في هذا الإصحاح، يُقدِّم لنا يوحنَّا الرَّسول صُورةً مخيفةً عن نهاية الأزمنة، الّتي لا بُدَّ لها مِن أن تَحصُل. في الإصحاح الماضي، أخبَرنا يوحنّا الرَّسول أنّه ليس أحدٌ باستطاعته أن يَفُكَّ الختوم السَّبعة إلَّا الحَمَل المذبوح، الجالس على العرش السَّماويّ، أي المسيح يسوع، وهو الّذي يُقرِّر متى يَفتَحُ الختوم، وبالتّالي حدوث القيامة العامّة أي اليوم الأخير. إنَّ يوحنّا الرَّسول، كاتب هذا السِّفر، يُخبرنا بما رآه، ولكنْ هذا لا يعني أنَّ ما رآه سيتمُّ بحرفيّته، لأنّ الأسلوب الأدبيّ، الّذي اعتمده الرَّسول في هذا السِّفر، هو أسلوب الأدب الاستِعاريّ، الّذي يقوم على استخدام عباراتٍ لها رَمزيّات ومدلولاتٍ كثيرة. وإليكم مِثالاً على ذلك: إنَّ الأقباط قد أَعطوا تفسيراتٍ إيمانيّة لانحناءة الربِّ يسوع إلى الأرض وقيامه، عندما جَبل الطِّين من الأرض ليَضعه على عينيّ الأعمى، في إنجيل يوحنّا، فوَجدوا أنَّ إنحناءته ترمز إلى آلامه وموته، وأنَّ ارتفاعه مجدًّدا عن الأرض يرمز إلى قيامته من بين الأموات.

في هذا الإصحاح، رموزٌ كثيرةٌ سَنَقوم بشَرحها، من أجل فَهمٍ أفضل لِسِفر الرُّؤيا. في هذا السِّفر، أراد يوحنّا الرَّسول تشجيع المؤمنِين الّذين يتعرَّضون للاضطهاد إلى الثَّبات في إيمانهم، إذ إنَّ مؤمنِين كُثُرًا قَبْلَهم قد تعرّضوا للشَّهادة “من أجل كلمة الله، ومن أجل تلك الشَّهادة الّتي كانت عِندَهم”. إنَّ كاتب سِفر الرُّؤيا لا يتكلَّم على المؤمنِين الّذي يموتون بطريقة مُفاجِئة وغير متوَّقعة، بل يتكلَّم على المؤمنِين الّذين سيموتون جرَّاء ثباتهم في إيمانهم بالربِّ يسوع. 

وفي هذا الإصحاح، يُكلِّمنا يوحنَّا الرَّسول على أربعة أحصِنة ترمز كُلٌّ منها إلى نوعٍ من الصُّعوبات الّتي سيتعرَّض لها المؤمن وقت الاضطهاد، كالجوع والفقر والطرد من العمل وسواها من الأمور، الّتي مِن شأنها دَفعُ المؤمن إلى نُكرانِ إيمانه. بعد كلِّ شدَّة، فَرَجٌ؛ وبعد كلِّ موت، قيامة. وهذا ما يدفعنا إلى استغراب كلام يوحنَّا الرَّسول في هذا الإصحاح، إذ يبدأ كلامه مع المؤمنِين الّذين يعانون من الاضطهاد، لا على الصُّعوبات الّتي سيواجهونها، إنّما على انتصار الربِّ على الموت بقيامته. فيُكلِّمنا يوحنّا الرَّسول بدايةً على فَرَسٍ بيضاء، يحمل الجالس عليها في يده قوسًا وعلى رأسه إكليلاً، وهذا دليلٌ على أنَّ الجالس على الفَرسِ البيضاء هو محاربٌ قويٌّ قد انتصر في معركته، قَبْل انطلاقتها. فالإكليل، عادةً، يوضَع على رأس المحارب العائد من الحرب، لا على رأس المحارب عند خروجه إلى المعركة. 

إنَّ الجالس على هذه الفَرس هو شخصٌ متأكِّدٌ مِن انتصاره في الحرب قَبْل انطلاقتها، وهذا الأمر مِن شأنه أن يدفع المؤمنِين إلى اتِّباعه. إنَّ الجالس على الفَرس البيضاء يرمز إلى الربِّ الّذي انتصر على الموت بقيامته، وهو المنتصر دائمًا وأبدًا على الشَّر. إنَّ الربَّ يسوع قد غلب الشِّرير حين قام مِن بين الأموات، لذا قال عنه الرَّسول إنّه “خرجَ غالبًا”، ولكنَّه أيضًا سيَغلِب الشّرير في اليوم الأخير، أي في يوم إعلان القيامة العامّة، لذا قال الرَّسول عن الربِّ إنَّه “خَرَج لِكَي يغلِب”.

في هذا الإصحاح، أراد يوحنّا الرَّسول تذكير المؤمنِين بالملكوت السَّماويّ الّذي سينالونه في الحياة الثّانية، متى ثبتوا في إيمانهم في هذه الحياة، من خلال كلامه على الفرس البيضاء؛ قَبل طَلبِه إليهم التحلِّي بالصَّبر لتخطِّي الصُّعوبات في زمن الاضطهاد الّذي يقودهم إلى الاستشهاد.

في هذا الإصحاح، يُكلِّمنا يوحنَّا الرَّسول على ستَّة ختوم مِن أصل سبعة ختوم، لأنَّ الخَتمَ السَّابع والأخير لا يُفَكّ إلّا عند حلول الآخِرة، وبالتّالي لا يستطيع المؤمِن معرفة حقيقة الآخِرة، قَبْل حدوثها، لذا عليه أن يكون مستعدًّا لها على الدَّوام.

في الخَتم الأوَّل، رأى يوحنَّا الرَّسول مشهد الانتصار والغلبة. إنَّ الحيوانات الأربعة ترمز إلى الانجيليِّين الأربعة: متى، مرقس، لوقا، يوحنّا.
في الخَتم الثَّاني، شاهَد يوحنَّا الرَّسول فَرسًا حمراء، “أُعطِيَ لها أن تَنزع السَّلام من الأرض”، وهذه الفرس تَرمز إلى الحروب، مع ما تحصده من أرواحٍ بشريّة بالموت. 

وبالتّالي، أراد الرَّسول إخبار المؤمِنِين من خلال هذه الفرس الحمراء بأنَّ حروبًا ستُشنُّ ضِدَّهم، وستقود إلى استشهاد الكثيرين منهم. إنَّ “السَّيف” يرمز إلى الاضطهاد الّذي سيُعاني منه المؤمِنون. كَتبَ يوحنَّا الرَّسول هذا السِّفر في زمن الاضطهاد، وبالتّالي لم يكن باستطاعته الكتابة بأسلوبٍ واضحٍ، كي لا تزداد حدَّة الاضطهاد على المسيحيِّين من قِبل الـمُضطَهدين، لذا لجأ إلى أسلوبٍ استعاريّ، لا أحدَ يستطيع فَهمَه إلّا إذا كان مؤمِنًا بالمسيح، فجميع الرُّموز الّتي لجأ إليها يوحنّا الرَّسول هي رموزٌ مستقاة من العهد القديم.

في الخَتم الثَّالث، كلَّمنا يوحنَّا الرَّسول على رؤيته لِفَرسٍ سوداء، وهي ترمز إلى المجاعة والفَقر وغلاء أسعار المواد الغذائية الضروريّة للحياة، إذ يُخبرنا الرَّسول أنَّ ثُمنِيّة القَمح سَتُباع بِدينارٍ وثلاثُ ثماني شَعير بدينار. في الحقيقة، هذا الكلام يُلخِّص ما نعيشه اليوم في لبنان، وأقول لكم إنَّ أجدادنا أيضًا قد اختبروه عبر العصور. إنَّ كلام يوحنَّا الرَّسول عن المجاعات، لا يعني أنَّ حدوثها يؤشِّر إلى اقتراب الآخِرة، بل إنّ حدوثها يُذكِّرنا أنَّ الآخِرة قد تتمَّ في أيِّ لحظةٍ. 

إنَّ ما نعيشه اليوم لا يعني أبدًا أنَّ الآخِرة قد أصبحت على الأبواب، لأنَّه عند حلول الآخِرة لن يكون هناك وقتٌ للمؤمِنِين لاستعدادهم لها، لأنَّه لن يكون هناك فرقٌ زمنيّ بين علامات الآخِرة وحلولها. إنَّ المجاعات وغلاء المعيشة والفقر هي مِن صناعة البشر ضدَّ إخوتهم البشر. إنَّ هذه العلامات الّتي كلَّمنا عليها يوحنَّا الرَّسول مِن شأنها أن تُذكِّرنا بضرورة الثَّبات على إيماننا والعيش وِفق تعاليم الربَّ، وعدم الانجراف وراء الخطيئة، كي لا تَحدُث الآخِرة ونحن غير مستعدِّين لها. وفي هذا الإطار، تابع يوحنَّا الرَّسول حديثه عن العلامات فقال: “إنَّ الزيت والخمر لا تَضُرَّهما”.

إنَّ الخمر يرمز إلى دَم المسيح الّذي نشربه في الافخارستِّية؛ والزَّيت يرمز إلى الشِّفاء وبالتَّالي إلى الرَّحمة. إذًا، على الرُّغم من الصُّعوبات الّتي يتعرّض لها في وقت الاضطهاد، على المؤمن أن يستمرَّ في عيش الشَّراكة والرَّحمة مع أخيه الإنسان.

في الخَتم الرَّابع، رأى يوحنَّا الرَّسول فَرسًا خضراء، والجالس عليها اسمه الموت. وهذا يشير إلى أنَّ الموت سيبتلع عددًا كبيرًا من المؤمنِين. إنَّ الموت قد أُعطي سُلطانًا على رُبع الأرض فقط، أي على جزء من الأرض لا كُلِّها، فالمؤمِنون سيتعرَّضون للأذيّة نتيجة الشَّر الموجود في العالم كالمرض والجوع، ولكنَّ الغلبة في النِّهاية لن تكون للشَّر بل لله وحده. إنَّ هذا الكلام يزرع تعزيةً إلهيّة، في قلوب المؤمنِين الّذين يعانون من الاضطهاد، إذ يُذكِّرهم يوحنَّا بأنَّ الجالس على الفرس البيضاء قد غلب وخرج ليَغلِب. وبالتّالي، مهما طال زمن الاضطهاد، فإنَّه لا بُدَّ مِن أن ينتهي.

في الختم الخامس، رأى يوحنّا الرَّسول “نفوس الّذين قُتلوا من أجل كلمة الله، ومن أجل الشَّهادة الَّتي كانت عِندَهم”. إنَّ هذا الكلام هو عبارةٌ عن تعزيةٍ جديدة يُقدِّمها الرَّسول للمؤمِنِين، بعد التعزيّة الأولى المتجسِّدة في الفَرَس البيضاء والجالس عليها، ومفادُها أنّه مَهما حلَّ بالمؤمنِين فإنَّ مصيرهم سيكون في الملكوت، على مِثال تلك النُّفوس الموجودة تحت الـمَذبَح، أي القدِّيسِين الشُّهداء، إنْ كانوا ثابتين في إخلاصهم للربِّ يسوع. حسب تقليد الكنيسة الشرقيّة، حين يتمُّ بناء كنيسة، تُوضَع تحت الـمَذبَح ذخائرُ بعض الشُّهداء، أو ذخائر بعض القدِّيسِين الّذين قدَّموا لله حياتهم فماتوا بسبب إخلاصِهم للربّ. 

في القديم، كانت تقام الذبيحة الإلهيّة على مدفن الشَّهيد. في هذه الأيّام الصَّعبة في لبنان، يستطيع المؤمنون فَهْمَ جوهر الإيمان المسيحيّ، إذ لم يَعُد هناك من شيءٍ مَضمونٍ في حياتهم، وما مِن أَمَلٍ يَلوحُ لهم في الأُفُق. إنَّ المؤمِن يشعر بالإحباط واليأس، حين يجد أنَّ المصائب تنهال عليه بكثرةٍ، على الرُّغم من إيمانه بالله والتزامه الصّلاة. إنَّ الربَّ يسوع وَعدَ رُسُلَه بالحياة الأبديّة، غير أنَّهم تفاجأوا بموته على الصَّليب، فاعتقدوا أنَّ قصتَّه قد انتهَتْ. غير أنَّه بعد ثلاثة أيّامٍ من موته، أي حين فقَدوا كلَّ أملٍ بأن يحصل أيّ تغييرٍ في مصيرِه، إذ إنَّ الجسد بعد الموت، حسب الفكر اليهوديّ، يبدأ بالتَحلُّل في اليوم الرَّابع، ظهر لهم الربُّ في العليّة، حيث كانت الأبواب مغلقة، ليؤكِّد لهم قيامته من بين الأموات. 

إنَّ ظهور الربِّ لتلاميذه في اليوم الثَّالث، كان أمرًا غير متوقَّع من التَّلاميذ ولا حتّى مِن اليهود، لذا وَجدوا صعوبةً في تصديق تلك الحقيقة، بدليل أنَّ الربَّ قد طلب من رُسُله أن يلمسوه كي يتأكَّدوا مِن أنَّ ما يرونه هو حقيقةً لا وَهمًا، في حين أنَّ اليهود رَفضوا تصديق تلك الحقيقة تمامًا، فاتَّهموا التَّلاميذَ بسرقة جثمان الربِّ وإخفائه. إنَّ الله قام ويقوم بمعجزاتٍ لا عَدَّ لها في حياتنا، وسيقوم بأمورٍ لن نتمكَّن مِن تصديقها. ولكنْ أمام عمَل الله في حياتنا، نَطرَح السُّؤال على ذواتِنا: هل نؤمن بالله، بعدما حدَثَ مَعنا؟ 

إنَّ اليهود لم يُصدِّقوا أنَّ المسيح قد تجسَّد فيما بينهم، ولذا لم يؤمِنوا بأقواله، ولذلك طلبوا إليه آيةً، فَلَم يُعطِهم سِوى آيةَ يونان النبيّ. كان ابراهيم، أبا المؤمنِين، غَنيًّا على المستوى الماديّ الأرضيّ، إذ كان ينتمي إلى قبيلة، وكان يملك مواشي وأموالاً؛ ولكنْ عندما سَمِعَ صوت الربِّ، ترك ابراهيم كلَّ شيءٍ وتَبِع الله مِن دون مطالبته بِبَراهين وأدلَّة للتأكُّد من صحَّة أقوال الربِّ، وهذا أمرٌ لا يستطيع العقل البشريّ تَصديقه. إنَّ كلَّ الّذين عاشوا قبل مجيء المسيح، سيلتقون به في الملكوت، إذا كانوا قد سلكوا في حياتهم وَفقًا للرَّجاء المسيحيّ.

إنَّ الإيمان بالله، ليس أمرًا سَهلاً، خصوصًا في ظلِّ الظروف الصَّعبة الّتي يعيشها المؤمنون في لبنان، غير أنَّ الإيمان بالله يَدفعنا إلى التأمُّل في كلمة الله، وفَهْمها بشكل أوضح وأفضل، والسَّعي إلى تطبيقها في حياتنا. في ظلِّ هذه الظروف الصَّعبة، أصبح المؤمنِون، للأسف، يُصدِّقون كلام المنجمِّين أكثر من تصديقهم لكلمة الله! 

إنَّ كلمة الله ستبقى وحيدةً حتّى اليوم الأخير، أي أنَّ جمهورها سيكون ضئيلاً على الدَّوام؛ وما اختبره الربُّ في حياته هو خيرُ دليلٍ على ذلك، إذ لم يرافقه أحدٌ من تلاميذه إلى الصَّليب إلّا يوحنَّا الحبيب؛ وكذلك بولس الرَّسول لم يبقَ معه إلّا تلميذٌ أو تلميذَان كحدٍّ أقصى. كذلك الأمر بالنِّسبة إلى لقدِّيسِين، إذ لم يكن لهم مناصِرون كُثُرٌ، ولكنْ عندما كان يزدادُ عددُ مناصِريهم، كانوا يسعون إلى الابتعاد عن النّاس عبر الجلوس على العمود أو في المناسِك، فلا يتمكَّن من الوصول إليهم إلّا المتعطِّش حقًّا إلى كلمة الحقّ. 

إنَّ ازدياد جماهير حاملي لواء الحقّ، يؤشِّر إلى وجود خللٍ، إمّا في فَهْم الجماهير لكلمة الحقَّ، وإمَّا في مساومة حامِل لواء الحقّ على كلمة الحقّ. إنَّ بعضَ الجماهير تحتاج إلى مراجعةٍ لِحياتها، إذ إنَّ سَمْعها وذهنها بحاجة إلى معموديّة جديدة بكلمة الله، لتتمكّن من الشَّهادة لها. في زمن الاضطهاد، شَهِدت الكنيسة الأولى صراعًا بين المسيحيِّين، إذ كان البعض منهم يشجِّعون إخوتهم على المحافظة على حياتهم الأرضيّة من خلال الخضوع للإمبراطور، من دون نُكران إيمانهم بالربّ؛ في حين أنَّ البعض الآخَر منهم أصرَّوا على الثَّبات في إيمانهم، وهنا يظهر صبر القدِّيسين الّذي يقوم على انتظار المؤمِنِين برجاءٍ وصبرٍ، تحقيق وعود الله، إيمانًا منهم بِصدقِ الله. 

إنَّ هذه الأزمة الّتي نعاني منها في لبنان، جعلَتْ الأغنياء والفقراء متساوين في معاناتهم في الوضع الاقتصاديّ، فأصبح الأغنياء قادرين على فَهم معنى العَوز، وبالتّالي أهميّة العطاء، الصّادر عن رغبتهم في المساعدة، لا الناتج عن فضلات موائدهم. وفي هذا الإطار، تقول لنا الأمّ تريزيا دو كالكوتا إنَّ العطاء الحقيقيّ هو عطاءٌ موجِعٌ. في ظلِّ هذه الأزمة، نحن مدعوُّون إلى التَّبشير بالله لا بكلامنا، 

إنّما بعطائنا لإخوتنا المحتاجين، لأنّه إنْ لم ننطلق للبشارة بالربّ، فمن يبشِّر به؟ أقول لكم إنَّ الله سيسترجع منّا كلمته ويُعطيها لِمَن يُدرِك قيمتها ويَعملُ بها. وإنْ كُنَّا من الصّابرين على الصُّعوبات، فلا نشعرنَّ بالافتخار والكِبرياء على الآخَرين، كما فَعل إيليّا النبيّ في العهد القديم حين قال لله إنّه الوحيد الّذي لا زال يَعبُد الله ويدافع عنه، إذ قَتلَ أنبياء البعل، فكان جواب الله له إنّه ليس وحيدًا في عبادته لأنّ هناك سبعة آلافِ رُكبةٍ لم تسجد لآلهة بعل. إذًا، حتّى ولو كنتم من المؤمنِين المخلِصين لله، عليكم الانتباه لِكَيفيّة التعامل مع أنفسكم ومع إخوتكم ومع الله.
إنَّ كلَّ مسيرة يسوع المسيح كإنسان، مبنيّة على كلام مِن دون إثباتاتٍ عِلميّة ملموسة، والدَّليل على ذلك هو أنَّ الربَّ لم يتدخَّل للدِّفاع عن المؤمنِين به الّذين يتعرَّضون للاستشهاد. لم يتمكَّن اليهود ولا حتّى الأُمم، من الإيمان بأنّ المسيح يسوع قد صُلِب ومات، لأنَّهم لم يقبلوا أنّ الله قد يَترُك نَبِيَّه يُسلَّم إلى الموت، والموت صَلبًا. 

كذلك، تصرُّفات بعض المؤمِنين لا تدلّ على إيمان هؤلاء بأنَّ الربَّ قد مات على الصّليب وقام من الموت ومَنَحهم الخلاص، إذ لا يسلكون بحسب كلمةِ الله. عندما كَتب يوحنَّا الرَّسول سِفر الرُّؤيا، كان يُدرِك أنَّه أمام الاضطهاد، ذاك التحدِّي الكبير، قد يُنكر بعض المؤمِنِين إيمانهم بالربّ مستبدلِين الإله الحقيقيّ بآلهةٍ وثنيّة مزيّفة، للمحافظة على حياتهم الأرضيّة، في حين أنَّ البعض الآخَر سيَثبُت على إيمانه بالربّ، حتّى ولو قاده ذلك إلى الموت، أي إلى الاستشهاد. 

في هذا السِّفر، يقول يوحنَّا الرَّسول للمؤمِنِين الّذين يُعانون من الاضطهاد بضرورة الصَّبر على الشَّدائد، لأنَّه مهما طالت مُدَّة الاضطهاد، فإنَّه يبقى لفترة قصيرة من الزَّمن، لأنَّ “الفَرسَ البيضاء” آتية لا محالة.

إنَّ صرخَة الشُّهداء الّتي تكلَّم عليها يوحنّا الرَّسول، في هذا الإصحاح هي صرخة كلِّ مؤمنٍ يتعرَّض للشُّرور من الآخَرين، نتيجة إيمانه بالله. فيطرح السُّؤال على ذاته وعلى الله حول سبب عدم تدخُّل الله للقضاء على كلّ الشُّرور والدِّفاع عن المؤمنِين به. عنى هذا السُّؤال الّذي طَرحه كلّ الشُّهداء، يُجيب الله قائلاً إنَّ الشُّهداء سيَلبَسون ثيابًا بيضًا، وسيُطلَب إليهم الانتظار قليلاً حتّى يكتمل عدد المؤمِنين الّذين سيُستَشهدون في سبيل كلمة الحقّ، وسيَصلون إلى الملكوت. إنَّ الثِّياب البيض تهدف إلى دَفع الشُّهداء إلى نِسيان ما تعرَّضوا له من عذابات، لأنّهم سينالون في الملكوت ما تشتهي كلُّ عينٍ أن تراه، وكلُّ أُذنٍ أن تسمَعه.

ولـمَّا فُتِحَ الخَتمُ السّادس، رأى يوحنَّا الرَّسول صورةً رهيبةً عن الآخِرة، فأخبرنا أنَّ الشَّمس ستُظلم والقمر سيُصبح كالدَّم والنُّجوم ستسقُط، وأنّ جميع عظماء هذه الأرض سيخافون، ويطلبون المساعدة من الطبيعة للتَهرُّب من الخضوع لدينونة الجالس على العرش ومن غضب الخروف.

إنَّ عبارة “مَن يستطيع الوقوف؟” هي جوابٌ لكلِّ مَن يسأل: “إلى متى يستمرُّ الشَّر والاضطهاد بمضايقة المؤمِنِين؟”. فبالنِّسبة إلى يوحنّا الرَّسول، لا أحدَ من المؤمِنِين يستطيعُ الوقوف إلّا إذا تحلّى بالصَّبر على الاضطهاد، وثَبَت على إيمانه بالربّ، مُتَذكِّرًا أنّه في اليوم الأخير سيتغيَّر كلّ شيء، وسيفقد الشَّر كلّ قوَّته وسيُباد. إنَّ الصَّبر هو الّذي يزيد عدد الشّهداء في سبيل كلمة الحقَّ. 

إذًا، السُّؤال المطروح علينا الآن، بعدما نَقَل إلينا يوحنّا الرَّسول هذه الصُّورة الرَّهيبة عن اليوم الأخير، هو: كيف نستطيع الصُّمود عند تعرُّضنا للضِّيق والشِدة؟ إنَّ الصُّمود أمام الشِّدة يفترض علينا التمسُّك بوعد الله وكلمته، لأنّها الوحيدة القادرة على إعطائنا القوَّة للصَّبر فنتمكَّن، لا من إلغاء الصُعوبة، إنّما احتمالها بإيمان. فالشِّدة هي مرحلةٌ زمنيّة لا دائمة، فالدَّائم وحده هو وعدُ الله للمؤمِنِين، لذا علينا، نحن المؤمِنون، أن نتبع الله وحده من دون سواه، لأنّه الوحيد الدَّائم دائمًا. آمين.

ملاحظة: دُوِّن الشرح بأمانةٍ مِن قِبَلِنا.