انطلاقة “أذكرني في ملكوتك”،
كنيسة مار جرجس – فيطرون، كسروان.
عِظة القدّاس الإلهيّ للأب روبير عوض، خادم الرعيّة:
باسم الآب والابن والروح القدس، الإله الواحد، آمين
إخوتي، سلام الربِّ في قلوبكم أجمعين،
تحتفل الكنيسة اليوم بِعِيد الملاك ميخائيل، رئيس الملائكة. وفي هذه المناسبة السَّعيدة، أتوجّه بالمعايدة القلبيّة الحارّة لكلّ مَن يحمل هذا الاسم ومشتقَّاتِه.
إنّ اسم “ميخائيل” يعني”مَن مِثلُ الله”. ومن خلال تفكيرنا بشريًّا في معنى هذا الاسم، يتبادر إلى أذهاننا سؤالٌ هو: مَن مِنَ البشر يستطيع أن يمنحنا القوَّة، وكلّ ما نحتاج إليه في حياتنا؟ إنّ حُكّامَ هذه الأرض وملوكَها، قد يتمكّنون مِن حمايتنا مِنَ الأخطار البشريّة المحيطة بنا، من خلال الجبروت الّذي يتمتَّعون به، كما قد يتمكَّنون مِن سَدِّ بعض احتياجاتنا الأرضيّة، ولكنْ ما هو مؤكَّدٌ هو أنّ لا أحدَ منهم يستطيع تخليصَ نفوسنا مِن الهلاك الأبديّ. إنّ الله وَحده، هو القادر على تقديس نفوسِنا ومَنحها الخلاص الأبديّ. ومن خلال تفكيرنا في الأبديّة، يتبادرُ إلى أذهاننا سؤالٌ آخر، وهو: ما هو مصيرُنا بعد الموت؟ وفي سبيل الإجابة على هذا السؤال، يتوجّب علينا مراجعة حياتنا، فنُدرِك من خلال أعمالنا الجزاء الّذي نستحقُّه بعد الموت.
في تأمُّلنا اليوم، نودّ التعمُّق في التفكير حول السؤال: “مَن مِثلُ الله؟”. كُثُرٌ هم المؤمِنون الّذين يلتجئون إلى القدِّيسِين باعتبارهم مشابِهين لله،كونُـهم يتمتَّعون برؤية وجهه القدُّوس في السَّماء. إنَّ الكنيسة الكاثوليكيّة وكذلك الأرثوذكسيّة تؤمِنان بشفاعة القدِّيسين، ولكن هذا لا يعني أن نجعل من القدِّيس إلهًا، فالقدِّيسُ ما كان لِيَصِل إلى مرحلة القداسة لولا علاقته بالله. لذا من الخطأ تمامًا أن نتوجّه في صلاتنا إلى القدِّيس، وحتّى إلى العذراء مريم، بـِمَعزلٍ عن الله، فالله هو الّذي يمنَحُنا النِّعم بواسطة القدِّيسِين، شُفعائنا. إنّ دَور القدِّيس هو إرشاد المؤمِنِين إلى طريق القداسة، طريق الله.
وفي مسيرة بحثِنا عن جوابٍ للسؤال:”مَن مِثلُ الله”، نجد أنّ كبرياءنا يدفعنا إلى الشُّعور في الكثير من الأحيان، بأنَّنا أكبرُ من الله، مُتناسِين حقيقة بشريَّتنا الضَّعيفة المجبولة بالخطايا. تُعلِّمنا الكنيسة أنَّ الكبرياء هي أمّ الرذائل كلِّها. إنَّ الإنسان المتكبِّر يرفض وجود آخر أكبرَ منه شأنًا، أكان الله أم سواه. لا يستطيع الإنسان إنكارَ حقيقة أنَّ الله هو خالِقُه وجابِلُه، وأنّ الله يفوقه قُدرةً، لذا لا بدَّ للإنسان من الخضوع لله، والاستفادة من تلك الحقيقة لا إنكارها. إنّ الإنسان المتكبِّر يتباهى بفضائله، ويرفض القبول بالآخر الضَّعيف، فَيُعَيِّره بنواقصه، إذ لا يجد فيه ما يمكنه الاستفادة منه. إنّ الإنسان المتكبِّر مدعوّ إلى مراجعة حياته، ليتمكَّن من إدراك أنّه لا مثيل لله بين البشر. إنّ طريق الملكوت ضيِّقٌ وصعب، لذا لا يستطيع الإنسان المتكبِّر الّذي يرى نفسه مماثلاً لله مِن بلوغ الملكوت.
اليوم، تنطلق جماعةٌ جديدة في رعيّتنا، هي جماعة “أذكرني في ملكوتك”. وهذه الجماعة تهدِف إلى حثّ المؤمِنِين على الصّلاة لأمواتهم من خلال تقديم الذبائح الإلهيّة لأجل راحة نفوسهم. إنّ صلاتنا من أجل الراقدين هي مِن صُلب إيماننا المسيحيّ، إذ نُدرِك أنّ أمواتنا قد انتقلوا من هذه الحياة الأرضيّة إلى الحياة في الملكوت مع الربّ. إنَّ صلاتنا لا تُفيد الموتى الّذين في جهنَّم، بل تُفيد فقط “النّفوس المطهريّة”، إذ تساهم تلك الصَّلوات في تطهير تلك النّفوس من خطاياها، والإسراع في انتقالها إلى السَّماء. فالله برحمته العظيمة، يرفض هلاك نفوس أحبّائه. لذا سَمح لنا، نحن الأحياء في هذه الأرض، بالمساهمة في خلاص تلك النُّفوس من خلال تقديم الذبائح الإلهيّة من أجل راحة نفوسهم، إضافةً إلى الإماتات وأعمال الرَّحمة الّتي نقوم بها تجاه إخوتِنا المحتاجين في هذه الحياة. ونتيجة لكلّ الأعمال الّتي نقوم بها من أجل تلك النُّفوس، تنال تلك الأخيرة السَّماء، وتعبِّر عن فرحَتها بالانكباب على الصَّلاة من أجل إخوتِـها الأحياء في هذه الأرض، بمعنى آخر، يُصبحون شفعاء لنا. لقد انتشر في الكنيسة المقدَّسة مع البابا غريغوريوس السادس، “القداس الغريغوريّ”، وهو عبارة عن ثلاثين قدَّاسًا متتاليًّا، يقدِّمها أهل الفقيد من أجل راحة نَفْس المنتقل مِن بينهم. إنّ المؤمِنين الّذين التزموا الصّلاة لأجل نفوس موتاهم، لَـمَسوا لا فقط خلاص نفوس أحبّائهم، بل أيضًا نِعَمًا خاصّة من الله لهم في حياتهم اليوميّة. إنّ جماعة “أذكرني في ملكوتك”، لا تصلِّي فقط من أجل راحة نفوس الموتى المؤمِنِين، بل تصلِّي أيضًا من أجل كلّ المرضى وبخاصّة المشرفين على الموت، ليتمسَّكوا برجائهم بالقائم من الموت، يسوع المسيح.
إنّ رحمة الربِّ عظيمةٌ جدًّا، وهو يدفعنا إلى ذِكر أمواتنا على الدَّوام، والصّلاة لأجلهم. في القدَّاس الشهريّ الّذي نحتفل به مع جماعة “أذكرني في ملكوتك”، سيتمّ ذِكر كلّ تلك النُّفوس الّتي دُوِّنَت أسماؤها في السجلّ عند باب الكنيسة. إنّ هذا القدَّاس الشهريّ، لا يُلغي القدَّاسات الخاصّة الّتي تقدِّمها العائلات المحزونة من أجل راحة نفوس موتاها مرَّةً في السَّنة، إذ لهذه أيضًا مفاعيلها الروحيّة على الفقيد وعلى عائلته أيضًا. في هذا القدَّاس الشهريّ مع جماعة “أذكرني في ملكوتك”، يمكننا دعوة الأصدقاء وجيراننا في القرى المجاورة للمشاركة في هذه الذبيحة الإلهيّة الّـتي تقام من أجل راحة نفوس الموتى المؤمِنِين، وحثِّهم على تسجيل أسماء موتاهم في الكتاب، ليتسنّى لنا مشاركتهم الصّلاة من أجل راحة نفوس موتاهم.
في الختام، أشكر الله على وجود هذه الجماعة فيما بيننا، وأسأله أن يفيض نِعَمَه على المسؤولِين فيها، ليتمكّنوا من متابعة تلك المسيرة في الكنيسة، ناشرين تلك الرِّسالة السّماويّة، الّتي تخصّ أهل السّماء أكثر من أهل الأرض. إنّ مَن يسعى إلى تخليص نَفْسٍ بشريّة، له أجرٌ عظيمٌ عند الربِّ. أدعوكم إخوتي، إلى المشاركة الدائمة في هذه الذبيحة الشهريّة لأجل راحة نفوس المنتقلين مِن بيننا، والمثابرة على الصّلاة لأجلهم.
قدَّسكم الله وبارك عائلاتكم، وأفاض نِعَمَه عليكم من خلال صلواتكم لنفوس الموتى المؤمنين. آمين.
ملاحظة: دُوِّنت العِظة ِبأمانةٍ مِن قِبَلِنا.