انطلاقة جماعة “أذكرني في ملكوتك”،
كنيسة مزار القدّيسة رفقا – حملايا، المتن.
عِظة القدّاس الإلهيّ للمونسنيور كابي مطر، خادم الرعيّة:
باسم الآب والابن والروح القدس، الإله الواحد، آمين.
كم جميلٌ أن نجتمع اليوم، وخصوصًا في الأربعاء الثاني من كلّ شّهر، في بداية نشاطٍ جديدٍ في هذا المزار، مزار القدِّيسة رفقا برعاية لجنة الوقف، اسمه “أذكرني في ملكوتك”. إنّ مؤسِّس هذه الجماعة هو يسوع، وتلك السّيدة الّتي تَقِف خلف الكاميرا هي الّتي ساعدَتْ يسوع على تأسيس هذه الجماعة، المنتشرة في بلدان مختلفة من العالم، من لبنان إلى بِنَين، وبلجيكا وإيطاليا وفرنسا، وفي كلّ أنحاء العالم.
إنّ هدف هذه الجماعة هو أن تدفعنا إلى الصّلاة من أجل راحة أنفس موتانا، ولكن أيضًا الصَّلاة من أجل النُّفوس المنقطعة، الّتي لا يذكرهم أحد. فرِحتُ كثيرًا عندما أتَتْ إليّ امرأةٌ قائلةً لي إنَّ جارتها قد تُوفِيَت وأنَّ لا أحد يذكرها من عائلتها في صلاته، وطالبةً إليّ أن أقدِّم القدَّاس على نيّتها. هذا هو هدف هذه الجماعة: أن تُصلّي من أجل أنفس الموتى المنقطعين.
لماذا نُصلِّي لأمواتنا؟ نصلِّي لهم لِعِدَّة أهداف:
الهدف الأوّل هو كي نقول لهم شُكرًا على كلّ ما قدَّمتموه لنا في هذه الحياة الّتي نعيشها، فنحن موجودون بصحّتنا العقليّة والفِكريّة والجسديّة والنفسيّة والرّوحيّة بِفَضلِهم. هذه هي الطريقة الوحيدة الّتي نستطيع من خلالها شُكرِهم على عملِهم. قد يكون هناك طريقةٌ أُخرى نشكرهم فيها على ما قاموا به لأجلِنا من خلال المحافظة والسّير على القِيَم والمبادئ الّتي علّمونا إيّاها.
الهدف الثاني هو كي نحافظ على تلك الصِّلة الّتي تجمَع بيننا وبينَهم، إذ إنّنا لا نستطيع رؤيتهم ولا الكلام معهم إلّا من خلال الصّلاة. إنّ عالَمَنا اليوم، أي الكُرّة الأرضيّة بأسرِها، مرتبطٌ بعالَمٍ آخَر، هو الحياة الثانية الّتي انتقل إليها أمواتنا.
نحن نُصلِّي لأجل راحة أنفس موتانا، ولكن إذا كان موتانا، لا سَمَح الله في جهنّم، فإنّ صلاتنا لن تُفيدهم، لأنّهم كانوا على هذه الأرض أشرارًا، وقاموا بأذيّة الآخَرين، وماتوا من دون القيام بأيّ فِعل توبة. لذلك فَإنّه مَهما صلَّينا لهم، لن يستفيدوا مِن صلاتنا لأنّ بَيننا وبَينهم “هوَّةٌ عميقة”.
أمّا أمواتنا الموجودون في المطهر- وهُم يشكِّلون غالبيّة الموتى- فهؤلاء يستفيدون من صلاتنا لأنّهم كانوا في حياتهم الأرضيّة أشخاصًا مؤمنِين، يُحبُّون الله ويحبُّون المسيح ويحبّون الكنيسة، غير أنّهم أخطأوا في حياتهم ولكنَّهم تابوا، وعليهم التكفير عنها كي تُصبح روحهم كاملة، فتنال الراحة الأبديّة.
إخوتي، إنَّ موتانا انتقلوا إلى مرحلة المطهر، إلى حالة المطهر: وفي هذه الحالة هُم يشبهون إنسانًا نائمًا يَحلُم في بعض الأحيان أحلامًا جميلة وفي أُخرى مزعجة، ولكن من المفروض أن تكون كلّ أحلامه جميلة. لذلك، علينا أن نثابر على الصّلاة من أجلهم كي يستفيدوا، فيستفيدوا منها وينتقلون من المطهر إلى السّماء. تمامًا كما يحصل معكم حين أُسلِّم عليكم، فتفرحون؛ كذلك هُم يَفرَحون في كلّ مرّة نُصلِّي لهم إذ إنّهم ينتقلون من حالة المطهر، وهي حالة ممزوجة بالفرح والكآبة في الوقت نفسه، إلى حالة السَّماء، وهي الحالة الّتي نطمح إليها جميعنا.
مَن يذهب إلى السّماء من بيننا؟ القدِّيسون: القديسة رفقا، القدِّيس شربل، القدّيس نعمة الله الحرديني، القدِّيس يعقوب الكبوشي. إنّ كلّ هؤلاء الأشخاص وسِواهم أيضًا، قد ناضلوا، وجاهدوا، وصارعوا في هذه الحياة، كي يحافظوا على المبادئ والقيَم. إنّ هؤلاء قد دافعوا عن حقوق الإنسان وعن حريّته، وقد عملوا من أجل نمو الإنسان والبشريّة وماتوا وهُم في هذه الحالة، أي من دون أن يُغيِّروا حياتهم هذه. كُلُّنا خطأة، وهُم كانوا خطأةً أيضًا على هذه الأرض، ولكنَّهم ناضلوا ولم يستسلموا في هذه الحياة: فَهُم لَم يَروا ظُلمًا وسكتوا عنه، ولم يَروا فقيرًا إلّا وساعدوه، حتّى وإن كان ذلك على حساب راحتهم، تابعوا مسيرَتَهم في هذه الحياة وحَمَلوا صليبهم مع يسوع المسيح فصاروا قدِّيسِين.
إنّ هؤلاء، حين يموتون على هذه الأرض، ينتقلون إلى حالة السّماء. وحين نُصلِّي لهم، فَهُم لا يستفيدون من صلاتنا لهم لأنّهم في حالة السّماء، غير أنّ هذه الصلّاة ترتَّد علينا فنستفيد نحن منها. فصلاتنا لهم تعود إلينا، نحن الذين لا زِلنا على هذه الأرض، فتُعزِّينا وتقوِّينا في الجهاد الرُّوحيّ الّذي نعيشه.
وأعتقد أنّه لأجل ذلك، نشأت هذه الحالة أو بالأحرى هذه الحركة، المسمّاة جماعة “أذكرني في ملكوتك”. يُقال إنّ لصّ اليمين هو الّذي قال هذه الصّلاة ولكن في الحقيقة، مِن غير المعروف أيٌّ من اللِّصَين قالها، أكان لصّ اليمين أو لصّ اليسار، أي أنّها صَدرَتْ عن أحد اللِّصَين المصلوبَين إلى جانب المسيح، أي أنّها صَدَرَت عن إنسانٍ خاطئ. إنّ هذا اللّص، حين رأى أنَّ يسوع المصلوب على الصّليب بَريء، لأنّه لم يرتكب أيّة خطيئة، بل كان يساعد جميع المحتاجين إليه، وقد اضطُهِد وصُلِب وكُلِّلَ بالشّوك من قِبَل اليهود، أدرَك هذا اللِّص حينها أنَّ يسوع المصلوب إلى جانبه هو ابن الله ومخلِّصُ العالَم، فالتجأ إليه قائلاً له: “أُذكرني يا ربّ متى أتيتَ في ملكوتِك” (لو 23: 42).
إذًا، لقد طلب هذا اللِّص، الّذي يُدرِك أنّه خاطئ، مِن الربّ يسوع أن يذكره الربّ في ملكوته. فقال له يسوع: “اليوم تكون معي في الفردوس”(لو 23: 43).
إنّ هذه الجماعة، جماعة “أذكرني في ملكوتِكَ” نشأتْ نتيجةَ معاناةٍ نابعة عن اختبار سرّ الموت. حين يموت أحد أحبّائنا، وخصوصًا إن كان المنتقل من بيننا، لا يزال فتيًّا أو شابًا، ننهار ونُحبَط، ونتضايق ونيأس، والبعض منّا يَصِلون إلى حدّ الكُفر، ويخاصمون القدِّيسِين لأنّهم لم يتمكنّوا من فَهم سبب حدوث ذلك معهم.
والحال أنّه إذا فكَّرنا أنّ كلّ ما نملك: أيدَينا، أرجُلِنا، عيوننا، عقلنا، تفكيرنا، ثقافتنا؛ لم نَخلُقها نحن، بل هي نِعَمٌ أعطانا إيّاها الله، أتَتْ مِنه وتعود إليه مجددًّا من خلال الموت. وهنا نطرح السُّؤال: ما المشكلة، إذا خَسِرنا أحد أحبّائنا بالموت؟ ولماذا تُعجَبون بأنفسِكم؟ فأنتم لم تخلُقوا ذواتِكم. “الله أعطى والله أخَذ فليكن اسم الربِّ مبارَكًا” (أي ).
فحسب تصوُّري، هذه الجماعة نَشأتْ من أجل أن تَبُثَّ الرَّجاء والعزاء في قلب الإنسان، كي لا يبقى الإنسان مُحبَطًا معتقدًا أنّه خَسِر شخصًا كان له. أولادنا ليسوا لنا، الله أعطانا إيّاهم كي يعودوا في النِّهاية إليه، مُتَطوِّرين، كاملِين، قدِّيسِين.
بالطّبع، نحن نشكرُكِ، بمعنى أنّنا نقدِّر العمل الّذي تقومِين به، كما نَشكُر السّيدة مارغو الصَّياح، جارَتنا، في رعيّة مار ضومط – عين الخروبة، الّتي أصرَّت عليّ كثيرًا من أجل تأسيس هذه الجماعة، فتَواصَلَتْ مع السّيدة جولِي، وهي مندوبةٌ من قبَل الجماعة وفي الوقت نفسه مسؤولةٌ معنا في الرعيّة، تعمل على التَّنسيق مع لجنة الوقف في الرعيّة من أجل القيام بهذا النَّشاط الجميل. إنّ السّيدة جُولي إضافةً إلى مَن يعاونها، يقومون بتسجيل أسماء أمواتنا عند باب الكنيسة في الأربعاء الثاني من كلّ شهر، كما يتلَّقَون اتصالاتٍ منكم من أجل تسجيل أسماء أمواتكم، ليُصلّوا من أجلهم، فيَتمكَّن هذا المنتقل من بيننا، أن يقول ليسوع المسيح “أذكرني يا ربّ متى أتيتَ في ملكوتِك”. آمين.
ملاحظة: دُوِّنت العِظة ِبأمانةٍ مِن قِبَلِنا.