“عيد الصّعود”
بقلم الأب برنار باسط،
منذ فجر التاريخ والإنسان يَبحث عن مَنزلٍ يَجِد فيه الرّاحة والأمان، مَنزلٍ يَحميه من الزّمن الذي سيَنتهي مع الجَسد الواهي الذي سيَفنى. ولكِن، أين يَجِد ذلك الـمَنزل الذي يَحيا فيه الفرح والسّلام الأبديَّين؟ مَنزل الأحلام تتوق إليه البشريّة مدى العصور وعلى امتداد الأجيال. مِن حياة البداوة والقبائل الرُّحَّل، فحياةِ المَنزل والحَضَر، إلى حياة القرية، فالمملكة، فالإمبراطوريّة، مكانٌ بعد الآخر، يعيش فيه الإنسان، وفي اعتقاده أنّه سيَجِد الطمأنينة والحُبّ والوِئام. ولكن للأسف، بِسبب الحروب والغزوات، تَسقط ممالك وتُهدَم، تقوم أخرى وتَزدهر، والإنسان ما يزال يَبحث ساعِيًا خلف مَنزلٍ، ومَوطنٍ يَجد فيه السّلام.
يا مَلِك السّلام، يا مَن مَملكته لَيْست من هذا العالم: “مملكتي لَيْست من هذا العالم”(يو 36:18)، بِصعودِكَ، جَذبتَ إليكَ الجميع: “وأنا متى ارتفعتُ من هذه الأرض، جَذبتُ إليّ النّاس أجمعِين” (يو32:12)، فأصعدتَ طبيعتَنا البشريّة المُمَجّدة إلى السّماء بعدما افتدَيتَها على الصّليب بِتَحمُّلِكَ عقاب الخطيئة، وبالقيامة لِتُبرِّرها. بِصعودِكَ المجيد يا ابنَ الله وابنَ البشر، استَحقَّت البشريّة نِعَمَ ومواهبَ وثمارَ روحِكَ القدّوس: “وها أنا أُرسِلُ اليكم مَوعدَ أبي فأقيموا في مدينة أورشليم إلى أنْ تُلبَسوا قوّةً من العلاء” (لو ٢٤: ٤٩).
في صعوده، يُحقّق السيّد المسيح، المَلك الظافر، المُمَجّد في السّماء وعلى الأرض، معنى الشعانين، لِيَدخل غالبًا إلى أورشليم السّماويّة، فتَستقبِله الملائكة والآباء والأنبياء والقدّيسون والشهداء، بما يَليق به من إكرامٍ وسجودٍ: “ارْفَعوا أيّها الرؤساء أبوابكم، وارتفِعي أيّتها الأبواب الدّهريّة لِيَدخل مَلك المجد، مَن هو هذا مَلك المجد؟ ربّ الجنود هو مَلك المجد” (مز٢٤: 7-١٠)، ونحن الأرضيِين مُرنِّمِين معهم: “صَعِد الله بِهتافٍ، صَعِد الربّ بِصَوت البوق. رنِّموا لله، رنِّموا. رنِّموا لِمَلكِنا رنِّموا، لأنّ الله مَلِك الأرض كلّها، رنّموا قصيدةً. مَلَكَ الله على الأُمم. الله جَلس على كرسِيّ قُدسه” (مز47: 5-8).
صَعد السيّد المسيح المخلّص على جبل الزيتون الذي يَرمز إلى معاناته وآلامه، حيث سِيق كشاةٍ الى الذّبح، وفي الوقت عَيْنِه هو جبل السّلام، والفرح والصّعود بمجدٍ الى السّماء، بالقرب من بَيت عَنيا، بَيت الطّاعة والعناء. فكلّ مَن يَودّ أنْ يَرتفع نحو السّماء مع المسيح، عليه أنْ يَحمل معه صليب الحُبّ وبَذل الذات، بِطاعة الابن لأبيه السّماويّ. فمِن جبل الزيتون ابتدأت دربُ الآلام والفداء، ومِن جبل الزيتون عَيْنِه كانت بركة الفادي، رافعًا يَدَيه الحاملتَين آثار الجراح، وبِبركة صليبه، يَرُشّنا بِزيت الزيتون، زيت البهجة، زيت المَيرون المقدّس، مانحًا إيّانا مواهب روحه القدّوس لِيُكرّسنا رُسلًا وأنبياءَ ومعلّمِين: “فوَضع الله أناسًا في الكنيسة: أوّلاً رسلاً، ثانيًا أنبياء، ثالثًا معلّمِين، ثم قوّاتٍ، وبعد ذلك مَواهب شفاءٍ، أعوانًا، تدابيرَ، وأنواع ألسِنةٍ” (١ كور ١٢: ٢٨).
فنَحن، مع الرُّسل، نُوَدّع المسيح بفرحٍ عظيمٍ، فنَصعد إلى العليّة التي هي الكنيسة اليوم، لِنُواظب على الصّلاة، بنفسٍ واحدةٍ، لِيَحلَّ علينا الرّوح القدس ويَملأنا من مواهبه ونِعمه، لكي نكون له شهودًا حقيقيِين في العالم، كارزِين بالتّوبة، والإيمان باسمِه: “لكنّكم ستنالون قوّةً متى حلَّ الرّوح القدس عليكم، وتكونون لي شهودًا في أورشليم وفي كلّ اليهوديّة والسّامرة وإلى أقصى الأرض” (أع ١: ٨).
بِثقةٍ ورَجاءٍ، وبِقلوبٍ مُنجذبةٍ إلى السّماء، نسألك اللّهمَّ في خِضَمّ تجارب حياتِنا، من حروبٍ واضطهاداتٍ، وضيقةٍ اقتصاديّةٍ في بلادنا في الشرق، واضطهادٍ لأخلاقيّاتِنا وعاداتِنا وإيمانِنا في الغرب، أنْ تهبَنا مواهبَ هذا الرّوح لِنَبقى صامدِين في وجه قِوى الشرّ العاتِية، وشهودًا حقيقيِّين لِقيامتِكَ المجيدة، ولإعلاء شأن الكنيسة الجامعة الرسوليّة المقدّسة في العالم. آمين.