تفسير الكتاب المقدّس،
الأب ابراهيم سعد،
“سِفر المزامير – المزمور 104”
يُعرف هذا المزمور باسم “مزمور الخلق”، ويُقرَأ في الطَّقس الشَّرقيِّ في صلاة الغروب، لأنَّ اليومَ اللِّيتورجي يبدأُ مساءً وينتهي صباحاً، اقتداءً بسفرِ التَّكوين الذي يقول: “وكان مساءٌ وكان صباحٌ يوماً واحداً”. أمَّا في الأسبوعِ العظيمِ ضمنَ الطَّقس الشَّرقيِّ فتُقامُ صلواتُ المساءِ صباحاً، وصلواتُ الصَّباحِ مساءً، نظراً لانقلابِ الأمور رأساً على عقب في هذا الأسبوع. عندَ قراءَتِنا لهذا المزمور سنُجري مقارنةً مع الإصحاح الأوَّل من سفر التكوين؛ قصَّةُ الخَلْق.
“باركي يا نفسي الربَّ. أيها الربّ إلهي لقد عظُمْتَ جداً. بالبهاءِ والجلالِ تسربلْتَ. اللابسُ النورَ مثلَ الثوب. الباسطُ السماءَ كالخيمةِ. المسَقِّفُ بالمياه علالِيَّهُ الجاعلُ السَّحابَ مركبتَهُ الماشي على أجنحةِ الرياح. الصانعُ ملائكتَهُ أرياحاً وخُدَّامَهُ ناراً تتلهَّبُ. المؤسِّسُ الأرضَ على قواعدِها فلا تتزعزعُ إلى دهرِ الدّاهرين. رداؤُها اللجة كالثوب. على الجبالِ تَقِفُ المياهُ. من انتهارِكَ تهرُبُ. من صوتِ رَعْدِكَ تفزع.
تصعدُ إلى الجبالِ وتَنزِلُ إلى البِقاعِ إلى الموضعِ الذي أَنشأْتَهُ لها. جعلتَ لها حَدَّاً فلا تتعدَّاهُ ولا ترجِعُ لتغطِّيَ وجهَ الأرضِ. يُطلِقُ العيونَ بين الأوديةِ. في وَسَطِ الجبالِ يُجري المياهَ. فتسقي جميعَ وحوشِ البَرِّ. بها تُطفِئُ حميرُ الوحشِ عطشَها. بِقُرْبِها طيورُ السماءِ تستقّر. من بين الصخورِ تشدو بأصواتِها. يسقي الجبالَ من علاليِّهِ. من ثَمَرَةِ أعمالِكَ تَشبَعُ الأرضُ. يٌنبت العشب للبهائمِ والخضرة لخدمةِ البشرِ. ليُخرِجَ مأكلاً من الأرضِ. فخمراً تُفَرِّحُ قلبَ الإنسانِ. وزيتاً يُشرِقُ به وجهُهُ. وخبزاً يُشدد قلبَ الإنسانِ. ترتوي أشجار البَرِّ. أرزُ لبنانَ الذي غَرَسَهُ. هناك تُعَشِّشُ العصافيرُ ومَساكنُ اللَّقْلَقِ في مُقَدِّمَتِها. الجبالُ العاليةُ للأيايل والصخور ملجأٌ للأرانبِ. صَنَعَ القمرَ للأوقاتِ والشمسُ عَرَفَتْ غروبَها. صَنَعْتَ الظلمة فكان ليلٌ وفيه تسري جميعُ وحوشِ الغابِ. أشبالٌ تزأرُ لِتَفترِسَ وتلتمسَ من اللهِ طعامَها. تُشرِقُ الشمسُ فتجتمِعُ وفي مغاورها تَرْبُضُ. يَخرُجُ الإنسانُ إلى عملِهِ وإلى صَنْعَتِهِ حتى المساء. ما أعظمَ أعمالَكَ يا ربُّ! كلَّها بحِكمةٍ صَنَعْتَ. الأرضُ امتلأتْ من خليقتِكَ. هذا البحرُ الكبيرُ الواسعُ. هناك دبَّاباتٌ لا عَدَّ لها. حيوانات صغارٌ مع كبار. هناك تَجري السفنُ وهذا التِنِّينُ الذي صنعْتَهُ لكي يسرح فيه. كلُّها إياكَ تترقَّبُ لتُعطِيَها طعامَها في حينه. فإنْ أنتَ أعطيتَها جَمَعَتْ. تفتحُ يدَكَ فكلُّهم يَشبَعون. تصرف وجهَكَ فيضطربون. تَنزِعُ أرواحَهم فيَفْنَوْنَ وإلى ترابهم يرجِعون. تُرْسِلُ روحَكَ فيُخلقون وتُجدِّدُ وجهَ الأرضِ. فليكن مجدُ الرَّبِّ إلى الأبد. يَفرحُ الربُّ بأعمالِهِ. الذي ينظرُ إلى الأرضِ فيجعلها ترتعدُ ويَمَسُّ الجبالَ فتُدخِّنُ. أسبِّحُ الربَّ مدى حياتي وأرتِّلُ لإلهي ما دُمْتُ موجوداً. يَلَذُّ له تأمُّلي وأنا أفرحُ بالربِّ.لتنقرض الخطأةُ من الأرضِ والأثمةُ فلا يكونوا من بعد. باركي يا نفسي الربّ”.
شرح النصّ الكتابيّ:
فالمرنِّمُ إذاً يتغنَّى بحكمةِ الله في خَلْقِه، ويوظِّف أسلوبَه في التَّعبير ليوصِلَ المعنى اللَّاهوتي الذي يُريده. وبما أنَّ الشُّعوب المختلفة تَعبدُ آلهةً مختلفةً وتتبادلُ أفكاراً وحضاراتٍ، وتنتقلُ عبادةُ الآلهة مع شعوبها من مكانٍ إلى آخر، يجدرُ على الأدب أن يستخدمَ أساليباً مُستمَدَّةً من حضارةِ الشُّعوب ولُغاتِها المختلفة ليوصِلَ لها أفكاراً عن إلهه هو، لذا قد تتشابهُ القصصُ مع بعضها البعض، فعلى سبيلِ المثال، قصَّة الخلْقِ في الكتاب المقدَّس وفي المزمور تتشابه كثيراً مع ملحمةِ الخلْق عندَ البابليِّين “إينوما إيليش” التي تعني “عندما في العُلى”، وقصَّةُ “طُوفان نوح” في العهد القديم تتشابَهُ وقصَّةُ الطُّوفان في “ملحمة جلجامش”. فمن الممكن إذاً أن يكونَ كاتبُ سفر التَّكوين قد استوحى قِصَّتَهُ من ملحمةِ “إينوما إيليش” ليصلَ إلى البابليِّين، إلَّا أنَّه قد أعطاها المعنىً اللاهوتي، ولكن كيف؟ كانَ إلهُ القمر هو الإلهُ الأهم عندَ الشُّعوبِ القديمةِ، لأنَّهُ كانَ يُعتَبَرُ الأخطرَ إذ إنَّ جميعَ المؤامراتِ والحروبِ كانت تُحاكُ في اللَّيل، وعندما جاءَ حمورابي، صاحبُ الشَّريعة الأولى في التَّاريخ: “العينُ بالعينِ والسِّنُّ بالسِّنِّ” جعلَ إلهَ الشَّمسِ أهمَّ من إلهِ القمر، لأنَّ النَّهارَ يفضحُ مؤامراتِ اللَّيل، وغيابُ الشَّمس أو تضاعُفُ قوَّتها يؤدي إلى هلاكِ البشريَّة، أي أنَّ الشَّمسَ أخطرُ من القمر. وجاءَ في الإصحاحِ الأوَّلِ من سِفرِ التَّكوين: “وقال الله: ليكن نور، فكان نور… وقال الله لتكن نيِّراتٌ في جلد السماء لتفصل بين النهار والليل. وتكون لآيات وأوقات وأيام وسنين. وتكون أنوارا في جلد السماء لتنير على الأرض. وكان كذلك. فعمل الله النيرين العظيمين. النيّر الأكبر لحكم النهار والنيّر الأصغر لحكم الليل والنجوم. وجعلها الله في جلد السماء لتنير على الأرض. ولتحكم على النهار والليل ولتفصل بين النور والظلمة. ورأى الله ذلك أنه حسن. وكان مساء وكان صباح يوماً رابعاً”؛ أي خلقَ اللهُ النُّورَ في اليوم الأوَّل، والشَّمسُ التي اعتبرها البابليُّون مصدرَ النُّور خُلِقت في اليوم الرَّابع، أي الرَّبُّ يخلقُ النُّورَ حتى لو لم تكن هناك شمسٌ أو قمرٌ ولا فضلَ لهما في ذلك، ولم يسمِّ الكاتبُ الشَّمسَ والقمرَ، بل قال عنهما: نيِّرٌ أكبر ونيِّرٌ أصغر، مُقلِّلاً من قيمتَيْهما ولاغياً حضورهما، أي مُقلِّلاً من قيمةِ آلهة البابليِّين الأعظم، وجعلَ من إلهه الخالقَ الوحيدَ. كما جاء على لسانُ المرنِّم في المزمور: “وهذا التِنِّينُ الذي صنعْتَهُ لكي يَسْرَحَ فيه”، والتِّنينُ هو حيوانٌ خرافيٌّ، يُمثِّلُ صورةَ العدوِّ الأكبر لخليقةِ الله، ويرمزُ للبحر والموت الذي يبتلعُ النَّاس، أي أنَّهُ إلهٌ. وهنا في المزمور يلعبُ التِّنين مسالماً في الماء إذ روَّضَهُ الله. فاللهُ إلهُ المرنِّم قد خلقَ الآلهةَ الأخرى أيضاً، وبما أنَّها قد خُلِقَت تَبْطُلُ ألوهيَّتها. فالمزمورُ إذاً يُمجِّدُ اللهَ الخالقَ وعظَمتَهُ.
جاء في سفرِ التَّكوين، الإصحاح الأول: “في البدء خلق الله السموات والأرض. وكانت الأرض خربةً خاليةً وعلى وجه الغمر ظلمة وروح الله يرف على وجه المياه.” ولكن ماذا يعني قولُهُ: “خربةً خاليةً”؟ هل خلق الله فوضى؟
لكي نفهمَ المعنى الصَّحيح، علينا أن نُدركَ أنَّ الكتاب المقدَّسَ يخلو من الرُّوحِ الفلسفيَّة، فكلمةُ العدمِ في قولنا: “خلقَ اللهُ الإنسانَ من العدم” تعني اللَّاشيء فلسفيَّاً، وهذه العبارة بحسبِ الكتاب المقدَّس تعني: “قبلَ أن يَخلقَ اللهُ الإنسانَ، لم يكن الإنسانُ موجوداً” فقط، ولا تعودُ بنا إلى ما كان قبلَ أن يُخلَقَ الإنسانُ، أي ليسَ لها بعداً فلسفيَّاً.
ومعنى “خربةً خاليةً” باللُّغة العبرانيَّة “طوهو بوهو” أي فوضى وخراب. وهذه العبارةُ موجودةٌ في الكتاب المقدَّس لدى النَّبيِّ إرميا، الذي كتب كتابه قبل 600 عامٍ من ميلادِ المسيحِ، وقبلَ أن يُكتَبَ سفرُ التَّكوين الذي كُتِبَ مُتأخِّراً قبلَ 500 عامٍ من ميلادِ المسيحِ فقط. أي أنَّ كاتبَ سفر التكوين يعرفُ النَّبيَّ إرميا وقد أخذَ عبارة “طوهو بوهو” عنه ووضَعَها في هذا المكان. أمَّا إرميا فقد قالها في معرضِ حديثِهِ عن دمارِ هيكلِ أورشليم وأنه سيصبِحُ “طوهو بوهو” أي خراباً وفوضى، بمعنى أنَّ الله سيأخذُ من اليهود ما اعتقدوهُ ملكاً لهم، وعبارة “خربةً خاليةً” تعني: “لولا تدخُّلُ إلهي لكنتُم غير موجودين”.
إلا أنَّ السؤالَ الأخطرَ يكمنُ في قوله: “وعلى وجه الغمر ظلمة”، وهو: إن كانَ الظَّلامُ موجوداً قبلَ النُّور، أهذا يعني أنَّ الظَّلامَ قد خُلِقَ قبل أن يُخلَقَ النُّور؟ والحقيقةُ هي أنَّ الظَّلامَ هو غيابُ النُّورِ، أي قبلَ أن يَخلقَ اللهُ النُّورَ كان هناكَ ظلامٌ.
وعندما خلقَ اللهُ الإنسانَ لم يخلقْهُ كأحدِ مخلوقاتِ الكون، بل خلقَهُ ليُبرهِنَ أنَّهُ تعالى محبٌّ، وهذه مسؤوليَّةُ الإنسانِ إذ إنَّهُ أصبحَ الصورةَ الواضحةَ عن محبَّةِ الله. وخطيئةُ آدمَ تكمنُ في أنَّهُ شوَّهَ صورةَ “اللهِ المــُحِبِّ” عندما قَبِلَ تفسيرَ الحيَّةِ بأنَّ الله َلا يُريدُهُ أن يأكلَ من ثَمرِ شجرةِ معرفةِ الخيرِ والشَّرِّ لئلَّا يُصبِحَ مِثلَه. فالأفعى قد لَعِبَت على نَقصِ حُبِّ اللهِ للإنسان، وهذه هي المشكلة. والحيَّةُ هي الحيوانُ الوحيدُ الذي لا يسمعُ، كدليلٍ على أنَّها لن تسمعَ كلامَ اللهِ أبداً ولن تتغيَّرَ حالُها.
وهناكَ أمرٌ آخر، الأفعى هي إلهُ الخصبِ والحياةِ لدى البابليِّين، أمَّا في سفر التَّكوين فاللهُ الذي نفخَ في الإنسانِ نسمةُ الرُّوحِ هو إلهُ الحياة. وهنا يُوَجَّهُ السُّؤالُ للإنسانِ حول ما إذا كان يريدُ أن يكونَ مع الإله الذي يعتقدُ أنَّه إلهُ الحياة، أم مع إلهُ الحياة الحقيقيّ؟ فكاتبُ سفرِ التَّكوين لا يكتبُ لنا قصَّةَ الله، بل قصَّتنا معَ الله بعد أن نقرأَ القصَّةَ، وهو يجعلُ جميعَ الآلهةِ والملائكةِ خُدَّاماً للّه، إلَّا الإنسان يبقى سيِّداً وحدَهُ لأنَّ اللهَ أعطاهُ سُلطَةَ أن يُسمِّيَ الخليقة: “وقال الله نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا”.
فيتسلّطون على سمك البحر وعلى طير السماء وعلى البهائم وعلى كل الأرض وعلى جميع الدبابات التي تدب على الأرض. فخلق الله الإنسان على صورته. على صورة الله خلقه. ذكرا وأنثى خلقهم. وباركهم الله وقال لهم انموا واكثروا واملأوا الأرض وأخضعوها وتسلطوا على سمك البحر وعلى طير السماء وعلى كل حيوان يدب على الأرض. وقال الله إني قد أعطيتكم كل بقل يبزر بزرا على وجه كل الأرض وكل شجر فيه ثمر شجر يبزر بزرا. لكم يكون طعاما. ولكل حيوان الأرض وكل طير السماء وكل دبابة على الأرض فيها نفس حية أعطيت كل عشب أخضر طعاما. وكان كذلك. ورأى الله كل ما عمله فإذا هو حسن جدا. وكان مساء وكان صباح يوما سادسا”.
فمن يُسمِّي الشَّيءَ، يكونُ سيِّداً وصاحبَ سلطةٍ عليه. والرَّسولُ بطرس كان اسمُهُ سمعان، إلَّا أنَّ الرَّبَّ يسوعَ أسماهُ بطرسَ أي باتَ سيِّداً عليهِ وبات بطرس تابعا له، ولهذا يُمنَحُ الطِّفلُ في المعمودية اسماً ثانياً، للدَّلالةِ على أنَّه باتَ ينتمي إلى قدِّيسٍ مُعيَّنٍ، إلى حالةٍ مُعيَّنةٍ من القداسة بالإضافة إلى انتمائِهِ إلى والدَيْه.
ولأنَّ المحبَّة تعني أن يَرفَعَ المحبُّ حبيبَهُ إلى مستوى أقلّهُ أعلى من مستواه هو، أعطى اللهُ الإنسانَ سلطةَ تسميةِ الخليقة ليجعلَهُ سيِّداً عليها أيضاً، وقد خلَقَهُ على صورتِهِ ومثالِهِ لأنَّه لا يستطيعُ أن يُبرهنَ أنَّهُ الإلهُ المـُحبُّ إلَّا إن كان من يحبُّه من مستواه أو أن يجعلَهُ من مستواه، لأنَّ الحبَّ يرفعُ من مستوى العبوديَّة وحتى مستوى السِّيادة وإلا فهو ناقصٌ، “هكذا أحبَّ الله العالمَ حتى بذلَ ابنَهُ الوحيد لكي لا يهلك كل من آمنَ به”. وأكثر من ذلك، فقد جعلَ الله النَّاسَ أعلى مستوى من ابنه الوحيد، وجعلَ من ابنِه خادماً للنَّاس، فأين يوجدُ حبٌّ كهذا؟ إذاً، أن يكونَ الإنسانُ على صورة الله ومثاله يعني أنَّه قد دخلَ في حالة الحبِّ، والحبُّ هو الصُّورةُ الواضحةُ عن الحريَّة، إذ يمكنُ لنا أن نجبر أحداً ما أن يخدمَنا ويخضعَ لنا، ولكن لا يمكنُ لنا أن نُجبرهُ أن يحبَّنا، فالحبُّ وجهُ الحريَّة ومن هنا ندرك أن الله لم يخلقِ الإنسان حرَّاً، بل خلقَهُ كائناً مُحبَّاً مثله، ولأنَّهُ مُحبٌّ فهو حرٌّ ويتصرَّفُ كما يشاء. والحرية إن اقترنت بالمسؤولية تقودُ إلى القداسة، أمَّا بدونِ المسؤولية فالحريَّةُ تؤدِّي بالإنسان إلى مواضعَ أخرى.
قصَّةُ الخلقِ إذاً لا تدورُ حولَ كيفيَّة خلق الكون، بل من خَلَقَه، وليس الله هو من خلَقَهُ بل “إلهي”. والمرنِّمُ يبدأُ مزموره بـ:
“باركي يا نفسي الربَّ. أيها الرب إلهي لقد عظُمْتَ جداً. بالبهاءِ والجلالِ تسربلْتَ” متحدِّثاً عن إلههِ هو وليس إلهَ الكلِّ، إلهه هو الذي فعلَ كل ما دُوِّن في المزمور، ليختُمَ بقوله: “باركي يا نفسي الرَّبَّ” مؤكداً أنَّه لا يقوم إلَّا بتمجيدِ الرَّبِّ ولا فضل في كلِّ ما جاء بين المباركتَيْن الأولى والأخيرة إلَّا لله الخالق وحده. ونحن أيضاً عندما نُصلِّي هذا المزمور نعلنُ أنَّ كلَّ كلمةٍ نقولها بين افتتاحية صلاتِنا وختامِنا هي فعلٌ من أفعال الله، وليس لنا فضلٌ بها على الإطلاق. فغايةُ الصَّلاةِ إذاً هي أن تفضحَ حقيقتَنا، لكوننا نعتقدُ أنَّنا كل شيء ونحن في الحقيقةِ لا شيء، بل الله، وبالصَّلاةِ نعتمدُ مجدَّداً مُعلنينَ ربوبيَّة الله، ناكرين ربوبيَّتنا نحن وربوبيَّة أيِّ ربٍّ آخر علينا إلا الله إلهنا.
لذلك، من يُصلِّي المزمور هم “العماويم” بالعبرانيَّة، أي الفقراء، لأنَّ من يقفُ أمام ربِّه ليس عليه أن يفتخرَ بأي شيء، لأنَّه إن فعلَ كان ربَّاً في مكانٍ ما، لذا: “طوبى للفقراء لأن لهم ملكوت السماوات”، وكلُّ غنىً هو من الله وحده، ما عدا ذلكَ فإنَّ أي شيءٍ يفرحنا يحتلُّ جزءاً مِنَّا ويحرمنا من تكريس الرَّبِّ له، وهنا نفهم معنى: “لأَنْ يدخُلَ الجملُ في ثَقبِ الإِبرةِ أَيسَرُ مِنْ أَنْ يَدخُلَ الغَنِيُّ ملكوتَ الله”، أي أننا في هذه الحالة نكون قد سمحنا للرب أن يكون نصف رب علينا فقط، لأننا في مكان ما ما زلنا نعتبر أننا أصحاب السلطان. فغاية المزمور إذاً هي إعلانُ ربوبيَّة الرَّبِّ – بين المباركتَيْن الأولى والأخيرة- على كل شيء وعلى ذواتنا حتماً، إذ ما نفعُ أن نعلِنَ أنَّ الرَّبَّ سيِّدُ العالم بأكمله إن لم يكُن سيِّداً علينا؟ كيف سيكونُ الرَّبُّ سيِّدَ الخليقة إن لم يكن سيِّداً علينا أيضاً؟ “ماذا ينتفعُ الإنسان إن ربحَ العالم كلَّه وخسرَ نفسَه؟” والصَّلاة التي تأخذُ طابع “الفضَّاحة” إذ تفضحنا، لا يجبُ أن تتَّسِم بالحزنِ فقط، بل بالفرحِ إذ تجعلُنا نكتشف مجدَّداً من هو ربنا وبالتالي نجدُ الحياةَ والماءَ والهواءَ، فنتوبُ، وما عدا ذلك تتحوَّل الصَّلاة إلى تمتماتٍ.
“المؤسِّسُ الأرضَ على قواعدِها فلا تتزعزعُ إلى دهرِ الداهرين” فالمدنُ في القِدَمِ كانت تُرفَعُ على أعمدةٍ، وإن سقطَتِ الأعمدةُ هَوَتِ المدينة واندثرَت مع أهلها وإلهها، وهنا إن تزعزعَت الأرضُ يبطُلُ مُلْكُ الله، وبرهان ملوكيَّة الله هو أنَّ مملكته لا تقع. والملك هو الذي يجمعُ رعيَّته كعائلةٍ، كالأب الذي يجمع عائلته فتتماسك، لذا عندَ الحديثِ عن الآب والابن والروح القدس الثَّالوث الواحد، فإنَّ الأساس هو الآب نظراً لأبوَّتِهِ، حيث يتجلَّى مفهومُ الحبِّ بين الآب والابن في علاقةِ الأبوَّة. “أسبِّحُ الربَّ مدى حياتي وأرتِّلُ لإلهي ما دُمْتُ موجوداً. يَلَذُّ له تأمُّلي وأنا أفرحُ بالربِّ” أي تتحوَّلُ العلاقة عندما نُصلِّي المزمورَ معترفين بعظمةِ الله إلى علاقة فرح. “لتنقرض الخطأةُ من الأرضِ والأثمةُ فلا يكونوا من بعد. باركي يا نفسي الربّ” يُشدِّدُ المرنِّمُ على أهميَّة عدمِ وجودِ خطأةٍ، لأنَّ هكذا خليقة لها هكذا خالق، لا يجب أن يشوِّهَها وجودُ الخطأةِ، لذا يتمنَّى عدم وجودِهم، ولكنَّهُ يقصدُ أيضاً ذاتَه لأنَّه من الخطأة، فالصَّلاة أيضاً هي أن يكتُبَ الفردُ مِنَّا ورقةَ نعيٍ لشخصِهِ القديم، وشهادةَ ميلادٍ لشخصه الجديد وإلا تتحوَّل إلى سحرٍ وتمتماتٍ، آمين.
ملاحظة: دُوِّنَ الشرح بأمانةٍ من قِبَلِنا.