انطلاقة “أذكرني في ملكوتك”،
كنيسة سيّدة الخلاص للروم الكاثوليك – عين الرمانة، بعبدا.
عِظة القدّاس الإلهيّ للأب نيكولا نهرا:
باسم الآب والابن والروح القدس، الإله الواحد، آمين.
إنّ كثيرين من المؤمنين يجهلون حقيقة وجود المطهر. والكتاب المقدّس يتكلّم عن المطهر، وكذلك تفعل تعاليم الكنيسة، لكنّنا لن نتطرّق إلى هذا الأمر الآن، لِضيق الوقت.
إخوتي، إنّ العقل يؤكِّد وجود المطهر إذ يكفي أن يُفكِّر المؤمن في مصيره، في حالة موته بطريقة مفاجئة. فإنْ رأى الإنسان أنّ مصيره هو الجحيم، فإنّ ذلك سيدفعنا إلى التساؤل حول رحمة الله وعدله، إذ كيف يمكن لله أن يُعاقب الإنسان بالموت الأبديّ على ارتكاب هذا الأخير لخطايا بسيطة غير مميتة؟ أمّا إن رأى أن مصيره هو السّماء، فإن ذلك هو غير منطقيّ، إذ لا يمكن لأحد أن يدخل السّماء إن لم يكن كاملاً في النّقاوة. وبالتّالي وبحسب المنطق البشريّ، هناك ضرورة لوجود مكان ثالثٍ يشكِّل حلّاً وَسَطيًّا ما بين السّماء والموت الأبديّ، وفيه يُكفِّر الإنسان عن ذنوبه، كي يصل إلى النّقاوة الكاملة.
إنّ كلّ خطيئة يرتكبها المؤمِن لا يمكن أن تُغفَر له، إن لم يَتُب عنها الإنسان ويُكفِّر عنها، تمامًا كما هي حال الإنسان حين يتعرّض للإساءة مِن قِبَل الآخرين، فهو لا يستطيع مسامحة الآخر الـمُذنِب إلّا حين يَعتَذر ويُعوِّض عن الضرر الذي سببّه، كتعبيرٍ عن مصداقيّة ندامته، وعن محبّته تجاه مَن تعرّض للإساءة.
إنّ المطهر هو المكان الّذي يُكفِّر فيه الإنسان، بعد الموت، عن الخطايا الّتي ارتكبها على الأرض، ولم يتمكّن من التعويض عنها. والتعويض عن الخطايا، ليس بالأمر الصّعب، إذ يكفي أن يُقدِّم الإنسان أفراحه وأحزانه، أتعابه وصلواته، وأعمال الرّحمة الّتي يقوم بها تجاه الآخر للربّ، إضافة إلى تقديم القداديس من أجل هذه الغاية.
إنّ الإنسان يستطيع أن يُقدِّم كلّ أمرٍ للربّ، وبذلك يُخفِّف مِن عملية تطهيره بعد الموت. إنّ القدِّيسين قد أنهوا مطهرهم على هذه الأرض، إذ لم يُقدِّموا للربّ عذاباتهم فقط، إنّما أيضًا حياتهم اليوميّة بكلّ صعوباتها، فإنّ كلّ عملِ حبٍّ يقوم به الإنسان يستطيع أن يقدِّمه للربّ، وبالتّالي مع كلّ تقدمة يُقلِّل من مدّة مطهره. إخوتي، لنسعَ ولنجتهد كي نُنهي مطهرنا على هذه الأرض، فنتمكّن من دخول السّماء ونعاين وجه القدّوس. إنّ المطهر هو رحمة كبيرة من الله، إذ لا يمكن للإنسان أن يُعاين وجه القدّوس، وجه الطهارة الكاملة، إن لم يكن طاهرًا ومنقّى من كلّ خطيئة. إخوتي، إنّ الموتى أنفسهم يرفضون الوقوف في حضرة الله إن كانوا في حالة غير لائقة لمعاينة النّور الإلهيّ.
ليس الوقوف في حضرة الله بالأمر السّهل أبدًا، بل إنّه في غاية الصّعوبة: إنّ كلّ خطيئة تمنع الإنسان من مقابلة الله الفائق الجمال، لأنّ البشاعة والجمال لا يلتقيان أبدًا. إنّ الله هو قدّوس، أي كاملٌ في القداسة، ولذا لا تستطيع الأنفس المنتقلة مِن هذا العالم لقاء الربّ، إن لم تكن مُنَوَّرة، ممجَّدة ومطهَّرة. إنّ الأنفس هي أنفس صديقة لله، لا معادية له أو متمرّدة عليه، لأنّه إن كانت معادِيَةً لله، فإنّ مصيرها بالتأكيد هو الموت الأبديّ، إذ إنّها هي مَن ترفض لقاء الربّ. ولكنّ الأنفس المطهريّة هي أنفس صديقة لله، غير أنّ ضعفها البشريّ مَنَعَها مِن أنْ تكون في غاية النّقاوة، ولذا لم تتمكّن بَعد مِن لقاءِ الربّ وجهًا لوجه، وها هم في المطهر يُكفِّرون عمّا ارتكبوه مِن خطايا. إنّ الأنفس المطهريّة هي أنفس قدِّيسة، لأنّ روح الله لا يُفارقها، فَمُفارقة روح الله للنّفس تدلّ على أنّها أصبحت معادية لله، ومصيرها حتمًا هو الموت الأبديّ، وبالتالي لا فائدة من صلاتنا لها.
إنّ النّفوس المطهريّة ستنتقل جميعها إلى السّماء في يوم الدينونة، غير أنّ المؤمنين على هذه الأرض، يستطيعون مساعدة تلك الأنفس في الإسراع في عمليّة التّطهير من خلال تقديم الصلوات والقداديس وأعمال الرحمة والمحبة لأجلهم. في اليوم الأخير، أي في يوم الدينونة، لن يعود هناك مِن وجود للمطهر إذ ستكون كلّ الأنفس قد لاقت مصيرها وهي إمّا في السّماء وإمّا في جهنّم. إنّ يسوع يُحِبّ تلك الأنفس المطهريّة ويريد مَنْحَها الخلاص سريعًا لأنّه يعرف مدى عمق ألمها في المطهر.
إنّ الأنفس المطهريّة هي في اتّحاد مع إخوتها القدِّيسين، ومع إخوتها البشر الّذين لا يزالون في هذه الفانية، وإنّ جميع هذه الأنفس تتساعد من أجل الحصول على الخلاص. إنّ جميع البشر يشكِّلون جسد المسيح السريّ، ومريم هي صلة الوصل بين كلّ أعضاء هذا الجسد الواحد الّذي رأسه هو المسيح يسوع. إنّ الأنفس المطهريّة الّتي تنهي مطهرها، تذهب إلى السّماء، وتتفرّغ للصّلاة من أجل خلاص كلّ تلك النفوس الّتي ساهمت في خلاصها من المطهر.
نصلّي إلى الله، بشفاعة الربّ يسوع، طالبين منه مساعدتنا على تنقية نفوسنا على هذه الأرض، فلا يطول انتظارنا في المطهر قبل معاينة وجه الربّ حين انتقالنا من هذه الفانية. إنّ كثرة الصّلاة مفيدةٌ للإنسان إذ تجعله قادرًا على الانفتاح أكثر على روح الله الّذي سيتغلغل في داخل كيانه، ويغيِّره.
إنّ الحياة مزيجٌ من صعوبات وتعزيات، والله يعطينا تعزيات في أوقات الصعوبات لكنّنا لا نقدر على اكتشافها إلاّ بعد حين، وهذه التعزيّات تشكِّل وسيلةً من وسائل التنقية الّتي يمنحها إيّانا الربّ. إخوتي، لنطلب من الربّ يسوع، ومِن العذراء أمّه أن يساعدانا على تنقية ذواتنا، وعلى مساعدة إخوتنا في المطهر من خلال صلواتنا، وبخاصّة من خلال القداديس الّتي نُقدِّمها لأجلهم لأنّ دمّ يسوع هو ذو قوّة لا تُضاهى في مَنح النّفوس الخلاص، كما يمكننا اللّجوء إلى صلوات المسابح المتعدّدة وبخاصّة الّتي فيها يتمّ ذكر دمّ يسوع وجسده الأقدسيْن. إنّ صلواتنا الشخصيّة الخاصّة تساهم هي أيضًا في خلاص النّفوس. إخوتي، علينا أن نصلّي أيضًا من أجل كلّ النّفوس الخاطئة، كما يجب أن نضمّ إليها كلّ نوايا العذراء مريم لأنّ العذراء مريم وكذلك يسوع هما الأكثر معرفة بالنّفوس المحتاجة إلى صلواتنا.
ملاحظة: دوِّنت العظة بأمانةٍ مِن قِبَلِنا.