“لكِن اطلبُوا أوَّلاً ملكوتَ الله وبِرَّه، وهذه كلُّها تُزاد لَكم” (متى 6: 33)
بقلم الأباتي سمعان أبو عبدو ر.م.م.
يسعى الإنسان بصورةٍ عامّة إلى تأمين ضمانةٍ لحياته. وقد يكون الأمر كذلك بالنسبة إلينا. فها يسوع يقترح علينا طريقةً مختلفةً للتفكير والعمل، طريقتَه “هو”. يطلب منّا السَّعي “أوّلاً” إلى ملكوت الله.
ويقول القدِّيس أغوسطينوس إنَّ في عيْشِ الحياة طَريقَتَيْن: “إمّا أنْ تنطلق مِن الله، فتنسى ذاتَك، وتمتلئ من نِعَمه وحقائقه وقِيَمِه، فَتَصِلَ إليه؛ وإمّا أنْ تنطلق من ذاتك، فتنسى الله، وتفتقر منه، وتمتلئ من ذاتِك، فتُضَيِّع الله”.
لقد نَبَّهَنا الله بِلسانِ يشوع بن سيراخ: “في جميع أعمالِك، أذكرْ أواخرَك، فلن تخَطَأ أبدًا” (7: 40).
صحيحٌ أنّنا نولد ونموت من دون قرارٍ منّا. لكنّ كلّ إنسانٍ يرسم طريق أبديّته بِيَدِه. فاختيارُ نوعيّة حياتِنا يتمّ بقَرارٍ شخصيٍّ لكلِّ واحدٍ منّا بواسطة ثلاثة: العقل لِيَسلكَ في نور الحقيقة، والإرادة الـحُرَّة لتَختار ما هو حقٌّ وخيرٌ وجمال، والقلب ليُحبّ ويتَحنَّن ويَرحَم.
فعندما نتّجه بكلِّ كياننِا نحو الله، ونَعمل كلّ ما في وِسعِنا، حتّى يحلَّ ملكوته فينا ومن خلالنا في الآخَرين، أي حتّى يقود حياتَنا وفق شريعته، لا بُدَّ عندها مِن أن يُعطينا الابن يومًا بعد يومٍ، كلّ ما نَحتاجُ إليه.
ولكن، على العكس، إذا ما بَقِيَت ذاتُنا هي الـمِحور، وبَقينا مُهتَّمِين بأمور هذا العالم “أوّلاً”، فَسَوفَ يَنتَهي بِنا الأَمر لأنْ نُصبح ضحايا هذا الواقع، وتصيرَ خيراتُ هذه الأرض مشكلتَنا الحقيقيّة وَهَدف وجودِنا كلِّه.
وإذ كنتَ تعتَمد على قِواكَ الشخصيّة وحسب، فسوف تقع في خطر الاستغناء عن الله.
عندما قال المسيح: “اطلبُوا ملكوتَ الله وبرَّه، وهذه كلُّها تُزاد لَكُم”، ما كان يدفع بنا إلى اللّامبالاة والاستسلام أمام ما يُحيط بنا، أو إلى التصرُّف بعدم مسؤوليّة أو بِسَطحيّة في عَمَلِنا، إنّه يريد أن يُحوِّل “همَّنا” إلى “اهتمامٍ” وَحسب، محرِّرًا إيّانا من كلِّ قلقٍ وخوفٍ واضطراب.
كلمة “أوّلاً” تعني هنا “قَبلَ كلِّ شيء”. إنَّ طَلَبَ ملكوتِ الله يأتي في المرتبة الأولى مِن دون أن ينفي ذلك أنّ على المسيحيّ أن يهتمّ أيضًا بحاجاتِه اليوميّة الحياتيّة. أمّا “طلبُ ملكوتِ الله وبرُّه”، فهذا يعني أن تُخضِع مسلكَك لـمُتطلِّبات الإنجيل.
فإنْ طَلَبتَ أنتَ أيضًا ملكوتَ الآب، فَسَوف تختبر أنّ الله “عناية”، وأنّه يُدبِّر كلّ ما هو ضروريّ لحياتِك، وسوف تكتشف الناحية الخارقة للإنجيل والمنطقيّة في آنٍ، إذ إنَّ كلَّ ما يبدو خارقًا وغير مألوفٍ في الإنجيل، يُمكنه أن يُصبح مع الله، أَمرًا مُمكِنًا: “لَيسَ على الله أمرٌ مستحيلٌ” (لو 1: 37).