انطلاقة “أذكرني في ملكوتك”،
كنيسة مار أنطونيوس الكبير – مستيتا، جبيل.
عِظة القدّاس الإلهيّ للخوري بول كرم ، خادم الرعيّة:
“لا تخف يا زكريا فقد استجيبت طلبتك” (لو 13:1).
باسم الآب والابن والروح القدس، الإله الواحد. آمين.
مع بشارة زكريا – من خلال النعمة التي حلت عليه وعلى امرأته أليصابات وحولت حياتهم من حياة فيها المستحيل والعقم والعجز، إلى حياة مليئة
بالخصب والولادة الجديدة ونعمة الرب – نبدأ يا أحبتي مسيرة زمن الميلاد التي ستوصلنا إلى يوم التجسد؛ يوم ولادة المخلص. واليوم في هذا الأحد المبارك ندخل أكثر وأكثر في عمق سر الله. السر الذي يتطلب من كل منا التأمل والصلاة والصمت، كصمت زكريا وتأمله في سر الله الذي لم يكن قادرا على استيعابه بعقله المحدود. في هذه المسيرة الإيمانية يا إخوتي، يحتاج كل فرد منا إلى الدخول في هذا السر العظيم، لأن سر التجسد ليس أمرا عابرا، بل هو دخول في منطق الله وليس في منطق البشر. فمنطق البشر يقول بإن زكريا وأليصابات عجوزان ولا يمكن لهما إنجاب الأطفال، خاصة وأن أليصابات كانت امرأة عاقراً ويستحيل عليها أن تحمل وتلد. وهكذا في منطق البشر أيضا، نُتَّهم بصِغَر العقل عند اجتماعنا للصلاة في الكنيسة، إذ يرون أن هناك أمورا كثيرة تستحق الاهتمام أكثر من الصلاة، فلمَ على الإنسان أن يحيا حياة روحية، إذ عليه أن يخلص نفسه بنفسه؟ هذا كله منطق بشري كاذب، يقود إلى الفراغ. أما المنطق الإلهي، فهو منطق التحولات والتجدد والولادة الجديدة كما صار لأليصابات “هكذا صنع الرب إلي ليزيل العار عني من بين الناس”. فعندما يدخل الرب حياة الإنسان ويعمل فيها، تتغير حياة الإنسان بأكملها، ويتجدد الإنسان من تلقاء نفسه، ويأخذ مبادرات انطلاقا من المبادرة الروحية ليكون إنسانا يحيا حضور الله.
مشكلتنا اليوم يا أحبتي أن الله حاضر إلا أننا غائبون. فالرب لا يطلب من الإنسان إلا أن يكون واعيًا ومسؤولًا أمام هذا الحضور، وإلا فما قيمة تجسد ربنا – رمزيا (نرمز له بالمغارة)، أو تجسده يوميا على المذبح كما تجسد مرة في التاريخ منذ ألفي عام في بيت لحم- وتجسده الحقيقي في قلب الإنسان غير موجود. تتحول أعيادنا في هذه الحالة أعيادا فولكلورية تطغى عليها روح العولمة والتجارة ولكن صاحب العيد وسيده وروحيته مغيبون. ونحن اليوم نطلب يا أحبائي أن نحمل هذه البشارة مجددا كما حملها زكريا بصمته وتأمله – لعدم تمكنه من الدخول في سر الله فأعطاه الرب تجربة الصمت والإصغاء – وكما حملتها أليصابات بنعمة تحوّل وتحويل عقمها إلى خصب، إلى أرض تثمر يوحنا المعمدان وتحضر من خلاله لمجيء المخلص. على كل شخص منا أن يكون زكريا وأليصابات العهد الجديد، أن يدخل بصمت وتأمل في سر الله ليعود ويشكره كما فعلت أليصابات لأنه تدخل في حياتنا ليرفع عنا العقم الفكري والأخلاقي الذي يبعدنا دوما عن الله، وبالتالي علينا أن نخرجه من حياتنا وإلا ستبقى بشارة زكريا وأليصابات حاضرة فقط بين طيات الكتاب المقدس وعلى المذبح وغائبة عن منطق البشر.
دعونا يا إخوتي ندخل مع هذه البشارة في المنطق الجديد الذي سيحولنا به الله نحن البشر ويجددنا. ومع هذا الأحد، أحد بشارة زكريا، تبدأ مسيرتنا مع جماعة “اذكرني في ملكوتك” والتي هدفها فقط أن تصلي على نية الأموات الراقدين على رجاء القيامة، الأموات المنقطعين الذين ليس لهم من يذكرهم، وهذا يجعلنا ننظر إلى الموت بعين الرجاء أكثر، وليس بعين الألم والدموع، فننظر إلى الموت كلقاء حي مع يسوع الحي وليس كلقاء مع الأموات، فنتخلى عن تصرفاتنا الوثنية في بعض الأحيان وكأننا نفتقد الرجاء وعمل القيامة، وهذا ما يطلبه الله منا اليوم بالذات، ومن كل إنسان، من خلال البشارة الجديدة، من خلال تحول جديد على مثال تحول أليصابات وتأمل وصمت زكريا. دعونا نقدم ذبيحتنا على هذه النية، لتكون مسيرتنا فعلا مسيرة توبة، نلتقي فيها بعين الرجاء والإيمان بيسوع المسيح المخلص، إلى الأبد. آمين.
ملاحظة: دونت العظة بأمانةٍ من قبلنا.