تفسير الكتاب المقدّس،
الأب ابراهيم سعد،
“سِفر رؤيا القدّيس يوحنّا – الإصحاح التاسع”
النّص الإنجيليّ:
“ثُمَّ بَوَّقَ الملاكُ الخامِسُ، فَرأيتُ كَوكَبًا قَدْ سَقَطَ مِن السَّماءِ إلى الأرضِ، وأُعطِيَ مِفتاحَ بئرِ الـهاويَةِ. فَفَتَحَ بِئرَ الـهاويةِ، فَصَعِدَ دُخانٌ مِنَ البِئرِ كَدُخانِ أَتونٍ عَظيمٍ، فأَظْلَمَتِ الشَّمسُ والجَوُّ مِن دُخانِ البِئرِ. ومِنَ الدُّخانِ خَرَجَ جَرادٌ على الأرضِ، فَأُعطِيَ سُلطانًا كَما لِعَقارِبِ الأرضِ سُلطانٌ. وقِيلَ لَهُ أنْ لا يَضُرَّ عُشبَ الأرضِ، ولا شيئًا أخضَر ولا شَجرةٍ ما، إلّا النَّاسَ فقطِ الّذينَ لَيسَ لَهم خَتمُ اللهِ على جِباهِهِم. وَأُعطِيَ أَنْ لا يَقتُلَهم بلْ أن يَتَعَذَّبوا خَمسَةَ أَشهُرٍ. وعذابُهُ كَعَذابِ عَقرَبٍ إذ لَدَغَ إنسانًا. وفي تِلكَ الأيّامِ سيَطلُبُ النَّاسُ الـمَوتَ ولا يَجِدُونَهُ، ويَرغَبُونَ في أن يَموتوا فيَهرُبُ الموتُ مِنهم. وشَكلُ الجَرادِ شِبهُ خَيْل مُهيّأةٍ للحربِ، وعلى رؤوسِها كأكاليلَ شِبهِ الذَّهَبِ، ووُجوهُها كَوُجوهِ النَّاسِ. وكانَ لها شَعْرٌ كَشَعرِ النِّساءِ، وكانَتْ أسنانُها كأسنانِ الأُسُودِ، وكانَ لَها دُروعٌ كَدُروعٍ مِن حديدٍ، وَصَوتُ أَجنِحَتِها كَصَوتِ مَرْكَباتِ خَيْلٍ كَثيرةٍ تَجري إلى قِتال. ولَها أذنابٌ شِبْهُ العَقَاربِ، وكانَتْ في أذنابِها حُماتٌ، وسُلطانُها أنْ تُؤذيَ النَّاسَ خَمسَةَ أَشهُرٍ. ولَها مَلاكُ الهاوِيَةِ مَلِكًا عليها، اسْمُهُ بِالعِبرانيّةِ “أَبَدُّونَ”، وله باليونانيَّةِ اسْمُ “أَبولِّيُونَ”. الوَيلُ الواحِدُ مَضَى، هُوَذا يأتي وَيْلانِ أيضًا بَعدَ هذا. ثُمَّ بَوَّقَ الملاكُ السَّادِسُ، فَسَمِعْتُ صَوتًا واحِدًا مِن أربَعَةِ قُرونِ مَذبَحِ الذَّهَبِ الّذي أمامَ الله، قائلاً لِلمَلاكِ السَّادِسِ الّذي مَعَهُ البُوقُ: “فُكَّ الأربَعَةَ الملائكةَ الـمُقيَّدِينَ عِندَ النَّهرِ العظيمِ الفُراتِ”. فانفَكَّ الأربعةُ الملائكةُ الـمُعَدُّونَ للسَّاعَةِ واليَومِ والشَّهرِ والسَّنةِ، لِكَي يَقتُلوا ثُلثَ النَّاسِ. وعَدَدُ جُيوشِ الفُرسانِ مِئَتا أَلْفِ أَلْفٍ وأنا سَمِعتُ عَدَدَهُم. وهَكَذا رأيْتُ الخَيْلَ في الرُّؤيا والجالِسِينَ عَليْها، لَهُم دُروعٌ ناريَّةٌ وأَسْمانْجُونيَّةٌ وَكِبريتِيَّةٌ، ورؤوسُ الخَيْلِ كَرؤوسِ الأُسُودِ، ومِنْ أفواهِها يَخرُجُ نارٌ ودُخانٌ وَكِبريتٌ. مِن هذه الثلاثَةِ قُتِلَ ثُلثُ النَّاسِ، مِنَ النَّارِ والدُّخانِ والكِبْريتِ الخارجةِ مِن أفواهِها، فإنَّ سُلطانَها هُوَ في أفواهِها وفي أذنابِها، لأنَّ أذنابَها شِبهُ الحَيَّاتِ، ولَها رؤوسٌ وبِها تَضُرُّ. وأمّا بَقيَّةُ النَّاسِ الّذينَ لَمْ يُقتَلوا بِهَذِهِ الضَّرباتِ، فَلمْ يَتُوبوا عن أعمالِ أيدِيهمْ، حتّى لا يَسجُدوا للشَّياطِينِ، وأصنامِ الذّهبِ والفِضَّةِ والنّحاسِ والحَجَرِ والخَشَبِ الّتي لا تستطيعُ أن تُبصِرَ ولا تَسْمَعَ ولا تَمشي، ولا تابُوا عَنْ قَتلِهم ولا عَنْ سِحرِهم ولا عَنْ زِناهُم ولا عَنْ سَرِقَتِهم”.
شرح النّص الإنجيليّ:
في هذا الإصحاح، يُقدِّم لنا يوحنّا الرَّسول مشهدًا مُخيفًا، يُخبرنا فيه عن اضطهاد الامبراطور للمؤمِنِين بالربّ، مستَعينًا بكلِّ قوّته وكلِّ آلهته، لحثِّهم على تَرك الله وجذبهم إلى عبادة الأصنام. وفي هذا الإصحاح، يخبرنا يوحنّا الرَّسول أنَّ المؤمِنِين بالربِّ سيتعرَّضون للاضطهاد، لمدَّة “خمسةَ أشهر”، أي لفترةٍ من الزَّمن ليست كاملة، إذ لا بُدَّ للاضطهاد أن ينتهي؛ ويُخبرنا أيضًا أنّ بَعض المؤمنِين سيتراجعون عن إيمانهم بسبب تعرُّضهم للاضطهاد، وَهُم الّذين قَصَدهم بِقَولِه: “الّذينَ لَيسَ لَهم خَتمُ اللهِ على جِباهِهِم”. لذلك سعى يوحنّا الرَّسول إلى تشديد المؤمنِين وحثِّهم على الثَّبات في إيمانهم وسطَ الاضطهاد، داعيًا إيّاهم إلى رَفض الخضوع للأصنام، لأنّ “مَن يَصبُر إلى المنتهى، فذاك يَخلُص”.
يقول لنا يوحنّا الرَّسول: “وأمّا بَقيَّةُ النَّاسِ الّذينَ لَمْ يُقتَلوا بِهَذِهِ الضَّرباتِ، فَلمْ يَتُوبوا عن أعمالِ أيدِيهم، حتّى لا يَسجُدوا للشَّياطِينِ، وأصنامِ الذّهبِ والفِضَّةِ والنّحاسِ والحَجَرِ والخَشَبِ الّتي لا تستطيعُ أن تُبصِرَ ولا تَسْمَعَ ولا تَمشي، ولا تابُوا عَنْ قَتلِهم ولا عَنْ سِحرِهم ولا عَنْ زناهُم ولا عَنْ سَرِقَتِهم”. إنّ هاتَين الآيَتَين الأخيرَتين من هذا الإصحاح، تُوجِزان لنا ما أراد يوحنّا الرَّسول قولَه للمؤمنِين، ألا وهو: تَنْبيههم وتحذيرهم مِن الوقوع في عبادة الأصنام، تحت الضَّغط والخوف.
وفي هذا الإصحاح، نَقَل إلينا يوحنّا الرَّسول صُورَةً، دَفعَتْ البعض إلى اعتبارها صُورَةً عن فيروس كورونا الّذي يجتاح عالمنا اليوم، لِما لِهذه الصُّورَة من تَشابُهٍ مع صورة هذا الفيروس كما تُصوِّره لنا وسائل التَّواصل الاجتماعيّ: “شَكلُ الجَرادِ شِبهُ خَيْل مُهيّأةٍ للحربِ، وعلى رؤوسِها كأكاليلَ شِبهِ الذَّهَبِ، ووُجوهُها كَوُجوهِ النَّاسِ. وكانَ لها شَعْرٌ كَشَعرِ النِّساءِ، وكانَتْ أسنانُها كأسنانِ الأُسُودِ، وكانَ لَها دُروعٌ كَدُروعٍ من حديدٍ، وَصَوتُ أَجنِحَتِها كَصَوتِ مَرْكَباتِ خَيْلٍ كَثيرةٍ تَجري إلى قِتال. ولَها أذنابٌ شِبْهُ العَقَاربِ، وكانَتْ في أذنابِها حُماتٌ، وسُلطانُها أنْ تُؤذيَ النَّاسَ خَمسَةَ أَشهُرٍ”.
إخوتي، من خلال هذا الكلام، لَم يُرِد يوحنّا الرَّسول إخبارنا عن فيروس كورونا، إنّما عن الضَّغط الّذي سيُمارِسه الأشرار وعُبَّاد الأصنام على المؤمنِين بِهَدف دَفعهم إلى التخلّي عن إلههم والسُّجود للأصنام. إنّ الأصنام لا تعني فقط التمائيل الحجريّة، فالأصنام قد تتخِّذ في حياتنا أشكالاً متنِّوعة: المال، والسُّلطة، والجمال، والعِلم في بعض الأحيان، إذ قد تدفعنا هذه الأمور إلى تَحييد الله عن حياتنا واتِّباع الأصنام. إذًا، في هذا الإصحاح، يُخيرنا الرَّسول يوحنّا أنَّ بعض المؤمنِين قد رَضخوا لعبادة الأصنام، في حين أنَّ البعض الآخر بَقُوا متمسِّكِين بإيمانهم بالربّ.
وهنا يُطرَح السُّؤال على كلِّ واحدٍ منّا: إلى أيَّة فئةٍ مِنهما، هو ينتمي؟ لا أحد يملك جوابًا عن هذا السُّؤال سوى الإنسان نَفسِه. إنّ عبارة “زِنى”، الّتي استخدمها يوحنّا الرَّسول في هذا الإصحاح، تَعني تَرْكَ المؤمنِ عبادةَ الله، لاتِّباع الأصنام. إنّ إله الامبراطور هو إلهٌ صَنم، والامبراطور هو إلهٌ وَهميّ، يملِكُ سلطةً وقوّةً وَهمِيَّتَين تدفعان النّاس إلى الخضوع له، خوفًا من العِقاب في حال عدم الاستجابة لأوامره.
في هذا الزَّمن، نحن نعيش سِفر الرُّؤيا، لا بتفاصيله التاريخيّة إنّما بتفاصيله الأدبيّة، أي أنّنا نعيش الـمَغزى الرُّوحي لِسِفر الرُّؤيا. في هذه الأيّام الصَّعبة الّتي نمرُّ بها، نشعر في الكثير من الأحيان، وكأنّنا مُضطَّرون إلى تَركِ عبادتنا للّه، من أجل عباداتٍ أخرى، كي نتمكَّن من ترتيب أمورنا الأرضيّة، والاستمرار في هذه الحياة الفانية. إنّ سِفر الرُّؤيا اليوم هو في أَوَّج فعّاليّته، إذ على المؤمنِين قراءته في هذه الأيّام، ليتمكّنوا من الحصول على التعزية الإلهيّة ومِن إدراك مصيرهم بعد انتهاء هذه الأزمة الّتي يمرُّون بها، إذ استمرُّوا في ثباتهم على كلمة الله.
في زمن الاضطهاد، على المؤمنِين لا الخوف والرُّضوخ للعبادات الوثنيّة للحفاظ على حياتهم الأرضيّة، إنّما التحلّي بالصَّبر لاجتياز هذه المرحلة، إذ يُخبرنا يوحنّا الرَّسول في هذا السِّفر أنَّ مصيرَ الثَّابتِين في كلمة الله، سيكون الجلوس على العرش السّماويّ مع الربِّ يسوع، ومشاركة الملائكة في تسبيح الله. إذًا، في هذا الإصحاح، يُخبرنا يوحنّا الرَّسول من خلال هذا المشهد المخيف عمّا سيقوم به غير المؤمِنين بالله بالّذين يؤمنون بالله.
إخوتي، إنّ الموت لا يُخيف، ولكنّ صُوَر الموت المتعدِّدة والّتي يختبرها المؤمِن في كلّ يوم هي الّتي تُخيفه، لأنّ الإنسان يُواجه الموت مرَّة واحدة في حياته، فَمَتى مات بالجسد انتهَتْ كلّ معاناته الأرضيّة، ولكنْ صُوَر الموت ترافقه في كلّ يوم، وهي: الجوع، وعدم الأمان الاجتماعيّ، وعدم القدرة على تأمين الحاجات الأساسيّة. في هذا الزَّمن الّذي نعيشه، والّذي فيه نواجه صعوباتٍ على كافَّة الصُّعُد، نتوقَّع الحصول على المساعدة من الدَّولة، الّتي تعكس صُورَة الامبراطور القهّار، إذ تستغلُّ سُلطتها للتسلُّط على شعبها، والسَّعي إلى إخضاعه لعباداتٍ وثنيّة، وإبعاده عن الله. إنّ كلَّ سلطةٍ أرضيّة مجبولةٌ بالتسَلُّط على الآخَرين، ما عدا سُلطة الحبّ، لأنّها هِبَةٌ من السَّماء للبشر.
إنّ الحَيَّات والعَقارب، والجرّاد في الأرض، هي صُوَرٌ استخدمَها يوحنّا الرَّسول في هذا الإصحاح للدلالة على كلِّ سُلطةٍ بشريّة. إنّ الجراد هو حيوانٌ يأكلُ الأخضَر واليابس، وقد كان الجَراد إحدى الضَّربات العَشِر الّتي ألقاها الله على فِرعون في مِصر، قَبْل تحريره الشَّعب اليهوديّ. كان فِرعون يَعبُد الإله الصَّنم، أمّا موسى فكان يَعبُد الله الحيّ. إنّ اضطهاد المؤمنِين لا يكون فقط اضطهادًا بواسطة السَّيف،
فالاضطهاد له أشكالٌ متنوعة: كالجوع، والعزلة. إنّ إيماننا بالمسيح يسوع يدفعنا إلى الثّبات في كلمته وعدم القبول بالمساومة عليها مع الشَّر، متسلِّحين بالصَّبر الّذي هو صَبرُ القدِّيسِين، كما يقول لنا الكِتاب. إذًا، في هذا الإصحاح، يدعونا يوحنّا الرَّسول إلى العمل على غَلَبة الشّرير، مِن خلال اتِّباع طريق الصَّليب، الّذي سَلَكه الربُّ يسوع؛ وأيُّ طريقٍ أخرى يتّبعها المؤمن للغلبة هي طريقٌ تقوده ليكون ضِمن المحرِّضِين على تَركِ عبادة الربّ.
إنّ طريق الصَّليب، تجعل المؤمِن في الظّاهر، يبدو للأشرار، ضعيفًا وميّتًا؛ في حين أنّ اتّباعه لِهذه الطريق يجعله في الحقيقة قائمًا وجالسًا على العرش السَّماويّ. إنّ الربَّ يسوع هو الضمانة الوحيدة لفعاليّة هذه الطريق، وهذا ما يؤكِّده لنا يوحنّا الرَّسول في هذا السِّفر. إنَّ الربَّ لا يتدخَّل بشكلٍ فوريّ في حياة المؤمن لِتَجنيبه الاضطهاد عندما يتعرَّض له، بل يدفع المؤمنَ إلى مواجهة هذه الصُّعوبات انطلاقًا من إيمانه بالربّ: فإذا سَكتَ المؤمنُ عن الحقّ، أصبحَ مُناصِرًا للباطل؛ وإذا كان مدافعًا عن الحقّ، أي كلمة الله، نال الملكوت. لذلك، على المؤمِن عدم الاستكانة وعدم التَّراخي في تأدية الدَّورِ المطلوب منه في كنيسته ووَطنه ومجتمعه.
إنّ الله لا يَقوم بما على الإنسان القيام به، وبالتّالي على المؤمن أن يتحمّل مسؤوليّته كمؤمنٍ بَدَلَ أن يرمي تلك المسؤوليّة على الله. إنّ الإنسان الّذي ينتظر من الله أن يقوم بكلِّ شيءٍ بدلاً منه، هو إنسانٌ عاجزٌ عن رؤية الله عندما تواجِهُه الصُّعوبات، فيظُنُّ أنّ الله لم يستَجِبِ طلباته، وأنّ الله قد تخلَّى عنه في وَقت الأزمة. إنّ صُورَة الإله الموجودة في أذهاننا تُعبِّر عن الإله الصَّنم الموجود في حياتنا، لا عن الإله الحقيقيّ الّذي نؤمِن به.
ويقول لنا يوحنّا الرَّسول: “ولَها مَلاكُ الهاوِيَةِ مَلِكًا عليها، اسْمُهُ بِالعِبرانيّةِ “أَبَدُّونَ”، وله باليونانيَّةِ اسْمُ “أَبولِّيُونَ”. إنّ اسم “أَبولِّيون” أو “أبَدُّون”، يعني الـمُبيد، الـمُدمِّر، الهالِك. هذا ما نواجهه في هذه الأيّام الصَّعبة، إذ إنّ بعض المجموعات الّتي اتَّخذت مِنَ الشَّر مَلِكًا عليها، تسعى جاهدةً إلى إخضاع المؤمنِين لعبادة الأصنام، وحثِّهم على الابتعاد عن الله، وهي بمعنى آخر تسعى إلى إبادة الإنسان إذ تمنعه من الحصول على الملكوت. وهنا نسأل: ما هي نظرتُنا كمؤمِنِين إلى المستقبَل؟ بِمَن نَضع رجاءنا؟
للأسف، إنّ المؤمنِين في أيّامنا، قد اعتادوا على الاسترخاء، لذا نجِدهم حاضِرين للاستسلام والتخلِّي عن الله عند أوّل صعوبةٍ يواجِهونها. إنّ نظرة المؤمنِين إلى الله تقوم على الاعتقاد بأنّه مُلبيّ رغباتهم، وعندما يتفاجأون بعدم تلبيته لها، يُسارِعون إلى التَّعامل معه على أنّه صَنمٌ، تمامًا كما يَفعل الوثنيُّون مع آلهتهم، فينقُلونه من مكانٍ إلى آخر، واضِعين إيّاه على هامِش حياتهم. هكذا أيضًا يتصرَّف الوثنيّون: إذ إنّ لكلّ مدينةٍ وثنيّةٍ إلهها. عندما تشنُّ مدينةٌ وثنيّةٌ حربًا على مدينةٍ وثنيّةٍ أخرى وتنتصر عليها، فإنّ المدينة المهزومة في هذه الحرب، تسارع إلى التخلِّي عن إلهها، لِتَخضع لإله المدينة المنتصرة في الحرب.
وهذا ما نقوم به نحن أيضًا: إذ عندما تواجهنا صعوباتٌ معيشيّة، نُسارع إلى تهديد الله بالتخلِّي عنه إنْ لم يستَجِب لِطِلباتنا. هذه هي طريقة اليهود في التَّعامل مع الله. للأسف، لقد أصبح المسيحيُّون منقسِمِين إلى أقسامٍ ثلاثة: قِسمٌ يتعامل مع الله كما يتعامل اليهود مع الله، وقِسمٌ يتعامل مع الله كما يتعامل الوثنيُّون مع آلهتهم، وَقسمٌ يشكِّل “القِلَّة القليلة” الّتي لا زالت تحافظ على “خَتمِ الله على جِباهها”. إنّ وجود هذه المجموعة الأخيرة من المؤمنِين أي الّتي نُسمِّيها “القلَّة القليلة”، لا يعني أبدًا أنَّ الله قد مَيَّزها عن سائر المؤمنِين بل يعني أنَّ هؤلاء قد اجتهدوا للمحافظة على خَتمِ الله على جباههم. إنَّ الإنسان يُطِلُّ على الآخَرين بواسِطَة جبهَته، الّتي تعكس للآخَرين وجه الله في المؤمِن،
ولذلك يُقال عن المؤمنِين إنّهم “أيقونة الله” في هذا العالم. في الإصحاحات القادمة، سنكتشِف وجودَ خَتمٍ آخر يُوسَم به الإنسان، غير خَتمِ الله، وهو “666”. إنَّ وجود هذا الخَتمِ على جبهَةِ الإنسان يُشير إلى قبول الإنسان بالتَّعامل مع صاحب الخَتم، ألا وهو الشَّرير، الـمُمَثَّل بعبادة الأصنام. على المؤمن عدم التوقُّف عند حرفيّة هذا الرَّقم الموجود على الخَتم، إنّما عند معناه الرُّوحيّ.
عند قراءته سِفر الرُّؤيا، يسعى المؤمن إلى قراءته على أنّه توُّقعاتٍ تتحقَّق في عَصرِنا، فيسعى إلى مطابقة الأحداث الّتي تحصل في أيّامنا مع أحداث سِفر الرُّؤيا؛ في حين أنّه على الإنسان قراءة سِفر الرُّؤيا للحصول على التعزية الإلهيّة الّتي تُساعدنا على مواجهة صعوباتنا اليوميّة في ظلّ هذه الظروف الصّعبة. وبالتّالي، على المؤمِن ليس إدخال أحداث اليوم إلى سِفر الرّؤيا، بل إدخال سِفر الرُّؤيا إلى حياته اليوميّة. إنّ نظرةَ المؤمِن إلى أحداث سِفر الرؤيا على أنّها توقُّعاتٍ تتحقَّق في هذه الأيّام، مِن شأنها أن تدفعه إلى اهمال مسؤوليّته القائمة على اتِّخاذ القرار في اتِّباع الله، ورَفضِ العبادات الأخرى. إنّ المؤمِن الذّي يُقرِّر اتِّباع الله، عليه القبول بالصَّليب،
إذ لا يمكن للإنسان أن يؤمن بالمسيح القائم من الموت، ويرفض الإيمان بالمسيح المصلوب: فَمَن يَقبل بالمسيح القائم من الموت، عليه أن يَقبل بالمسيح المصلوب؛ وبالـتّالي، لا قيامة مِن دون صليب. في هذا الإطار، قال لنا بولس الرَّسول: “أنا لم أعرف شيئًا بينكم إلّا المسيح وإيّاه مصلوبًا”. إنّ هذا المسيح الّذي نؤمن به، صُلِب أوّلاً ثمّ قام، وبالتّالي لا يمكننا الإيمان بالمسيح المصلوب من دون أن يكون لدينا الاستعداد للقيام بالتضحيات، أقلَّه بِتَضحيّة واحدة صغيرة: على مستوى أهوائنا أو مصالحِنا أو رغباتنا، أو خوفنا، أو قبولِنا بالرِّشى. إذًا، الصَّليب هو مِن أساس إيماننا المسيحيّ: فهذا الموضوع لا يهدِف إلى دَغدغتنا الرُّوحيّة، بل إلى إعطائنا شِحنةً تساعدنا على احتمال الصُّعوبات.
إنّ نظرَتنا للصَّليب مِن شأنِها أن تُعزِّينا وتقوِّينا بالكلمة المذبوحة، يسوع المسيح، فيسوع المسيح قد غَلب الموت بالصَّليب. إنّ قبولَنا بالمسيح، يعني قبولَنا بالصَّليب، وبالتّالي هذا يُحتِّم علينا القيام بالمزيد من التضحيات تجاه الآخَرين. إذًا، لا يمكننا إلغاء الصّليب من حياتنا المسيحيّة بسبب عدم رغبتنا في القيام بالتَّضحيات. إنّ هذا الزَّمن هو فرصةٌ لنا لِنَختبر ما هو ذَهبٌ حقيقيّ وما هو خشبيّ، أي بمعنى آخر ما هو صالحٌ في حياتنا فنحافظ عليه، وما هو غير صالح فنتخلَّى عنه. إنّ الّذهب يُمتَحن بالنّار، أي بالتَّعب وبمواجهة التحدِّيات.
إنَّ الوقت قد حان للتخلِّي عن الدَّلع، أيّها المسيحيّون! إذ حان الوقت لاتِّخاذ المواقف الحياتيّة الّتي تُعبِّر عن إيماننا، فنناصِرُ الحقَّ مهما كان الثّمن، متمسِّكين برجائنا بأنّ بَعد هذه الحياة الفانية، سيكون نصيبنا في الملكوت. إنّ هذا الكلام لا يعني أبدًا تقديس الألَم والعذاب، فنحن نرفضه، ولكنْ هذا الكلام يعني أنْ نكون على استعداد لمواجهة الألم والعذاب حين يعترِض حياتنا، من خلال إيماننا بالربِّ يسوع. لا يمكننا أن نُحبَّ ونخدمَ ونقول الحقَّ من دون أن يُكلِّفنا ذلك وَجعًا، ولا يمكننا أن نكون ثابِتِين على قِيَمنا ومبادِئِنا المسيحيّة من دون أن نواجه الآلام والعذاب؛ فالّذي لا يتوجَّع من إيمانه بالربّ، ومِن ثَباته في مبادئه المسيحيّة، ومِن محبّته للآخَرين، ومِن عطائه، فذلك يعني بالتّأكيد أنَّ هذا الإنسان يساوم على الحقّ، ويعيش إزدواجيّة في حياته.
إنّ الحقيقة الأساسيّة الّتي لا خلافَ عليها هي الموت: فَقَدْ يَختَلِف اثنان على وجود الله أو عدمِه، ولكن لا يختلف اثنان على وجود الموت. إذًا، الموت هو أكثر حقيقةً مِن الله، عند النّاس، لأنّهم يَرونَه في كلّ لحظةٍ من حياتهم، على عكسِ الله الّذي لا يرَونه في وقت الضّيقات. وهذا ما يبرِّر خوف البشر من الموت، لِدَرجةٍ أنّهم أصبحوا مستَّعدين لِتَركِ الله للمحافظة على حياتهم الفانية الأرضيّة، وهذا ما عبَّر عنه بولس الرَّسول عندما قال لنا بما معناه إنّ خوف النّاس من الموت، جَعلَهم يقعون في العبوديّة.
أمّا المسيحيّ المؤمن، فعليه أن ينظر إلى الموت، ويحاول أن يتخطَّاه قدر الإمكان؛ ولكنْ عندما لم يتمكَّن من تَجنُّبه نهائيًّا، سعى المؤمِن إلى مواجهة الموت انطلاقًا من إيمانه بالربّ، إذ لا يمكن للإنسان أن يُواجه الموت، بذهنيّة الخاسر، بل بذهنيّة المنتصر، كما انتصر الربُّ يسوع على الموت. إنّ الربَّ يسوع لم يختَر الموت على الصَّليب، ولَم يبحَث عنه، ولكنّه وَاجهه عندما اعترَض حياته، فانتصَر عليه، حين قام من الموت. ونحن اليوم، مدعوّون إلى مواجهة مصيرنا في هذا الزَّمن، ولكنَّ السؤال الّذي يُطرَح اليوم علينا: هل سنواجه صعوباتنا اليوم ونحن ثابتون في إيماننا بالربّ، أم سنَقع في أفخاخ الشِّرير، فنترك الله لِنَعبُد الأصنام؟ هنا صَبرُ القدِّيسِين.
ملاحظة: دُوِّن الشرح بأمانةٍ من قِبَلنا.