تفسير الكتاب المقدّس،
الأب ابراهيم سعد،
“سِفر المزامير – المزمور 45”
بكلامٍ شائقٍ يَفيضُ قلبي فأحدِّثُ عن المــَلكِ بما أحرِّرُ ولساني مثل قلمِ الكاتبِ الماهرِ.
أنتَ أبهى جمالاً من بني البشرِ. النعمةُ انسكبَتْ على شفَتَيْكَ. لذلك باركَكَ اللهُ إلى الأبد.
تقلَّدْ سيفَكَ على فَخْذِكَ يا أيها القديرُ في حُسْنِكَ وجَمالِكَ.
جرِّدْ سيفَكَ وانجحْ وامْلِكَ من أجلِ الحقِّ والدِّعَةِ والبِرِّ فتُجري يمينُكَ العجائبَ.
نبالُكَ مسنونةٌ يا أيها القديرُ. الشعوبُ تحتَكَ يسقطون. نبالُكَ في قلبِ أعداءِ المـَلِكْ.
كُرْسِيُّكَ إلى دهرِ الدَّاهرين يا اللهُ. عصا استقامةٍ عصا مُلكِكَ.
أحببتَ البِرَّ وأبغضْتَ الإثمَ. لذلكَ مَسَحَكَ اللهُ إلهُكَ بدُهْنِ البهجةِ أفضلَ من رفاقِكَ.
المــرُّ والمــــَيــْعَةُ والسَّليخةُ تفوحُ من ثيابِكَ في خروجِكَ من قصورِ العاجِ.
بشذاها أبهجَتْكَ بناتُ الملوكِ وقد كُنَّ بينَ وصيفاتِكَ. الملكةُ قامَتْ من عن يمينِكَ مترديةً بألبسةٍ مزخرفةٍ منسوجةٍ بخيوطٍ مذهَّبةٍ.
اسمعي يا ابنتي وانظري وأَميلي أُذُنَكِ. وانسَيْ شعبَكِ وبيتَ أبيكِ.
فيصبو المــَلكُ إلى حُسْنِكِ. لأنه هو ربُّكِ وله تسجُدين.
فتأتيكِ ابنةُ صورَ بالهدايا. وأغنياءُ الشُّعوبِ يبتهلون إليكِ.
ابنةُ الـمَلكِ كلُّها بهاءٌ في خِدرِها. مُكتسِية بألبسةٍ حواشيها مذهَّبةٌ.
بأرديةٍ مطرَّزةٍ يؤتى بها إلى الـمَلكِ. في إثرِها العذارى صواحِبُها يُؤتى بهنَّ إليكَ.
يُؤتى بهنَّ بسرورٍ وابتهاجٍ. يُصارُ بهنَّ إلى هيكلِ الـمَلكْ.
يُولَدْ لكَ بنونَ عوضاً عن آبائِكَ. فَتَنْصِبُهم رؤساءَ على الأرضِ كلِّها.
سأذكرُ اسمكَ في كلِّ جيلٍ فجيل. لذلك تحمدُكَ الشعوبُ إلى الأبدِ وإلى أبدِ الآبدين.
شرح النصّ الكتابيّ:
ينتمي المزمور 45 إلى فئة المزامير الملكيّة، التي تتحدّث عن الملك. وبما أنه قد دخل في الليتورجيا فإنه يتحدّث عن الله كملك، فبالنسبة لمن كتبوا الكتاب المقدس، الله وحده هو الملك، أما نحن الناس، فنريد ملكاً أرضيًا ليعكس فكرة وقدرة الإله على الأرض وليقودنا كباقي الأمم كوكيل عن الله.
وبقيت فكرة الملكيّة في فِكر من كَتَبَ الكتاب المقدّس “تجربة فاشلة”، لأن التاريخ المذكور في الكتاب المقدّس يبرهن ذلك. إذ لم ينجح أي مَلِك في تحقيق شرطَيْ الملَكية؛ الانتصار على الأعداء في الخارج أولا، وتحقيق الاستقامة والعدل في مملكته ثانيا. ولهذا بقي الشوق والتوق إلى مجيء ملك يجسد صورة الملك الحقيقي، واستمر هذا إلى أن كتب بعض الأشخاص في العهد الجديد أنّ صورة هذا الملك تجلت في شخص يسوع المسيح. فكتَّاب العهد الجديد ليسوا من مدرسة أخرى تختلف عن مدرسة كتَّاب العهد القديم، فبولس الرسول هو تلميذ غملائيل الذي ينتمي إلى مدرسة علَّال، التي رتبت وصاغت الصيغة النهائية للعهد القديم.
وعند قراءتنا لأي مزمور مَلَكي، علينا أن نفكر بالله كمَلك، حتى لو كان المزمور قد قيل في مناسبة زواج الملك.
فهذا المزمور يتحدّث عن مَلك يتزوج، وهو أمر عادي، أما أن يتحدث عن الله الملك الذي يتزوج، فهنا يجب أن نتوقف لنقرأ جيدا. وفي قراءتنا للعهد الجديد نفهم أن يسوع قد تزوَّجَ والكنيسة هي امرأته. وإذا أردنا حصر الموضوع أكثر وأكثر؛ يسوع تزوج النفس البشرية التي هي “أنا”.
والسؤال الأساسي هنا، كيف نبدأ؟ فبداية العنوان تُغيِّر معنى قراءتنا للنص بأكمله. فقولنا إنّ المزمور يتحدث عن “زواج مَلك” أمر، وقولنا أنه يتحدث عن “المـَلك يتزوّج” أمر آخر. فإن بدأنا القول بكلمة “زواج”، فنحن نتحدث عن ملك يتزوج زواجا معروفا ويحتفل بعرسه. أما إن ابتدأنا العبارة بكلمة “الملك” فسيختلف المشهد اختلافاً كليا. فزواج الرجل بامرأة شيء، و”المسيح” يتزوج الكنيسة شيء آخر – لا يمكننا قول “زواج المسيح بالكنيسة” إذ علينا أن نبدأ قولنا بالمسيح دائماً- لأن من يعطي معنى الزواج هو العريس. وعندما يتزوج الملك، تجلب البنت حاشيتها معها، وتخضع للملك قبل أن تصبح ملكة، إذ إنها تصبح ملكة بمجرد زواجه منها ووقوفها عن يمينه، وعندها يخضع لها الناس أيضا، وفي هذه الصورة نجد انتصار الملك بخضوع الناس له.
“بكلامٍ شائقٍ يَفيضُ قلبي فأحدِّثُ عن المــَلكِ بما أحرِّرُ ولساني مثل قلمِ الكاتبِ الماهرِ”؛
أي أن قلب الكاتب يفيض بكلام عذب وصعب في الوقت ذاته، إذ كيف يمكن له أن يعبر عن عظمة مشهد “الملك الذي يتزوج”؟ فهذه إذا مقدمة ليخبرنا أنه سيبدأ بالتسبيح والتمجيد.
“أنتَ أبهى جمالاً من بني البشرِ. النعمةُ انسكبَتْ على شفَتَيْكَ. لذلك باركَكَ اللهُ إلى الأبد”؛
أي الربّ رفعه إلى مستوى غير بشري وباركه إلى الأبد، والأبد هنا لا يعني اللانهاية الفلسفية، بل أبعد نقطة يمكن لعقل أي إنسان أن يتصورها. وهنا يذكر الكاتب بأن الملك الذي يحقق إرادة الله على الأرض هو مبارك على الدوام، وقانون مملكته يصدر من شفتيه دون الحاجة إلى وجود دستور، ومتى توقف عن تحقيق إرادة الله تنتهي البركة. عندما ذهب يسوع إلى يوحنا المعمدان ليعتمد على يديه قال له “دعنا الآن نتمم كل بر”، وبعدها جاء صوت من السماء قائلا: “هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت”، لأن يسوع أراد أن يتمم إرادة الله بأكملها، فالبرّ ليس القيام بالأعمال الحسنة، بل هو عمل إرادة الله فقط.
“تقلَّدْ سيفَكَ على فَخْذِكَ يا أيها القديرُ في حُسْنِكَ وجَمالِكَ”؛
أي ارتدِ ثياب المعركة، لأن الملَكية هي حتما بحاجة لعدو ومعركة وانتصار، ولكن كيف لكاتب أن يتحدث عن هذا في مزمورٍ يتحدث عن الزواج؟
“جرِّدْ سيفَكَ وانجحْ وامْلِكَ من أجلِ الحقِّ والدِّعَةِ والبِرِّ فتُجري يمينُكَ العجائبَ”؛
أي على الملك أن يسيطر على العدو “الظلم والباطل”، بإحقاق “الحق والبر والعدل”. والعدو هنا داخلي لأن المزمور يصف مناسبة تحدث ضمن أسوار المملكة، وهي الزواج.
“نبالُكَ مسنونةٌ يا أيها القديرُ. الشعوبُ تحتَكَ يسقطون. نبالُكَ في قلبِ أعداءِ المـَلِكْ”، ” كُرْسِيُّكَ إلى دهرِ الدَّاهرين يا اللهُ. عصا استقامةٍ عصا مُلكِكَ”
وهنا يتحدث عن أسلحة المعركة، والشعوب التي يسيطر عليها الملك، وعصا الاستقامة “أي صولجان الملك”، التي يجب أن يُظهرها في كل حين داخل مملكته، ويُري السلطة للشعوب. ويجب أن ندرك أنه عند حديثنا عن الله، لا يمكننا تجريده من صفة الملكية، كما أنه عند حديثنا عن ملك، لا يمكننا تجريده من صفة الألوهية، فالأمران متلازمان.
” أحببتَ البِرَّ وأبغضْتَ الإثم” وهنا يتحدث عن المعركة، “لذلكَ مَسَحَكَ اللهُ إلهُكَ بدُهْنِ البهجةِ أفضلَ من رفاقِكَ”، أي الله اختاره ملكا.
ونلاحظ أن الحديث عن الزواج لم يبدأ حتى الآن، مع أن المزمور هذا يرتَّل في مناسبة الزواج، ولكن، لكي يتحدث عن ذلك، عليه أن يتحدث عن “الملك الذي تزوج”، لذلك عليه أن يذكر أولا العدو والمعركة والانتصار.
” بشذاها أبهجَتْكَ بناتُ الملوكِ وقد كُنَّ بينَ وصيفاتِكَ”؛
وهنا يستهلُّ الحديث عن الزواج.
“الملكةُ قامَتْ من عن يمينِكَ مترديةً بألبسةٍ مزخرفةٍ منسوجةٍ بخيوطٍ مذهَّبةٍ”؛
وعلينا أن ندرك أن البنت في اللحظة التي تقف فيها عن يمين الملك تصبح ملكة، وقبلها لم يكن كذلك، ولذا نجد في الكنيسة البيزنطيّة أنّ أيقونة المسيح توجد على الهيكل، وعن يمينها أيقونة العذراء مريم، وهي الصورة المثال للكنيسة البريئة من العيب.
“اسمعي يا ابنتي وانظري وأَميلي أُذُنَكِ. وانسَيْ شعبَكِ وبيتَ أبيكِ”
أي على الملكة أن تخضع وتصغي لزوجها الملك فقط، متناسية أهلها وعشيرتها والملك الذي كانت تخضع له، إذ لا يمكن لها أن تخضع لملكَين في آن. كما عليها أن تنسى إله وعبادة أهلها وتتبع عبادة الملك زوجها. وهذا يذكرنا بقول الله لابراهيم: “اترك أرضك وشعبك وعشيرتك واتبعني”، إذ لا يمكن لنا أن نُشرك عبادات مختلفة مع بعضها، فهذا ما يعرف بالـ”شرك”؛ “فيصبو المــَلكُ إلى حُسْنِكِ. لأنه هو ربُّكِ وله تسجُدين”.
“فتأتيكِ ابنةُ صورَ بالهدايا. وأغنياءُ الشُّعوبِ يبتهلون إليكِ”؛
وبعدها يبدأ الناس بالخضوع للملكة أيضا بسبب ارتباطها بالملك؛ وصُور هنا تمثيل للغنى وللعبادات الوثنية أيضا التي تخضع جميعها للملكة.
“ابنةُ الـمَلكِ كلُّها بهاءٌ في خِدرِها. مُكتسِية بألبسةٍ حواشيها مذهَّبةٌ.
بأرديةٍ مطرَّزةٍ يؤتى بها إلى الـمَلكِ. في إثرِها العذارى صواحِبُها يُؤتى بهنَّ إليكَ.
يُؤتى بهنَّ بسرورٍ وابتهاجٍ. يُصارُ بهنَّ إلى هيكلِ الـمَلكْ”؛
فعندما تتزوج البنت من ملك، ترافقها حاشيتها وصحبها من البنات، ويدخلن معها إلى الهيكل. فالهيكل يحمل معنيين؛ القصر ودار العبادة، إذ لا يمكن لنا أن نفصل العبادة عن الملَكية. وعند الدخول إلى القصر، تدخل الملكة إلى خدر الملك، ويتم الزواج الذي يتم معه استقرار المملكة. وبعدها تصبح سلالة الملكة من أولادها –أولاد الملك- فتنفصل عن نسل أهلها وتصبح وكأنها ابنة لأبنائها الذين سيتزعمون هم أيضا؛ “يُولَدْ لكَ بنونَ عوضاً عن آبائِكَ. فَتَنْصِبُهم رؤساءَ على الأرضِ كلِّها – سأذكرُ اسمكَ في كلِّ جيلٍ فجيل. لذلك تحمدُكَ الشعوبُ إلى الأبدِ وإلى أبدِ الآبدين”.
ويسوع هو من اختاره الله ليحقق مسرَّته وبره، أي هو البار الذي ينفذ إرادة الله بأكملها. وحتى ولو كانت هذه الإرادة تسحقه بالحزن فهو ينفذها طاعة للآب وإن لم يكن يستحق الألم: “اعبر عني هذي الكأس”. فالملك يسوع يحقق إرادة الآب بالمطلق، وقد قال بيلاطس: “ماذا أصنع بهذا البار؟ لم أجد فيه أية علة”. وهذا المزمور يتحدث عن “يسوع يتزوج”، ولكي نتحدث عن زواجه يجب أن نخبر عن انتصاره أولا. فالمعركة حصلت على الصليب، وفيها انتصر يسوع على الموت وعندها حصل الزواج بينه وبين الكنيسة، وأُهرِقَ دم العذرية من جنبه وأُعلِن عندها التسبيح والتمجيد. وكان على هذه الكنيسة أن تترك بيت أبيها وتنسى شعبها، ليتخذها يسوع له ويجعلها ملكة. إلا أنها قد قبلت أن تتملك على عرش يسوع من دون أن تتخلى عن قديمها – الخطيئة. ولكن يسوع لا يتخلى عنها لأن “ما جمعه الله لا يفرقه إنسان”، أي عهد الزواج الذي يعقده الله معنا، لا يمكن أن يكون مصيره الطلاق مهما تصرفنا وعملنا وقررنا، فهذه العبارة تصف علاقة الزواج بيننا وبين الربّ.
وماذا يفعل يسوع بالكنيسة إذا؟ يقول بولس الرسول في الرّسالة إلى أهل أفسس، الإصحاح الخامس – رسالة العرس – “أيها الرجال، أحبوا نساءكم كما أحبّ المسيح أيضا الكنيسة وأسلم نفسه لأجلها. لكي يقدّسها، مطهّرا إياها بغسل الماء والكلمة. لكي يزفّها لنفسه كنيسة مجيدة، لا دنس فيها ولا غضن أو شيء من مثل ذلك، بل تكون مقدّسة وبلا عيب”.
هكذا يغسل المسيح الكنيسة التي ستصبح ملكة بزواجه منها، بالماء وبالإنجيل كلمة الربّ، فتصبح نظيفة ويتخذها له. وهذا ما يفعله يسوع بنا يوميا، ونحن نخونه يوميا في كل لحظة، ومع ذلك يطهرنا ويدخلنا إلى الخدر ناسيا خيانتنا له. فأين لنا أن نجد حبا كحب المسيح لنا؟ هو حب البار لشخص دنس، يغسله بالكلمة والنعمة فلا يراه دنساً، ويُضحي الملك في هذه الحالة ضحيَّة للحب حدّ العبادة. والحب هو السبب الوحيد الذي يجعل من السلطان ضحية. والكنيسة – الملكة-أصبحت من سلالة أبنائها…
وفي النهاية علينا أن ندرك أن عبارة “نحن نعبد الربّ” هي مجرد جملة تتغنى بها البشرية، وفي الحقيقة أنّ الربّ يعبدنا بسبب الحبّ، يعبد -كنيسة – زوجة غير وفيّة، ويجعل منها وفية، لذلك تبقى في حالة سجودٍ دائم للعريس الذي يشتهي حسنها بسبب الكلمة التي يطهّرها بها.. ولذلك نرنم للعذراء مريم “سأذكر اسمكِ في كل جيل وجيل”، إذ لم تتعرش مثلها ملكة في التاريخ، هي الوحيدة التي لم تدنّس ليغسلها بالماء والكلمة، هي الطاهرة إراديا، الملكة صورة الكنيسة، صورة اسرائيل الحقيقية، البقية الباقية التي وحدها ويوحنا قَبِلا يسوع دون كل الشعوب..
ملاحظة: دُوِّن الشرح بأمانةٍ من قِبلنا.