“وِلاداتٌ ثلاث وعبورٌ دائم”
بقلم الأب روبير معماري الأنطوني،
نعيش في حياتنا ثلاثَ وِلاداتٍ مُتتالية ومُتكامِلة:
الولادةُ الأولى هي الولادةُ الطبيعيَّةُ بحيثُ نَعبرُ مِن رحِمِ أمِّنا البيولوجيَّة إلى كنفِ الحياةِ، وتبدأُ مسيرتُنا التي هي مزيجٌ من الخبراتِ الإيجابيَّةِ والسلبيَّة، الـمُفرِحة والـمُحزِنة، ونخوضُ خلالَها معاركَ رابحةً وغيرَها خاسرةً، ونواجهُ مواقفَ تتأرجَحُ بين الأملِ في حينٍ والخيبةِ في حينٍ آخَر. إنَّها طبيعةُ الحياة والإنسان الذي ينمو يومًا بعدَ يومٍ، وبطريقةٍ تصاعُديَّةٍ فنشهدُ في حياتِنا عبوراً منَ الطفولةِ إلى المراهقةِ ومنها إلى البُلوغِ فالشيخوخة. معَ مرور الأيام، ومِن مرحلةٍ إلى مرحلةٍ، تتبلورُ شخصيَّتُنا، فنزدادُ وعيًا وخبرةً ونُضوجًا وحكمةً ويكتملُ إنسانُنا بمختلف أبعادِه الجسديَّةِ والعاطفيَّةِ والفكريَّةِ والإجتماعيَّةِ والروحيَّة.
أمّا الولادةُ الثانيةُ، هي الولادةُ الروحيَّة من رحِم جرنِ العماد. تُعَلِّمُنا أمُّنا الكنيسةُ أنَّ المعموديَّةَ هي ركيزةُ الحياةِ المسيحيَّة كلِّها ومدخَلُ الحياة في الروح، وبها نُعتَقُ من الخطيئةِ ونولدُ ثانيةً ميلادَ أبناءِ الله، ونصيرُ أعضاءً في جسدِ المسيح، ونندمجُ في الكنيسةِ ونصبحُ شركاءَ في رسالتِها. نُدركُ من خلالِ هذا التعليمِ، أنَّنا بالعمادِ نصبحُ أبناءَ الله بالمسيحِ يسوعَ الابنِ الوحيدِ الذي صارَ بشراً وسكبَ نعمةَ روحِهِ القدوس فينا، وعلَّمنا بمَثَلِهِ كيف نكونُ أبناءً حقيقيينَ وأحرارًا. بالعمادِ نُولَدُ بالمسيحِ ونعبرُ بهِ من حياةِ الجسد إلى حياةِ الروح إذ نخلعُ الإنسانَ القديمَ الَّذي تُفسِدُه الشَّهَواتُ الخادِعة، ونلبس الإِنسانَ الجَديدَ الَّذي خُلِقَ على صُورةِ اللهِ في البِرِّ وقَداسةِ الحَقّ (أف 4: 22-24). بالمسيح نعبرُ مِن ظُلمةِ الخطيئةِ إلى نورِ الحقِّ مُجَدِّدينَ قلوبَنا بالتوبة وأذهانَنا بكلمةِ الحياةِ وموقِظين ضمائِرَنا النائمةَ فنبتعِدُ عن الرخاءِ والكسلِ والمساومةِ والفسادِ والكذب واللامُبالاة. به نعبُرُ مِن العُزلةِ الشخصيَّةِ القاتِلة إلى الـمُشاركةِ الفاعِلة في الجماعةِ الكنسيَّة بحيثُ نصبحُ أعضاءَ جسد المسيح السرّي، أعضاءً تهتمُّ ببعضِها البعض، تساندُ الفقيرَ وتعزّي الحزينَ وتقوّي الضعيف. بالمسيح نعبرُ منَ الموتِ إلى الحياة، وهذا ما تعبِّرُ عنه حركةُ التغطيس في مياه العماد. “فَإِنْ كُنَّا قَدْ مُتْنَا مَعَ المسيح، نُؤْمِنُ أَنَّنَا سَنَحْيَا أَيْضًا مَعَهُ” (رو 6: 8) هذا هو إيمانُ الكنيسةِ ورجاؤها الثابِتَين وهذا هو عزاؤُنا عندما نفقدُ أحَدَ أحِبّائِنا بانتقالِهِ إلى دارِ الحياةِ والخلود.
والولادةُ الثالثةُ، هي الولادةُ في ملكوتِ الله، هي العبورُ مِن هذه الحياةِ الزمنيَّةِ إلى الحياةِ الأبديَّة. وليسَ عبَثًا، تعيِّدُ الكنيسةُ للقدّيسين يومَ انتقالِهِم إلى السماء، في اليوم الذي يولَدونَ فيه للحياةِ الحقيقيَّة ليعيشوا في حضرةِ الله الدائمة، حيثُ لا دموعَ ولا وجعَ ولا قهرَ ولا أحزانَ ولا قيود. إنَّها دعوةٌ لنا، في هذه الظروف الوبائيَّة والسياسيَّة والإقتصاديّة المعقَّدة التي نعيشُها والتي لا تخلو من نفحةِ الموتِ ورائحته، لأن نَشُدَّ عزيمتَنا ونثابِرَ بجهدٍ ونؤازرَ بعضُنا بعضًا ونتقوَّى بنعمةِ الله لكي نواجهَ، بدونِ يأسٍ، الأزماتِ الوجوديَّة ونتخطَّاها، مُتَّكلينَ على الربِّ الذي يذكِّرُنا دائمًا وبرجاءٍ كبيرٍ، قائلاً: “ستُعانونَ في العالمِ ضيقًا كبيراً، لكن ثِقوا أنا غلبتُ العالمَ” (يو 16: 33).