في الإصحاح التّاسع، رأيْنا أنّه على الرُّغم من كلّ الضربات والأمور الّتي تحصل، لَم يَـتُبْ الشَّعب إلى الله. لذا، كَتَب الرَّسول يوحنّا هذا الإصحاح العاشر، ليَحُثَّ الّذين لم يتوبوا بعد إلى الله، إلى التَّوبة قَبْل فوات الأوان.

بدأ الرَّسول يوحنّا هذا الإصحاح بالكلام على الملاك السّابع، وأعطاه صفاتٍ لم يُعطِها لأيّ ملاكٍ من الملائكة السّابِقِين: “قويًّا، نازلاً مِن السَّماءِ، مُتَسَربِلاً بِسَحَابةٍ، وعلى رأسِه قَوسُ قُزَحَ، ووَجهُهُ كالشَّمسِ ورِجلاهُ كَعَمودَي نارٍ”. اعتبر أغلب المفسِّرِين للكتاب المقدَس أنَّ المقصود بهذا الملاك هو الربُّ يسوع، إذ كلَّمنا في السَّابق عن هذا الملاك قائلاً لنا إنَّ رِجلَيه من نُحاسٍ، أي أنَّ رِجلَيه حمراوان، وهذا الوصف يُشير إلى أنّ رِجلَيه هما كالنّار. وأضاف الرَّسول يوحنّا في هذا الإصحاح قائلاً لنا عن هذا الملاك إنَّ وَجهَه مُضيءٌ كالشَّمس، وأنّ على رأسِه قوسَ قُزَح، وكلّ هذه الصِّفات تُشير إلى أنّه مُرسَل من الله، لأنّ كلمة “ملاك” في العِبريّة تعني الـمُرسَل مِن عند الله. وفي إنجيل يوحنّا، قال لنا الرَّسول إنَّ الربَّ يسوع هو الـمُرسَل مِن عند الله.

ويتابع يوحنّا في هذا الإصحاح، فَيَقول لنا إنَّ “في يده سِفرٌ صَغيرٌ مفتوح”. في الإصحاحات الأولى من سِفر الرُّؤيا، قال لنا يوحنّا الرَّسول إنّ هناك سِفرًا مختومًا بسبعة ختوم، ولم يتمكَّن أحدٌ مِنَ الاقتراب مِنه لِفَتحِه إلّا واحدٌ، هو الحَمَل المذبوح. وكان المقصود بهذا “السِّفر المختوم بِسَبعة ختوم”، الكَشفَ عن السِّر الخلاصيّ، أي الكَشفَ عن خلاص البشر وما كان في فِكر الله. 

أمّا المقصود بـ”السِّفر الصَّغير المفتوح”، فهو الإنجيل، إذ إنّه مِن أصغر الأسفار مقارنةً بِكُتبِ العالَم، كما أنّه أصغر الأسفار مقارنةً بالسِّفر المختوم بِسَبعة أختام، وهذا السِّفر متاحٌ للجميع قراءته. ويُخبرنا يوحنّا الرَّسول في هذا الإصحاح أنَّ هذا الملاك يَضع رِجلَيه واحدةً في البحر والأخرى على الأرض، وأنّ رأسَه في السَّماء، وهذا دليلٌ على أنَّ هذا الملاك هو ضابطُ الكُلّ. إنّ وَضْع الملاكِ رِجلَيه: واحدة في البحر والأخرى على الأرض، هو دليلٌ على السُّلطة والسِّيادة. إنّ زَمجَرةَ الأسَد هي صِفةٌ أعطِيَت للربّ.

“وبَعْدَ ما صَرَخَ، تكلَّمَتِ الرُّعودُ السَّبعةُ بأصواتِها”: إنّ الرَّقم سبعة يتكرَّر هنا أيضًا، بعد أنْ تَكرَّر في الإصحاحات السّابقة، حين كلَّمنا الرَّسول على المنائر السَّبعة، والكنائس السَّبعة، والختوم السَّبعة، والأبواق السَّبعة، والملائكة السَّبعة. والمفارقة هنا، هي أنّ الرَّسول يوحنّا سِمَع صوتًا من السَّماء، طَلَب إليه عدم تدوين ما سَيَراه أو سَيَسمعه، على عكسِ ما كان يحصل في الإصحاحات الماضيّة. لا أحد يعرِف سَببَ ذلك، فالكاتب لم يَشرح لنا السَّبب في هذا الإصحاح، وبالتّالي يبقى في هذه الرُّعود سِرٌّ لم يتمّ الكشَفُ عنه.

“وأقسَمَ بالحيِّ إلى أبَدِ الآبِدِينَ، الّذي خَلَقَ السَّماءَ وما فِيها والأرضَ وما فِيها والبَحرَ وما فِيه: أن لا يكونَ زَمانٌ بَعدُ!” إنّ هذا الملاك الواقِفَ ورِجلاه واحدةٌ في البحر والأخرى على الأرض، قد رَفَع يَدَه إلى السّماء، للدلالة على أنّه يقوم بالقَسَم. في العهد القديم، أقسَم الله بِذاته بعد الطُّوفان أنّه لن يُكرِّر ذلك، فَظَهر قوسُ القزَح آنذاك مُعلِنًا نهاية الطُّوفان.

 إنّ قوسَ القُزَح يُشير إلى العَهد، وبالتّالي يقوم هذا الملاك بِعَهدٍ جديد. إنّ هذا الملاك قد أقسَم بالحَيِّ إلى أبَدِ الآبِدِين، وبما أنّ هذا الملاك كما قُلنا هو الربُّ يسوع، فيكون الربُّ يسوع قد أقسَم بذاته، لأنّه هو الله، وهو أي الربُّ يسوع مشاركٌ لله في عمليّة الخَلق. وبالتّالي، إنْ كان القَسَم يقوم به الله، فهذا يعني أنّ ما سيقوله لنا سيتحقَّق بالفِعل. إنّ عبارة “لا يكون زمانٌ بَعد”، تعني أنّ هذا الزَّمان سوف ينتهي، ولن يكون دائمًا. 

إنّ هذه العبارة تعني للمؤمِن أنَّ زمن الاضطهاد والشِّدة الّذي يعاني منه، سينتهي ولن يدوم، وبالتّالي عليه بالمزيد مِن الصَّبر على الضِّيقات إلى أن يتحقَّق المجيء الثاني للربّ؛ ولكنَّها في الوقت نفسه تَعني لغير المؤمِن ضرورة التَّوبة قَبْل انتهاء هذا الزَّمان.

“بل في أيّامِ صوتِ الملاكِ السّابِعِ مَتَى أزمَعَ أن يُبوِّقَ، يَتِمُّ أيضًا سِرُّ اللهِ، كما بشَّرَ عبيدَهُ الأنبياءَ”. كلَّمنا الرَّسول يوحنّا، عن ستَّة ملائكة في السّابق، وها هو اليوم يكلِّمنا عن الملاك السّابع الّذي مِن الـمُفترَض أن يُعلِن لنا النِّهاية. عند تبويق الملاك السَّابع، سيُعلَن لنا سِرُّ الله، وهو أنَّ المجد سيكون مِن نصيب المؤمنِين الصّابرين على الضِّيقات، إذ إنّهم سيكونون جالِسين على العرش مع الربّ في الملكوت بعد انتهاء هذا الزَّمان. 

إذًا، هذا الإصحاح مليءٌ بالتَعزيات الرُّوحيّة للمؤمنِين الّذين يُعانون مِنَ الضِّيقات والشِّدة. إنّ جميع أنبياء العهد القديم، تكلَّموا على خلاص الله. إنَّ خلاص الربِّ سيأتي، وهو وَجهَان لِعُملةٍ واحدة: خلاصٌ للتائبين وخلاصٌ للمؤمنِين، الـمُنتَظِرين مجيء الربّ، من جهة؛ ودينونة لغير المؤمِنِين الَّذين رَفَضوا الله، من جهةٍ أُخرى.

“والصَّوتُ الّذي كُنتُ قد سَمِعْتُه مِنَ السَّماءِ كَلَّمَني أيضًا وقالَ: “اذْهَبْ خُذِ السِّفرَ الصَّغيرَ المَفتوحَ في يَدِ الملاكِ الواقِفِ على البحرِ وعلى الأرضِ. فَذَهبْتُ إلى الملاكِ قائلاً لَهُ: “أعْطِني السِّفرَ الصَّغيرَ”. فقال لي: “خُذْهُ وَكُلْهُ، فسَيَجعَلُ جَوفَكَ مُرًّا، ولَكِنَّهُ في فَمِكَ يكونُ حُلوًا كالعَسَلِ. فأَخَذْتُ السِّفرَ الصَّغيرَ مِن يَدِ الملاكِ وأَكَلْتُهُ، فكانَ في فَمي حُلوًا كالعَسَلِ. وبَعدَ ما أَكَلْتُهُ صار جَوفي مُرًّا”: 

مِن خلال هذا الكلام، يريد الله أن يقول ليوحنّا الرَّسول وبالتّالي لجميع المؤمِنِين به، الّذين يعانون من الضِّيقات والشِّدة، إنَّ هذا الزَّمان قد شارَف على النِّهاية. لذلك، طلبَ الربُّ من يوحنّا أن يأخذ الإنجيل ويأكُلَه، لأنَّ طَعمَ كلمة الله سيكون لذيذًا ما دام الإنسان موجودًا أمام الله وفي حضرته، ولكن ما إنْ تَصِل كلمة الله إلى جوف الإنسان حتّى يُصبح طَعمُها مرًّا.

 عادةً، يقرأ الإنسان السِّفرَ ولا يأكلُه؛ ولكن بما أنَّ الربّ طَلبَ إلى يوحنّا أن يأكُلَ هذا السِّفرَ، فهذا يعني أنّه على الرَّسول، وبالتّالي على المؤمنِين، أن يتعاملوا مع كلمة الله كما يتعاملون مع طعامِهم الأرضيّ: فكما أنَّ الطَّعام الأرضيّ يُصبح جزءًا مِن الإنسان حين يتناوله، كذلك على كلمة الله أن تُصبح جزءًا مِن الإنسان حين يُثابر على قراءتها ومعاشرتها. حين تُصبح كلمة الله في جَوفِ الإنسان، يشعر هذا الأخير بالمرارة، لأنّ كلمة الله لا تسكن إلّا في الطَّهارة،

لذا هي تحرقُ كلّ ما في داخل الإنسان من سيئاتٍ، وتوبِّخه وتضرب كبرياءَه وتسحق أنانيّته، فيَشعر الإنسان بالتَّعب نتيجة تخلِّيه عن أمورٍ في حياته لا تُرضي الله. كما أنَّ كلمة الله تُشعر الإنسان بالمرارة حين ينكَبُّ هذا الأخير على إعلان كلمة الله، فيواجَه بالرَّافِضين لها، فيهزؤون به وبالكلمة الّتي يُعلِنها لهم. 

إذًا، إنَّ كلمة الله طيبّة الطَّعم عندما يعاشرها الإنسان، ولكنَّها تتحوّل إلى مرارةٍ في جوفِ الإنسان لأنّها تَطرد كلَّ ما هو ترابيٌّ فيه، لأنَّ التخلِّي عن أمورٍ دُنيويّةٍ ليس بالأمر السَّهل على الإنسان، كما أنّه ليس من السَّهل عليه أيضًا أن يكون مؤمِنًا بالله وَسَط مجموعةٍ رافضةٍ لِتِلك الكلمة الإلهيّة. إنّ الله طَلبَ مِن أنبياءَ كثيرين في العهد القديم أن يتناولوا السِّفر، أي كلمة الله، ومِن بَينِهم النبيّ حزقيال.
“فقال لي: 

“يَجِبُ أنَّك تتنبَّأ أيضًا على شعوبٍ وأُمَمٍ وألسِنَةٍ وملوكٍ كَثيرينَ”: بعد أن يأكل الرَّسول السِّفر، يُمنَح دَورًا في المجتمع، وهو التَّنبوء. التنبُّوء لا يعني إعطاء توقُّعاتٍ حول المستَقبل، إنّما إعلان كلمة الله للآخَرين، الآن وهنا، فيُدرِكون ما هي مشيئة الله لهم. على المؤمِن أن يُعلِن كلمة الله للبشريّة بأسْرِها. يُخبرنا سِفر إشعيا، أنَّ الله طَلَب إلى النبيّ الذّهاب للبشارة به، ولكنَّ هذا الأخير حاول التهرُّب من تلك المسؤوليّة بحجَّةِ أنَّه دَنِس الشّفَتَين، فما كان مِن الله إلّا أن أرسَل ملاكه إلى المذبح ليلتقِطَ جمرةً من المذبح ويضَعها على شِفَتَي النبيّ فيُطهِّرهما. إنَّ الجمرة هي كلمة الله، لذا تمكَّنَتْ مِن تطهير النبيّ إذ حرَقَتْ كلّ ما هو موجود في جوفه ولا يتناسب مع كلمة الله، وبالتّالي أصبح على استعداد لإعلان البشارة. 

إنّ السِّفر يشكِّل مائدةً لكلِّ مؤمِنٍ، وعلى المؤمِن التناول من هذا السِّفر ليتمكَّن من إعلان البشارة للآخَرين الّذين قد يرفضون كلمة الله، أو قد يَقبَلون بها فيتوبون عن خطاياهم ويعودون إلى الله. فإذا قَبِل الآخَرون كلمة الله، أصبحَتْ مصَدر حلاوةٍ للمؤمِن، أمّا إذا رَفضها الآخَرون فتتحوَّل إلى سببِ مرارةٍ لدى المؤمِن.

إذًا، هذا الإصحاح، هو فرصةٌ مِن الفُرَص الأخيرة، المعطاة للإنسان؛ فإمّا أن يكون هذا الأخير مؤمِنًا بكلمة الله، ثابتًا فيها رُغم كلّ الصُّعوبات، فلا يتهرَّب من مسؤوليّته في نقل ِالبشارة ولا يتزعزع إيمانه عندما تواجِهُه الاضطهادات، ولا يخضع لأيِّ ترهيبٍ أو ترغيبٍ هَدَفه إبعاده عن كلمة الله؛ وإمّا أن يكون الإنسان بعيدًا عن الله، فيَسمع كلمة الله ويَقبَل بها ويتوب عن خطاياه، ويعود إلى الله، ويكون في حالة انتظار للربّ الآتي. إذًا، نحن في حالةِ ما قَبْل الزَّمن الأخير، أي ما قَبْل مجيء الربّ، الّذي وَعدنا بالمجيء ثانيةً. في هذه الفترة، أي فترة ما قَبْل المجيء، 

ستَحدثُ أمورٌ كثيرة، سَنَراها في الإصحاحات القادمة: تحدٍّ بين الربِّ والشّيطان من أجل الوصول إلى مُنتَصرٍ واحدٍ، بعد سِلسلةٍ مِن المعارك تدور بين الخير والشَّر، أي بين الربِّ والشَّيطان، بين الربِّ والتِّنين. وفي هذه الفترة، أي ما قَبْل الزَّمن الأخير، سيُعطي الربُّ المؤمنِين به، قوَّة للثّبات في إيمانهم، كي لا يتزعزعوا عند مواجهَتِهم للصُّعوبات. إذًا، يُخبرنا سِفر الرُّؤيا عن الحرب الرُّوحيّة. اليوم، أمام كلِّ ما يحدث أمامَنا في وَطننا وفي العالَم، نجد نفوسَنا فاقِدةً لكلِّ بصيصِ نورٍ أو أمَلٍ من هذا العالَم، فالنُّور والرَّجاء لا يأتيان إلّا من كلمة الله. وإليكم مَثلٌ بسيطٌ: 

اليوم في زمن الاستعداد لاستقبال عيد ميلاد الربِّ يسوع، نلاحظ فقدانًا لكلِّ مباهج العيد الّتي كنّا معتادِين عليها، والّتي تُدخِلنا في أجواء العِيد، بسب الظروف الصَّعبة الّتي نعيشها في وَطنِنا. اليوم، نحن نعاني من العُري من مباهجِ الدُّنيا في هذا العيد، بسبب الظروف الصَّعبة الّتي نعيشها في وَطَنِنا، ولكن هذه الظروف هي الفرصةُ الفُضلى لنا للتَّفكير في جوهر العيد، أي في صاحِب العيد.

 اليوم، نحن نستعدُّ لرؤية نمطٍ جديد في سِفر الرُّؤيا: إذ في الإصحاحات العَشر السّابقة، أدرَكنا أنّ الفَرَسَ البيضاء هي التّي ستغلب في هذه المعركة الرُّوحيّة، كما أدرَكنا ما هي التحدِّيات الّتي سيعاني منها المؤمنِون مِن قِبَل غير المؤمنِين في سبيل إبعادهم عن الربِّ وزعزعة إيمانهم به. نحن اليوم، في منتصف سِفر الرُّؤيا، والحياةُ الّتي نعيشها اليوم تَضَعنا في قلب سِفر الرُّؤيا، إذ نجدُ أنفسَنا على حافَّة هذا الزَّمان، لا الزَّمان الأرضيّ، إنّما زمانَنا الرُّوحيّ، إذ إنّنا مدعوون إلى الثَّبات في إيماننا حتّى نهاية هذا الزَّمان المليء بالشِّدة والصُّعوبات كي نتمكَّن مِن الفوز في هذه المعركة والحصول على الملكوت الّذي ننتظر تحقيقه. في الآونة الأخيرة، 

للأسف، نلاحظ أنَّ الكثير من المؤمنِين قد اعتادوا على إلقاء اللَّوم على الله، والتذمُّر إليه. إخوتي، إنّ التذمُّر إلى الله، هو إحدى علامات تَركِ الإنسان لله. إنّ الإنسان يُصبح قوِّيًا حين يكون مستسلمًا لإرادة الله ومشيئته. إنّ كلمة “استسلام” تدلُّ على الضُّعف، ولكن حين يستسلم الإنسان لمشيئة الله وإرادتِه، يُصبح قويًّا لأنّه رَفَضَ كُلَّ ما يُعرَضُ عليه من إغراء وخوف والتجأ إلى كلمة الله في الوقت الّذي يتعرَّض فيه للتَّرهيب والتّرغيب في سبيل الابتعاد عن الله.

ملاحظة: دُوِّن الشرح بأمانةٍ من قِبَلنا.