باسم الآب والابن والرّوح القدس، الإله الواحد، آمين.

في الأحد الثَّاني من هذا الشَّهر، نُصلِّي من أجل موتانا جميعًا. وأتصوَّر أنَّ هذا الإنجيل الّذي تُليَ على مسامِعنا هو الإنجيل الّذي نبحث عنه، كي نفهم معنى الموت.
إنّ الـمَثَل اللّبنانيّ يقول “البكاء على رأس الميت”، وما البكاء على الميت إلّا تعبيرٌ عن عاطفتنا تجاهه. إنّ بكاءنا على الميت لا يعني أنّه علينا الإصغاء فقط إلى صوت عاطفتنا، إنَّما أيضًا إلى صوت الإيمان. إنّ الإصغاء إلى صوت الإيمان في داخِلنا، هو تصديق ما لا نراه واعتباره حقيقة. إنّنا نبكي على موتانا، عندما يُصبح حدث الموت حقيقة مرئية لعيوننا البشريّة. إنَّ حواسنا تجعلنا ننظر إلى حَدَث الموت، نظرةً بشريّة، فتَدمع عيوننا لفقدان موتانا؛ أمّا الإيمان فيجعلنا ننطر إلى الموت بطريقة مغايرة، فيبعث فينا الرَّجاء، إذ يذكِّرنا أنّ الإنسان الّذي يموت مع المسيح سيقوم معه وسينال المجد الأبديّ في السَّماء.

يشرح لنا إنجيل اليوم (مر9: 1-7) بوضوح حدَث الموت، إذ يُخبرنا أنّه عند تجلِّي الربِّ على الجبل أمام تلاميذه، وافاه النبيّ موسى وكذلك النبيّ إيلِّيا. إنَّ حضور هذين النَّبيَّين للربّ على جبل التجلِّي ما هو إلّا دليل على أنَّهما حَيَّان مع الربِّ على الرُّغم من غيابهما الحسيّ عن حواسِنا البشريّة. إنَّ عودة هذَين النبيِّين من السَّماء إلى الأرض لموافاة الربِّ يسوع، ما هو إلا تذكيرٌ للربِّ بموته الأرضيّ، وعودته إلى السَّماء. إنّ حضور هذَين النَّبيَّين يهدف إلى تشجيع الربِّ الّذي يتحضَّر للموت إلى عدم الخوف منه، وقد عَبَّر الربُّ عن خوفه من الموت حين قال في بستان الزَّيتون: “يا أَبتِ، أبعد عنِّي هذه الكأس” (لو 22: 42). على الجبل، 

تجلَّى الربُّ في مجد قيامته. والتجلِّي هو تخطِّي الصَّليب والموت، والخروج إلى مجد القيامة. لقد اختبر الربُّ هذا الخروج نحو مجد القيامة، في صلاته على جبل التجلِّي، إذ يُخبرنا النَّص الإنجيليّ أنّه حين كان الربُّ يُصلِّي على الجبل، تغيَّر وجهه. إذًا، لا يستطيع المؤمِنون فَهم سرّ الموت بمنظاره المسيحيّ إلّا من خلال صلاتهم. إنّ الصّلاة تجمعنا بأحبّائنا الّذين فارقونا، كما تدفعنا إلى عيش حياة يسوع. إنَّ الصّلاة تدفعنا إلى الخروج مِن ذواتنا ومن العالم، في سبيل اتِّباع الربِّ يسوع المسيح، الّذي تجلّى لنا بعد موته وآلامه، بقيامته من بين الأموات. في كلِّ مرَّةٍ نصلِّي، نخرج من هموم الأرض، لنلتصق بالربِّ يسوع المسيح، من خلال موته وقيامته. إذًا، الصّلاة هي عَمَلٌ مُسَبَّقٌ لموتنا مع المسيح، وقيامتنا مع المسيح. هذا هو معنى قدَّاسنا.

نجتمع في القدَّاس لنُحيي ذِكرى أمواتنا، إذ في الذبيحة الإلهيّة، نتوحَّد بالمسيح من خلال سماعنا لكلمة الله المقدَّسة وتَناوُلِنا القربان المقدَّس. إنّ اتِّحادنا بالربِّ يسوع في القدَّاس هو الّذي يوحِّدنا بموتانا. إنَّنا نُدرِك من خلال إيماننا المسيحيّ أنّ المسيح قام من الموت، وبالتّالي نُدرِك أنَّ أمواتَنا هم أيضًا قائمون من خلال إيمانهم بالربِّ يسوع. حين نتَّحد بالمسيح من خلال القربان المقدَّس، نتّحد بموتانا، وبالتّالي يُصبح بإمكاننا في الذبيحة الإلهيّة رؤية موتانا ولَمسَهم بَعين الإيمان. إنّ أمواتنا لا يستطيعون التَّواصل معنا، نحن الأحياء في هذه الأرض، إلّا من خلال المسيح، ونحن أيضًا لا نستطيع التّواصل معهم ما دُمنا في هذه الأرض إلّا من خلال الصّلاة. نحن نلتقي بأمواتنا من خلال كلمة الله الّتي تُتلى على مسامِعنا في الذبيحة الإلهيّة. لقد أدرَك بطرس الرَّسول هذه الحقيقة حين تجلَّى الربُّ أمامه، لذا قال: “رابّي، حسنٌ لنا أن نكون ههنا” (مر9: 5).

نعم، في كلّ مرّة نشارك في الذبيحة الإلهية، وخاصّةً في مناسبة مرور أسبوع أو أربعين يومًا على وفاة أحد أحبّائنا، نتذكّرهم، كما أنَّ الذبيحة الإلهيّة تمنحنا الفرصة للقاء موتانا والتحدُّث معهم من خلال يسوع المسيح، كلمة الله، فنشعر بوجودهم، إذ إنّنا نؤمِن بحضور الربِّ في ما بيننا. إنّ التَّجلِّي يجمع الموت إلى القيامة، والمجد إلى الهوان، والسّماء إلى الأرض. نحن نعيش في حضرة موتانا وموتانا يعيشون معنا، من خلال لقائنا في الذبيحة الإلهيّة بالربِّ يسوع، الّذي تألَّم ومات وتجلّى بقيامته من بين الأموات.

نعم، في كلّ مرَّة نجتمع لنحتفل بالذبيحة الإلهيّة، نجتمع لنحتفل بموت وقيامة المسيح، ولكنّنا أيضًا نعيش في حضرة موتانا ونتَّحد معهم. إنّ موتانا ينتظرون اللِّقاء بنا في الذبيحة الإلهيّة بفارغ الصّبر، لأنَّه في القدَّاس فقط، يستطيع موتانا الّذين يحيَون في السّماء أن يلتقوا بنا، نحن الّذين لا نزال أحياء في هذه الأرض، فيَعيشون معنا همومَنا الأرضيّة ومشاكلَنا، فنشاركهم آمالنا وأمنياتِنا بفعل حُبِّنا لأمواتنا. من خلال القربان وكلمة الله أي من خلال القدَّاس المبارك، نصبح جميعنا حاضرين مع المسيح، كما الرُّسل على جبل التجلِّي. في الذبيحة الإلهيّة، يجمعنا الربُّ بموتانا، فنتذوَّق بشكل استباقي ولو في لحظات قصيرة، مجد السّماء. وعلى الرُّغم من ذلك، يتحجَّج الكثيرون بأعذارٍ شتّى لعدم المجيء إلى الكنيسة، والمشاركة بالذبيحة الإلهيّة. في هذا الإطار، تقول لنا القدِّيسة تريزيا الطِّفل يسوع إنَّه لو كنّا نُدرِك قيمة القدَّاس، لكنّا بحاجة إلى شرطة لتنظيم مجيء المسيحيِّين إلى القدَّاس نهار الأحد.

إنَّ مَجيئنا إلى القدَّاس هو من أجل الاعتراف والتطهُّر من خطايانا، إذ إنّنا حين نتناول جسد الربِّ ودَمِه نتَّحد بالربِّ ومن خلاله نتَّحد بموتانا. هذا هو إيماننا المسيحيّ. عاش المسيح الحدث الفِصحيّ، أي انتقاله من الأرض إلى السَّماء، بتجلِّيه مُسبَّقًا على جبل التجلِّي. في كلّ مرّة، نحتفل بالذبيحة الإلهيّة، نعيش هذا الحدث الفِصحيّ، أي أنّنا نعيش موتَنا وانتقالنا إلى السّماء إذ لم يَعد الموت يُخيفُنا. في كلّ نهار أحدٍ، نحضر فيه إلى الكنيسة، نعيش موتَنا وقيامتنا مع المسيح يسوع، إذ نشاركه موته وقيامته.

لذلك إخوتي، أشارككم اليوم، مع جماعة “أُذكرني في ملكوتك” الصّلاة من أجل موتانا المؤمِنِين. بارككم الله إخوتي المؤمِنِين، وبارك رسالة هذه الجماعة. إنّ أفضل هديّة نقدِمها لموتانا هي تقديم الذبائح الإلهيّة من أجل راحة نفوسهم. وها نحن اليوم، نبدأ مع هذه الجماعة رسالة الصّلاة من أجل موتانا المؤمِنِين، وسنستمرِ في الصّلاة لأجلهم في الأحد الثَّاني من كلِّ شهر. ونذكر اليوم بشكل خاصّ، المرحومة إفلين، سائلين الله أن يجعل نصيبها بين الأبرار والصّدِّيقين، وأن يجمعها الله بالمسيح يسوع في السّماء فتتمكّن من الاجتماع في السّماء بِزَوجها وبِابْنَيها الّذين فقدتَهم في حياتها على هذه الأرض. 

إنَّ معاينتنا لوجه الربِّ في السَّماء، بعد انتقالنا من هذه الفانية، سيجعلنا ننسى كلَّ عذابٍ اختبرناه في هذه الأرض، إذ سنختبر في السّماء سعادةً لا تُوصَف، وستتحقَّق فينا الترتيلة الّتي رتَّلناها في القسم الأوّل من القدَّاس: “ما أبهى وجه الفادي”. نعم، لا شيء أفضل من عيش المؤمِن إيمانه بالربِّ يسوع المسيح، لا فقط المائت على الصّليب إنّما أيضًا القائم من الموت. عندها نستطيع مع موتانا أن نقول مع مار بطرس: “رابِّي، حَسَنٌ لنا أن نكون ههنا” (مر 9: 5).

ملاحظة: دُوِّنت العِظة ِبأمانةٍ مِن قِبَلِنا.