إنَّ حديثنا اليوم هو عن “الـمُخلَّصِين”. في هذا الإصحاح، نقرأ أنّ عدد الـمُخلَّصِين هو مئةٌ وأربعةٌ وأربَعون ألفًا، مِن أسباط إسرائيل، وهذا يعني أنّ الخلاص هو لكلِّ اسرائيل. إنّ الرَّقم “مئة وأربعة وأربعين ألفًا” يُقسَم كما يلي: 12x12x 1000؛ وهو يرمز إلى عددٍ غير محدود. ولكنَّ جماعة “شهود يهوه”، تتوقَّف عند حرفيّة هذا الرَّقم، فَتعتبر أنَّ عدد المخلَّصِين هو مئة وأربعةٌ وأربعون ألفًا فقط، وهُم في اعتقاد “شهود يهوه” من جماعتهم فقط. في الكتاب المقدَّس، 

إنَّ الرَّقم “ألف” يرمز إلى عددٍ غير محدود، وهو يساوي الرَّقم عشرة، – الّذي يرمز أيضًا إلى الكمال- ، مضروب بذاته مرّاتٍ ثلاث. وأيضًا يرمز الرَّقم “اثنا عشر” إلى الكُلِّية أي الشُّموليّة: فالكتاب المقدَّس يُخبرنا عن اثني عشر سبطٍ لاسرائيل، كما يُخبرنا أنَّ الربَّ يسوع اختار له اثني عشر رسولاً من الشَّعب. إنّ موضوع الخلاص ليس محصورًا بجماعةٍ معيّنة أو شعبٍ معيَّن، إذ يقول لنا كاتب هذا السِّفر إنّه رأى “جَمعًا كثيرًا لَم يستَطِع أحدٌ أن يَعُدَّه، من كلّ الأُمَم والقبائلِ والشُّعوب والألسنة”(7/9).

وبالتّالي، أراد الكاتب أن يقول لنا إنّ خلاص الربِّ هو متاحٌ لجميع النّاس من دون تمييز، لكن بِشَرطٍ واحدٍ هو قبولهم شهادة الربِّ يسوع. ويتابع الرَّسول كلامه فيُخبرنا أنّ هؤلاء المخلَّصين الّذين لا ينتمون إلى شعب اسرائيل، قد غسَّلوا ثيابهم بِدَم الحمل. إنَّ الدَّم لا يستعمل لتنظيف الثِّياب، فالدَّم يوسِّخها ويلوِّثها. وبالتّالي، فالمقصود بعبارة “غسَّلوا ثيابهم وبيَّضوها بِدَم الخروف” (7/ 14)، أنّ هؤلاء قد غسَّلوا ثيابهم بِدَم الشَّهادة، أي أنّهم استشهدوا في سبيل إيمانهم بالربِّ يسوع. 

إذًا، كُلُّ مَن يشهد للربِّ يسوع، أكان من الشَّعب اليهوديّ أو مِن الأُمَم، وتؤدِّي به شهادته هذه إلى الاستشهاد، ينال مكافأةً على ثباته في إيمانه وهي الجلوس على العرش مع الله في الملكوت، من دون خضوعه للدَّينونة، إذ فيه يتحقَّق ما قاله لنا الرَّسول في الإصحاح الأوَّل من سِفر الرُّؤيا، إذ قد غَلب كما غلب الربُّ يسوع. إنّ الربَّ يسوع قد غلب الموت بموته على الصَّليب؛ ولكنْ هذا لا يعني أنّه على المؤمن أنْ يغلِب أيضًا من خلال موته بالطريقة نفسها الّتي ماتها الربّ أي على الصَّليب، فالموت هو نتيجة أمانة المؤمن وتمسُّكه بإيمانه تعبيرًا عن حبِّه لله: فالـحُبُّ قد قاد المسيح يسوع إلى الموت على الصّليب. 

إنّ الربَّ يسوع على الصَّليب قد أفرَغ كلّ ذاته إنسانيّا ليتمكَّن من مَلء إنسانيّته من ألوهيّة الله؛ لذا لم يتمكَّن الموت من السَّيطرة على الربِّ والقضاء عليه، فقام الربُّ من الموت. وبالتّالي، عندما يستشهد المؤمن، يكون قد أفرغَ ذاته من إرادته ومشيئته، ليمتلئ من مشيئة الله وإرادته، إذ أصبح الموت بالنِّسبة إليه، طريقًا يوصله إلى الملكوت، لا بِهدف انتظار الدَّينونة، إنّما من أجل الجلوس على العرش مع الله. 

أن تجلس على العرش مع الله، فهذا يعني أنَّك تُصبح مشاركًا في دينونة البشر إذ سيُقدِّمك الربُّ إلى جميع البشر نموذجًا يُحتذى به في عيش الأمانة للربّ في هذا العالم. ويُضيف صاحب سِفر الرُّؤيا فيقول لنا إنّ هؤلاء المخلَّصين قد وصلوا إلى الملكوت وفي أيديهم سُعف النَّخل. في الكتاب المقدَّس، يحمل الشَّعب سُعف النَّخل عند استقبالهم مَلِكهم العائد من الحرب منتصرًا؛ وبالتّالي حَملُ الشُّهداء لِسُعف النَّخل يشير إلى إعلانهم الانتصار على الموت وعلى كلّ أشكال الشَّر. إذًا، المؤمن الشَّهيد هو في أعلى مستوى من حالة القوَّة والانتصار لأنَّه غسَّل ثيابه بِدَم الشهادة.

إنّ عبارة “الجالس على العرش وللخروف” تشير إلى الآب والابن. إنّ هؤلاء الشُّهداء، إضافةً إلى الملائكة والشُّيوخ والحيوانات الأربعة، الّذين سبَق وتكلَّمنا عليهم، قد سجدوا للربّ وسبَّحوه؛ وقد استخدم كاتب هذا السِّفر سبع صفات هي “البَرَكة والمجد والحكمة والشُّكر والكرامة والقدرة والقوَّة”، للدلالة على تقديم كلّ هؤلاء كمال التَّمجيد وكمال التعظيم لإلهنا، إلى أبد الآبِدِين. 

إذًا، هذا التَّمجيد الكامل يُعلِن انتصار الملك الّذي استشهد على الصَّليب، الخروف المذبوح الّذي به يليق كلُّ تمجيد. ويتابع الرَّسول،كاتب السِّفر، فيُخبرنا أنَّ أحد الشُّيوخ قال له إنّ المتسربلين بالثِّياب البِيض، الّذين لا ينتمون إلى الشَّعب اليهوديّ، هم مؤمنون بالربّ تعرَّضوا للاضطهاد، وقد تمكَّنوا من احتماله متسلِّحين بالصَّبر، ثابتين في إيمانهم، لأنّهم لم يخافوا من الموت. يتزعزع إيمان الإنسان حين يلامس هذا الأخير الموت في حياته اليوميّة، وهذا ما نختبره في بلادنا اليوم: إذ أصبحنا نعيش وفي قلوبنا خوفٌ من الموت وخوفٌ من الـمَرَض. 

إنّ مشكلة الإنسان تكمن في خوفِه من الموت، فبولس الرَّسول يقول لنا في رسالته إلى العبرانيّين: إنّ خوفنا من الموت يؤدِّي إلى وقوعنا في عبوديّة الخطيئة. فمثلاً، إذ قام أحد المؤمنِين بِفعل السَّرقة، فإنَّه لن يتجرَّأ على إعلان فِعلته هذه، خوفًا من أن يتعرَّض للعقاب بابتعاد الآخَرين عنه، فيكون في عزلةٍ عن النَّاس، وهذه تشكِّل إحدى صُوَر الموت، لذا يَكذِب ولا يُقرُّ بفِعلته، والكَذِب هو أيضًا خطيئة. 

إنّ الإنسان الّذي يخاف من تعرُّضه لِعزلةٍ من الآخَرين يرتكب العديد من الخطايا بِهَدف لَفت انتباه الآخَرين؛ أمّا الإنسان الـمُكتفي، أي الّذي لا يخاف من التَّعرض للعزلة من الآخَرين، فيكون في حالةٍ من السَّلام والهدوء والفرح الداخلي، إذ لا يسعى إلى أذيّة الآخَرين بل إلى خِدمتهم. إنّ خوف الإنسان من الموت بكلِّ أشكاله، يُفقِده صورته الإنسانيّة الحقيقيّة. 

إنّ الخوف من الموت هو أَكبرُ دافعٍ للوقوع في الخطيئة. إنّ الطِفل الفوضويّ في المدرسة والمجرم هما شخصان لم يشعرا بِحُبِّ أهلهما لهما، فسعيا إلى لَفت الأنظار لهما من خلال القيام بأعمالٍ شريرة كالمشاغبة والقتل. 

إذًا، الموت هو عدوٌّ لله، إذ يعتقد الإنسان أنَّ الله هو المسؤول عن الموت في حين أنّه ليس كذلك؛ والموت أيضًا هو عدوٌّ للإنسان، إذ لم يكن الموت هدفًا من أهداف خلق الله للإنسان. فالله قد خلق الإنسان للخلود؛ ولكنَّ بسبب خوفه من الموت، ارتكب الإنسان الخطيئة فأصبح عبدًا لها، ودَخل الموت إلى حياة الإنسان. بمجيئه إلى أرضنا، أباد الربُّ يسوع الموتَ، أي أنّه أباد خوف الإنسان من الموت، باقتحامه الموت وقيامته من بين الأموات. 

إنَّ الموت هو حالةٌ طبيعيّة موجودةٌ في عالمنا، ولكن المؤمن لا ينظر إلى الموت على أنّه يشكِّل خطرًا على حياته، لأنّ الحياة بالنِّسبة إليه، لا تقتصر على سنين حياته على هذه الأرض، بل تمتَّد إلى ما بعد هذه الحياة. إذًا، الفرق بين المؤمن وغير المؤمن، هو: أنّ المؤمن يؤمن أنَّ حياته لا تنتهي بموته الجسديّ، بل تتخِّذ نهجًا جديدًا بعد انتقاله من هذه الأرض؛ أمّا غير المؤمن فهو يعتقد أنَّ موته الجسديّ يُنهي كلّ حياته، 

لذا يسعى إلى التلذّذ بشهوات هذا العالم، فيَضع مصلحته فوق جميع المصالح، ويسعى إلى تحقيقها على حساب خدمته للآخَرين ومحبَّته لهم، وإلغائه لشعوب أُخرى. وهذا ما أخبرنا به الكتاب المقدَّس، إذ ألغى قايين وجود أخاه هابيل، لأنَّه اعتبر أنَّ أخاه سيحجب نظر الله عنه، لذا قتل قايين أخيه هابيل ليَحصر نَظر الله فيه وَحده.

“هؤلاء الـمُتَسربِلون بالثِّياب البِيض،مَن هُم ومِن أين أتوا؟” (7/13). إنَّ كلَّ واحدٍ منّا، قد يكون واحدًا من هؤلاء! إنّ هؤلاء المتسربلين بالثِّياب البِيض قد أتوا من الضِّيقة العظيمة وهم ثابتون في إيمانهم، لذلك نالوا إكليل الشَّهادة مُصطَبِغين بِدم الخروف المذبوح، أي يسوع المسيح، ولذا هم الآن يقفون أمام عرش الله. لا يجلس على العرش إلّا حاشية الـمَلِك، وبالتّالي، انضمَّ هؤلاء الشُّهداء إلى حاشية الـمَلِك السَّماويّ، ولذا قاموا يخدمونه ليلَ نهار، في هيكله المقدَّس غير المصنوع بأيادٍ بشريّة.

“الجالس على العرش يحلُّ فوقهم”، أي أنّ الجالس على العرش يرعى هؤلاء الشُّهداء ويَهتّم بهم، لذا هم لا يحتاجون إلى شيءٍ، لأنَّ الله قد أعطاهم كلّ ما يحتاجون إليه. إنّ حاجات الإنسان الأساسيّة للاستمرار في هذه الحياة تقوم على توفُّر الطَّعام والماء له، لذا قال لنا كاتب هذا السِّفر: “لن يجوعوا بَعدُ، ولَن يعطَشوا”(7/16): إنَّ الربَّ قد أعطى هؤلاء الحياة الأبديّة، لذا لن يجوعوا ولن يعطشوا من بَعدُ، لأنّ الربَّ أروى عطشهم إليه.
“لا تَقعُ عليهم الشَّمس ولا شيءٌ من الحَرّ”، أي أنّه ما مِن شيءٍ سيَضُرُّهم الآن، لأنّ “الخروف في وسط العرش يرعاهم”. إنّ الرَّاعي يرعى غنمه هو، ولا يرعى غَنم الآخَرين إلّا بوكالةٍ من الرّاعي الآخَر، فيَهتّم عندئذٍ بالقطيع الموكل إليه كما لو أنّه قطيعه الخاصّ. وهكذا أيضًا يفعل الله مع الرُّعاة، إذ يُوكل إليهم رعاية قطيعه ليهتّموا به كأنّه قطيعهم. إنّ الربَّ أراد أن يقول للمتسربلين بالثِّياب البِيض إنّهم منذ الآن، لم يعودوا تحت رعاية أحدٍ، لأنّهم أَصبحوا تحت رعايته الشخصيّة، لذا لا جوع ولا عطش ولا خوف من شيء، بعد اليوم.

“يقتادهم إلى ينابيع ماءٍ حيّةٍ، ويمسح الله كلّ دمعةٍ من عيونهم”(7/17). إنّ أجمل تعزية روحيّة يتلَّقاها الإنسان من الربّ هي: أن يمسح الله دموع الإنسان، وهذا يعني أنْ يُلغي الله كلّ سببٍ يؤدِّي إلى حُزن الإنسان وإلى معاناته من الشِّدة والضِّيق، فيكون هذا الأخير في حالةٍ من الفرح الدائم. إنّ الله يمنح هذا الوعد للإنسان الّذي سيبقى ثابتًا في إيمانه، رُغم كلّ الضيقات الّتي تعترضه.

إخوتي، في ظلّ الوَضع الرَّاهن الّذي نعيشه في لبنان وفي العالم، يدعونا يوحنّا الرَّسول، كاتب هذا السِّفر إلى الانتباه لأمرَين: أوًّلا محاولة البقاء على قيد هذه الحياة من خلال حماية نفوسنا؛ وثانيًا الثبات في إيماننا على الرُّغم من كلِّ الصُّعوبات، فنجتازها ونحن محافظون على إيماننا بالربّ. 

إخوتي، إنّ سِفر الرؤيا هو سفر التعزية للحالة الّتي نعيشها: حين يتوقَّف خوفنا من المرض عند حدِّ اتِّخاذنا كلّ التدابير الوقائية لعدم الإصابة بالمرض، فإنّنا سنتمكَّن من التمييز بين الصَّح والخطأ، فنختار الطريق الصَّحيح لِسُلوكه؛ أمّا حين يتعدَّى خوفنا من المرض الخوف الطبيعيّ ويتحوّل إلى نوعٍ من الرُّعب، فإنّنا سنبادر إلى لوم الله عند تعرُّضنا لمصيبةٍ ما، ما سيدفعنا إلى إنكار إيماننا به، وبالتّالي سنقع في عبوديّتنا للخطيئة، وسنلجأ إلى المساومات بين عبادتنا لله وعبادتنا للآلهة الأُخرى، ونُصبح مشابهين لا لأهل الإيمان بل لأهل هذا العالم. 

إنّ خوفنا من الموت دفعنا إلى القبول بمساومات الدُّنيا، فأصبحنا نتاجر بـ”تجارة الشيطان”. إنّ الفكر الشيطاني، يقوم على أن يتصرَّف الإنسان وكأنَّ الآخَرين هم غير موجودين بالنِّسبة إليه، فلا يَهتمّ بهم. إذا كُنّا لا نهتمّ للآخَرين الموجودين بالقُرب منّا، فهذا يعني أنّنا لا نُحبّهم، وإنْ كّنا لا نُحبّ الآخَرين فهذا يعني أّنهم غير موجودين بالنِّسبة إلينا، وبالتّالي نحن نكون قد قتلناهم في فِكرنا. 

إنّ سِفر الرؤيا هو مَن يوقظ العقل، فيُصحِّح السَّلوك ويقوِّي رُكَبَ المؤمنِين فيثبتوا في إيمانهم حتّى زوال الأزمة والصُّعوبات، وهم واقفون، أي غير خاضعين لأيِّ إلهٍ آخر سوى الله. آمين.

ملاحظة: دُوِّن الشرح بأمانةٍ من قِبَلنا.