطأنا وكلَّما كنا تعساءَ نؤمنُ بالقيامةِ التي تقوِّينا وتثبِّتنا لنكملَ الطَّريقَ، ومن هنا تأتي الغايةُ من هذه الجماعةِ المصلِّيةِ، وهيَ أن نساعدَ بعضَنا البعض ونشبكَ أيدينا بأيدي بعضٍ لنسيرَ الدَّربَ مهما كان وعراً، مشجِّعينَ ومشدِّدينَ ومقوِّينَ بعضَنا البعض لنكملَ طريقَ القيامةِ، طريقَ الفرحِ الذي وعدَنا بهِ الرّبُّ بالبشرى السعيدة.
وهناكَ أمرٌ آخرَ وهوَ الوفاء. يمكننا أن نكونَ أوفياءَ فقط لمن نحتاجُ؛ “لا أعرفُكَ إن لم تكن لي مصلحةٌ لديكَ”. ولكن هناكَ أيضاً وفاءٌ بينَ الأصدقاءِ وفي العائلة، وبينَ المحبِّينَ ومع أمواتِنا، الذين عرفناهم وأحبَبناهم وأنشؤونا وعلَّمونا وربُّونا وسهروا على راحتنا، وصلاتُنا لأجلهم هي علامةُ وفاءٍ منا لهم تثبتُ أنَّنا لم ننسَهم. وكما هم يرافقونَنا كذلكَ نحن نرافقُهم، وكما هم أورثونا الصوتَ أو الكلماتِ أو المظهرَ الخارجيَّ أو الطُّولَ أو لونَ العينينِ والشعرِ والأخلاقَ والتَّربيةَ، كذلكَ نحن نحملُ ذاكَ كلَّهُ معنا، فنتذكَّرهُم أكثرَ لأنَّهم جزءٌ منَّا شئنا أم أبَيْنا. كلُّ إنسانٍ يلتقي بآخرَ يرثُ عنهُ، الأخلاقَ أو المحبَّةَ أو حتى الحذرَ في حالِ الأذى. علاقتُنا وطيدةٌ معَ أمواتِنا مفعمةٌ بالوفاءِ والإيمان.
والأمرُ الأخيرُ الذي أودُّ الحديثَ عنهُ هو المرافقةُ، فكما نحنُ نؤمنُ أنَّ موتانا لا يموتونَ، كذلك نؤمنُ بمرافقتِهم لنا. فهم يسيرونَ معنا وأنظارُهُم تتَّجِهُ نحوَنا كما أنظارُنا تتَّجِهُ نحوَهُم، ونصلِّيَ لهم كي يترأفَ الآبُ السَّماويُّ بهم ويرحمَهم. وهم يرافقونَنا بحكمَتِهم بعد الموتِ كما رافقونا في حياتِهم. رحمَ اللهُ جميعَ موتاكُم يا أخوتي وشفى مرضاكُم. هناكَ لائحةٌ بالأسماءِ سترفعُ أمامَ مذبحِ الرَّبِّ لنصلِّي لأجلِ من فَقدْتُم.
وفي النِّهايةِ، أتمنَّى عليكم يا أخوتي أن تقوموا بأعمالِ رحمةٍ عن روحِ موتاكُم أو لشفاءِ مرضاكُم، ليسَ فقط بالتَّقدمات العَينيَّة، بل ببذلِ الوقتِ والبسمةِ والحضورِ، لبلسمةِ الجراحِ وتشديدِ الضُّعفاءِ والبؤساءِ، فهذا ما أظنُّهُ عملَ رحمةٍ حقيقيٍّ لأجلِ موتانا.
ملاحظة : دُوّنت العظة بأمانةٍ من قبلنا.